الثورة السورية وفتنة المنهج القتالي/ رفيق عبد السلام

22 مارس 2025
إثر تمكّن الثوار السوريين من دخول دمشق، واضطرار بشّار الأسد الى ركوب طائرة روسية محمّلة بما خفّ وثقل وزنه من مال ومتاع عام، لاحت بهجة النصر في سورية وعموم المحيط العربي الأوسع، وتجدّد معها الحلم في استئناف مسار التغيير الذي افتتحته ثورات الربيع العربي المُجهَضة بشراسة الثورات المضادّة، وبقدر ما جدّدت الثورة السورية الأمل في دحر الديكتاتوريات المُستعصِية، فقد خلّفت المرارة والارتباك للأنظمة العربية، وللأحزمة السياسية والأيديولوجية المحيطة بها.
على أن المشهد يبدو حتى الآن عادياً، إذ من المعهود في مثل هذه الحالة أن نجد رابحين وخاسرين، محبّين وكارهين، مستبشرين ويائسين، ولا غرو أن تتناقض المشاعر والانطباعات، ويستنبط كلّ طرف تبعاً لذلك استنتاجاته من وحي هذه الهزّات السياسية الكُبرى، ولكن ما هو غير عادي هو الاستسلام لسرديات مصنوعة على المقاس، وكأنّها بديهيات راسخة لا تقبل التشكيك ولا التعقيب. فبعض الخلاصات التي تولّدت من الحدث السوري، وقبله من الثورات العربية، قد تكون صائبةً، وبعضها إن لم يكن خاطئاً ممّا يلتبس فيه الحقّ بالباطل، والحقيقة بالوهم، من ذلك ما استخلصه معسكر الاستبداد العربي من وحي الارتداد على الثورات العربية، وهو أنه ما أهلك قبلهم من الحكام العرب المطاحين، إلا تهاونهم في مواجهة خصومهم، وقطع دابرهم بلا شفقة. وعليه، الواجب إحكام القبضة الأمنية على الشارع، وسدّ كل باب يمكن أن تتسرّب منه رياح التغيير المفاجئة، أي الإجهاز على الخطر في المهد، وهذه هي الوصفة السحرية التي لم تنفكّ تشتغل وفقها الأنظمة التي جاءت أو جيء بها على أنقاض الربيع العربي، من عبد الفتاح السيسي وخليفة حفتر وقيس سعيّد، ومن على شاكلتهم في العواصم العربية. وفي الجهة المقابلة (وهذا ما يعنينا)، تشكّلت استنتاجات مشوّهة وبنيت قياسات فاسدة من وحي الثورة السورية، وجرت على الألسنة والأقلام في العالم العربي مشرقاً ومغرباً، بل تحوّلت إلى ما يشبه البديهيات اليقينية، ومن ذلك أن سبيل التغيير الوحيد المتاح في العالم العربي يمرّ ضرورةً عبر قوّة السلاح والحسم العسكري، ودليل ذلك أن من تقدّموا للحكم بعد ثورات الربيع العربي أطيحوا وزجّوا في السجون، بسبب سلميّتهم “الزائدة”، وتبنّيهم تسويات ديمقراطية لا تصمد أمام الرصاص، وهكذا تدحرج الإسلاميون المسالمون في مصر واليمن وتونس والمغرب، وصمدت طالبان في أفغانستان، وجبهة تحرير الشام وحلفاؤها في سورية.
ما يُخشى اليوم في أجواء حرارة الحدث السوري الميل إلى استنساخ نموذج نمطي من دون اعتبار السياقات وخصوصيات الأوضاع والأحوال، وقد سبق لفلاديمير لينين أن نبّه، بعد الثورة البلشفية في روسيا، في عشرينيّات القرن الماضي، إلى أنه بعد كلّ ثورة ناجحة تتوارد عشرات الثورات الفاشلة، بسبب آفة التكرار والاجترار من دون أخذ الشروط السياسية والاجتماعية بالاعتبار. ما يتجاهله هؤلاء، ومن دون تفصيل قول هنا في الحالة الأفغانية (تختلف شكلاً ومضموناً وجغرافياً عن الحالة العربية، لأنها بكلّ بساطة تدخل في باب حركات التحرير أكثر ممّا تدخل في صنف حركات التغيير) أن الثورات بمثابة سجلّ كبير لا يقرأ من مقدّماته وفواتحه، بل من فصوله الأخيرة وخواتمه، بمعنى أنه لا يمكن الحكم على أيّ ثورة نجاحاً أو فشلاً عند ميلادها أو في أشهرها الأولى، بل بمسارها اللاحق، وما عساها تتمخّض عنه من تغيير على صعيد البنيان السياسي والاجتماعي والثقافي العام، وهذا ما يميّزها من الانتفاضة العابرة، ومن التمرّد العسكري الخاطف، وبما أن الثورات تُعدّ ظاهرةً مركّبةً ومتعرّجةً من المدّ والجزر، والصعود والنزول، وخليطاً من النجاح والتعثّر، فإنها تحتاج بعض الوقت حتى يحكم عليها الباحثون والخبراء والمراقبون نجاحاً أو فشلاً، وفق ميزان عام يبتعد عن ثنائية الأبيض والأسود.
لا ننسى أن الثورة السورية عند انطلاقها لم تختلف نوعياً عن سابقاتها من الثورات العربية، فقد بدأت سلميةً مدنيةً، ولكن عنف نظام الأسد وبراميله المتفجّرة دفعها دفعاً نحو رفع السلاح، وقد كان ينظر إليها قبل أشهر قليلة فقط بأنها انتفاضة فاشلة ومجهضة، جلبت على الناس قدراً غير قليلٍ من العنت والدماء والخراب العمراني، إلا أن مشهد دخول الثوار إلى حلب، ثمّ حمص، وتتويج ذلك بدخول دمشق، قد جبّ سرديةَ “الثورة الفاشلة والمُغامِرة”، ورسّخ بدلاً من ذلك نموذج الثورة المظفرة. ومع آمالنا المعلّقة على الثورة السورية وتمنّياتنا لها بالنجاح وبلوغ المرام، إلا أن ذلك لا يجعلنا نهوّن من حجم المخاطر التي واجهتها وستواجهها في مقبل الشهور، وربّما السنوات المقبلة، بسبب تحدّيات المحيط الإقليمي والدولي، من جهة، ثمّ بسبب طابعها العسكري، الذي اضطرت إلى اللجوء إليه في مواجهة نظام القمع. وقد كان تمرّد الأسابيع الماضية في الساحل السوري، ومن قبله معضلة انتشار السلاح بأيدي مجموعات عرقية وطائفية طامحة للانفصال، مجرّد عيّنة لصعوبة التحوّل وما عساه يواجهها في المستقبل القريب والمتوسّط. الثورات بطبعها هي خروج عن المألوف ونأي عن الوتيرة العادية للزمن السياسي، ولذلك لا تخلو في حالاتها كلّها من هزّات ومنغّصات، وثورة من دون هذه التعسّر تظلّ مسكونةً بروح ثورة مضادّة يمكن أن تنقضّ عليها في أيّ وقت وحين. نقول هذا، ليس لأننا من محبّي القلاقل والزوابع، بل لأن قانون الاجتماع السياسي ينبئ بذلك، وهو في محصلته النهائية لا يخضع لرغباتنا وأهوائنا الذاتية. نعم، التغيير بالسلاح قد تلجأ أليه بعض الثورات، كما جرى الأمر في الحالة السورية ومن قبلها الليبية، ولكنّه ليس بالضرورة النموذج المُحبَّذ، ولا هو الأمثل والأفضل، بل هو بمثابة الضرورة التي تقدّر بقدرها، لما يحمله في طيّاته من مخاطر ومنزلقات، ليس أقلّها صعوبةً التحكّم في موارد السلاح وأدوات القوة بعد سقوط النظام، بما يفتح الباب أمام تفجّر صراعات مسلّحة وعنف، وعنفٍ مضادٍّ، وتعطيل قيام سلطة مركزية شرعية قادرة على بسط السيادة والأمن في التراب الوطني.
ولم يكن ابن خلدون مخطئاً حينما ضيّق مبدأ الخروج المسلّح، وحوّطه بتنبيهاتٍ كثيرةٍ ومحاذير عظيمة، من موقع خبرته العملية بأحوال المُلك وبعقله التاريخي الثاقب، بل زاد على ذلك الدعوة إلى التشدّد في العقوبة على من يحملون السلاح استناداً إلى مثاليات أخلاقية، ورفضاً للظلم، من دون تقدير عواقب الأمور وموازين القوى، فيجنون على أنفسهم وعلى من حولهم شروراً أعظم من التي نهضوا لدرئها، بقوله “فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف، رجاءً في الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويعرّضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون مأزورين غير مأجورين”. الحقيقة الصلبة تقول، إن بوابات التغيير كلّها تبدو موصدةً إلى حدّ كبير في العالم العربي، المنكوب بديكتاتوريات بالغة الشراسة وتدخلات خارجية ثقيلة الوطأة، فالذين راهنوا على التغيير بصناديق الاقتراع أزاحتهم الدبّابات، والذين غيّروا بالانقلابات تم الانقلاب عليهم، والذين أقدموا على رفع السلاح في وجه الدولة ما جلبوا إلا الكوارث. أمّا من راهنوا على ثورات سلمية فقد اصطدموا بجدار الثورات المضادّة المسلّحة، ومن نهجوا خيار الشراكة والتوافق في الحكم جرفتهم قوة الدولة العميقة القاهرة، فلم يكونوا أفضل حالاً ممّن انفردوا بالحكم، وكأنّ الحركة السياسية العربية تبدو هنا أشبه ما يكون بما سمّاه المعتزلة “حركة اعتماد” لا “حركة نقلة”، أي حركة المراوحة في نفس المكان، هذا ان لم تكن الأمور تسير باتجاه مزيد من التراجع والانتكاس. وهذا يعني أن الجانب الإرادي عند الفاعلين السياسيين والاجتماعيين على أهميته من فطنة وتعقّل وذكاء، لا يعصم من التعثّر والانكسار، لأنه بكلّ بساطة لا يشكّل سوى عنصر من بين عناصرَ كثيرةٍ في مشهد سياسي محكوم بموازين قوى صلبة قاهرة، فقد يكون أداؤك السياسي على أحسن وجه، ولكنّك تسقط وتتعثّر ليس لأخطاء كبيرة أو صغيرة، بل لأنك تواجه معادلةً لا قبل لك بها، من سلطويات عاتية، وتدخّلات دولية وإقليمية شرسة.
بات من الواضح أن التغيير في هذه الرقعة من العالم يبدو بالغ الصعوبة والتعقيد، وهي الحقيقة العصيّة التي واجهت من قبل قوى التحرير الوطني، مثلما واجهت التيّارات السياسية على اختلاف عناوينها من اليساريين والقوميين والإسلاميين، والإصلاحيين والثوريين والمهادنين والمتمرّدين، والمتدينين والعلمانيين، بما لا يمكن قياسه إلى أيّ مكان آخر، ليس لأن العرب قد خلقهم الله من طينة خاصّة، ولكن لأن للرقعة العربية خصوصياتها وتعقيداتها، ويعود بعض هذه التعقيدات إلى هشاشة الدولة ذاتها لتكوينها الجيني المشوّه، الذي لا ينتج إلا القمع والعنف، وبعضها يعود إلى صعود تأثير النفط وثقل المصالح الخارجية والتدخّلات الأجنبية المتقاطعة مع دولة احتلال شرسة يُراد لها أن تكون قطب الرحى، الذي تدور حوله المنطقة. ولكن هل يدعونا هذا إلى اليأس من التغيير والكفّ عن مناولة المستبدّين والمنقلبين؟… الجواب بكلّ بساطة بالنفي، لأن موت الأمل يعني الركون إلى الفناء والعدم، خاصّة أنه لا توجد حتميات ونهائيات قاطعة في عالم السياسة المتقلّب، فضعيف اليوم قد يكون قويَّ الغدِ، والعكس صحيح.
ولكن القدر الواضح عند كاتب هذه السطور (حتى الآن) أن على من يريد التغيير في هذه الرقعة من العالم أن يجذّف ضدّ رياح عاتية وقوى بالغة الشراسة، وتحمّل مشاقَّ كبيرة من السجون والمنافي والعذابات والإحباطات، وهذا يفرض بالضرورة خياراتٍ ومسالكَ عابرةً لحدود الدولة القُطرية، التي قبرت كثيراً من أحلامنا وأوهامنا، فقدر هذه الرقعة من العالم، وإن بدت شديدة التشرذم والانقسام، ألا تقوم لها قائمة إلا بالوحدة والتقارب، وهي في ذلك أمام مصيرين لا ثالث لهما، فإمّا خلاصٌ جماعيٌّ في ظلّ شكل من أشكال التضامن العربي أو غرق جماعي في متاهات الفشل والإحباط.