بين جنيف وسوتشي وأستانا.. الأمم المتحدة تودّع وساطة فشلت في إنقاذ سوريا/ ربى خدام الجامع

2025.03.21
بعد ما يقرب من 700 جلسة عقدها مجلس الأمن بشأن سوريا، لم تأتِ نهاية نظام الأسد نتيجة جهود الأمم المتحدة، بل رغمها. في مقال تحليلي، تعيد هاسميك إجيان المسؤولة السابقة في مكتب المبعوث الأممي إلى سوريا ومديرة إدارة شؤون مجلس الأمن رسم مشهد السقوط المفاجئ لبشار الأسد في كانون الأول 2024، وتفكك النظام خلال 11 يوماً فقط إثر هجوم عسكري خاطف من فصائل المعارضة، وتقدم رؤية نقدية لمسار الأمم المتحدة في هذا الملف.
تشير الكاتبة إلى إخفاق دبلوماسي طويل الأمد، من أنان إلى الإبراهيمي، ومن دي ميستورا إلى بيدرسون، مروراً بمئات الاجتماعات التي لم تنجح في وقف القتال أو فرض مسار سياسي فاعل. وتعرض بالتفصيل كيف تحوّل مجلس الأمن إلى منصة للمواقف المتضادة دون قرارات مؤثرة، وكيف شلّت الخلافات بين الدول دائمة العضوية آليات العمل الأممي، حتى بات الملف السوري رمزاً لفشل النظام الدولي في إدارة الأزمات المعقدة.
ومع بروز سلطة انتقالية جديدة بقيادة أحمد الشرع، تدعو إجيان إلى ضرورة التفكير بمنصة بديلة ترعاها الأمم المتحدة أو يصادق عليها مجلس الأمن، معتبرة أن المرحلة الانتقالية تتطلب حضوراً أممياً مختلفاً، لا يكرر أخطاء الماضي، بل يركز على دعم جهود الإغاثة وإعادة الإعمار، لا الوساطة السياسية التقليدية التي استنفدت فعاليتها.
ترجمة المقال:
إثر فرار بشار الأسد من البلد في 8 كانون الأول 2024، شنت فصائل المعارضة السورية هجومًا عسكريًا سريعًا ومفاجئًا، بدعم من جهات خارجية عديدة، حيث انطلقت من حاضنتها في إدلب بشمال غربي سوريا وتوجهت إلى حلب، ثم تقدمت جنوبًا نحو العاصمة دمشق، وحدث كل ذلك في غضون 11 يومًا فقط، فأنهى السقوط المفاجئ للنظام الحرب المدمرة التي بدأت قبل ما يقرب من 14 عاماً باحتجاجات مناهضة للحكم الديكتاتوري الدموي الذي انتقل للابن بشار عبر التوريث.
أي أن التغيير حصل في سوريا ليس بفضل الأمم المتحدة، بل رغماً عنها.
ومع انعقاد مئات الاجتماعات لمجلس الأمن الأممي حول سوريا على مدى 13 عاماً، وتعاقب أربعة مبعوثين أمميين على الملف السوري، بات من الصعب تمييز الأثر الجماعي لهذه الجهود في تسوية الصراع في سوريا. لذلك، ثمة حاجة ماسة إلى إحداث تغيير في نهج الأمم المتحدة تجاه سوريا، ولكن هل ستصبح الديناميات السياسية التي تغيرت مؤخراً في روسيا والولايات المتحدة محركاً لهذا التغيير في مجلس الأمن؟
وإضافة لذلك، آن الأوان للإقرار بأن جهود الوساطة السياسية التي تبذلها الأمم المتحدة منذ عقد من الزمن، وتلك التي يبذلها مكتب المبعوث الخاص إلى سوريا الذي ترأس الجهود الساعية لتسوية الحرب السورية، قد وصلت إلى مرحلة انعدام الجدوى بصورة لا يمكن العدول عنها، ولذلك لابد لتلك الجهود أن تتوقف، كما ينبغي تجهيز منصة بديلة لتترأس ذلك العمل، ويمكن لها أن تحظى بمصادقة من مجلس الأمن. بيد أن ذلك لا يعني بأنه لم يعد لدى الأمم المتحدة دور لتمارسه في سوريا خلال الفترة الانتقالية الحرجة.
