الجمهورية السورية الثالثة وصعوبات الوصول إليها/ أحمد جاسم الحسين

2025.03.22
تمشي سوريا هذه الأيام، مع كثير من المنغصات، إلى مرحلة جديدة من تاريخها الحديث الذي تجاوز القرن، خارجة من مرحلة دمار سياسي واجتماعي وعمراني، نحو آفاق، لا أحد يستطيع أن يتنبأ بمساراتها، كونها تعطي دلالات مختلفة ومتضاربة أحياناً.
الأحداث التي مرت بها سوريا في العقد ونصف الأخيريْن جعلت منها ملعباً لمباريات دولية كثيرة: كانت فيها الكرة أحياناً، واللاعب الاحتياط، والحكم الاحتياط، وانتبَهوا إليها في الوقت الضائع غير مرة، وسددوا عليها عدداً من ضربات الجزاء، ولجؤوا إلى تقنية “الفار” للتأكد من تحقيق الأهداف.
جزء من الرغبة في اللعب على أرضها يعود إلى موقعها الجيوسياسي وصراعات اللاعبين التي تبحث عن أرض معركة، مما اقتضى تدخلاً إقليمياً ودولياً دائماً.
يحاول عدد من المهتمين في تحقيب التاريخ السوري المعاصر النظر إليه من جهة نظام الحكم وآلياته وطرائقه، متخذين من التسمية الرسمية مدخلاً لذلك، مقسمين تاريخها إلى ثلاث حقب، متصارعة= متكاملة، لأن كل حقبة شهدت إرهاصات ولادة الحقبة اللاحقة.
يرى كثيرون أن الجمهورية السورية الأولى بدأت منذ إقرار دستور عام 1936 حتى مرحلة استلام حزب البعث العربي الاشتراكي الحكم عام 1963. وإن كان هناك فريق يرى أن البداية الفعلية لهذه المرحلة هي عام الاستقلال، في حين يرى آخرون أن التحقق الأولي هو أيام المملكة السورية العربية، على صعوبة الحديث عن ملامح جمهورية في ظل وجود مستعمر أجنبي، إضافة إلى ما مرت به من تحولات انقلابية ووحدة مع مصر غيبتْ التسمية لتصبح جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة، شهدت هذه المرحلة نكبة فلسطين وعدداً من الانقلابات وكتابة أكثر من دستور.
أما الجمهورية الثانية فهناك من يرى أنها بدأت عبر انقلاب 1963 وسيطرة حزب البعث وضباطه على السلطة، وقد شهدت ثلاث خطوات: الخطوة الأولى هي مرحلة اللجنة العسكرية أو لنقل مرحلة صلاح جديد والجناح الماركسي في الحزب بخطوتيها قبل عام 1966 وبعده و امتدت من عام 1963 إلى انقلاب حافظ الأسد نهاية عام 1970، وقد شهدت نكسة حزيران ومجيء عدد من الرؤساء.
ثم خطوة حافظ الأسد التي امتدت إلى وفاته عام 2000 وأخيراً خطوة بشار الأسد حيث تمّ تسليمه الحكم بموافقة دولية وانقسمت إلى مسار عادي حتى عام 2011 ثم مسار تدميري إلى أن رحل نهاية عام 2024. وقد عُرفت هذه المرحلة بمرحلة استقرار الخوف والرعب وسطوة السلطة.
صفات الجمهوريتيْن السوريتين السابقتين، بما أنهما من الماضي، باتت موجودة في الكتب أو الأشخاص الذين عايشوها بجوانبهما المختلفة: نظام الحكم، الرؤساء، الدساتير، البرلمان، القضاء، الاقتصاد، التعليم، دور العسكر، الصحافة، السياقات الإقليمية والعربية والدولية، المشكلات، الحسنات، الإيجابيات، والأثر.
أما الجمهورية الثالثة السورية الثالثة فهي التي تبدأ هذه الأيام بقيادة الرئيس أحمد الشرع بعد ثورة دامت نحو أربعة عشر عاماً، فقد شاءت ظروف عدة بأن يكون حامل شارة النصر هو الجناح السلفي، على الرغم من محاولة أجنحة أخرى تحقيق النصر لكنها لم تنجح.
