بستان هشام: ماذا عن عودة دمشق الأموية؟/ عدي الزعبي

22-03-2025
أيّـامَ عاصِمَةُ الدّنيا هُـنَا رَبطَـتْ بِـعَزمَتَي أُمَـويٍّ عَزْمَـةَ الحِقَـبِ
نادتْ فَهَـبَّ إلى هِنـدٍ وأنـدلُـسٍ كَغوطةٍ مِن شَبا المُـرَّانِ والقُضُـبِ
سعيد عقل. قرأتُ مجدك
يرتبط تاريخ سوريا الحديث بمبالغات قومية فجة، ساحرة البلاغة، لشاعر متفرّد، عنصري، حقود، طبع شعره النقي على صورة البلد الفتي الخارج من تاريخٍ مضطربٍ مشتت عتيّ.
احتفى سعيد عقل بالإمبراطورية الأموية، ومعقلها الدمشقي. وفي فترة تشكيل الوعي الوطني، أصبحت أغانيه أثيرةً على أثير إذاعة دمشق. استعارت سوريا من لبنان الثلاثي الموسيقي: فيروز والأخوان رحباني وعقل، ليبنوا لها استعادة قومية عجيبة: عروبة أوسع من البلد، بين ماضٍ ادّعوا أنه بيّن مفهوم، وحاضرٍ مخرومٍ تحوّل إلى كابوس طويل مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة.
ومع تحرير سوريا، تعود مبالغات الأمجاد الاموية، بلافتات وتصريحات واحتفالات تحيي تراثنا الأموي، وتنطق بمحبة أسطورية، دمشقية بشكل رئيس، لبني أمية، أبناء عم الرسول. كأن سقوط آل الأسد فتح أبوابا لاستعادة تاريخ مفقود، عاثت فيه ميليشيات شيعية متطرفة فساداً، حارمةً أهل السنة من معقلهم الأموي السنّي التاريخي الأقدس.
ويبدو أن هذا ما أثار حفيظة الرئيس السوري، أحمد الشرع، في مقابلة شهيرة:
«أهل الشام لم يعتادوا على رؤية مثل هكذا خطاب، أهل الشام مسالمين، هم أبسط من أن يدخلوا في حالة نعرات ثقافية وطائفية وتاريخية، ليس لهم فيها ذنب. أحداث حصلت منذ 1400 سنة، ما علاقتنا نحن بها؟ يأتون أناس ليثأروا من أهل الشام، على حدث تاريخي حصل قبل 1400 سنة؛ أي عقل هذا؟ أي منطق؟ شو علاقتنا بالموضوع؟… هناك من يستغل حالة فقهية أو شرعية… ليحتل أراضي وبلدان… والنتيجة تكون دوماً سقوط عواصم عربية في يد دولة مثل إيران..».
ولا أعلم كيف ينظر الرئيس، أو الوزير أسعد الشيباني، أو السيد أنس خطاب رئيس المخابرات العامة (هؤلاء أشهر القادة اليوم، وأكثرهم نفوذاً، على ما يُشاع)، أو غيرهم من شباب الهيئة، إلى تراث فيروز الأموي الدمشقي. هذا سؤال مفتوح، وأرجح أنهم يميلون إليه، بسبب توافق الآراء بين الطرفين: الثلاثي اللبناني، وأصحاب المحطة الأخيرة الكبيرة في التحرير.
وعودة سوريا إلى أمويتها أمرٌ لا مراء فيه (حلوة لا مراء فيه؟ ها؟)؛ وأنا لا أماري فيها، خصوصاً إذا كان المقصود أن سنّة سوريا استعادوا بلدهم من شيعة إيران. واليوم، سقط ذلك النظام الذي استجلب الميليشيات الشيعية، وحان الوقت لعودة الأمور إلى مجاريها؛ ولو تفاءلنا، نحو مواطنة متساوية لكل السوريين، بغض النظر عن انتمائهم الطائفي والإثني والجندري.
ولكن، ما صلة كل ذلك، بالضبط، بالأمويين العظام، السلالة الأكثر أهمية في تاريخ الإسلام؟ كيف يعود تاريخٌ انتهى قبل 1400 سنة، إلى الحياة، في القرن الحادي والعشرين؟ لماذا الأمويون، تحديداً؟
أولاً، وقبل كل شيء، لم تحقق سوريا، أو دمشق، مجداً كالذي عرفته أيام الأمويين: حكموا نصف العالم المعروف حينها. وفتوحات الأمويين أكبر وأوسع من فتوحات الراشدين والعباسيين مجتمعين. ويدينُ انتشار الإسلام لهم أكثر مما يدين لأية أسرة أخرى. تسعون سنة، فقط لا غير، عمر الحكم الأموي، غيّرت وجه تاريخ العالم، بدون رجعة. لا يوجد في تاريخ دمشق، أو سوريا كلها، ما يضاهي المجد الاموي، أو حتى يقترب منه، لا قبلهم، ولا بعدهم. هذه كانت المرة الوحيدة التي شكلت فيها سوريا إمبراطورية مترامية الأطراف. قبلها، كانت ممالك مفككة، تخضع غالباً للجيران في الرافدين، أو مصر، أو الحثيين من الشمال؛ ثم، للإسكندر وخلفائه، وبعدهم الأرمن، والرومان، والبيزنطيين. وبعد الأمويين، أيضاً، بقيت عاصمة صغيرة لممالك صغرى وولايات منكمشة؛ باستثناء عهدي أبطال الإسلام الأشهر والأنقى: نور الدين الزنكي (التركي) وصلاح الدين الأيوبي (الكردي)، ولكن بإمبراطوريات أصغر بكثير من الأموية. وبهذا المعنى، تكون دمشق، وسوريا كلها، أموية: وستبقى أموية.
آه، تذكرتُ أمراً شديد الأهمية. ربما يجب أن نسأل الصحفي الباحث حسام جزماتي حول الموسيقا. فقد كانت جبهة النصرة، على ما أذكر، تحرّم الموسيقا. واليوم، سليلتُها، هيئة تحرير الشام، لا تعلّق على الموضوع. والسيد حسام يتابع تفاصيل أساليب وأفكار الهيئة، بدقة فذة، لا أعرف من أين يأتي بها. السؤال له، ولنا، هو التالي: هل تغير قادة الفصيل؟ هل يستطيع شبابه تعديل أفكارهم؟ أم أنهم ما زالوا يحرّمون الموسيقا، بما فيها أغان لا يجوز تحريمها، مثل «اسهار بعد اسهار» و«يا حبيبي كلما هب الهوى»؟ وبكل الأحوال، كما نعلم جميعاً، لا يوجد ما يشير إلى هذا التحريم، على الإطلاق، منذ التحرير في الثامن من كانون الأول (ديسمبر)!
ولكن، ماذا فعل هؤلاء الأمويون؟ ما الذي أرادوه؟ كيف أداروا البلاد؟ وماذا يبقى منهم، إلى جانب الفخر القومي الأجوف؟
بدايةً، تاريخهم متداخل مع تاريخ الراشدين والعباسيين. لا يمكن تقسيم التاريخ الثقافي والفني والإداري والاقتصادي إلى شرائح مختلفة بناءً على تعاقب السلالات الحاكمة. عهد معاوية أقرب في مضمونه إلى عهد الراشدين. وقد يكون معاوية بن أبي سفيان خامس الخلفاء الراشدين، لأنه الأخير الذي اعتمد أسلوب الحكم العربي شبه-البدوي الديمقراطي في شبه الجزيرة، حيث لم يكن عنده حاجب أو وزير، وسياساته كلها تقوم على المفاوضات والمراضاة وحسابات القبائل. وتحوّل الأمر إلى ملكية على الطريقة الساسانية/البيزنطية مع قدوم الفرع المرواني من الأسرة الأموية، ليكتمل مع وصول المأمون العباسي إلى السلطة.