لم تترتب إخفاقات الأمم المتحدة على انعدام محاولاتها، فمنذ عام 2011 وحتى 2022، أي قبل عامين من الغزو الروسي لأوكرانيا والحرب على غزة التي اندلعت في تشرين الأول 2023، كانت الحرب في سوريا القضية الأكثر حدةً والتي أثارت انقسامات كثيرة ضمن جدول أعمال مجلس الأمن.
وخلال الفترة الممتدة من عام 2011 إلى عام 2024، عقد مجلس الأمن ما يقرب من 700 اجتماعاً، سواء خلف الأبواب الموصدة أو عبر تلك الاجتماعات العلنية، ولم يحظَ أي نزاع آخر في تاريخ المجلس الذي يمتد لـ80 عاماً بامتياز تخصيص ثلاث جلسات بالشهر من أجله، كما كان الحال مع الحرب السورية، إذ كان المجلس يعقد كل شهر اجتماعاً حول “ملف الأسلحة الكيميائية”، واجتماعاً آخر حول “الملف الإنساني”، واجتماعاً ثالثاً حول الجوانب السياسية في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، عُقدت العديد من “جلسات الطوارئ” حول سوريا خلال عطلات نهاية الأسبوع وفي ساعات متأخرة من الليل، خاصة في ذروة الحرب بين عامي 2016 و2018.
وخلال الفترة ما بين عامي 2012 و2022، أصبحت سوريا الموضوع الأول الذي يناقش في المشاورات المغلقة لمجلس الأمن، حيث تجري المناقشات الأكثر حدة وصراحة بين الدول الأعضاء. وفي عام 2016، ركزت 30% (أو ثلث) المشاورات المغلقة للمجلس على سوريا.
ولكن، وعلى الرغم من كثافة التركيز والاهتمام الفريد الذي أولاه مجلس الأمن لسوريا، كانت النتائج والتأثيرات على الأرض محدودة للغاية، ولم تحقق سوى تقدماً ضئيلاً نحو التوصل إلى حل للنزاع.
فورة في القرارات
طوال فترة النزاع، فشل مجلس الأمن في اعتماد مشاريع قرارات حول سوريا أكثر من تلك التي تبناها بالفعل، حيث تبنى 25 قراراً بالضبط، في حين استُخدم حق النقض ضد 29 مشروع قرار من قبل عضو دائم أو اثنين، أو لم يحظ ذلك المشروع بأصوات كافية حتى يتم إقراره. ومعظم هذه القرارات، سواء تلك التي اعتمدت أم لا، تتصل بتجديد عمليات إدخال المساعدات الإنسانية عبر الحدود التي سمح المجلس بإدخالها بداية في عام 2014، أو تتعلق بملف الأسلحة الكيميائية في سوريا، وقلة قليلة من تلك القرارات لها علاقة بالملف السياسي المعني بتسوية النزاع السوري.
في عام 2019، فشل مجلس الأمن في اعتماد أي قرار بشأن سوريا، إذ استُخدم حق النقض ضد مشروعي قرارين معنيين بالشأن السوري، ولم يحصل مشروعا قرارين آخرين على أصوات كافية، وهذه المشاريع كانت مرتبطة ببرنامج تمرير الإغاثة الإنسانية عبر الحدود وبوقف إطلاق النار في إدلب عام 2019.
ثم ألغيت عمليات الإغاثة الإنسانية التي كان الناس بأمس الحاجة إليها خلال مواجهة نهائية حدثت داخل مجلس الأمن في صيف عام 2023، بعد تراجع عدد المعابر الحدودية المرخصة للقيام بذلك من أربعة معابر في عام 2014 إلى معبر واحد في مطلع عام 2023. كما لم يتخذ مجلس الأمن بشأن سوريا أي قرارات في عام 2024 وذلك قبل سقوط نظام الأسد في كانون الأول الماضي.
في بداية الصراع السوري، حدد الأعضاء الخمسة الدائمون في المجلس (أي بريطانيا، والصين، وفرنسا، وروسيا، والولايات المتحدة) خطوطهم الحمراء، ومارسوا الضغط أو التهديد أو لجؤوا إلى تقديم المغريات لإقناع الدول العشرة الأعضاء المنتخبة في المجلس بالانحياز إلى صفهم في معركتهم السياسية التي أضحت أعتى وأصلب إثر اندلاع أزمتي أوكرانيا وغزة بعد مرور عقد من الزمن.
