أبحاثالأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

هيئة تحرير الشام، الطائفية، و”ميتريكس” سوريا الموازية/ نجيب جورج عوض

21.03.2025

في سوريا الحالية الواقعية، لا يوجد خيار ولا كبسولتان ولا حتى مورفيوس: إما أن تنصاع لحقيقة هيمنة ميتريكس سوريا الافتراضية الموازية الذي أحضرته الهيئة معها من تجربة إدلب، أو عليك أن تتحول إلى ضحية وهدف مشروعين أمام خالقي الميتريكس وحراسه في سبيل ترسيخ وتحقيق هيمنة الميتريكس المذكور على الواقع.

في ربيع عام 2024، نشرت دراسة مطوّلة عن مسألة الطائفية في المشهد السوري. ناقشت في تلك الدراسة أن المشهد السوري فيه “طوائفية” (confessionalism)، أي حضور لطوائف متعددة ومتنوعة في فضاء واحد، ولكنه يخلو من “الطائفية” (sectarianism)، أي أيديولوجيا تطأيفية إقصائية مغايرة تشيطن الآخر وتعادي المختلف.

بينت أن الأطراف الذين يصرون على فرض وجود الطائفية على المشهد السوري الحالي، يفعلون ذلك كي يبرروا استخدامهم مصطلح “حرب أهلية” لتوصيف الأحداث في سوريا وثورتها. وهو توصيف غير علمي وغير موضوعي أبداً للمشهد السوري، فنعت هذا المشهد بالحرب الأهلية يعني تجهيل الفاعل والمقترف الحقيقي وتبرئته في المشهد، ألا وهو النظام الأسدي المجرم، والادعاء بأن هناك طائفة سورية تتعرض للمقتلة على يد طائفة أو طوائف أخرى، بدل الاعتراف بأن الحرب الدائرة كانت بين نظام حاكم وبين شعبه من الخلفيات والطوائف كافة. هذا يعني الإصرار على قراءة لبنان والمشهد اللبناني في سوريا وفرض سيناريو الحرب الأهلية اللبنانية على المشهد السوري.

اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد البربري، وفي ضوء المذابح الأخيرة التي ارتكبتها بعض فصائل ومقاتلي هيئة تحرير الشام في حق 1383 مواطناً ومواطنة سوريين عزل وأبرياء مدنيين، وموت ما يقارب 350 شاباً من قوات الأمن والجيش الجديدين، لمجرد أنهم ينتمون لطائفة معينة مختلفة عن طائفة أخرى، يقول المراقب العلمي إن “الطائفية” دخلت حديثاً المشهد السوري وإنها بدأت تتفشى فيه بلا هوادة.

وما انتشار اللغة والمفردات والتعبيرات والأفكار، التي تصنف السوريين طائفياً وتشطرهم وفق طوائفهم، في خطابات السوريين وأحاديثهم اليومية، سوى مؤشرات وعلامات على بدء تفشي هذا المرض العضال في الجسم السوري. اليوم، ما عدنا نستطيع أن نقول إن سوريا فيها فقط “طوائفية”، بل إنها بدأت تمظهر عوارض إصابة جدية بفيروس “الطائفية”، وللأسف الشديد.

والسؤال الذي يسأله المراقب لنفسه في هذا الإطار هو: كيف دخلت الطائفية إلى المشهد السوري الحالي، ومن هو الطرف الذي أدخلها إلى هذا المشهد وكيف؟ الإجابة التي أجزم شخصياً بها وأقترحها هي أن من أدخل الطائفية إلى المشهد السوري المعاش هو “هيئة تحرير الشام”.

هيئة تحرير الشام أو “سوريا الموازية”

يعرف الدارسون والمتابعون لظاهرة “هيئة تحرير الشام” أنها مجموعة من الفصائل القتالية المسلحة الراديكالية إسلاموياً، والتي ينقصها الانسجام والتناغم والوحدة، لكنها انضوت جميعاً تحت مظلة أيديولوجية ودوغمائية إسلاموية واحدة هي ما نسميه في الأوساط العلمية “السلفية الجهادية النكوصية” (Jihadi Regressive Salafism).

 في سنوات الثورة والحروب على الأرض السورية، شكلت فصائل ما يعرف بهيئة تحرير الشام لنفسها فضاء افتراضياً موازياً (parallel virtuality) في محافظة إدلب، عملت فيه على خلق سوريا موازية بمجتمع موازٍ لمجتمعات السوريين، سواء النازحين والمهجرين أو الباقين في الداخل السوري.