أسلم معاوية مبكراً، وحسُن إسلامه بشهادة الجميع. كان على علاقة طيبة مع أبي بكر وعمر وعثمان، وأبلى بلاء عظيماً في فتوحات سوريا، كقائد عسكري وكوالٍ لا يشق له غبار. ولم يكن وحده من طالب بدم عثمان. في الحقيقة، الكثير من المسلمين كانوا يساندونه، ويريدون معاقبة أولئك الذين اغتالوا خليفة رسول الله وصديقه، الاغتيال الذي رفضه علي وأبناؤه. وجاء اغتيال الإمام علي مصادفة، فمال عموم المسلمين إلى معاوية، بما فيهم الحسن والحسين، وبايعوه، كما بايعته القبائل، في محاولة صادقة لحقن الدماء. والتزم معاوية بكل تفاصيل اتفاقياته، باستثناء توريث ابنه الخلافة (وكان الشيعة سبّاقين في تقديم فكرة العائلة الملكية، قبل الأمويين). وحدهم الخوارج، صادقين مع أنفسهم ومتسقين تماماً مع إيمانهم المتطرف ضد فكرة السلطة، والتطهرية العنيفة مع الأعداء بما فيهم المدنيين، رفضوا معاوية وعلي، ولم يروا أي فارق بين الرجلين. وسيتابع الخوارج معركتهم لعقود ضد الأمويين والزبيريين والشيعة والعباسيين.
ودعوني أعود إلى الموسيقا: بغض النظر عما يسمعه قادة الهيئة من أغانٍ، أو ما سيقوله الأستاذ حسام عن الموضوع، لا يتضح من التاريخ متى بالضبط أصبحت فكرة تحريم الفنون مقبولة عند بعض الفقهاء. على الأغلب، بالتدريج، في نهاية العصر العباسي ربما. في عصر الراشدين، والعصر الأموي، انتشرت مجالس الغناء، خصوصاً في دمشق والمدينة المنورة. وامتلأت قصور الأمويين برسومات مأخوذة من الفن البيزنطي، وهو أمرٌ سيتكرر مع سلالات لاحقة، وفي المنمنمات التي ستتحوّل إلى فن. ولكن، ليس في المساجد: منذ البداية، ابتعد المسلمون عن أي تجسيم في معابدهم. وعلى أية حال، شجع المصلح السلفي الأستاذ الإمام محمد عبده الفنون، وأصّل لها فقهياً.
مرّ مقتل الحسين سريعاً مع توسع الدولة، وكان لثورة عبد الله بين الزبير في الحقيقة أخطار أكبر من ثورة الحسين بكثير. وسيتناسى المؤرخون ثورة آل الزبير (وحده الإمام السيوطي سيعتبرهم خلفاء شرعيين!) ليبقى دم الحسين لعنةً سيكررها الشيعة على رؤوس الأمويين، وسيساهم العباسيون في تشويه سمعة أسلافهم، أيضاً.
وبعيداً عن الخلاف السني- الشيعي، قدّمت الخلافة الأموية بعض أهم شخصيات الأمة وأكثرها تأثيراً: معاوية الذي وحّد الأمة بعد العنف والتمزق في الفتنة؛ وعبد الملك وابنه الوليد اللذان شيّدا الدولة العربية ومؤسساتها، بتعريب الدواوين والعملة المتداولة، وبناء الجامع الأموي وقبة الصخرة- بداية العمارة الإسلامية الفنية. ولاحقاً، عمر بن عبد العزيز، حفيد الخطاب، العادل الزاهد. وأكثرهم أهمية، يزيد الناقص: الفيلسوف الذي آمن بالحرية البشرية والديمقراطية والمساواة (على العكس من الخليفة الفيلسوف الأشهر، المأمون، الذي اتّبع نخبوية المعتزلة العقلانية المحتقِرة للعامة)، ويكاد يكون الخليفة الوحيد الذي مثّل معاني الإسلام الأعمق (برأيي، وبرأي صديقيه المتكلم الجهم بن صفوان والثائر الكوزموبوليتاني الحارث بن سُريج، ودراسات أستاذنا هادي العلوي). وأخيراً بطولة مروان الحمار وشجاعته وحنكته، التي لم تساعده مع انهيار الجيوش والمعنويات.
ولا يستطيع المرء أن يهرب من التساؤل: هل يقرأ شباب الهيئة أشعار نزار الأموية؟ أو رياض الصالح الحسين؟ أو المعري؟ أو أبي نواس؟ هل يستمعون إلى «مضناك جفاه مرقده»؟ أم يفضلون أغاني فضل شاكر، السنّي الصادق، ابن الثورة السورية المخلص؟ الأناشيد الجهادية؟ أو ريم السواس، سراً، كما أفعل أنا ومعظم أصدقائي؟ أم يفضلون الجوبي على الدلعونا؟ ولكن، ما لي ولهم: فليسمعوا ما يريدون، طالما لا يفرضون رأيهم علينا: تتسع سوريا، وفنها، ومستقبلها، للجميع: للسلفيين، والإخوان، والقوميين العرب، والشيوعيين، ومحبي أبو وديع، والحلبيين، وخلاعة ريم وسارية السواس، بل حتى هذا الراب العربي الحديث الذي لا أحتمله، ولكل من تطيب له نفسه أن يدلي بدلوه، ويغني ويدندن بما يعجبه ويطربه، في هذا البلد الحر.
ودعوني أقدّم صورة غير دقيقة تماماً لما حدث مع السنّة: التبستْ صورة الأمويين في الأذهان، مع صعود الماركسية في العالم العربي، والقراءات المادية للتاريخ الإسلامي، بحيث أصبح المذهب السني، متمثلاً بالأمويين والعباسيين، صورة للجمود الديني، «الثابت»، والشيعة المتصوفة والأقليات (يستخدم المسلمون لفظ «الفرق») صورة «للمتحول»، بحسب بعض التأويلات لعمل أدونيس. بحث العلمانيون عن ثوريين في الإسلام، واهتدوا إلى الحسين، فاعتبروه ممثلاً لهم. تلك القراءات ترافقت مع هوس غربي قديم-متجدد استشراقي بالأقليات، على حساب السنّة (تذمر عبد الرحمن بدوي من هذا الهوس، ومن حجم الدراسات الهائل المخصصة للأقليات). فوق كل ذلك، وصل العلمانيون إلى صورة مشوهة للصوفية، مثل «دين الحب» وغير ذلك من قشور لا تشكل جوهر الصوفية، ووضعوا تلك الصورة في مواجهة ما رأوا فيه جموداً وتخلفاً وتعصباً يتسم به أهل السنّة. ومع صعود نجم الخميني، تعاضد العلمانيون معه، وشجّعوه، واعتبروه معبّراً عن الثورات الشعبية الحقيقية الأصيلة. (تذمر صادق جلال العظم من الإعجاب الكبير الذي يكنه العلمانيون للخميني، مبكراً جداً). ويجب أن نضيف: لم تساعد ممارسات المملكة العربية السعودية منذ خلافها مع الناصرية حتى انقلاب محمد بن سلمان في تحسين صورة السنّة، ولا الجرائم الهائلة التي ارتكبها «أسد السنّة» صدام حسين، ولا شعارات وبرامج الإسلام السياسي عموماً.
وبخصوص الثورة: كل ما سبق تخرصات لا توافق التاريخ. لا يوجد شيعة ثورية وسنّة سلطوية: الفكر الشيعي المتعلق بحكم ديني لآل البيت أكثر سلطوية وثيوقراطية من الفكر السني السياسي، المتردد عموماً بين خلافة مطلقة وشورى غير ملزمة. ولكن، تاريخياً، الأقليات والطوائف غير السنية تحبّذ الثورات، ولا يحبذها السنة عموماً، بمعنى أن التذمّر من الولاة، والبعد عن مراكز السلطة، يجعل المتذمرين أقرب إلى الخوارج أو الشيعة في معظم الأحوال. وهذا لا يعني أن أحد الطرفين أكثر تحرراً، بمفاهيمنا الحالية. هناك تجليات مختلفة للتحرّر والتمرد: مقتل الحسين، وثورة النفس الزكية، وحبس ابن تيمية، وصلب الحلاج، وجلد أبي حنيفة، وسجن أبي العتاهية والمتنبي والفرزدق، ونفي ابن رشد، وغيرها الكثير، مظاهر متعددة لثورية مساواتية أصيلة لا-سلطوية مختلطة بالدين وبقيمه وبرؤاه الديمقراطية وغير الديمقراطية، بتمظهُراتها الشيعية والسنية.
يفكر المرء أن أغاني فيروز الدمشقية، لم تكن لتُسجّل إلا لأنها سبقت الانهماك العلماني بثورة الحسين وتراثه منذ صعود الماركسية، ثم الانقسام الشيعي السني الذي انفجر بعد ثورة الخميني والحرب العراقية الإيرانية التي تبعتها. أقصد أنه لم يكن ليجرؤ أحد في لبنان أو سوريا على التغني بالأمويين بهذه الطريقة، في العقود التي تلت تسجيل الأغاني. البراءة التي غنّت بها فيروز دمشق الأمويين، بدون أبعاد سنّية، مثيرة جداً لنا، في هذا العصر، عندما تعود دمشق أموية!
وتغيب عن شيطنة الأمويين المستمرة نهايتهم المأساوية. المجزرة التي حلت بهم لا مثيل لها في تاريخ الإسلام كله. استؤصلت شأفتهم بهمجية. قُتل أفرادهم فرداً فرداً، ولوحقوا، من حدود الهند حتى أقاصي المغرب العربي. ولولا الحظ والشجاعة اللذان رافقا عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس، لما بقي منهم ذرة. نُكّل بهم، وعُذّبوا، وقُطّعوا، ونُبشت قبورهم، وأُحرقت جثثهم. انتقام غير مفهوم، لا يرضى به دينٌ. ومع ذلك، لم يكفِهم ذلك، وبقي كثيرون يشهّرون بهم، ليل نهار.
وبالإضافة إلى كل ما ذُكر أعلاه، وبالاتفاق مع السيدة فيروز، يبدو لي أن دمشق أموية لا تعني بالضبط أنها سنّية. ولدينا سببان يجعلنا نؤكد ذلك: الأكثرية المسيحية، والفن والثقافة البيزنطيان.
كان معظم سكان بلاد الشام مسيحيين في العهد الأموي، ربما أكثر من ثمانين بالمائة. ولا أعلم إن كانت محاولة تنصير معظم الشعب السوري اليوم، لإعادة عقارب الساعة إلى العهد الأموي، ستحظى بموافقة محلية، خصوصاً من السنّة. بالإضافة إلى ذلك، سيكون لعملية التنصير الواسعة صعوبات أخرى: هل ننصّر الناس على المذهب الأرثوذكسي، أم اليعقوبي؟ في نهاية العهد البيزنطي، وفي العهد الأموي، انقسم مسيحيو سوريا بين الروم الأرثوذكس، وبين اليعاقبة. تبنى معظم العرب والسريان المذهب اليعقوبي، وكانت اللغة السائدة السريانية وأشكال مختلفة من الآرامية في الأرياف، مع حضور اللغة العربية في أماكن كثيرة. وفي المدن، ساد المذهب الأرثوذكسي الملكي، وكانت لغة الثقافة والحكم والإدارة اليونانية. وفوق كل ذلك، هناك جيوب وثنية صغيرة. لأسباب تاريخية متعددة، تراجع الحضور اليعقوبي، وأصبح معظم مسيحيي سوريا من أتباع كنيسة الروم الأرثوذكس.
لو أردنا أن نحافظ على اللغة العربية، والأكثرية السنّية، يجب أن نقفز في الزمن بضعة قرون، أو حتى أكثر، نحو العهد المملوكي: أي أن تعود دمشق مملوكية، لا أموية! فقد انتشر الإسلام بالتدريج. لم يفرض العرب دينهم، أو لغتهم، بالسيف. عوامل متعددة، منها قمع متقطع، أتاح للغة والدين أن يسودا. لذا، العودة الطوعية إلى العهد الأموي غير ممكنة، إلا بعمليات تنصير واسعة في المدن والأرياف، عمليات قد يوافق عليها الغرب لرفع العقوبات عن سوريا.
السبب الثاني، الوضع الثقافي. تشكلت الثقافة الإسلامية بالتدريج، وأخذت شكلها الواضح المميز في بغداد، في العصر العباسي. الفن الإسلامي التجريدي، والخط الكوفي والثلث، والأرابيسك، والمقامة، والمنمنمات، وغيرها، منجزات عباسية. الفن الأموي شكل حلقة وسيطة بين العباسي والبيزنطي. والثقافة، الأدبية والشعرية، شبه غائبة. في الحقيقة، شكلت أهاجي جرير والفرزدق والأخطل أشهر ما قدمته الثقافة العربية في هذا العصر، وهو أسوأ وأبغض ما قدمه العرب في تاريخهم كله. شيء معيب، ومخجل. على العكس، حققت سوريا إنجازاً لا مثيل له، عندما قدمت شيخنا المعري، ملاك الأدب العربي، بعد قرون من نهاية العهد الأموي.
لا دينياً، ولا ثقافياً، تبدو العودة إلى العهد الأموي مغرية اليوم.
لماذا؟
الجواب بسيط ومعروف: لا يوجد ماضٍ قومي نهائي سرمدي، تقوم في جوهره أمة متخيلة مفترضة ثابتة أصيلة عبر التاريخ، لا عربية، ولا إسلامية، ولا سنّية، يمكن استعادته واستعادة أمجاده كلما شعرنا بالضيق والخسارة. سوريا بلد متخلخل الانتماء والمعنى، ربما، أكثر من جيراننا في شبه الجزيرة، ومصر، والرافدين، وتركيا، واليونان. وهذه ميزة، يجب أن نتمسك بها. «الفسيفساء» السورية واقعة تاريخية، ترتبط بوجود سني عربي أكثري، وبضعف هوية وطنية واضحة الملامح. هذه بلدنا، ومنها يمكن أن نبني سوريا الجديدة: يمكننا أن نستشير الماضي، ونناقشه، ونتفاعل معه، كي نرسم المستقبل كما نريده نحن اليوم.
وماذا عن عودة دمشق الأموية، التي تتردد يومياً على مسامعنا؟
طيب: المقصود من ترديد جملة «دمشق أموية»، هو الحاضر، وليس الماضي. الماضي الأموي لم يكن سنّياً، ولكن الحاضر متخم بالخلاف الطائفي، العلوي/السني، والاحتلال الشيعي وجرائمه. اجتاحت الميليشيات الشيعية دمشق، على مدى عقد الحرب، لاعنةً معاوية والأمويين علناً وفي الشوارع، وأحياناً شاتمةً أبا بكر وعمر، أيضاً. نفهم من هذه العبارة إذن، التخلص من الاحتلال الشيعي الإيراني وأذرعه، واستعادة كرامة الأكثرية السنية. وهذان أمران مقبولان، ولكن مع شرح صريح لما حدث، ويحدث، وسيحدث: أي نقاش الانقسام العلوي/ السنّي في البلد، ومخاطر تحول السنّة إلى جماعة حاكمة على حساب الأقليات.
ويبدأ النقاش مع تحرير دمشق، ولا يرجع إلى زمن الأمويين، بل إلى أيام حافظ وابنه بشار: هل كان نظام الأسد طائفياً؟ وبأي معنى؟ بعض العلمانيين يصرّون على أن النظام البائد لم يميّز بين السوريين، وأن ضحاياه من كل الطوائف، وكذلك المستفيدين منه. أي أنه نظام علماني، والطائفيون هم من يرفضون الإقرار بذلك. في حين يرى علمانيون آخرون، وأنا منهم، أنه نظام طائفي بشكل كبير: توزيع المناصب محاصصة طائفية، والمحسوبيات طائفية، والأهم، أن التعذيب في سجن تدمر (في الثمانينيات) وفي صيدنايا في الثورة الأخيرة يكاد يقتصر على السنة، واستهدفتهم قوى النظام وبراميله بشكل مقصود مخصوص. البلد كان يخضع لسيطرة علوية أمنية، دفع ثمنها السنّة. ليس كجنوب أفريقيا، أي كل علوي يتمتع بامتيازات على حساب كل السنة. كلا، بسبب التركيبة المحلية، والاعتماد على حزب قومي عربي اشتراكي (البعث)، لم يكن هذا ممكناً أو مرغوباً. بل جرى تطييف البلد بالسر، وحكمها حافظ وبشار من خلال إثارة مخاوف الأقليات، خصوصاً العلوية. ولقد سمعتُ من عوائل علوية كثيرة، أن ليلة 7 كانون الأول (ديسمبر) 2024، هي أكثر أيامهم ذعراً: جهّز الكثير منهم أطفالهم ونساءهم للانتحار، بدلاً من أن يقبض عليهم الجهاديون ليغتصبوهم ويذبحوهم. لم يحصل ذلك؛ ولكن الذعر الذي انتشر، ما زالت جذوره قائمة. والتجاوزات والانتهاكات تتكرر بحق العلويين، العسكر والمدنيين، منذ السقوط. وفي السادس من آذار (مارس)، حدثت المذبحة: عقب عملية اغتيال لأفراد من الأمن العام قامت بها فلول النظام، ارتكبت مجموعات مسلحة سنّية تابعة لوزارة الدفاع السورية مجزرة بحق العلويين، لأنهم علويين، استمرت عدة أيام، يندى لها جبين البلد المكسور، وسيذكرها تاريخ سوريا طويلاً جداً.
وعلى الرغم من محبتي وتقديري وإعجابي بالعهد الأموي، إلا أن الفخر بالماضي المتخيّل تثير ذعري من الفروسية، والتعصب، والجهل بالتاريخ، والمثالية الطهرانية، وتغييب كل فعل براغماتي وتفكير عملي- وهذه عماد الديمقراطية والتسامح. البلد تغلي بخطابات متعددة، متناقضة، مركّبة، مربكة- وعلينا ان نختار ما نريده، وألا نترك أنفسنا تنساق خلف إحياء تاريخ وهمي، مبني على مبالغة قومية وطنية، أو دينية، هو فاتحة كل عنف وانتقام في الثورات المنتصرة.
وأفضّل أن نعجب بالأمويين بعين تاريخية، واقعية: العهد الذي يفصل البيزنطيين عن العباسيين، الانطلاقة الواثقة في الفتوحات، الرغبة بالاكتشاف، الإنصات والتجريب، التأثر بالثقافات المحلية والغريبة والبعيدة والقريبة والاستفادة منها والعمل معها، التخبط البشري في محاولة الوصول إلى المثال الديني، فساد بعض الولاة والعمال وأفراد العائلة الحاكمة، انفجار العصبيات القبلية التي لعب على وترها معظم الخلفاء، بالإضافة إلى مشكلة العرب وغير العرب: دخول العجم في الإسلام لم يترافق مع توزيع الغنائم بالتساوي على الجميع، وهذا ما سيفعله العباسيون في ثورتهم، لينهوا سيطرة العرب على الدين والدولة، فاتحين المجال أمام مساواة كاملة.
كل هذا لم تعكسه أغاني فيروز، ولا الاحتفاء بعودة دمشق الأموية.
إذن، ماذا نفعل مع أغاني فيروز الدمشقية؟
لا أعرف. أنا أتخبط هنا، كدمشقي في أندلس: بعض الصور جميلة، والتلحين ساحر، يضيف إليها صوت فيروز بعداً ميتافيزيقياً قصيّاً. على سبيل المثال: «حلواً كما الموت، جئت الموت لم تهب»، أو« شـامُ أهلوكِ إذا همْ على نُـوَبٍ، ٍقلبي على نُـوبِ»، أو «الهوى لحظ شآمية، رق حتى قلته نفذا». ليس أنني لا أطرب، بل وأطير، في تلك الصور تغنيها فيروز في صباحات دمشق المنهكة الحزينة التي لا تشبه ذلك الفخر أو المجد. ولكن، على العموم، على المرء أن يكون حذراً جداً من الحماسة الزائدة، خصوصاً في الموسيقا، أحد أعمق ملكات البشر الغريزية العاطفية. وقد طالب أفلاطون بفرض رقابة صارمة على كل أنواع الموسيقا، لأنها تثير العواطف، وتشكم حكم العقل. وكان محقاً في تحليله لتعطيل العقل. ولكنني لا أؤمن بالطغيان، بل بحرية واسعة؛ ولا أتبع أفلاطون، عكس فلاسفة العرب والنهضة الأوروبية وأرسطو، الذين احتقروا العامة والديمقراطية. ولا تراودني أية أحلام إمبراطورية، لا أموية ولا عباسية ولا رومانية، وأفضّل دوماً واحدة من تجسدات فيروز الأخرى؛ ربما، فيروز «كيفك إنتا»، أو «لله كبير»، أو «قد أتاك يعتذر»، أو «يا مية مسا»، أو «قديش كان في ناس»…
وهذه التجسدات يمكن أن يسمعها المرء في البستان؛ وكلمة بستان فارسية الأصل، وتعني حديقة المنزل، إذ انتشرت فكرة الحدائق في الحضارة الأخمينية، ومنها أخذها السلوقيون والعرب والمسلمون والرومان. وليس كما في الصورة الباذخة الفاخرة الساحقة، في قصيدة سائليني، لسعيد عقل، التي شدت بها فيروز متحّكمة بمشاعر الحب والمجد معاً، بسيطرة مرعبة كاملةٍ على أنفاسها الرقيقة:
أمَـويُّـونَ، فإنْ ضِقْـتِ بهم ألحقـوا الدُنيا بِبُسـتانِ هِشَـامْ
ما كل هذا الترف، لملوك لا يهتمون بنا؟ ما كل هذا التمسك بسلطة تريد حكم العالم؟ ولماذا نحكم العالم، أصلاً؟ تحويل الدنيا كلها إلى بستان أموي، للخليفة هشام بن عبد الملك، المشهور بحكمته، وبخله أيضاً؟ كلا، كلا يا أصدقاء، على العكس من هذا الترف، أتمنى لو استطاع كلّ منا أن يملك حديقة منزلية صغيرة، بستاناً شخصياً فارسياً حميمياً ناعماً بسيطاً؛ لو كان كلٌ منا خليفة، كل شخص، في سوريا، وخارجها، في كل مكان في المعمورة: مع أزهار محلية، كالجوري، والغاردينيا، والياسمين، والأقحوان؛ وربما، شجيرات نعناع، وخزامى؛ وأشجار فاكهة حلوة، كالإجاص؛ وبالطبع، الكرمنيتنا التي تملأ شوارع دمشق وتلوّنها بعذوبة أرضيّة؛ أو أحراش قرى قرفيص وسلحب وصنوبر وأرزة، بزيتونها الذي يكاد زيته الدامي يضيء البلد المعتم الحزين.
سوريا اليوم على مفترق طرق، بعد خروجها من الكابوس. لسنا بحاجة إلى النفخ في تفاهة المجد؛ بل على النقيض، الغرق في جمال البساتين، والخضرة الطبيعية، وتفاهات الحياة اليومية، والكسل البشري، على طريقة الولاة الأمويين وقصورهم المنتشرة من الرصافة في البادية إلى جنوب فلسطين؛ وأيضاً، حتى لو كان الأمر مربكاً متعباً، القدرة على تقبل الخلاف: بين أولئك الذين يشربون «المتة» (الدروز والعلويون وأهالي القلمون)، وبين من يشربون الشاي (وانا منهم، السوريون الحقيقيون الطبيعيون يعني)؛ أو من يشربون القهوة حلوة (أعوذ بالله، وتجدهم في كل الأعمار والأطياف والطوائف)، ومن يشربونها سادة (ذوّاقة القهوة النبلاء)، وبين من يشربها وسط (أف، شو تقل الدم هاد؟)، وبين من لا يشربها (آه، يعيشون بيننا أيضاً بشكل طبيعي!)؛ بين من يقرأ المتنبي ويعتبره شاعراً عظيماً بترفعه وغروره وشتائمه (وهم أغلبية، للأسف الشديد) ومن يفضلون المعري بهدوئه وحزنه وتأملاته التي لا تجد أجوبة (أولئك سينقذون سوريا، والعالم)، وحتى من يقول إنه لا يقرأ الشعر العمودي بتاتاً (لا تعليق على أمثالهم).
ولو كان لي أن اختار استعادة أموية، لملتُ إلى لطف نزار قباني، الأموي بحق، المهووس بالحب والجمال، بدلاً من الأمجاد. ليس أنني أعتقد أن نزار كان مهتماً بالدقة التاريخية؛ لا والله، كان الرجل يعبث بالوقائع والحقائق، ويشجع تصورات أمجاد تافهة كما فعل عقل- ولكنه يقلب معنى الأمجاد إلى أبعاد حسية، تعلي من شأن القبلة، واللمسة، والهمسة:
أدخل صحنَ الجامع الأمويّْ
أُسلِّمُ على كلِّ من فيهْ بَلاطةً.. بلاطهْ
حمامةً.. حمامَهْ
أتجولُ في بساتين الخطِّ الكُوفيّْ
وأقطفُ أزهاراً جميلةً من كلام اللهْ …
وأسمعُ بعينيَّ صوتَ الفُسَيْفُسَاءْ..
وموسيقى مسابح العقيقْ..
تأخذني حالةٌ من التجلِّي والانخِطَافْ،
فأصعدُ دَرَجاتِ أوَّل مئذنةٍ تُصادِفُني
مُنَادياً:
«حَي على الياسمينْ»
«حي على الياسمينْ».
موقع الجمهورية