وبحلول عام 2017، أدى الانقسام الحاد بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بشأن سوريا إلى تحويل اجتماعات المجلس العلنية إلى مسرحيات مسيّسة هدفها تحقيق مكاسب سياسية بدلاً من أن تكون منتدى للبحث عن حلول للنزاع. وكانت تلك الجلسات تُعقد بانتظام بما لا يقل عن ثلاث مرات بالشهر، من دون أن يعتريها أي انقطاع.
وفي العام نفسه، ألغى المجلس آلية التحقيق المشتركة التي لم تعمر طويلاً، فقد اعتمدت هذه الآلية بموجب القرار 2235 لعام 2015 لتكون بمنزلة شراكة بين هيئة الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وكانت مفوضة بتحديد هوية المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيميائية ومحاسبهم فيما يتصل بالحالات التي أكدت فيها بعثة تقصي الحقائق التابعة للمنظمة وقوع تلك الهجمات في سوريا.
لكن الاتهامات المتبادلة بالتحيز بين خبراء آلية التحقيق المشتركة، بالإضافة إلى التفسيرات المتضاربة لتقاريرهم، دفع بروسيا والولايات المتحدة إلى توجيه الضربة القاضية لتجديد تفويض تلك الآلية. ولذلك طرحت تلك الدولتان مشروعين لقرارين يقف أحدهما ضد الآخر وذلك في تشرين الثاني من 2017، ولهذا لم يعتمد أي بفضل حق النقض أو لعدم توفر ما يكفي من الأصوات المؤيدة لهما. والمفارقة هنا أن تدمير ترسانة الأسلحة الكيميائية السورية كان أحد الإنجازات القليلة الأولى التي حققها مجلس الأمن، عندما تبنّى بالإجماع القرار 2118 في أيلول عام 2013.
ثم جاء القرار 2118 إثر انضمام سوريا إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية في الشهر ذاته، إلى جانب توقيع اتفاق إطاري بين روسيا والولايات المتحدة حول القضاء على الأسلحة الكيميائية في سوريا. وقد وضع القرار لنفسه هدفاً طموحاً يتمثل بتدمير مخزون سوريا من الأسلحة الكيماوية وبرنامجها الكيماوي بشكل كامل وذلك حتى منتصف عام 2014، أي خلال فترة تقل عن عام واحد. ويُذكر أن هذه السلسلة من التطورات السريعة جاءت بعد استخدام مؤكد للأسلحة الكيميائية في الغوطة بريف دمشق، وذلك في 21 آب 2013، وهذا ما أكد احتمال تنفيذ ضربات جوية أميركية ضد سوريا بعد أن أعلن الرئيس الأسبق باراك أوباما عن “الخط الأحمر” الذي حدده للنظام السوري.
اعتبر كثيرون بأن العملية المشتركة التي نفذتها منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة لتدمير مخزون الأسلحة الكيميائية في سوريا قد حققت نجاحاً باهراً. غير أن مجلس الأمن أمضى عقداً آخر في خلافات ازدادت حدة بين الأعضاء الخمسة الدائمين حول ملف الأسلحة الكيميائية في سوريا، وذلك بسبب الاتهامات التي وجهت إما لسوريا حول عدم إعلانها بشكل كامل عن برنامجها الكيماوي، أو بسبب العقبات التي وضعتها دمشق أمام جهود بعثة التحقق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
هل كانت تلك المخاوف حقيقية أم مجرد مسرحيات سياسية؟ يحق للمرء طرح هذا السؤال، خاصة بعد أن علقت الاجتماعات الشهرية حول هذا الملف فجأة في كانون الثاني وشباط من عام 2025، بعد أن انتهى حكم الأسد في كانون الأول من عام 2024، وعلى الرغم من عقد اجتماع واحد لمجلس الأمن في آذار الجاري، بما أن المجلس واصل وبوتيرة سريعة عقد اجتماعاته الشهرية العلنية حول الملفين الإنساني والسياسي في سوريا.
تبعات سقوط الأسد على مجلس الأمن
كاد النزاع السوري أن يقصم ظهر مجلس الأمن وأن يسهم في تقويض مصداقيته الهشة التي أنذر بظهورها الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، فقد بدأ تدخل الأمانة العامة للأمم المتحدة لحل النزاع السوري في عام 2012، عندما قامت، بالتعاون مع جامعة الدول العربية، بتعيين الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان كمبعوث خاص مشترك لسوريا.
وعلى جناح السرعة، تفاوض أنان على وقف إطلاق النار، وسعى إلى دعم ذلك الوضع عبر نشر بعثة مراقبة، وهي بعثة المراقبين الأممين إلى سوريا، كما شكل “مجموعة العمل من أجل سوريا” في جنيف، ضمت وزراء خارجية الدول الخمس التي تتمتع بعضوية دائمة في مجلس الأمن بالإضافة إلى وزراء خارجية عدد من الدول الإقليمية، وكذلك ممثلين رفيعي المستوى عن الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية.
نتج عن ذلك خطة سلام تألفت من ست نقاط، عُرفت باسم “بيان جنيف”. ومع الانهيار السريع لوقف إطلاق النار وتعليق أنشطة بعثة المراقبين الأمميين، فشل مجلس الأمن في تبني البيان بسبب خلاف وقع بين الولايات المتحدة وروسيا حول معنى “هيئة الحكم الانتقالي” المذكورة في الخطة؛ وتحديدًا، حول دور الرئيس بشار الأسد فيها. وبسبب إحباطه من جراء تراجع الدعم الدولي لجهوده، استقال أنان محتجاً على ذلك بعد أقل من ستة أشهر على توليه لتلك المهمة.
أما خلفه، وهو المسؤول الأممي البارز والدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي، فقد اتّبع نهجاً مغايراً، فمن خلال الدعم الذي حصل عليه عبر إجماع المجلس كما بدا وقتئذ، بما أن مجلس الأمن تبنّى في أيلول من عام 2013 القرار 2118 المؤيد لبيان جنيف والداعي إلى عملية سياسية يقودها سوريون، أعطى الإبراهيمي الأولوية للمفاوضات ضمن الطيف السوري.
وفي أواخر عام 2013، نجح في عقد أولى جلسات المفاوضات برعاية أممية بين النظام السوري البائد والمعارضة السورية في مونترو وجنيف، إلا أن هذا الإنجاز سرعان ما تعثر بسبب تعنّت الطرفين السوريين وحلفائهما الأجانب. وفي أيار من عام 2014، أعلن الإبراهيمي انسحابه، فكانت جهوده تلك آخر محاولة جادة تخوضها الأمم المتحدة للتوسط من أجل التوصل إلى تسوية شاملة للأزمة السورية.
أتى بعد الإبراهيمي، ستيفان دي ميستورا، ثم غير بيدرسن ابتداء من عام 2018، وأخذ كل منهما يلعب دوراً دفاعياً إلى أقصى الحدود، إذ عندما كانت سوريا تحترق، أضاع دي ميستورا أكثر من أربع سنوات مثلت فترة شغله للمنصب وهو يروج لسلسلة من المقترحات الفاشلة، كان من بينها “تجميد” الأعمال العدائية بصورة مؤقتة في أحد أحياء مدينة معينة، بيد أن ذلك لم يتحقق على أرض الواقع ولم يكن له تأثير على مجريات الحرب، ومن تلك المقترحات أيضاً “اختبار شدة التوتر” الذي خرج به في أواسط عام 2015 والذي يتألف من “216 مشورة” لم يحقق أي منها هدفه المعلن المتمثل بتقليص الهوة بين الأطراف السورية، كما لم تتمخض عنها أي رؤى وأفكار جديدة لحل القضية، ومن مقترحاته الفاشلة أيضاً النقاشات التي دارت حول “السلل الأربع” لقضايا لم يتمخض عنها مفاوضات مجدية بالنسبة لأي جانب من جوانب الأزمة.
لذا، وبدلًا من قيادة الجهود الدولية، وجد دي ميستورا نفسه يراهن على شرعية الأمم المتحدة مقابل مقعد على طاولة مبادرات مثل المجموعة الدولية لدعم سوريا التي أنشأتها واشنطن وموسكو، ومؤتمرات الحوار الوطني السوري التي رعتها روسيا وأقيمت في كل من سوتشي وأستانا.
المبعوث الأممي الأخير
من جانبه، كرّس غير بيدرسن أكثر من ست سنوات ضمن محاولة عقيمة لكتابة دستور سوري جديد، أو بشكل أدق، لإقناع الأطراف السورية بحضور اجتماعات يتم فيها الاتفاق على جدول أعمال لمفاوضات حول القضايا الدستورية، وحتى نكون منصفين بالحكم على بيدرسن، فإن قرار مجلس الأمن رقم 2254 (الصادر في عام 2015) كلّف الأمم المتحدة بالتعاون مع السوريين بوضع “جدول زمني وإطار لعملية تسعى لصياغة دستور جديد” خلال ستة أشهر، ولهذا يمكن أن يحسب لذلك الرجل أنه على الأقل تمكن خلال سنة واحدة أن يطلق العملية التي فشل دي ميستورا بالتأسيس لها خلال السنوات الثلاث الأولى من توليه لمنصبه.