وقدمت نفسها على أنها “قوة موازية” لا تنتمي الى قوى الثورة والمعارضة السورية بل تتوازى معها، وأحياناً كثيرة تتضارب معها في المبادئ والطروحات والرؤى؛ وعلى أنها “جيش موازٍ” لا ينتمي الى جيش سوريا الحر، بل يحاربه ويناهضه ويتنافس معه على مناطق النفوذ والتأثير؛ وعلى أنها “ثورة موازية” لا ينتمي أفرادها وأتباعها وجمهورها الى جمهور الثورة السورية الرئيسي، بل يخالفه في الطروحات والمبادئ وحتى يقمعه ويضطهده حين يتمكن من ذلك.

 ولمن يعرف فيلم “ميتريكس” (Metrix) وبطله الأسطوري “نيو” (NEO)، يمكن القول إن الهيئة خلقت ميتريكس افتراضياً بطله الأسطوري هو “أبو محمد الجولاني” (وقتها)، وراحت تسمح لكل من يريد أن يهرب من العالم الواقعي (سوريا الواقعية) بأن يلوذ بهذا الميتريكس في إدلب وبأن ينتمي الى تلك السوريا الافتراضية الموازية.

في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، انهار النظام الأسدي الحاكم في سوريا الواقعية، ووصلت كتائب هيئة تحرير الشام بقيادة “نيو” ذاك الميتريكس، أحمد الشرع، وهيمنت على المشهد الواقعي وراحت من وقتها تعمل بشكل ممنهج على فرض الميتريكس الافتراضي لسوريا الموازية الذي خلقته في إدلب، بكل مقوماته وعناصره وأيديولوجياته ومشاريعه وبرامجه التنفيذية، على سوريا الواقعية، وعملت على جعل العالم الافتراضي يصبح هو العالم الواقعي بالقوة والقهر والترهيب على المستوى الشعبي القاعدي، وبالسياسة والدبلوماسية والرغبة في التغيير والانفتاح والاحتضان على المستوى القيادي لبطل الميتريكس المذكور.

من يعرف فكرة الميتريكس في الخيال العلمي يعلم أن الفكرة تدور حول إمكانية انتقال الناس من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي الميتريكسي المذكور ومن ثم العودة منه إلى الواقع حين يريدون. في حالة ميتريكس سوريا الموازية للهيئة، لم تعد هناك حاجة للسفر إلى ميتريكس سوريا الموازية ومن ثم العودة منه ذهاباً وأياباً إلى الواقع، إذ بات الهدف الآن هو أن يتحول الميتريكس الافتراضي، وكل ما فيه وما يكونه من أفكار وممارسات ومفاهيم واعتقادات وتمظهرات وآليات عمل وميكانيزمات تفاعل وتواصل، ليصير هو بحد ذاته العالم الواقعي، سوريا الواقعية.

واحد من تمظهرات هذا الميتريكس الجديد ومحاولة فرض الفضاء الافتراضي على سوريا الواقعية، هو المنطق الطائفي الذي عبر عن نفسه في عنف ودموية منفلتة في مذبحة الساحل الأخيرة. لدينا هناك فصائل طائفية بعقلها وهويتها وفهمها لذاتها ولسوريا، وممارساتها تحاول جعل الميتريكس الموازي الطائفي الضيق والإقصائي الذي عاشت فيه وخلقته بنفسها في سوريا الموازية هو الواقع المفروض الفعلي واليومي الذي تسميه “سوريا الجديدة”.

 والمخيف أن كثراً من السوريين (وقسم كبير منهم يعيش خارج سوريا اليوم) باتوا اليوم يشكلون الخزان الشعبي الذي انتمى حديثاً للميتريكس الجديد وهو من أكثر المدافعين المتعصبين والمنفلتين طائفياً عن هذا الافتراض الجديد في سوريا اليوم، وهم يتبنون بكل أريحية العقل الطائفي لهذا الميتريكس ولخالقيه، ويتعاملون مع الدم والقتل والعنف المسيطر والوحشية التي تتمظهر في هذا الميتريكس وكأنها مجرد اختبارات افتراضية بطبيعتها وموازية وليست شيئاً واقعياً ملموساً له إرهاصات وتبعات ونتائج مادية مفروضة ستدمر سوريا الواقعية وستنهي بذلك إي إمكانية لتوافر فضاء وجودي مكاني يمكن لميتريكس سوريا الموازية الافتراضي أن يوجد فيه. في النهاية، لا وجود للعالم الافتراضي فعلاً من دون ارتباط ما بعالم واقعي.

 درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى