الإعلان الدستوري لسوريا 2025-مقالات وتحليلات- تحديث 23 أذار 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
——————————–
الصراع حول الدستور في سوريا/ رضوان زيادة
الإعلان الدستوري المؤقت لعام 2025
آخر تحديث 22 مارس 2025
تستند سوريا على إرث من التعددية والديمقراطية والتداول السلمي على السلطة. وشهدت الفترة التي أعقبت حصولها على الاستقلال السياسي عام 1946 حياة غنية بالنقاشات الحيوية بين النخب والأحزاب السياسية ذات التوجهات الأيديولوجية المختلفة. فقد حظيت بدستور يعتبر من أوائل الدساتير في المنطقة العربية الذي أتاح الحريات العامة ضمن المساواة بين الجنسين وحفظ الحقوق الأساسية للمواطنين في الكثير من مواده.
كما منح حق التصويت للمرأة في عام 1949 وحق الترشح في عام 1953 أي قبل إقرار هذا الحق بزمن طويل في الكثير من الدول الأوروبية كسويسرامثلا، وفي الوقت نفسه تمتعت سوريا بنظام برلماني تعددي وبصحافة حرة كانت تعبر عن مختلف شرائح وفئات المجتمع السوري على تعددها وتنوعها العرقي والطائفي والإقليمي.
صحيح أن ذلك لم يعمر طويلا مع دخول سوريا في نمط من الانقلابات العسكرية المتتالية منذ الانقلاب الأول في عام 1949 إلا أنه شكل مخزونا وإرثا ديمقراطيا ما زال يفخر به كثير من السوريين ويعد ملهما للكثير من الديمقراطيين والسياسيين المعارضين لاستعادته كدليل على قدرة سوريا دولةً ومجتمعاً على العيش بمنجزات الديمقراطية وميزاتها.
حزب “البعث” ونهاية الشرعية الدستورية
يمكن وصف حركة 8 مارس 1963 بأنها كانت النهاية الطبيعية لتطبيق مفهوم “الشرعية الثورية” واستخفافا مطلقا بمعنى “الشرعية الدستورية”، لدرجة أن حزب “البعث” ومنذ استلامه السلطة في عام 1963 وحتى عام 1971 بعد وصول الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة لم يقم بأي انتخابات محلية كانت أو تشريعية أو رئاسية ولو في مظهرها الشكلي، صحيح أن الانتخابات فيما بعد وخاصة في عهد الرئيس حافظ الأسد الذي حافظ على إجراء الانتخابات “الوهمية” في مواعيدها الدقيقة كانت أشبه باللعبة التي تعرف نتيجتها مسبقا حتى قبل أن تخوضها، ولم يكن المطلوب منها منح الثقة أو الشرعية بقدر ما كان الهدف منها إعطاء معنى للديكور الخارجي بأن هناك عملية ديمقراطية سياسية تجري داخل هرم السلطة الأوتوقراطي الموجود.
لكن النخبة البعثية التي استلمت الحكم بعد 1963 لم تكن تعبأ حتى بهذا الديكور الخارجي طالما أنها لم تكن تشعر بأي حرج شرعي أو دستوري وإنما كانت تهدف إلى إنجاز التنمية المستقلة عبر وسائل ثورية اقتصادية واجتماعية وتحقيق غايات سياسية خارجية.
هذا النموذج من الدولة القائم على الحزب القائد الذي يختصره مجلس قيادة الثورة وهو بدوره يختزل في قائد الثورة، ظل قائما منذ 8 مارس 1963 وحتى الوقت الحالي مع اختلافات شكلية وأحيانا جوهرية لكنها لا تمس بنية أو عصب السلطة الأوتوقراطية القائم على استفراد حزب بالسلطة ثم بناء هيكل هرمي يكون رأسه رئيس الدولة وهذا هو جوهر الجمهورية الثالثة منذ تأسيسها مع تقعيد قواعد صارمة مع الرئيس حافظ الأسد الذي أعاد كتابة الدستور ثم هيكلية المؤسسات الدستورية والتشريعية والقانونية بشكل لا يتيح لها الحركة خارج الإطار المرسوم لها والمحدد والمعين مسبقا، ثم “تأطير” المجتمع المدني عبر النقابات والمنظمات والاتحادات والجمعيات غير الحكومية عبر خندقتها لتصبح تعبيرات “بعثية” ولكن بنكهة شعبية، ويكون لها دور محوري في ضبط الحركة النقابية والمطلبية والشعبية.
ومهما اختلفت التفسيرات في آلية صنع القرار في الجمهورية الثالثة أو تعددت وجهات النظر في ميكانيزمات عملها وسيطرتها فإن استقرارها على مدى يزيد على أربعة عقود يعكس قدراتها التنظيمية الفائقة وفي الوقت نفسه آليات تكيفها السريعة مع تحولات السياسة الخارجية وتغيراتها، ومع إدراكنا التام أن الأسس السياسية والتنظيمية التي استقرت في عهد الرئيس حافظ الأسد كعصر ذهبي للجمهورية الثالثة ما تزال هي ذاتها صالحة لتفسير “التسلطية السورية” في مرحلة هي مجرد امتداد طبيعي لها واستمرار لآلياتها السابقة ذاتها مع اختلافات تفسر بالقياس، أي إنها تختلف بالدرجة وليس بالنوعية. بل إن توالد الأحداث والظروف وقراءتها في سياق التاريخ الطويل وليس السياسي الآني-الحدثي يدرك تماما أن استجابة النظام السوري الحديث في عهد الرئيس بشار الأسد إنما تنبع من صلب وعمق استجابة الرئيس حافظ الأسد للتحديات ذاتها فيما لو خضع لها مع تغيرات طفيفة يمكن تفسيرها بالاختلافات الشخصية الطبيعية والنفسية لكنها لا تتعدى ذلك إلى مفاصل الحياة السياسة الجوهرية ومحدداتها.
مع مجيء الرئيس بشار الأسد إلى السلطة انطلقت الأسئلة دفعة واحدة في البداية متسائلة عن مدى سيطرة بشار الأسد على القرار السياسي في بلده ومدى تأثير “الحرس القديم” على صنع القرار لديه، ولذلك فإن معظم الدراسات التي كتبت عن فترة الرئيس بشار الأسد كان همها التركيز على نظرته للأمور ومدى قدرته على الإمساك بزمام مقاليد السلطة، وبالتالي أعادت قراءة القرار السياسي السوري وفق منطق النظرية السلوكية ذاتها على اعتبار أن هيكلية أو بنية النظام السوري وقواعده بقيت ذاتها رغم اختلاف وجوهها. إذ يقر الدستور السوري الذي صدر عام 1973 في عهد حافظ الأسد وظل معمولا به حتى عام 2012 بأن رئيس الجمهورية يتولى السياسة الخارجية، أما رئيس الوزراء فلا يمارس أي نشاط ملحوظ في مجال السياسة الخارجية رغم مسؤوليته عنها، إذ يحدد الدستور في المادة (94) أن رئيس الجمهورية يقوم بوضع السياسة الهامة للدولة ويشرف على تنفيذها بالتشاور مع مجلس الوزراء، بينما لا تتعدى مهمة السلطة التشريعية حسب (المادة 71) من الدستور مناقشة سياسة الوزراء وإقرار المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تتعلق بسلامة الدولة.
يعطي الدستور السوري صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية الذي هو فضلا عن ذلك الأمين العام لحزب “البعث” الذي يعطيه الدستور السوري في مادته الثامنة الحق في قيادة الدولة والمجتمع، كما أنه يجمع إلى ذلك منصب القائد العام للجيش والقوات المسلحة وفق (المادة 103) من الدستور، وهو رئيس القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية، أما صلاحياته فهي تتجاوز الصلاحيات التنفيذية إلى التشريعية، ذلك أنه يملك حل مجلس الشعب (مادة 107) والتشريع في غير دورات انعقاده (مادة 111)، ورد القوانين (مادة 108 من النظام الداخلي لمجلس الشعب)، وله الحق في تعيين نائب له أو أكثر، ويحدد اختصاصاتهم ويعفيهم من مناصبهم، كما أن له الحق في تعيين رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء وإعفائهم من مناصبهم (مادة 95)، وإعلان حالة الحرب (مادة 100)، وإعلان حالة الطوارئ وإلغائها (مادة 101).
إن صلاحيات رئيس الدولة في الدستور السوري تعكس مدى هيمنته “دستوريا” على مؤسسات الدولة الأخرى، وقد لعب نمط تطور الدولة وهياكلها المؤسسية على أساس النظام الرئاسي الهرمي على تمركز الصلاحيات دستوريا وقانونيا وفعليا بيد رئيس الدولة.
بعد اندلاع الثورة السورية حاول بشار الأسد الالتفاف على المطالب الشعبية عبر إصدار دستور جديد فكلف لجنة بصياغة دستور جديد بتاريخ 15 أكتوبر/تشرين الأول 2011 على أن تنجز عملها خلال أربعة شهور، علما أن رئيس اللجنة مظهر العنبري هو ذاته الذي شارك في صياغة دستور 1973 وأقر الدستور الجديد الذي وسع الصلاحيات التنفيذية لرئيس الدولة في فبراير 2012 حيث تضمن دستور عام 2012 صلاحيات لرئيس الجمهورية شبيهة تماما بدستور عام 1973 مع توسيعها.
لذلك فالعديد من السوريين لا زال يعتقد أن دستور عام 1950 سوف يكون أفضل نموذج اليوم بعودة سوريا إلى الجمهورية والديمقراطية. وهذا ما حدث بالحقيقة مرتين. بعد الانقلاب العسكري الذي قاده اللواء الشيشكلي في عام 1949 علق الشيشكلي دستور عام 1950 حتى صدر دستور جديد في عام 1953. واتسم هذا الدستور بوصفه الدستور الرئاسي الأول. حيث قيد صلاحيات رئيس الوزراء في الحكومة وأعطى صلاحيات تنفيذية واسعة لرئيس الجمهورية مبنية على أساس نظام رئاسي يشبه نظيره في الولايات المتحدة الأميركية. ومع إطاحة الانقلاب في عام 1954 أعيد العمل بدستور 1950.
ومرة أخرى في عام 1958، تم تعليق الدستور عندما صوت السوريون بالأغلبية للوحدة مع جمهورية مصر تحت رئاسة جمال عبد الناصر لتشكيل الجمهورية العربية المتحدة؛ وتم استبدال دستور 1950 بدستور مؤقت صاغه عبد الناصر في تلك الفترة.
الصراع حول اللجنة الدستورية السورية
نص قرار مجلس الأمن 2254 المتضمن خارطة الطريق الدولية لعملية الانتقال السياسي في سوريا، صراحة على أن بيان جنيف (المؤرخ في 30 يوينو/حزيران 2012) يجب أن يكون أساس أية عملية انتقال سياسي بقيادة سورية وفي ظل عملية يمتلك السوريون زمامها، من أجل إنهاء النزاع. وحدد قرار مجلس الأمن المذكور العملية السياسية بوصفها عبارة عن ثلاث مراحل رئيسة يجب أن تتم في فترة مدتها ستة أشهر حددها كالتالي:
حكم ذو مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية.
حدد جدولا زمنيا وعملية لصياغة دستور جديد.
انتخابات حرة ونزيهة تجرى، عملا بالدستور الجديد، في غضون 18 شهرا تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يستجيب لمتطلبات الحوكمة وأعلى المعايير الدولية من حيث الشفافية والمساءلة، وتشمل جميع السوريين الذين تحق لهم المشاركة، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في المهجر، على النحو المنصوص عليه في بيان الفريق الدولي المؤرخ 14 نوفمبر 2015.
فتشكيل اللجنة الدستورية لم ينسجم مع روح قرار مجلس الأمن ونصه الذي عبر بوضوح أن تشكيل هيئة حكم انتقالية يعتبر نقطة البداية لتشكيل دستور جديد ومن ثم إجراء انتخابات انتقالية، لكن استخدام نظام الأسد البائد للبراميل المتفجرة وحصار المدن لم يتوقف حتى خلال إصدار البيان ولم يتوقف بعده، ولذلك بدا السؤال مشروعا في معنى إطلاق هذه اللجنة الدستورية التي لم يكن لها أية مصداقية في عيون السوريين.
في عام 2016 أعلن الأمين العام للأمم المتحدة في بيان له “موافقة حكومة الجمهورية العربية السورية وهيئة المفاوضات السورية على إنشاء لجنة دستورية ذات مصداقية ومتوازنة وشاملة تسهلها الأمم المتحدة في جنيف”. وأضاف: “أعتقد اعتقادا راسخا أن إطلاق اللجنة الدستورية التي يقودها سوريون يمكن ويجب أن تكون بداية المسار السياسي للخروج من المأساة نحو حل يتماشى مع القرار 2254 (2015) الذي يلبي التطلعات المشروعة لجميع السوريين ويستند إلى التزام قوي بسيادة البلد واستقلاله ووحدته وسلامة أراضيه”. وفي النهاية شكر الأمين العام الشعب السوري على دعمه لهذه اللجنة.
لم يكن لهذه اللجنة الدستورية أية قيمة على أرض الواقع، سيما أن الحرب كانت مستمرة على الأرض وكانت سياسات الأسد على الأرض تخالف تماما البيانات المكتوبة وأن الصراع الذي عمره أكثر من أربعة عشر عاما يقوم بشكل رئيس على تدمير مصداقية أية عملية سياسية من قبل النظام السوري السابق وأن المراوغة والكذب هي سمات أصيلة في بشار الأسد ونظامه، فكيف يمكن للشعب السوري المشرد واللاجئ أن يرحب بالكذبة المستمرة حول اللجنة الدستورية التي استمرت لأكثر من 8 سنوات دون أن تفلح في كتابة مادة واحدة من هذا الدستور.
اعتقد المبعوث الأممي الخاص لسوريا في ذلك الوقت، دي ميستورا، أن روسيا ربما تكون جادة في هذه المفاوضات عبر اللجنة الدستورية كي تفرض إيقاعا يقود إلى حل سياسي بالنهاية تطبيقا للقرار 2254.
وكان الأمين العام وقتها مدركا أن روسيا باتت تمتلك الملف السوري كليا وأن فكرة الرئيس الروسي بوتين التي دعا لها سوريين في سوتشي وانبثقت عنها فكرة اللجنة الدستورية، اعتقد حينها أن روسيا ربما ترغب في حل سياسي ولكن بطريقة مختلفة هذه المرة وليس عبر مسار جنيف وقرارات الأمم المتحدة وإنما عبر لجنة غريبة الفكرة والأطوار والتشكيل، فمشى الأمين العام بالفكرة وأعلن استضافة جنيف لاجتماعات هذه اللجنة التي لا شرعية سياسية أو قانونية لها، لكنها الفكرة الوحيدة التي يبدو أن روسيا مستعدة لدعمها في ذلك الوقت سيما وأن تدخلها العسكري في سوريا عام 2015 غير الكثير من المعادلات على الأرض وأعطى نظام الأسد تفوقا عسكريا نوعيا ضد المعارضة التي انحسرت الأراضي التي تسيطر عليها إلى ريفي حلب وإدلب متموضعة في الشمال السوري تحديدا وعلى طول الحدود السورية– التركية.
ثم قرر المبعوث الدولي دي ميستورا الاستقالة في منتصف عام 2018 دون أن يحرز أي تقدم على مستوى تطبيق القرار 2254 حتى جرى تعيين المبعوث الأممي الجديد بيدرسون الذي اعتبر أن اللجنة الدستورية هي الفكرة الوحيدة التي تحظى بالدعم من الأطراف الدولية رغم قناعة المعارضة السورية بأن ذلك يعد خروجا عن قرار مجلس الأمن الذي ينص على تشكيل حكومة انتقالية وانتخابات بإشراف الأمم المتحدة، وهو ما دفع إلى انشقاقات كبيرة داخل المعارضة السورية التي رفضت في مجملها انحراف مسار المفاوضات في جنيف واقتصر تمثيلها على مجموعة أفراد يطلقون على أنفسهم وصف “أعضاء اللجنة الدستورية الممثلين للمعارضة”.
وبعد لقاءات ماراثونية بين كل الأطراف تألفت اللجنة الدستورية من ثلاثة أطراف وهم النظام السوري والمعارضة والمجتمع المدني، بمجموع 150 عضوا، ليقوم مبعوث الأمم المتحدة السابق ستيفان دي ميستورا بتوزيع هذا العدد بالتساوي على ثلاث قوائم.
وخلال سنتين عقدت اللجنة الدستورية 6 جولات من المباحثات، لكن قبل انطلاق مسار الإصلاح الدستوري تم الاتفاق بين الوفود المشاركة على مدونة سلوك ناظمة وأخرى للممارسات الإجرائية الخاصة بالرئيسين المشتركين، وعلى أسماء الهيئة المصغرة أو لجنة الصياغة المؤلفة من 45 عضوا بواقع 15 عضوا لكل وفد.
وبعد خمس سنوات من اجتماعات للجنة الدستورية لم تتمخض الاجتماعات عن أية نتائج تذكر أو أي أثر يذكر على الحياة العامة للسوريين الذين تدهور وضعهم الأمني والسياسي والاقتصادي بل زاد سوءا على يد النظام الذي أصبح مقتنعا بأن لا ضغوط حقيقية عليه وأن لعبة “اللجنة الدستورية” يمكن أن يلعبها باحتراف عبر كسب الوقت وإفراغها من معناها.
وعلى مدى ثلاث سنوات ومنذ الاجتماع الأول في أكتوبر 2019 وحتى الاجتماع الأخير في أكتوبر 2021 لم يتقدم وفد النظام السوري بأية ورقة ذات معنى من أجل الدفع قدما بهذه المفاوضات، ولذلك أعلن المبعوث الأممي بيدرسون فشل المفاوضات التي لم تحرز أي تقدم يذكر بسبب غياب الإرادة السياسية لوفد النظام الذي اعتاد على تبديد الاجتماعات بإثارة تفاصيل جانبية دون أي قرار سياسي بإنجاح نتائج هذه الاجتماعات. حيث تم صرف الاجتماعات التي تمت على مدى ثلاثة أيام لنقاش مواضيع في غاية العمومية، فعلى سبيل المثال قدم النظام السوري ورقته التي عنونت “السيادة والإرهاب” والتي تعيد أحقية نظام الأسد في إعادة السيطرة على كل مناطق المعارضة تحت سيادته ورفض التدخل التركي والأميركي بشكل خاص.
انتصار الثورة السورية والإعلان الدستوري
يكمن التحدي الأساسي من الناحية القانونية والدستورية في المرحلة الانتقالية في سوريا في خلق آلية لنقل السيادة الشعبية ضمن الظروف الراهنة. أي التحول من الشرعية الثورية إلى الشرعية القانونية. ففي حين أنه يبدو من المؤكد أن الإدارة السورية الانتقالية هي المكلفة بإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية، يرى البعض أن ذلك يجب أن يرفق بمراسيم تحدد إطار ذلك دستوريا وقانونيا، ويحدد شكل الكيان الانتقالي أو الحكومة الانتقالية وعمرها وصلاحياتها ويحدد موعدا لانتخابات شعبية تخول الشعب استعادة سلطته وسيادته.
كانت الآراء منقسمة بين العودة فقط لدستور عام 1950 كما جرى ذلك خلال التاريخ السوري ثلاث مرات، إلا أن صلاحية دستور عام 1950 للاستخدام الفعلي في المرحلة الانتقالية هي صلاحية محدودة. وسبب ذلك أن النصوص العملية فيه غير قابلة للتطبيق لأنها ترتبط بمؤسسات البرلمان ومجلس الوزراء المنبثق عنه والرئيس، ناهيك عن انتخاب الرئيس من قبل البرلمان وهذا يعني عدم إمكانية استعمال أي آلية قبل إجراء انتخابات برلمانية. ومن الطبيعي الاتفاق على أن دستور عام 1950 ليس مؤهلا ليكون دستور سوريا الدائم وبأنه لن يستمر لفترة طويلة وأنهيحتاج إلى تعديلات متنوعة ليوائم روح العصر وروح الثورة.
ولكن فتح الباب لإجراء التعديلات عليه سيعرقل بالتأكيد من قابلية استعماله مرجعا دستوريا فوريا في اللحظة التاريخية الدقيقة التي ترافقت مع سقوط النظام، فتعديل دستور عام 1950 المؤقت يحتاج إلى تفويض شعبي، وبالتالي سيدخل البلاد في المشكلة ذاتها التي من المفترض حلها من خلال جمعية تأسيسية منتخبة.
ويعتبر دستور عام 1950 من الدساتير الأكثر قبولا لدى الشارع السوري؛ فمن حيث الشكل قامت جمعية تأسيسية منتخبة بوضع ذلك الدستور، وقد انتخبت الجمعية من قبل الهيئات الناخبة يوم 5 نوفمبر من عام 1950 في اقتراع شاركت فيه المرأة السورية لأول مرة، وقامت الجمعية بدورها بتشكيل لجنة صياغة الدستور تمثلت فيها مختلف القوى السياسية وغير السياسية في سوريا. وقد أوضحت اللجنة في تقريرها للجمعية أنها اطلعت على خمسة عشر دستورا أوروبيا وآسيويا، وبدأت الجمعية مناقشة المسودة وخرج الدستور بصيغته النهائية مؤلفا من 166 مادة بعدما طويت 11 مادة.
وكان أكثر المواضيع التي احتدم عليها النقاش هو إعلان الإسلام دين الدولة أو دين رئيس الدولة، وانتهى الأمر بعد طول نقاش للحفاظ على صيغة دستور 1930 بكون الإسلام دين رئيس الدولة، والقضية الثانية التي احتدم عليها النقاش كانت وضع حد على الملكية الزراعية في الدولة للتخفيف من سطوة العائلات الإقطاعية التي كانت تسيطر على مساحات كبيرة من بعض الأرياف وحسم الأمر حينها لترك سقف الملكية مفتوحا، أما الموضوع الثالث فكان حول إدراج مادة تنص على وقوف الجيش على الحياد دون السماح له بالتدخل في الحياة السياسية السورية وهو الأمر الذي لم يتم إقراره، وقد حافظ دستور عام 1950 على الطبيعة البرلمانية لنظام الحكم وقلص صلاحيات رئيس الجمهورية وسحب حق نقض القوانين والمراسيم منه وأمهله عشرة أيام فقط للتوقيع عليها غير أنه حافظ على اختصاصه بالتصديق على المعاهدات الدولية وتعيين البعثات الدبلوماسية في الخارج وقبول البعثات الأجنبية ومنح العفو الخاص وتمثيل الدولة ودعوة مجلس الوزراء للانعقاد برئاسته.
ومن جانب آخر رفع الدستور من درجة صلاحيات البرلمان ومنعه من التنازل عن صلاحياته التشريعية للحكومة ولو مؤقتا، كما عزز من سلطاته تجاه الحكومة فألزمها بالاستقالة في بداية كل دور تشريعي، وعزز أيضا من سلطة القضاء باستحداث المحكمة الدستورية العليا. أما مواد الحقوق العامة في دستور 1950 فقد وسعت، فبلغت 28 مادة تتناول وحدها الحقوق والحريات العامة، ومنها حصانة المنازل وحرية الرأي والصحافة والاجتماع والتظاهر والمحاكمة العادلة ومنعت الاعتقال التعسفي والتوقيف دون محاكمة لفترة طويلة وحفظ حق الملكية والمشاركة في الحياة الاقتصادية وتأطير الملكية العامة للدولة وحماية حقوق الفلاحين والعمال على وجه الخصوص، وجعل العمل حقا لكل مواطن وجب تأمينه، إضافة إلى رعاية المواطنين المرضى والعجزة والمعوقين. كما تناولت تلك المواد حقوق الطوائف الدينية باتباع شرائعها من جهة وفي التعليم من جهة ثانية. ونص الدستور على كون التعليم حقا لكل مواطن، إلزاميا ومجانيا، وأوجب على الدولة إلغاء الأمية خلال عشر سنوات.
ولكن من جانب آخر فإنه ومع التسليم بأن دستور عام 1950 لا يملك من الأدوات الدستورية ما يكفي لإدارة المرحلة الانتقالية، فإن صلاحية الدستور المذكور هي صلاحية رمزية ضرورية، بمعنى أن مجرد إيقاف العمل بدستور عام 2012 الذي وضعته لجنة مكلفة من قبل بشار الأسد وتم إقراره في خضم الثورة واعتماد الدستور الوحيد الذي وضعته وأقرته جمعية دستورية منتخبة في مناخ ديمقراطي سيعني بالتأكيد قطيعة حقيقية مع الماضي، كما ستعمل النصوص المتعلقة بالحقوق والحريات العامة كضامن مبدئي لحقوق الإنسان خلال الفترة الانتقالية التي من المفترض أن تكون عصيبة. ولذلك جرت الإشارة له في ديباجة الإعلان الدستوري.
يشكل الخوف من الفراغ الدستوري وسلاسة انتقال السلطة عبر آلية دستورية صحيحة ووضع أسس الشرعية الجديدة وتأسيس قطيعتها مع الماضي الاستبدادي دستوريا أهم الاعتبارات التي لا بد من مراعاتها ولذلك انتقل التفكير إلى ضرورة إصدار إعلان دستوري مستقل، فعند لحظة سقوط النظام من المسلم لدى معظم السوريين إنهاء العمل بدستور عام 2012 كما نص على ذلك خطاب النصر والأهم هو الأسلوب الذي خرج به إلى حيز الوجود وكذلك الظروف التي رافقت إنشاءه. ولكن إلغاء العمل بدستور عام 2012 دفع الحكومة الانتقالية لإصدار إعلان دستوري يتضمن إنشاء هذه الحكومة المفوضة بالسلطة التنفيذية. ويحدد السلطات الأساسية والعلاقة بينها وآليات الحكم وصلاحيات الحكومة الانتقالية التي لا تخرج مهمتها عن تسيير الأمور والإعداد الجيد لانتخابات الجمعية الدستورية التأسيسية.
وقد جرى تداول الكثير من الأفكار أيضا حول شكل ومضمون الإعلان الدستوري بين السوريين وأنا كنت أفضل أن يخرج عن مجلس الشعب المعين بما يعطيه فرصة أكبر للنقاش والتداول. لكن مضمون الإعلان الدستوري كان متوافقا ومنسجما مع المواد الحقوقية الأساسية في دستور عام 1950 عبر إعلان بطلان القوانين الاستثنائية في سوريا وبخاصة تلك المناهضة للحريات العامة مثل قانون إحداث محكمة الإرهاب.
الإعلان الدستوري المؤقت وشكل النظام السياسي
في السياسة ما يهم هو الانطباع العام الذي يحصل عليه الرأي العام عن القرار السياسي والقدرة على تسويق هذا القرار بشكل جيد بما يخدم المصلحة السياسية، فالكثير من السوريين لم ولن يقرأوا الإعلان الدستوري المؤقت، ولذلك كان من المهم تحضير الرأي العام للقضية الأهم في الإعلان وهي شكل النظام السياسي الذي سيعكسه الإعلان، وهو ما لم تنجح فيه اللجنة المكلفة بكتابة الإعلان الدستوري لأنها ركزت على أفكار لا يمكن تسويقها لأنها ببساطة تتناقض مع نص الإعلان، من مثل قضية فصل السلطات رغم أن الكل يعلم أنه خلال الفترة الانتقالية لا يمكن الانتخاب، وبالتالي لا بد من اللجوء إلى التعيين فكيف يمكن تحقيق فصل السلطات إذن، ولذلك قوبل الإعلان الدستوري بوابل من الانتقادات التي ركزت محقة على صلاحيات الرئيس ولم تستطع أن تضعها في سياق المرحلة الانتقالية السورية اليوم وآلية بناء المؤسسات للمستقبل
عقب سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024، أعلنت الإدارة السورية في 29 يناير 2025، تعيين أحمد الشرع رئيسا للمرحلة الانتقالية، إلى جانب إلغاء العمل بالدستور، وحل الفصائل المسلحة والأجهزة الأمنية، ومجلس الشعب (البرلمان) وحزب “البعث العربي الاشتراكي”.
وأعلن الشرع في الثاني من مارس 2025، تشكيل لجنة لصياغة الإعلان الدستوري، مكونة من سبعة قانونيين، وسلمت المسودة في 12 مارس، ووقع الرئيس السوري على الإعلان الدستوري في اليوم التالي.
وأوضحت لجنة الخبراء المكلفة بصياغة الإعلان الدستوري، في مؤتمر صحافي عُقد عقب تسليمه للرئيس الشرع، أنها استندت في إعداد الوثيقة إلى مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد في فبراير 2025.
لقد صيغت الوثيقة بالاعتماد على ثلاث وثائق تأسيسية رئيسة وهي دستور عام 1950 ومؤتمر خطاب النصر والبيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني، وهو ما أشارت له ديباجة الإعلان الدستوري عندما تحدثت أنه “واستنادا إلى القيم العريقة والأصيلة التي يتميز بها المجتمع السوري بتنوعه وتراثه الحضاري، وإلى المبادئ الوطنية والإنسانية الراسخة، وحرصا على إرساء قواعد الحكم الدستوري السليم المستوحى من روح الدساتير السورية السابقة، ولا سيما دستور عام 1950- دستور الاستقلال- وإعمالا لما نص عليه إعلان انتصار الثورة السورية الصادر بتاريخ 29 ديسمبر 2025، الذي يُعد أساسا متينا لهذا الإعلان”.
فكيف يمكن قراءة السياقات السياسية التي رافقت هذا الإعلان في ضوء الدساتير السورية والنظام السياسي السابق الذي كان معمولا به في سوريا، لقد ساد الدستور السوري لعام 1973 والدستور الأخير لعام 2012 نظام حكم هجين. فمن جهة كان نظاما أقرب إلى النظام الرئاسي يمنح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة جدا، ومن جهة أخرى يعتمد جهازا حكوميا تنفيذيا قويا نسبيا، ولم يكن نظاما برلمانيا نصف رئاسي كما هو الحال في فرنسا لأنه لا يعتمد نتائج الانتخابات البرلمانية في تشكيل الحكومات المتعاقبة، بل هو بعيد فعلا عن ذلك. وبالتأكيد ليس نظاما برلمانيا صافيا يكون فيه الرئيس أو الملك منصبا فخريا لا صلاحيات حقيقية لديه مقابل صلاحيات الحكم التي تنحصر في الفائز بالانتخابات البرلمانية كالنظام البريطاني أو الهندي، وبالمقابل، فإن النظام الذي احتواه دستور عام 1973 (الذي كان أساسا نظريا للحكم منذ الانقلاب الحزبي العسكري الذي قام به حافظ الأسد والذي سمي بالحركة التصحيحية لعام 1970) كان نظاما قائما على التناقضات.
على الرغم من أن نظام الحكم في سوريا على الصعيد النظري كان نظاما مختلطا حزبيا مدنيا في آن معا،فإنه أعطى لحزب “البعث” صلاحية ومكانة كبيرة جدا حسب دستور عام 1973 مثلا من خلال قيادته للدولة والمجتمع حسب المادة الثامنة من الدستور ومن خلال ترشيح رئيس الجمهورية من قبل القيادة القطرية لذلك الحزب.
ساد التناقض المتعدد الأوجه نظام الحكم الفعلي المنفصل عن الدستور المعمول به في سوريا خلال الفترة المنصرمة، فعلى صعيد الواقع كان النظام السائد في سوريا منذ الثامن من مارس عام 1963 نظاما أمنيا حلت فيه الأجهزة الأمنية محل الجهاز المدني الحكومي في كثير من مفاصل الحياة السياسية والمدنية الخدمية اللصيقة بحياة المواطن.
أما المستوى الثاني لتناقض النظام مع الشكل الدستوري للحكم حتى بشكله غير المتطور في الحالة السورية، فقد تركز في حلول عائلة الرئيس، ونعني بها المجموعة المقربة للرئيس، محل أدوات الحكم المعروفة والمنصوص عليها في الدستور. فبالنتيجة لم يشكل الدستور أي مرتكز حقيقي للحكم في سوريا بل شكل صورة باهتة عن بعض مظاهر الحكم في سوريا مثل اعتماد حزب “البعث” قائدا للدولة والمجتمع. كما أن أهمية الدستور كانت قد اضمحلت خلال فترة حكم حافظ الأسد ومن ثم ابنه بشار، فقد شهدت الساحة السورية تجاذبات عنيفة تمحورت حول الفقرات المتعلقة بدين الدولة ودين رئيسها ومصدر التشريع فيها في الفترات التي سبقت حكم “البعث” إلا أن ذلك الجدل وكل ما مثله من حيوية في النظام السياسي والدستوري في سوريا كان قد اضمحل وحل محله القهر العنفي المستند إلى قوة أجهزة الأمن وقوة الولاء الحزبي في نهاية السبعينات. وحتى الولاء والارتكاز الحزبي كان قد تلاشى مع تركز القوى الأمنية محل كل ما له علاقة بالسياسة في سوريا. وكدليل على اضمحلال دور الدستور إلى حد التلاشي في سوريا إبان حقبة حافظ الأسد يمكن تذكر دور المحكمة الدستورية العليا في سوريا التي وإن احتفظت بدور مراسمي هام في فولكلور الحكم الأسدي في البداية فإن ذلك لم يشفع لها في نهاية حياة الأسد الأب حيث لم يتبق لها أي وجود فعلي في نهاية التسعينات وبقيت سنوات عدة دون مصدر تمويل للإنفاق الشهري الأساسي.
لكل نظام سياسي ديمقراطي ميزاته الخاصة التي تؤدي لنجاحه، كما أن البيئة الاجتماعية والعامل الديموغرافي يلعبان دورا بارزا في نجاح نظام سياسي معين في دولة ما. ويبقى أبرز ثلاثة أشكال للنظام السياسي الديمقراطي هي:
1 ـ النظام الرئاسي
وهو نظام سياسي شائع، يضع السلطات التنفيذية بشكل مطلق بيد رئيس الدولة الذي ينتخب بشكل مباشر من قبل الشعب. ولعل قوة السلطة التنفيذية تمنح قدرة عالية للرئيس على اتخاذ القرارات التي يراها مناسبة لتحقيق برنامجه الذي انتخب على أساسه. ومن أبرز ما يميز الأنظمة الرئاسية الفصل التام بين السلطات، إذ لا يحق للرئيس أن يحل البرلمان بقرار تنفيذي أو أن يتدخل في جلساته أو أن يشارك فيها.
كما أن الرئيس في النظام الرئاسي هو المسؤول الأول أمام الشعب، وهو المخول بتعيين وزرائه الذين تتلخص وظيفتهم في تنفيذ رؤية الرئيس وبرنامجه، في حين يغيب دور المعارضة السياسية والأقليات عن السلطة التنفيذية، مما يمنح استقرارا أكبر في تلك السلطة.
غير أن النظام الديمقراطي الرئاسي لا يمكن أن ينجح إلا في مجتمع تكون فيه الحالة الديمقراطية ناضجة ومستقرة، والوعي السياسي في المجتمع عاليا، كي يتقبل قرارات الرئيس المنتخب. وغياب الاتفاق والتعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية قد يعسر مهمة الرئيس ويصيب الدولة بحالة شلل، كما أن هذا النظام لا يعطي فرصة كبيرة للمساءلة السياسية، ويبقى الحل الوحيد أمام الشعب لمحاسبة الرئيس وحزبه هي الانتخابات المقبلة.
2 ـ النظام البرلماني
يتميز النظام البرلماني بتداخل كبير بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، إذ إن الحكومة عادة في هذا النظام تتشكل من قبل الكتلة الحائزة على أغلبية المقاعد إذ يشترط حصول الحكومة على ثقة هذه الأغلبية لتتمكن من ممارسة عملها، ويكون كذلك الوزراء أعضاء في البرلمان مع أنه يحق للبرلمان الاستعانة بوزراء من خارج البرلمان، كما تعتبر الحكومة مساءلة من قبل البرلمان سواء الحكومة ككل ممثلة برئيسها أو الوزراء بشكل فردي. ويحق للبرلمان سحب الثقة عن الحكومة، كما يحق للحكومة أن تحل البرلمان إلا أن ذلك يعني بشكل تلقائي سقوط الحكومة.
يكون رئيس الدولة في هذا النظام ذا صلاحيات رمزية أو شرفية، وقد تحال له بعض الصلاحيات في ظروف خاصة، إلا أن الرئيس عادة في النظام البرلماني ينتخب من قبل البرلمان كي لا يحظى بتأييد شعبي كبير يعطيه شرعية شعبية تضاهي تلك التي حازها البرلمان ككل وتتعدى بكثير نسبة ما حازه أي عضو في البرلمان من أصوات.
ويمتاز هذا النظام بمنح الوزراء سلطات أعلى من النظام الرئاسي، إذ إن الوزير يدير وزارته بحرية أكبر كونه مساءل بشكل شخصي أمام البرلمان، كم أن القرارات داخل مجلس الوزراء تتم بالتوافق وليس لرئيس الوزراء أن يفرض قراراته ما لم يوافق عليها نسبة محددة من الوزراء.
وتكمن أكبر ميزات النظام البرلماني بأنه يشجع على وجود حوار ونقاش جاد بين كل القوى السياسية حول القضايا الرئيسة التي تواجه البلاد، وبالتالي يرفع من المستوى السياسي في الدولة والمجتمع، ويزيد الثقة والتواصل بين القوى السياسية. كما أن هذا النظام يسمح للقوى السياسية الصغيرة والأقليات بلعب دور هام في السلطة.
وفي المقابل، فإن غياب الفصل بين السلطات الثلات في هذا النظام والانصهار بين السلطات الثلات قد يقود إلى استغلال السلطة والاستبداد بها خصوصا في الدول النامية والتي تفتقد لمؤسسات ديمقراطية قوية، كما أن موعد الانتخابات في هذا النظام غير ثابت ومن حق رئيس الوزراء البقاء في منصبه طالما يملك ثقة أغلبية البرلمان، وهذا يعني أن من حق رئيس الوزراء أن يدعو إلى انتخابات جديدة مبكرة متى رغب في ذلك خصوصا عندما يشعر بأن الشعب يؤيد سياساته. ولعل من عيوب هذا النظام أن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء لا يتم اختيارهما من قبل الشعب وبهذا فسوف يكون من الصعب على الشعب محاسبتهما إلا من خلال ممثليه. كما أنه في كثير من الأحوال قد تلعب أحزاب صغيرة دورا كبيرا يفوق حجمها الشعبي في تقرير كثير من الأمور الحاسمة ومنها تشكيل الحكومة واتخاذ بعض السياسات.
3 ـ النظام شبه الرئاسي أو شبه البرلماني
وهو نظام سياسي يخلط بين كلا النظامين السابقين، إذ يتشارك رئيس الوزراء الحائز على ثقة البرلمان أو المنتخب من قبله ورئيس الدولة المنتخب شعبيا في السلطة التنفيذية، وتتوزع الصلاحيات بين كلا الرئيسين، بيد أنه يحق للبرلمان مساءلة رئيس الوزراء وتغييره إن ارتأى ذلك.
لكل نظام سياسي ديمقراطي ميزاته الخاصة التي تؤدي لنجاحه، كما أن البيئة الاجتماعية والعامل الديموغرافي يلعبان دورا بارزا في نجاح نظام سياسي معين في دولة ما
ويتميز هذا النظام بأنه في حالة الانسجام بين رئيسي الدولة والحكومة، تكون عملية سن القوانين واتخاذ القرارات سلسة ومرنة، ويحدث استقرار كبير في إدارة الدولة، كما يحق للرئيس في حالات معينة حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة.
إلا أن أبرز عيوب هذا النظام تتمثل في حالة عدم التوافق والانسجام بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء، مما يحدث حالة من الشلل في الدولة، خصوصا لو انتمى رئيس الوزراء لحزب يعارض سياسات رئيس الدولة، كما قد يلجأ الرئيس في هذا النظام إلى إساءة استخدام سلطته بحل البرلمان، وقد يضطر للجوء إلى استفتاء الشعب كلما تعارضت السلطتان التشريعية والتنفيذية.
ومن العيوب التي ترافقت مع آلية إصدار الإعلان الدستوري المؤقت توكيل مهمة اختيار شكل النظام السياسي للجنة غير منتخبة مؤلفة من سبعة أعضاء وبالتالي لم يتسم عمل هذه اللجنة بالشفافية وفي الوقت نفسه اتسم بالمهمة المستحيلة لإرضاء السوريين الخارجين من الثورة بشكل النظام السياسي الذي يرغبون.
ولذلك ذكرت أنه كان من الأفضل أن يصدر هذا الإعلان عن مجلس الشعب المعين وهذا ما سيعطيه مزيدا من الصدقية والشرعية، سيما أنه تبنى شكل النظام الرئاسي للدولة، وهو بالمناسبة أفضل لسوريا في الوقت الحالي في ظل تزايد النزعات الإقليمية وضعف المؤسسات الوطنية فتحتاج إلى تقوية الحكومة المركزية في دمشق ضمن هذه المرحلة الانتقالية، لكن في الوقت نفسه كان لا بد من فتح المفاوضات مع كل الأطراف السورية التي لها مصلحة في المرحلة الانتقالية، بما في ذلك الأقليات الدينية والإثنية والذين يرغبون في المشاركة في الحكومات المؤقتة والدائمة، هذه المفاوضات عادة ما ترتكز على إطار عملية الانتقال ذاتها، ولكن يمكن أن تتضمن أيضا التفاوض حول الدساتير المؤقتة والدائمة.حيث إن هذه المفاوضات يجب أن تكون شاملة في أغلب الأحيان لجميع الأقليات مما يضمن نجاح المرحلة الانتقالية.
المجلة
————————-
ما حمله الإعلان الدستوري السوري/ عمر كوش
23 مارس 2025
جاء الإعلان الدستوري المؤقت في سورية كي يكون البوصلة الموجّهة لحوكمة الفترة الانتقالية فيها، والتي حدّدها بخمس سنوات، واستجابة لحاجة ملحّة، تتمثل في سد الفراغ القانوني، ووضع تصوّرات لإدارة شؤون الدولة الجديدة، عبر تأطير عمل السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومنح شرعية دستورية للسلطة الجديدة ومؤسّساتها وأجهزتها، وهو أمر تقتضيه طبيعة المرحلة الانتقالية، خاصة أنه يهدف إلى تشييد أسس لعملية انتقال سياسي جامعة، والوصول إلى بناء دولةٍ تحتضن جميع السوريين، ويمتلكون فيها قرارهم. وباعتباره إعلاناً دستورياً مؤقتاً، فإن هدفه ليس الدخول في مختلف التفاصيل في الدولة والمجتمع، إنما تحديد مبادئ عامة أساسية، يمكنها أن تفضي إلى تأمين الانتقال إلى المرحلة اللاحقة، التي يأمل السوريون أن تقطع مع مرحلة الاستبداد والتوحّش، وتنقلهم إلى مرحلةٍ يسود فيها القانون والعدالة والممارسة الديمقراطية، ويشعرون فيها بأنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات.
ومثل سائر الخطوات والإجراءات التي قامت بها السلطة الجديدة منذ سقوط نظام الأسد البائد، أثار الإعلان الدستوري جدلاً واسعاً بين المهتمين والفاعلين السوريين، حيث اعتبره بعضُهم بمثابة خطوة أخرى، تهدف إلى ترسيخ نظام الفرد الواحد، وإعادة إنتاج الديكتاتورية والاستبداد، وهم الفريق نفسه الذي اعتبر ما جرى في الساحل السوري أخيراً إبادة طائفية، وحمّل مسؤوليتها للسلطة الجديدة، بينما في المقابل، هناك من رأى كل ما ورد فيه مطلوباً للمرحلة الانتقالية، وأنه إعلان مثالي، كله إيجابيات. وبعيداً عن المغالاة، وتحامل المعترضين ومحاباة الموالين، الإعلان الدستوري في حاجة إلى نقاش موضوعي هادئ، لمعرفة ما حمله، بعيداً عن المواقف الأيديولوجية المسبقة، والتساؤل عن مدى قدرته على تأمين عملية الانتقال السياسي، وانتقاد ما غاب عنه من قضايا ومشكلات، تحتاج إلى سند دستوري، وأفضى غياب النظر فيها، وتركها إلى قوانين لاحقة، إلى نشوء حالة من عدم الوضوح.
بدايةً، ركز الإعلان الدستوري على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث المعتمد في النظم الجمهورية في العالم، وهو مبدأ تتبعه النظم الديمقراطية بشكل عام، لكنه يرد أيضاً في بعض دساتير الأنظمة القمعية أيضاً، من دون أن يطبّق فعلياً، فالعبرة في التطبيق والتنفيذ، خاصة أنه يفتقر إلى جهةٍ تراقب ذلك. وتنطبق هذه العبرة على كل المبادئ الأخرى التي وردت في نص الإعلان الدستوري.
ليس مستغرباً أن يضع الإعلان المؤقت السلطة التنفيذية في يد رئيس الجمهورية، ويعطيه صلاحية تعيين الوزراء، وتعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، إضافة إلى إعلان حالة الطوارئ، وتعيين أعضاء مجلس الأمن القومي. لكن المستغرب عدم وضع جهة مراقبة تحاسبه إذ حاد عن أداء مهمّته، حيث منح الإعلان السلطة التشريعية الكاملة لمجلس الشعب في سن القوانين وتشريعها، الذي يعيّن الرئيس ثلث أعضائه فقط، فيما تنتخب ثلثي أعضائه الباقين هيئات ناخبة في مختلف المحافظات السورية، لكن هذه السلطة التشريعية ليس لها الحقّ في مساءلة الرئيس عن قراراته وممارساته، وكذلك الأمر في ما يخص الوزراء، ومن ثم لا يستطيع كل من مجلس الشعب والنظام القضائي الانتقاليين منع رأس السلطة التنفيذية من القيام بتجاوزات تتعارض مع الإعلان الدستوري، أو اعتماد خطط وبرامج حوكمة تتنافى مع تطلعات السوريين ومصالحهم. ولعل مبدأ المساءلة والرقابة الشعبية لم تنل اهتمام واضعي الإعلان، لذلك لم يأتِ نصه على ذكر هذا المبدأ، وأفضى ذلك إلى تغافله عن مبدأ آخر هو السيادة الشعبية، التي تتيح لقوى المجتمع التعبير عن إرادتها عبر الانتخاب والاستفتاء الشعبي، وذلك على الرغم من أن الإعلان الدستوري تحدث عن انتخابات بعد وضع دستور سوري دائم في نهاية المرحلة الانتقالية.
ينبغي لفت النظر إلى تشديد الإعلان الدستوري على حماية حقوق الإنسان، وضمان الحقوق والحريات الأساسية المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق الدولية المصادق عليها من الدولة السورية، وتشمل حرية الرأي والتعبير، وحرية التنقل، وحماية الحياة الخاصة، والمساواة بين المواطنين من دون تمييز. لكنه وضع قيوداً بصياغات عامة وفضفاضة، تتعلق بالسلامة العامة والنظام العام والآداب العامة ومنع الجريمة وسواها. وجمّد عمل الأحزاب والجمعيات، على الرغم من الإقرار بأنها مكفولة، إضافة إلى ضمان حق العمل وتكافؤ الفرص.
من المهم جداً أن يمهد الإعلان لتحقيق العدالة الانتقالية، من خلال “إحداث هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية”، مهمّتها “تحديد سبل المساءلة ومعرفة الحقائق وإنصاف الضحايا والناجين”، واتخاذ جملة من الخطوات منها إلغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية، وإلغاء مفاعيل الأحكام الاستثنائية الصادرة عن محكمة الإرهاب التي أوجدها النظام البائد، إضافة إلى تجريم الإعلان تمجيد نظام الأسد البائد ورموزه، وأيضاً إنكار الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري أو تبريرها أو التهوين من وقعها، وترك الأمر إلى قانون سيصدر بشأنها من طرف مجلس الشعب المقبل، كما أن الإعلان استثنى من مبدأ عدم رجعية القوانين جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبها نظام الأسد البائد بحق الشعب السوري، الأمر الذي يعزز سيادة القانون، ويقوي دور السلطة القضائية.
يُؤخذ على الإعلان أنه لم يشر إلى حقوق المكوّنات السورية، خاصة حقوق السوريين الأكراد، لذلك رفضته معظم القوى الكردية، خاصة مجلس سوريا الديمقراطية التابع لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي اعتبره صادراً عن العقلية السابقة نفسها، ويمثل تراجعاً عن الاتفاق الذي وقع مع قوات سوريا الديمقراطية، ويعيد إنتاج نظام الحكم المركزي الذي كان في عهد نظام الأسد، وكذلك رفضه المجلس الوطني الكردي. كما يُؤخذ على تجميده عمل الأحزاب السياسية في المرحلة الانتقالية، على الرغم من إقراره حق المشاركة السياسية وتشكيل الأحزاب على أسسٍ وطنية. وعليه، فإن الكرة في ملعب السلطات الجديدة، لاستدراك النقص الذي يعتريه، خاصة ضرورة ألا تتعامل السلطة بتسرّع مع الخطوات الأساسية، وأن تنظر إلى السوريين بوصفهم كائنات سياسية أيضاً، ومن حقهم المشاركة سياسياً في جميع مراحل بناء دولتهم، بما فيها المرحلة الانتقالية.
العربي الجديد
—————————
بضع كلمات لو أُضيفت أو عُدِّلت لكان الإعلان الدستوري أكثر شمولاً وتمثيلاً للسوريين/ جمال حمّور
تحديث 23 أذار 2025
يُعد الإعلان الدستوري وثيقة تأسيسية تمثل خطوة أساسية في صياغة مستقبل سوريا السياسي والاجتماعي، وهو بمثابة إطار قانوني مؤقت يُحدد المبادئ العامة التي تحكم البلاد خلال المرحلة الانتقالية. وبالنظر إلى محتوى هذا الإعلان، يتضح أنه يتضمن العديد من المواد التي تكرس مبادئ المساواة، وحقوق الإنسان، والحريات العامة، وحقوق المرأة، مما يجعله خطوة مهمة نحو بناء دولة القانون والمؤسسات.
ومع ذلك، وكأي وثيقة دستورية، يبقى هناك مجال للتحسين لضمان استيعاب جميع أطياف المجتمع السوري وتمثيل هواجسهم وتطلعاتهم بشكل أكثر وضوحاً. فهناك بعض التعديلات أو الإضافات التي، لو أُدخلت، كان يمكن أن تجعل الإعلان أكثر شمولاً وتعزيزاً للثقة بين مكونات المجتمع السوري.
1- تعزيز الضمانات الدستورية للحريات والحقوق
يتضمن الإعلان الدستوري مواداً واضحة تنص على صون حقوق الإنسان والحريات الأساسية (المادة 12)، وحماية حرية التعبير والإعلام والنشر (المادة 13). كما ينص على ضمان الحريات السياسية وحق المشاركة في الحياة العامة (المادة 14). ومع ذلك، فإن بعض العبارات الإضافية التي تؤكد الالتزام الصارم بهذه المبادئ دون استثناءات فضفاضة كان من شأنها أن تُحصّن هذه الحقوق بشكل أقوى.
على سبيل المثال، يُمكن أن يُضاف نص يؤكد على أن “لا يجوز تقييد أي من الحقوق والحريات الأساسية إلا بقانون، وبما لا يتعارض مع المبادئ الديمقراطية والمعايير الدولية لحقوق الإنسان”، وذلك لضمان عدم إساءة استخدام السلطة التشريعية أو التنفيذية في تقييد الحريات العامة تحت أي ذريعة.
2- توضيح مفهوم المساواة وعدم التمييز
تنص المادة 10 بوضوح على المساواة بين المواطنين أمام القانون دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو النسب، وهو أمر أساسي في أي دستور عصري. لكن كان من الممكن أن يُعزَّز هذا المبدأ بإضافة نص يُلزم الدولة باتخاذ إجراءات فعالة لضمان تكافؤ الفرص بين جميع فئات المجتمع، بما في ذلك تمثيل جميع المكونات في المؤسسات العامة، وتعزيز سياسات العدالة الانتقالية.
3- تأكيد مبدأ الفصل بين السلطات ومساءلة السلطة التنفيذية
يُعد التوازن بين السلطات وضمان استقلاليتها أحد الركائز الأساسية لأي نظام ديمقراطي. ومن النقاط التي يمكن أن تعزز فاعلية النظام السياسي في سوريا هو دور المجلس التشريعي في المساءلة السياسية. ففي الإعلان الدستوري، لم يتم التأكيد بشكل كافٍ على صلاحيات المجلس التشريعي في مساءلة الرئيس والوزراء عن أفعالهم. في الأنظمة الديمقراطية، تُعتبر المساءلة ركيزة أساسية لضمان نزاهة السلطة التنفيذية وحمايتها من الانحرافات أو التجاوزات. كما أن تأكيد الحق في المحاسبة السياسية من قبل المجلس التشريعي يعكس التزاماً حقيقياً بمبادئ الحكم الرشيد.
وبناءً على ذلك، كان من الممكن إضافة نص مثل: “يحق للمجلس التشريعي مساءلة رئيس الجمهورية والوزراء على تصرفاتهم وتطبيق الإجراءات القانونية المناسبة في حال خرقهم للدستور أو القوانين المعمول بها.” إضافة هذا النص كانت ستزيد من المصداقية وتمنح الشعب السوري ضمانات أكبر بخصوص الرقابة على السلطة التنفيذية.
4- تعزيز حقوق المرأة بمزيد من الضمانات العملية
أقر الإعلان الدستوري في المادة 21 بحقوق المرأة في التعليم والعمل وحمايتها من العنف، لكن إضافة نصوص أكثر تفصيلاً حول التزامات الدولة في تمكين المرأة سياسياً واقتصادياً كان سيعزز هذه الحقوق. على سبيل المثال، كان يمكن إدراج مادة تنص على “العمل على تحقيق التوازن بين الجنسين في المناصب القيادية”، أو “اتخاذ التدابير الكفيلة بمنع التمييز ضد المرأة في المجالات كافة”.
5- توضيح آليات تنفيذ المبادئ الدستورية
على الرغم من أن الإعلان يتضمن مبادئ هامة، إلا أنه لا يتناول بشكل كافٍ الآليات التي سيتم من خلالها تنفيذ هذه المبادئ. فمثلاً، كيف سيتم ضمان استقلال القضاء؟ وكيف سيتم تطبيق مواد حقوق الإنسان فعلياً؟ إضافة نصوص تُلزم بوضع قوانين تفصيلية خلال فترة زمنية محددة كان من الممكن أن يعزز من مصداقية هذا الإعلان.
خاتمة
إن الإعلان الدستوري هو خطوة هامة نحو تأسيس دولة القانون في سوريا بعد سنوات من الفوضى والصراع. إلا أن إضافة أو تعديل بعض العبارات المتعلقة بالمساواة، والرقابة السياسية، والحقوق الأساسية، والحقوق الاجتماعية كانت ستساهم في تعزيز القبول الشعبي، وتخلق قاعدة أوسع من الثقة بين الشعب والدولة. إن التعديلات الطفيفة التي تم اقتراحها لا تمثل سوى تفاصيل، لكنها تفاصيل يمكن أن تُحدث فرقاً جوهرياً في المسار السياسي لسوريا المستقبلية، وتؤكد على التزام الدولة بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
———————————
سوريا في شهر الثورة.. التحديات كبيرة/ أحمد مظهر سعدو
2025.03.23
تتشابك التحديات وتتعقد، بعد نحو 4 شهور من انتصار ثورة الشعب السوري، وإزالة نظام الأسد، وفرار رأس النظام إلى موسكو. إذ يحاول السوريون الاحتفاء بتاريخ ثورتهم العظيمة، ثورة الحرية والكرامة في ذكراها، أمام تحديات كبيرة وكثيرة ومتعددة، بل وأكثر تعقيدا، طالت مجمل الواقع المتغير في المشهد السوري. حيث لم تُترك سوريا بشعبها المكافح لفرحة النصر، كما لم يُترك الإنسان السوري ليعيش زمنا جديا خاليا من القتل والموت والعبث بأوضاعه، حتى بدأت المشكلات والإشكاليات تنبثق في طريقه الشاق نحو بناء الدولة السورية الجديدة، الخالية من خراب عصابة الأسد، فسادها وإفسادها وحالة الدولة السورية التي عاشها السوريون على مدى ٥٤ عاما من حكم آل الأسد ومساراتهم المليئة بالدم والنهب والخراب على كل المستويات، حتى أضحت سوريا في الدرك الأسفل من الفوات والعفن على جميع الأحوال والمتغيرات.
تتمظهر اليوم حالات كثيرة من تلك التحديات التي تعوِّق حركة العمل المطلوب من أجل سوريا الحرة، التي لا بد من أن تبنى على أسس جديدة وقيم وطنية أخرى، وسيادة جدية للدستور والقانون المغيبين قسرا زمن الأسد الابن وقبله الأب.
ولعل التحدي الأكبر هو ماتفعله إيران وأدواتها من الفلول التشبيحية، في محاولاتهم المستمرة ضمن الساحل السوري، وكذلك على الحدود اللبنانية السورية، من أجل زعزعة الأمن والاستقرار الضروريين جداً من أجل قيامة جديدة للدولة السورية. وإذا كانت غايات إيران في ذلك ومعها زبانية نظام الأسد واضحة المعالم، وهي التي انهزمت على يد الشعب السوري صبيحة 8 كانون أول/ ديسمبر 2024 هزيمة نكراء، أسهمت في هدم صرح المشروع الإيراني الفارسي الطائفي في المنطقة، وتم قطع الطريق كليا على امتدادات وأطماع إيران في المنطقة، فأصبح طريق طهران بغداد دمشق بيروت غير سالك، بل مقطوع نهائيا في أوسطه، أي داخل الجغرافيا السورية تحديدا، وهو ما جعل إيران/ الملالي تتجرع كأس السم الزعاف في سوريا هذه المرة، بعد أن تجرعه (آية الله الخميني) في العراق أواخر ثمانينيات القرن الفائت. من هنا فإنها لن تألو جهدا من أجل العمل وبشتى السبل، لزعزعة الأوضاع الأمنية في سوريا، ضمن محاولاتها البائسة للعودة من جديد إلى الساحة السورية المطرودة منها، رغم كل إمكانياتها وثقلها العسكري.
أما التحدي الآخر الذي يقف في طريق الدولة الجديدة في سوريا، فهو تحدي القوة المتصاعدة الإسرائيلية حيث خرجت إسرائيل منتصرة في حربها على قطاع غزة وجنوبي لبنان، وهي اليوم تريد أن تستثمر وتستغل هذه الفرصة عبر سوريا، في ظل وجود عسكري لجيش سوري ناشئ ومتواضع، وضمن اللاإمكانات الجدية للمواجهة، كي تنجز وضعا جديدا عبر قضم المزيد من الأراضي السورية في الجولان والهيمنة على كامل المنطقة العازلة، وتدمير ما تبقى من عتاد عسكري سوري، واللعب على الوتر الطائفي، بدعوى حماية الأقليات، وخاصة في الجنوب السوري . كل ذلك يجري في ظل غياب كامل لأي مشروع عربي قادر على لجم التمدد الإسرائيلي، أو إيقاف التهديدات الصهيونية المستمرة للوضع الجديد في سوريا، وضمن أجواء هيمنة الرئيس الأميركي (دونالد ترمب) على العالم، وانحيازه المطلق إلى جانب إسرائيل، على حساب العرب كل العرب، من دون الاهتمام بمواقف النظام العربي الرسمي الضعيف، هذه المواقف التي لا تتعدى شكلية إصدار بيانات لا تسمن ولا تغني من جوع.
كما لا يمكننا إلا التوقف أمام التحدي الآخر الذي لايقل خطورة، وهو موضوع شمال شرقي سوريا، حتى بعد أن تم توقيع اتفاق مهم بين الإدارة السورية الجديدة وتنظيم (قسد) حيث ما تزال هناك الكثير والكثير جدا من من العقبات، التي تعترض طريق تنفيذه خلال تسعة أشهر قادمة، وهي المدة الزمنية المعطاة له من أجل الإنجاز، حيث ما برحت هناك كثير من العقبات بل والخلافات بين الطرفين، وصولًا إلى حالة اندماج ما، قد تحصل وقد لا تحصل في المؤسسة العسكرية السورية الجديدة، وهذا يرتبط بالضرورة وبشكل مباشر وواضح بمدى رضى أو عدم رضى الإدارة الأميركية عن أداء الحكم الجديد في سوريا.
كذلك فإن إشكالية الجنوب السوري ماتزال قائمة، واللعب بورقة (الدروز) من قبل الإسرائيليين ما تزال جدية، رغم الوقوف المعلن لمعظم الفعاليات الوطنية السورية في جبل العرب، انحيازا حقيقيا وواضحا إلى جانب وحدة سوريا، والاندماج بالحالة السورية الجديدة، وعدم الالتفات إلى ما تحاول أن تفعله إسرائيل من تحريك لبعض أدواتها في السويداء من أجل الهيمنة على الجنوب السوري والتهيئة لحالة جديدة من تفسخ الوحدة الوطنية السورية.
وقد لا يقل أهمية عن كل ذلك تحدي بناء الدولة الوطنية، على أسس تشاركية وحدوية لا تتكئ على اللون الواحد، ولا تسمح بالانفراد بالسلطة، من قبل لون سياسي واحد بحد ذاته، فمطالبات الداخل والخارج تفترض مشاركة الجميع، وفق معايير وطنية ديمقراطية تتمكن من تخطي زلات وهنات الإعلان الدستوري، وصولًا إلى تشكيل حكومة وطنية جديدة، متعددة المشارب، وقادرة على الوصول إلى بناء وطني للدولة ديمقراطي وعصري. بالإضافة إلى ضرورة الإسراع في تشكيل هيئة عليا للعدالة الانتقالية، التي باتت ضرورية وملحة، لتقطع الطريق على كل العابثين بأمن الوطن السوري. وكذلك العمل بدأب من أجل تأمين الخدمات الضرورية للعيش، وتحسين الأداء الاقتصادي الأفضل، كي يجذب ذلك السوريين المهجرين قسرا إلى الخارج، كي يعودوا جميعا ويسهموا في بناء الوطن السوري القادم والجديد.
ولن ننسى التحدي الآخر الكبير وهو تحدي كيفية إقناع الغرب وخاصة الأميركان بإزالة كل أنواع العقوبات المفروضة على سوريا، والتي لم يعد هناك من مبرر لوجودها، بعد إزاحة السبب، الذي أدى إليها، وهو “نظام الفاشيست” الأسدي، وهو مايجب الاشتغال عليه وبشتى الطرق، وعبر كل أصدقاء سوريا، حتى لا تبقى هناك معوقات حقيقية على طريق بناء اقتصاد سوري وطني قوي وقادر على الإيفاء بالمتطالبات الوطنية السورية المعيشية للناس.
إذا فالتحديات كبيرة وكثيرة، لكن الأمل ما يزال موجودا لتخطيها جميعا، وعبر جهد حقيقي، يشارك فيه كل السوريين، مع أصدقاء الشعب السوري، الذين وقفوا إلى جانب سوريا، لكن المسألة شاقة ومتعبة، وتحتاج إلى كثير من الانفتاح والتشاركية، والعمل الدؤوب من أجل سوريا التي نحب ونرغب جميعا.
————————–
أقرّت البلاد مؤخّرًا إعلانًا دستوريًا يزرع بذورًا غير معتادة تستحقّ المتابعة/ ناثان ج براون
قادة سورية يُظهِرون نواياهم
نشرت في 21 مارس 2025
أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع، في 13 آذار/مارس، دستورًا مؤقّتًا أو “إعلانًا دستوريًا” بتعبير تقنيّ أكثر، لحكم سورية خلال مرحلة انتقالية تمتدّ خمس سنوات.
هل البلد الذي عانى من حرب أهلية شهدت تدخّلًا خارجيًا، ولا يزال خاضعًا للاحتلال الأجنبي، والعقوبات الدولية، والاقتتال الداخلي، على وشك الانتقال إلى حكمٍ دستوري؟ ليس بالضرورة. لكن الإعلان يبعث بإشارات حقيقية للغاية حول نوايا القيادة السورية الجديدة تجاه الحكم على المدى القصير، ويغرس بذورًا غير معتادة قد تنمو في نهاية المطاف بطرق غير متوقّعة إذا ما تحسّنت الظروف.
تمنح هذه الوثيقة، التي صاغتها في غضون عشرة أيام لجنة صغيرة من الخبراء، في أعقاب الحوار الوطني في شباط/فبراير، ضمانات للحقوق بلغةٍ دقيقةٍ للغاية توحي بأنها أكثر من مجرّد تطلّعات، لكن الدولة بشكلها الراهن بالكاد تبدو مُهيّأة لتحقيق هذه الضمانات. والتطلّعات التي يجسّدها الإعلان الدستوري واضحة تمامًا بشأن مسائل ثلاث: سورية هي دولة وحدوية؛ والرئاسة ستتولّى قيادة البلاد في الوقت الحالي؛ والبلاد تحتاج إلى مواجهة ماضيها.
أولًا، ذُكِرَت “وحدة” الدولة السورية و”سلامة أراضيها” وطبيعتها التي “لا تتجزّأ” في مقدّمة الإعلان وستٍّ من موادّه. ودفاعًا عن هذه الوحدة، يحظّر الإعلان الجماعات المسلحة، مستخدمًا لغةً تبدو وكأنها توسّع نطاق هذا الحظر ليشمل الأفراد، كما يؤكّد على أن الدولة وحدها هي المخوّلة حمل السلاح.
ثانيًا، تمارس الرئاسة (التي يُفترَض أن يبقى شاغلها الحالي في منصبه) جميع السلطات التنفيذية مباشرةً، أو تعيّن مسؤولين يكونون خاضعين للرئيس وحده (وإن كان يجوز للبرلمان أن يعقد جلسات استماع مع الوزراء). ويتولّى الرئيس أيضًا منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ويقترح القوانين ويصادق عليها. ويكون للبلاد مجلس شعب يُختار ثلثا أعضائه من خلال عملية غير مُحدَّدة بوضوح تتضمّن “هيئات فرعية ناخبة”، على أن يتولّى الرئيس تعيين الثلث المتبقّي. وسيكون بإمكان مجلس الشعب إقرار الموازنة العامة والقوانين التي تُحال إلى الرئيس للموافقة عليها. وفي حال اعترض الرئيس على قانونٍ أقرّه المجلس، فيجوز لهذا الأخير إبطال الاعتراض. ولكن بالنظر إلى العدد الكبير من المُعيَّنين من الرئيس، والمشهد السياسي المتشظّي في سورية، يبدو من المستبعد أن يكون مجلس الشعب قادرًا على صياغة أجندة متماسكة منفصلة عن أجندة الرئيس. وبالفعل، مع حظر حزب البعث واشتراط الدستور إصدار قانون جديد للأحزاب السياسية، ليس واضحًا حتى مَن سيكون مُمثَّلًا وعلى أيّ أساس.
أخيرًا، تتطرّق مقدّمة الإعلان إلى ما طبع ماضي سورية من ظلام وقمع وطغيان وتعذيب. أما في الحقبة الجديدة المتّسمة بالنصر، فستُشكَّل لجنة مُكلَّفة بتطبيق العدالة الانتقالية. وستبقى معظم القوانين والهياكل قائمة إلى حين استبدالها، ولكن ثمّة استثناءات مهمّة: سيُصار إلى صرف قضاة المحكمة الدستورية؛ وستُلغى مفاعيل القوانين والأحكام الاستثنائية الصادرة عن محكمة الإرهاب؛ ولن تكون جرائم النظام السابق محميّةً بمبدأ عدم رجعية القوانين.
وهكذا، يدعو الإعلان الدستوري إلى الحفاظ على وحدة سورية ونأيها عن ماضٍ اتّسم بالوحشية لتتّجه نحو مستقبل مشرق، من خلال عملية انتقالية يقودها رئيسٌ قد يتمكّن مجلس الشعب من استمالته، ولكن لا قيادته. والواقع أن التركيز على وحدة الأراضي والرئاسة القوية موضوعان تكرّرا كثيرًا في التاريخ الدستوري السوري.
أما المسارات السياسية والقانونية المحتملة، فنرى في التفاصيل الدقيقة لأحكام أخرى بعض ما يؤشّر عليها، ربما أبرز هذه الأحكام تلك التي تتعلّق بالدين. فالإعلان الدستوري يتضمّن تلميحات مألوفة جدًّا في المنطقة حول تكريس الإسلام مع حماية الحريات الدينية، غير أن الكلمات المختارة توحي بأن هذه التلميحات قد تكون أكثر من مجرّد صياغة منمّقة.
أولًا، يتضمّن الإعلان الدستوري مادّة شديدة الوضوح بشأن اعتماد “الفقه” الإسلامي مصدرًا رئيسًا للتشريع، في عودةٍ إلى دستور سورية للعام 1950، الذي كان أول دستور في المنطقة يُدرِج مثل هذا البند المتعلّق بالشريعة. والمادّة قد تحمل في طيّاتها تأثيرًا أكبر، إذ تشير تحديدًا إلى “الفقه” بدلًا من الإشارة بشكلٍ مبهم إلى “الشريعة الإسلامية” أو “مبادئها”، كما تفعل دول أخرى في المنطقة، ناهيك عن أنها تُدخِل “ال” التعريف على كلمة فقه. ولكن الأهمّ من ذلك بكثير أن البند يُطبَّق في ظلّ حكم رئيسٍ إسلامي، ويُفسَّر من محكمةٍ دستوريةٍ هو مَن يعيّن أعضاءها، أي أن ما كان عمومًا لغةً رمزيةً في سياقات أخرى قد يكتسي معنًى حقيقيًا في سورية.
نلاحظ أيضًا في التفاصيل الدقيقة للأحكام المتعلّقة بالحريات الدينية بعضَ العناصر التي قد تمنح هذه الأحكام زخمًا أقوى. فالإعلان الدستوري يكفل حرية “الاعتقاد” بدلًا من “العقيدة”، وهذا المصطلح الأخير يميل إلى حصر الحقوق بالأديان الراسخة والمُعترَف بها، في حين أن المصطلح الأول يشير إلى ما هو أقرب إلى حرية الضمير الفردية. ومع ذلك، وحدها الديانات “السماوية” المُعترَف بها تُصان شعائرُها وتكون أحوالُها الشخصية نافذة. والجدير بالذكر أيضًا أن الصراعات في سورية اليوم، حتى تلك التي تحمل بُعدًا طائفيًا كبيرًا، لا تركّز على الشعائر الدينية والأحوال الشخصية، بل من الأفضل النظر إليها على أنها ذات طابع إثنيّ وسياسي.
وفي ما يتعلّق بالحقوق بصورة أعمّ، يبدو أن عملية صياغة الإعلان الدستوري المتسرّعة والمغلقة، إضافةً إلى الطابع المؤقّت للإعلان، حالا دون اعتماد مسارٍ معتادٍ تُعامَل فيه الدساتير كأنها أشجار عيد الميلاد (إن جاز التشبيه)، تُعلّق عليها الجماعات المختلفة بنودَها أو حقوقَها المُفضَّلة. ولكن ذلك قد يحدث مرّة واحدة أو عند صياغة وثيقة أكثر ديمومةً.
مع ذلك، تضمّن الإعلان مادّة قاطعة بشكل مفاجئ مفادها أن “جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان” التي صادقت عليها سورية تشكّل “جزءًا لا يتجزّأ من هذا الإعلان الدستوري”. والحقوق هذه كثيرة جدًّا. على وجه الخصوص، صادقت سورية قبل نصف قرن على كلٍّ من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هاتان الوثيقتان مستفيضتان وتملآن الكثير من الثغرات في الإعلان الدستوري نفسه (أحكام الحريات الدينية مثلًا مُفصَّلة للغاية). وبرفع هذه الوثائق إلى مرتبة دستورية، يبدو أن الحاجة إلى التشريعات التنفيذية تنتفي، لا بل إن العكس هو الصحيح نظريًا: تُعَدّ النصوص القانونية التي تتعارض مع هذه الصكوك الدولية غير دستورية، شرط أن تطعن بها المحكمة الدستورية الجديدة وتلغيها.
كذلك يحمل الإعلان الدستوري، بالرغم من اقتضابه، بعض الإشارات المربكة أحيانًا. فهو يلغي التمييز على أساس الجنس، ويكفل حقّ المرأة في التعليم والعمل من دون قيد أو شرط، ولكنه يصون أيضًا “كرامتها” “ودورها داخل الأسرة والمجتمع”. ومع أن ما من تناقض قانوني بين الأمرَين، يبدو أن ثمّة محاولة للتعبير في آن واحد عن أفكار مُنادية بالمساواة وأخرى مُحافِظة أكثر، من دون تقديم أيّ توجيهٍ بشأن كيفية حلّ أيّ توتّر قد ينتج عن ذلك.
والأمر الأبرز هو ما أغفله الإعلان الدستوري إغفالًا تامًا، إذ إنه لا يتطرّق أبدًا إلى كيفية استبداله. فعملية صياغة دستورٍ أكثر ديمومة ستصطبغ بالصراعات السياسية في السنوات القليلة المقبلة، ومع ذلك لا تتضمّن الوثيقة أيّ بندٍ حول كيفية ترجمة محصّلة هذه الصراعات إلى نصّ دستوري. وبما أن معظم التفاصيل الدقيقة المثيرة للاهتمام في الوثيقة المؤقّتة تشير إلى مساراتٍ قد تتطوّر تدريجيًا مع مرور الوقت، ولا سيما في ما يخصّ حقوق الإنسان، يكتسب هذا الإغفال دلالة ملحوظة.
لكن الدساتير المؤقّتة، حتى تلك التي تتضمّن مواعيد انتهاء واضحة ومتطلّبات أكثر صرامة لاستبدالها، غالبًا ما تحدّد نقطة انطلاق للمفاوضات الدستورية. وإذا ما شرع واضعو الدستور في صياغة دستور دائم، فستكون أمامهم هذه المجموعة المؤقّتة من الأحكام، التي تحدّد التوقّعات، وتؤطّر المسائل الحساسة، وتقدّم صياغة محدّدة. يبدو من المستبعد أن يتمتّع السوريون اليوم بالحريات التي وُعِدوا بها. ولكن إذا انبثق مسارٌ سياسي بالفعل خلال الفترة الانتقالية، يفضي إلى جهاز دولة أكثر شرعية وكفاءة، فقد يعود المواطنون إلى بعض هذه الصياغة، أو سيحاولون ربما التوفيق بين الوعود التي قُطعَت لهم والرئاسة القوية، التي تمكّنت من إعادة ترسيخ نفسها في ثوب إيديولوجي يبدو لكثيرين مختلفًا تمامًا عن هذه الوعود.
مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط
————————–
المطران جاك مراد : الإعلان الدستوري مشكلة للمسلمين
أنيس المهنا
الأحد 2025/03/23
التزمت الكنيسة السورية طوال السنوات الـ14 الماضية الاهتمام بالأمور الإنسانية مجبرة، عندما رأت أمامها الظلم والاعتقالات، لكنها لم تكن يوماً خارج إطار العمل السياسي، وقد دفع مسيحيو سوريا أثماناً باهظة، تهجيراً وقتلاً وتهميشاً في عهد نظام المخلوع بشار الأسد، لأنهم لم يكونوا يوماً مع نظام “البعث”. لكن ذلك لم يمنع بعض مسيحيي سوريا من الحديث عن سياسة إقصاء ممنهج تُمارس ضدهم من قبل إدارة دمشق الجديدة، والتي قد تؤدي إلى نتائج كارثية من وجهة نظرهم، أبرزها زوالهم، معتبرة في المقابل، أن الإعلان الدستوري للرئيس أحمد الشرع قد يشكّل مشكلة للمسلمين، أكثر من المسيحيين.
مقدمة تفتح النقاش واسعاً مع رئيس أساقفة حمص وحماة والنبك وحولها للسريان الكاثوليك المطران جاك مراد، هذا نصّه:
بدايةً ماذا عن موقف الكنيسة بشكل عام أثناء قيام الثورة السورية؟
يجيب مراد أنه في بداية “ربيع سوريا” سنة 2011، كانت الكنيسة في وضع لا تّحسد عليه، لسببين، أولهما أن موضوع الثورة السورية كان مفاجئاً بالنسبة إلى المسيحيين، ولو أنه كان نتيجة طبيعية آنذاك لأن الإنسان السوري بشكل عام وليس المسيحي فحسب، كان يبحث عن حق طبيعي في حرية التعبير ودرء الفساد. لذا عندما بدأت الثورة، كان عدد المشاركين فيها منهم قليل، وقد انضموا إليها، علماً أن طابعها كان واضحاً منذ اليوم الأول، بأنه إسلامياً سنيّاً، خصوصاً أن التظاهرات، كانت تخرج من المساجد كما كان معروفاً آنذاك.
في تلك الأثناء، عاشت الكنيسة بشكل عام في حيرة من أمرها، فهي كانت مع تغيير سياسة الدولة، وتحرير الأسواق، وحرية التعبير، لكن طبيعة الحراك لم تكن واضحة، في ظل غياب أي خطاب رسمي للمعارضة السورية، يظهر خطة واضحة للحراك، من قبل الثوار أنفسهم، أو من قبل الدول الداعمة له في ذلك الوقت. لذلك التزمت الكنيسة الاهتمام بالأمور الإنسانية عندما رأت أمامها الظلم والاعتقالات والقتل، والتعدي الصارخ على المتظاهرين المدنيين بالسلاح والمدفعية من قبل أجهزة نظام الأسد، فيما امتلأت السجون بأشخاص كان ذنبهم الوحيد أنهم تكلّموا أو صرخوا..
عليه، ماذا عن الأثمان التي دفعها المسيحيون، وهل غابت الكنيسة بالفعل عن أداء دورها الحقيقي؟
يقول مراد إنه في حقبة النظام البائد، خرجت أصوات كثيرة من العلمانيين المسيحيين، ورجال الدين كالمطرانيين بولس يازجي، مطران حلب للروم الأورثوذكس، والمطران غريغوريوس يوحنا إبراهيم، مطران حلب للسريان الأورثوذكس، اللذين اختفيا في حلب، وكذلك لن ننسى الأب اليسوعي فرانس فاندرلخت الذي تضامن مع أهالي حمص في الحصار، وبقي معهم وشاركهم الجوع، وكل عذاباتهم، ليدفع في نهاية الأمر حياته ثمناً بسبب هذا الحب المنقطع النظير والتضامن مع الثورة.
كذلك الأب باولو دالوليو، الذي بات رمزاً من رموز الثورة السوريّة، ليس لأنه تضامن فقط مع طرف ضد آخر، بل لأنه حمل بداخله حباً كبيراً لهذا البلد العظيم الذي لا يستحق أن يبقى في هذه الدوامة من العنف والديكتاتورية، والظلم والانتهاكات، فدفع، هو الآخر، حياته ثمناً لكن بقرار منه عندما ذهب إلى الرقة، بكل إرادته للتفاوض مع “داعش”.
ولن ننسى بطبيعة الحال، المعارضين السوريين جورج صبرا، والراحل ميشيل كيلو اللذين لعبا دوراً اساسياً، في بداية الثورة السورية، وفي كل المرحلة السابقة.
ويؤكد المطران مراد، أن هناك الكثير من الأشخاص من الإكليروس، والعلمانيين المسيحيين الذين كانوا ضحايا الحرب التي دارت رحاها في سوريا بسبب ثورة شعبها ضد النظام. ومنهم الأب فرانسوا مراد الذي قتل على يد “جبهة النصرة”، في الغسانية في 2013، والأب الأرثوذكسي فادي حداد في قطنا، إلى جانب كثير من الكهنة والمطارنة الذين تركوا البلد بسبب مواقفهم المعارضة للنظام السوري البائد. ويذكر المطران مراد الكثير من المسيحيين الذين اختفوا في سجون النظام، من دون أن يغيب عن ذهنه الذين قتلوا على يد أجهزة نظام الأسد، ومنهم المخرج السينمائي باسل شحادة، كما أن بعض المسيحيين أسر من قبل “داعش” أو “جبهة النصرة”، ويلفت إلى أن الثمن الأكبر الذي دفعه المسيحيون هو تهجيرهم من مناطقهم بشكل كامل.
يضيف مراد: “الأمر الذي لن ننساه، وعلينا أن نستذكره، ونذكّر به السلطة الحالية التي تتناسى في بعض الأحيان، من جهة، والمجتمع الدولي، من جهة أخرى، أن الكنيسة لم تكن غائبة أبداً عن الساحة في سوريا، لأن المسيحيين يعتبرون أنفسهم هم أصل هذه البلاد وجذورها، فعلى الرغم أن المسلمين اليوم هم أهل هذه الأرض وهي بلدهم، فإن جذور هذا البلد سيريانية، ومسيحية، والأمر ليس خافياً على أحد، ولا يمكن إنكاره”. ويطالب السوريين، من مسيحيين ومسلمين، بالتوقف عن الحديث عن العصبيات والعشائرية والطائفية، قائلاً: “نحن لا نريد أن نعبّر عن حبّنا لوطننا وانتمائنا لهذا الوطن من خلال الطائفية. فهناك من يريد اليوم أن يربط هذا الوطن بفئة واحدة، وهذا الأمر مرفوض رفضاً قاطعاً لأن سوريا للجميع وليست لإحدى الفئات، بل هي تضم الجميع وتحترم الجميع، ومنفتحة على الجميع”.
ماذا عن أحداث الساحل الأخيرة؟
يشير مراد إلى أن “العنف الذي يُمارس اليوم خصوصاً في الساحل السوري، ليس نابعاً من انتماء حقيقي لهذا الوطن، بل هو جريمة بحق انسانيتنا كسوريين، لن تستفيد منها سوى إسرائيل التي تعمل بشكل جدي اليوم على تقسيم سوريا. ومردها عملياً تحقيق المصالح الغربيّة والإسرائيلية، ولن تكون نتيجتها إلا تقسيم البلاد وإضعافها، وتهجير أهلها. وكل هذا يجعل بالطبع إسرائيل، هي الدولة الأقوى عسكرياً في المنطقة، لتتحكم بثروات الشرق الأوسط، سواء في لبنان وسوريا والعراق، والأردن”.
إذاً، هل تتحمل الكنيسة دوراً في تحييد المسيحيين، الأمر الذي وضع المسيحيين الى جانب النظام المجرم في سنوات الثورة، أم أن هذا يعتبر إجحاف بحق الكنيسة ورجالاتها؟
يلفت المطران مراد إلى أن هناك إشكالية كبيرة عن ماهية الكنيسة، ومن تمثل، وهل يتكلم الاكليروس، والكهنة باسم الشعب؟، أم باسم رؤساء الكنيسة؟ وهذه أسئلة يعيد المطران الإجابة عليها إلى بداية الحرب السورية، إذ كان هناك خليط من عدم الوضوح، ولأن الوضع العام لم يكن يسمح بتأسيس تيارات مسيحية، أو نوادٍ أو ملتقيات، تبحث في الشأن السياسي والاجتماعي، حاول بعض الشخصيات الكنسية من كهنة ومطارنة، وبطاركة، نقل صوت الشعب، لكن في حقيقة الأمر أنهم كانوا ينقلون صوتهم كأشخاص. وشخصياً عندما كنت أظن أنني أتكلم باسم المسيحيين من حولي أو الرعية التابعة لي، وحتى لا أخدع نفسي، أعترف أنني كنت أقول رأيي أنا. صحيح أنني كنت أتأثر بما يقال حولي من قبل الشبيبة والعلمانيين، لكنني في آخر المطاف كنت أتحدث عن نفسي. لذلك فإن الدعوات التي تُوجّه بعد سقوط النظام، إلى بعض البطاركة والأساقفة لتقديم اعتذارهم عن التواطؤ وتأييد نظام الأسد والسكوت عن كل الإجرام التي ارتكبها الأسد بحق الناس، والاعتراف بأنهم كانوا يتكلمون باسمهم، وليس باسم الشعب المسيحي، تُوجب عليهم الاعتذار، وهذا رأيي الشخصي، حتى لا يُفهم من كلامي أنني أوجّه اللوم إلى أحد بذاته، وأنا أتحمّل النقد على هذا الرأي.
لكن كيف تعاملت الحكومة الجديدة، مع الكنيسة ومع رؤسائها، وهل عرض عليكم أي دور حقيقي للمشاركة في إدارة البلاد في هذا المنعطف الخطير؟
يشدّد مراد بوضوح على أن الكنيسة ليست هي الإكليروس فقط. يقول: “لا يحق لي كمطران القول إنني أمثّل المسيحيين، وكذلك الأمر بالنسبة لزعماء الكنيسة مع احترامنا للجميع، واحترامنا لأفكارهم وخطاباتهم الرائعة
التي قدموها في المرحلة الأخيرة، لاسيما، الخطابات الجريئة لسيدنا يوحنا العاشر بطريرك الروم الارثوذكس في الشرق. ومن هنا على الكنيسة أن تبقى شاهدة وشهيدة، وأن تنظم ذاتها، وتؤسس منتديات لاجتماع العلمانيين المسيحيين للعمل معاً، من أجل مستقبل هذا الوطن.
وعن تعامل الحكومة المؤقتة، يشير مراد إلى زيارة المسؤولين الجدد للكنيسة، تضمنت التقدير والتأكيد على مشاركة الجميع، لكن عملياً هناك تناقض كبير بين الأقوال والأفعال، فهناك تهميش للقيادات المسيحية، وللمسيحيين على حد سواء، وإغفال لدور الكنيسة. وهذا التهميش ينسحب على كل الأقليات الأخرى، وربما هناك تهميش لكل الشعب السوري، ففي الوقت الذي تأتي فيه السلطة الجديدة، وتشكّل حكومة من لون واحد، من إدلب، فهذا إقصاء لكل الشعب، وكأن الأخير بأكثريته المتبقية، بات خائناً ” شبّيحاً”. وكأن هذا الشعب لم يشارك بالثورة، ولم يدفع ثمنًا باهظاً، هذا هو الضلال بعينه، من قبل الحكومة الجديدة، وهو غير مقبول ابداً، لأن القائمين على هذه الحكومة، يعرفون أن الشعب الذي بقي في الداخل السوري، قد تحمّل من الجوع والموت، والقمع، ودفع الكثير من التضحيات، ومن كل المكونات.
ويضيف مراد: “نعرف جميعاً أن هناك الكثير من إخواننا العلويين، الذين لم يكن لهم لا ناقة ولا جمل في الصراع، ولا ذنب لهم بانتمائهم لنفس طائفة رأس النظام بشار الأسد، فهم دفعوا ثمناً من أرواح أولادهم الذين استشهدوا، وأركز هنا على هذه الكلمة، بلا أي معنىً إلى جانب الذين سُجنوا منهم وأُسروا أيضاً”، معتبراً أن “هذا التبخيس بقيمة الناس وبدمائهم، بعد كل هذه التصرفات التي صدرت من هذه الحكومة، يُفقد الشعب بكل أطيافه، الثقة بها”، مشدداً على “أن كل التصرفات التي صدرت عن الرئيس أحمد الشرع والحكومة المؤقتة خلال الأشهر الثلاثة الماضية غير مقبولة”. فعندما يقول الشرع: “علينا أن نطوي صفحة، ونفتح صفحة جديدة”، وبعد فترة قصيرة تتفلت بعض الفصائل في مناطق العلويين، لتبدأ عمليات التنكيل والقتل، بطريقة بشعة جداً وممنهجة، فكل هذا تبخيس بقيمة هذا الشعب وما تحمّله، وإهانة لدماء هؤلاء الذين غُصبوا على الشهادة ولم يختاروها.
استناداً لما سبق، ماذا عن الدور الحقيقي للكنيسة، في الشرق وفي سوريا خصوصاً بعد سقوط الأسد؟
يؤكد المطران مراد أن دور الكنيسة الاجتماعي والسياسي والثقافي مهم جداً لتميزه أولًا، وثانياً، لأن الكنيسة عصب مهم في كيان الدولة بسبب تاريخها وماضيها وانفتاحها على الغرب غير المسيحي. وأركز هنا على هذه النقطة لأن المسلمين في سوريا يعتبرون أن الغرب، هو مسيحي وكافر وصليبي، وإلى آخره، وهنا أوكد أن الغرب في سياساته وطريقة إدارته، لا يمت إلى الكنيسة وإلى المسيحيين بصلة. إذاً حتى تستطيع الكنيسة أن تكون حاضرة بشكل فاعل ومؤسس وشريك في الخطاب السياسي، وفي العقد الاجتماعي، عليها أن تجمع كل الآراء في سوريا، وأن تُقدّم خطاباً سياسياً موحداً. ويحذّر أنه إذا لم يوجد حراك من أجل خطاب واحد وعمل مشترك، على كل الصعد، فإننا نتحمل مسؤولية فقدان الوجود المسيحي في سوريا، وليس فقط فقدان الدور، بل فقدان المكوّن كله. وعندها ستتحول كنائسنا في الشرق إلى متاحف يأتي الناس لزيارتها، وسنكون كمطارنة وكهنة مجرد حراس عليها. فما يجذب العالم إلى كنائسنا هو دفء الصلاة، الذي سيبقى إلى نهاية العالم، هو صدى الإيمان، الحقيقي والعميق والروحاني لشعبنا المؤمن. وهكذا أنا كإنسان مؤمن لن أفقد الرجاء رغم كل ما حدث في الأيام الأخيرة.
ويتابع المطران مراد أن “الشعب السوري مؤمن، ولولا الإيمان لم يصبر على كل الذل والفقر. لكن إذا استمرت سياسة الإقصاء التي تُمارس بمنهجية مباشرة وواضحة من قبل الحكومة المؤقتة، فليعلم العالم كله أننا سنكون كمسيحيين الشعبَ الذي مات بصمت، الذي لم يفكر به أحد، وليس لنا صوت نصرخ به. والمسؤولية عن ذلك ليست داخلية فحسب، بل هي خارجية أيضاً”.
يبدو أن هناك دوراً مفقوداً اليوم للمسيحيين في بناء سوريا الجديدة، هلّا تحدثنا عن وجه المسيحيين الحقيقي، وحاضرهم والأمل بتفعيل أدوارهم؟
يقرّ المطران مراد بأنه لا دور للمسيحيين اليوم في بناء الدولة، والسبب في ذلك لا يتوقف على تشتت الكنيسة وعدم توحدها، بل تقع المسؤولية أيضاً على الحكومة المؤقتة واستمرارها باتباع سياسة الإقصاء التي كان النظام السابق ينتهجها، ويستدل على ذلك بمؤتمر الحوار الوطني الأخير، الذي تم اختيار الأشخاص الممثلين فيه، من قبل اللجنة المنظمة، وليس من قبل الشعب أو من قبل الكنيسة، ويضيف: “أنا شخصياً أعترض على ذلك بشكل كبير، لأن التنظيمات المجتمعية القائمة هي التي كان عليها أن تختار أعضاء الحوار”، مؤكداً أن المؤتمر كان فاشلاً ليس فقط لأن التمثيل المسيحي لم يكن كما كان مأمولاً، بل لأن كل المكونات الأخرى لم يكن تمثيلها متوازناً أيضاً، وكأن هناك إقصاء لبعض الجهات، وهذا الشيء ليس مقبولاً، خصوصاً أننا نعيش اليوم حلم سوريا الجديدة، لذا فإننا لا نعتبر أن المؤتمر قد حدث، ولا بدّ من التفكير وبشكل جدي بمؤتمر وطني آخر واسع المجال والطيف مع تحضير مسبق وطويل الأمد يعتمد الطريقة الالكترونية، بحيث يكون هناك مشاركة حقيقية من السوريين في الداخل والخارج، لكي نستطيع بناء دولة ديمقراطية، حضارية، نستطيع القول إن مؤسسها هو الشعب السوري وليس فئة حاكمة، بدون تدخل أي قوى خارجية.
صف لنا واقع المسيحيين السوريين اليوم على الصعيد الديمغرافي وأثر الحرب على تلك الخريطة؟ وهل تشعرون بخطر وجودي وأنتم أهل سوريا الأصليين؟
يلفت مراد إلى أن عوامل كثيرة، ساهمت في بطء التزايد الديمغرافي المسيحي، وارتفاع عوامل الهجرة الأمر الذي سبب انهياراً حاداً في اعدادهم في السنوات الأخيرة، مشيراً إلى تغييرات كبيرة وقاسية على الخريطة الديمغرافية السورية إذ إن نسبة المسيحيين السوريين لا تتجاوز اليوم 2.5 في المئة، فأعداد كبيرة منهم اختفت بسبب الهجرة، وعمليات القتل في الشمال السوري وأيضاً تقلصت الأعداد في مناطق أخرى خصوصاً في حلب التي تراجع فيها المسيحيون من 170000 شخصٍ إلى 20000 كذلك اختفاء المسيحيين في مدينة إدلب وفي جسر الشغور وعدة قرى، وكذلك إفراغ قرى مسيحية في حمص كالقريتين وأم شرشوح، وحوران من أبنائها.
ويشرح المطران مراد أن هذا التغيير الديمغرافي ستكون له نتائج سلبية وخطيرة مستقبلاً، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل على الصعيد الاجتماعي، ولا ندرك للأسف، مدى خطورته على مسألة التنوع والديمقراطية.
ويشدّد المطران مراد على أن الكنيسة مؤسسة لها دور مهم جداً على صعيد المساعدة في تنظيم لقاءات حوارية تثقيفية، لبناء فكر سياسي لكل مكونات الشعب، مؤكداً أنها لم تنسحب أبداً من العمل السياسي، لكن دورها في العمل السياسي في عهد “حزب البعث”، كان محدوداً بسبب وجود قمع للحريات ومنع الإعلام، لذلك لم تكن مؤثرة، أو قادرة على التغيير بسبب كل ذلك.
ما تعليقكم على الإعلان الدستوري الأخير، والذي يعتبر أن الإسلام هو دين الرئيس أو دين الدولة وأن الشريعة أو الفقه الإسلامي هو مصدر للتشريع؟
يؤكد مراد أن ذلك الإعلان لا يشكل مشكلة بالنسبة إلى المسيحيين والكنيسة، لأن نسبة المسيحيين لم تعد تشكل كتلة وازنة، ويرى أنه قد يشكّل مشكلة للمسلمين أكثر منها للمسيحيين، لأنه بهذا المنطق، فإن الدولة الجديدة تلغي كل شرعة حقوق الإنسان وقوانين وحرية الفرد، فمجرد أن الفقه الإسلامي هو مصدر التشريع، والرئيس يجب أن يكون مسلماً هذا أمر طبيعي أصلاً، موضحاً في المقابل “لكن عندما يشرّع الدستور، امتلاك رئيس الدولة لصفات معينة، بدون ذكر دينه، من بين هذه الصفات، فذلك هو مصدر حضاري للتشريع، وعندما توضع شرعة حقوق الإنسان والدولة المدنية، والديمقراطية (الكلمة التي لم يتم ذكرها، ولا مرة واحدة في كل مؤتمر الحوار الوطني)، عند ذلك نفهم أن هناك نضجاً ووعياً عند هذا الشعب. أما اليوم فنحن لن نستطيع القول إننا نتكلم عن دولة متحضرة، و لن نقبل بذلك أبداً، وكل الشعب السوري لن يقبل به، متسائلاً: لماذا لا يكون لدينا مرة واحدة حكومة جريئة وشجاعة، تعطي للشعب صوته بدون قمع للحريات؟ فعندما يقول كل الناس في صناديق الاقتراع، نحن نريد تشريعاً اسلامياً، ودين الدولة الإسلام، فنحن سنكون كمسيحيين متقبلين بشكل كبير ما يريده الشعب السوري. فنحن كمسيحيين نملك قوانيننا الخاصة ومحاكمنا الروحية الخاصة، وهذا لن يغير شيئاً. ويخلص مراد إلى القول: “المعضلة اليوم كيف يمكن للإسلام أن يحلّ مشكلته مع نفسه، والدولة منقسمة على ذاتها وهي هشة ضعيفة، وكل ذلك بسبب التركة الثقيلة للأسد، وهو الذي جرّ هذه البلاد إلى هذا المستنقع الطائفي الخطير”.
المدن
—————————-
===================