الحديث عن جمهورية يعني الحديث عن نظام حكم، والمرجع في ذلك أدبيات العلوم السياسية، وهناك أعراف قانونية تشكل عماد النظام الجمهوري.
السوريون عامة لا يثقون بالتسميات السياسية، لديهم ما يشبه القناعة الراسخة التي صنعتها التجارب أن المصطلحات قد لا تعبر عن الواقع الذي عاشوه. وأبرز ما أفقدهم الثقة بكل المصطلحات السياسية ودلالاتها هو حافظ الأسد وابنه، فقد قدما نفسهما للعالم أنهما يقودان نظاماً علمانياً بمظاهر ديمقراطية، حيث لديه مجلس شعب ووزارات ومحاكم وصحافة وسواها من مظاهر، (العالم يغمض عينيه عن وحشية مخابرات الأسديْن) ثم بعد انتصار الثورة رأى العالم بعينيه المجازر والمقابر الجماعية، والمكابس البشرية.
ينشغل السوريون في المنتديات والمقاهي والحياة العامة والخاصة، وكذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي بالشكل المتوقع للجمهورية السورية الثالثة، وهل يمكن تخمين ذلك في ضوء المئة يوم التي مرت على استلام السلطة الجديدة للحكم؟
وتخطر في بالهم أسئلة كثيرة: معظم الكتلة الصلبة في السلطة الجديدة هم من خارج العمل الوظيفي والإداري الحكومي، فهل يمكن البدء بأجهزة الدولة من الصفر، أم أن الأفضل اسئتناف العمل من حيث انتهى السابقون؟ خاصة أن الرئيس الشرع حلّ أبرز المؤسسات الرئيسية متمثلة بمجلس الشعب والأحزاب والجيش نتيجة لشعوره أنه لا أمل بإصلاحها مستنداً على الشرعية الثورية.
والرئيس ذاته قادم من خارج مؤسسات الدولة، فهو لم يتوظف فيها، ولم يشغل موقعاً أو ينتمي إلى حزب من أحزابها، ولم يجرب فسادها ودولتها العميقة ومداخها ومخارجها: رجل قادم من عالم الجهادية والحلم، وقد استطاع تحقيق حلمه ضمن معطيات إقليمية ودولية تمكن من الإفادة منها في اللحظة المناسبة.
ما هو الحيز الذي يتوفر بين يدي القيادة الحالية كي تمشي إلى الأمام، وقد استلمت بلداً “على الحديدة” ومعظم مواطنيه تحت خط الفقر، وتحيط به دول طامعة به، ويعيش تشرذماً في المطالب من شرقه وجنوبه!
هل هناك إمكانية لتحقيق جمهورية سورية ثالثة وهل يوجد إرادة سياسية داخلية وظروف موضوعية؟ وما متطلباتها؟ أم أنها يمكن في أي لحظة أن تنتكس أو تتراجع أو تتكسر؟
ما هي ملامح الجمهورية التي يسعى إليها الرئيس وفريقه؟ وكذلك مناصروه ومعارضوه؟
من الواضح أن هناك مساحات اشتباك كبيرة كون ثلاث محافظات وأكثر لا تزال خارج سيطرة الحكومة المركزية، فالسويداء متمثلة بالشيخ الهجري رفضت الإعلان الدستوري بشكل صريح، وقسد كذلك لديها رؤيتها لشكل الدولة السورية رغم توقيعها اتفاقاً إطارياً مع السلطة المركزية، وما تريده الدول الأخرى، كذلك وجهات سورية كثيرة معارضة أو موالية، فأيُّ شكل للجمهورية سيكون: خلطة من كل ذلك؟.
حدد الإعلان الدستوري ومؤتمر الحوار الوطني كثيراً من ملامح الجمهورية الثالثة وفقاً لرؤية الرئيس وفريقه بناء على استمزاج رأي مؤيديه وعدد كبير من معارضيه. وبقيت أصوات سورية عدة تغرد في مسارات خاصة بها وتتحدث عن شكل سياسي وإداري متخيل، يبدو أنه من الصعب تحقيقه.
يمكن التنبؤ بكثير من سمات الجمهورية الثالثة، لكنها بالتأكيد ستكون بنكهة سُنية، معتمدة على فرق عمل تبدأ العمل السياسي والإداري أول مرة في حياتها.
تصدر تنبؤات كثيرة من محللين ومتابعين وعينهم على التجربتين السعودية والتركية، من دون الانتباه إلى أن البلد يخرج من حرب وموارده صفرية حالياً، مما يجعل تلك التجربتين بعيدتي المنال، رغم الأحلام السورية الكبيرة. التي هي أكبر من قدرات البلد وظروفه، حيث تتناوشه الدول المجاورة وموارده صفر، ولديه شروخ اجتماعية تحتاج إلى سنوات كثيرة حتى الوصول إلى مرحلة النقاهة وليس الشفاء!
عشرات أعناق الزجاجات تنتظر سوريا، وتحتاج إلى كثير من الحكمة والظروف المساعدة حتى تمر منها ولا تتحول إلى دولة فاشلة. عربياً وإقليمياً هناك فريقان: منهم من لا يريد نجاح التجربة، على الأقل نتيجة للخلفية الدينية للحكام الجدد. ومنهم من يريد نجاحها كونها كسرت امتداد إيران ومدخلاً للاستثمار وإعادة الإعمار.
دولياً: أكثر من يريد نجاح التجربة هي معظم دول أوربا كي تغلق ملف اللجوء السوري الذي غدا عبئاً ثقيلاً عليها.
كيف ستستطيع القيادة الجديدة المشي على حقل الألغام هذا من دون أن تنفجر فتدمرها؟
إشارات إقصائية كثيرة يلمحها متابعون، وأسئلة تكبر كل يوم: لماذا لا تتم الإفادة من الخبراء السوريين الذين ينتشرون في العالم وعدد كبير منهم يريد تقديم خبرته بشكل تطوعي!
متشائمون يعتقدون أنه من الصعب أن تمشي الجمهورية السورية الثالثة إلى الأمام لأن الظروف المحيطة والداخلية كلها ليست مساعدة على المسير، بل ستكون بلداً معاقاً لفترة طويلة، مسترشدين بتجارب أخرى!
الجانب القانوني والعلاقات مع الدول ليسا العاملين الوحيدين اللذين يؤشران إلى بداية الجمهورية الثالثة.
رؤية الجمهورية؟ وشكلها وأهدافها القريبة والبعيدة ما هي؟ اقتصادياً، واجتماعياً وفكرياً وتربوياً وثقافياً! فالدول عادة ما تضع استراتجيات لكل مرحلة يصوغها خبراء وسياسيون ثم تعرض على الشعب على شكل دستور أو قوانين أو رؤيا سياسية.
ورؤية الدولة وفقاً لتجارب عدة، هي ليست سابقة على حراك الشعب، بل تصاغ أولاً بأول، لذلك فإن كل موقف يتخذ الآن أو معارضة أو مناقشة أو حراك أو كتابة، أو جهد إعلامي، قد يكون له أثر إيجابي في رسم استراتيجيات الدولة وصياغة سردية الجمهورية السورية الثالثة.
نجد سوريين كثيرين لا يزالون يتعاملون مع العبور نحو الجمهورية السورية الثالثة بطريقة: “يا لعيبة… يا خريبة” مع أنهم ينضوون تحت أحزاب أو تيارات أو أسماء لامعة. مركزين على عثرات التجربة الجديدة! ولا يتوانون عن التصريح ليل نهار أنهم يتمنون خراب التجربة، على ألا تنجح تحت إطار سلطة ذات جذور جهادية. دافعهم الرئيس: أنهم لا يردون لقناعاتهم أن تنكسر، وقد تناسوا أن معظم الشعب السوري محافظٌ ومرحّب، وليس لديه مشكلة كبيرة مع حكم بمرجعية دينية، إنْ استطاعت العبور إلى قوانين إنسانية!
سوريون متحمسون للجمهورية الثالثة يقولون: كل حسابات الواقع كانت تقول بعدم إمكانية انتصار الثورة السورية، لكنها انتصرت! وتاريخ الشعوب يشهد دائماً على أن الولادات والتحولات قاسية وصعبة، لكنها ستأتي رغم العذابات المنتظرة!
تلفزيون سوريا