أما على صعيد الملف السياسي السوري، فقد أثبت مجلس الأمن عجزه بصورة موازية، إذ نتيجة للانقسامات والاستقطاب، فشل أعضاؤه – وخاصة الدول الخمس دائمة العضوية – في التوصل إلى قرار حاسم بشأن الأزمة السورية يدعم السلام والأمن الدوليين. وذلك لأن المجلس تحوّل إلى منصة للاستعراضات القائمة على المزاودات وتبادل الاتهامات بالنسبة للدمار الذي لحق بسوريا والمعاناة التي يعيشها شعبها.
ومنذ فرار الأسد المفاجئ إلى منفاه في روسيا في مطلع كانون الأول 2024، وللمرة الأولى منذ اندلاع النزاع السوري عام 2011، يبدو بأن مجلس الأمن توصّل إلى إجماع جديد بشأن سوريا، شاركت فيه الولايات المتحدة وروسيا، على الرغم من استمرار ديناميات الضغينة والتوتر بشأن أوكرانيا وغزة.
في 17 كانون الأول، وبعد مشاورات مغلقة حول الملف السوري، أصدر المجلس بياناً صحفياً دعا فيه إلى “تنفيذ عملية سياسية قائمة على المشاركة يقودها سوريون وتصنع بأيديهم، وذلك استناداً إلى المبادئ الأساسية الواردة في القرار 2254 (2015)، على أن تُيسّر الأمم المتحدة هذه العملية”. وفي هذا السياق، أعربت الدول الأعضاء عن دعمها لجهود المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسن، وذلك في العمل على تسهيل هذه العملية السورية التي سيترأسها سوريون وسيصنعونها بأيديهم”.
في 29 كانون الثاني ، وبعد نحو شهرين من دخول تحالف من الفصائل المسلحة المعارضة إلى دمشق، عُيّن أحمد الشرع، القائد الفعلي لهذا التحالف، رئيساً انتقالياً لسوريا لفترة “انتقالية” غير محددة، كما جرى تعليق العمل بدستور عام 2012، وحلّ البرلمان، والجيش، وسائر الجماعات المسلحة، وكذلك حزب البعث.
في اليوم التالي، أطلّ الشرع، المعروف سابقًا باسمه الحركي “أبو محمد الجولاني”، وزعيم فصيل “هيئة تحرير الشام” التي كانت سابقًا مرتبطة بتنظيم القاعدة ومدرجة كمنظمة إرهابية لدى مجلس الأمن، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي – وخرج علينا ببيان متلفز مُسجل مدته ثلاث دقائق، تعهّد فيه بـ”تشكيل حكومة انتقالية شاملة تُجسد التنوع في سوريا”. وأضاف بأن هنالك عزم على إجراء “حوار وطني… ليكون منصة مباشرة للحوار والنقاش والاستماع لوجهات النظر المختلفة حول برنامجنا السياسي القادم”. وأتبع ذلك بقوله: “بمجرد استكمال هذه الخطوات، سنعلن عن إعداد إعلان دستوري ليكون المرجع القانوني خلال الفترة الانتقالية”. وفي مقابلة أجريت معه لاحقاً، أوضح أن الفترة الانتقالية قد تمتد لأربع سنوات، إلى أن تجرى انتخابات جديدة، وأن صياغة دستور جديد قد تستغرق ما بين سنتين إلى ثلاث سنوات. وهكذا، عُقد مؤتمر للحوار الوطني خلال يوم واحد بدمشق بتاريخ 25 شباط، وبحضور نحو 900 مشارك ومشاركة من السوريين والسوريات.
إلا أن مجلس الأمن والمبعوث الخاص بيدرسن خلال تلك الفترة، واصلا ترديد شعارهم القديم الذي ظلا يرددانه طوال عقد كامل كما يفعل المرء عندما يقوم كل فجر للصلاة، وهذا الشعار يدور حول “قيام عملية سياسية قائمة على المشاركة يقودها سوريون وتصنع بأياديهم وتستند إلى المبادئ الأساسية للقرار 2254 (2015)، على أن تعمل الأمم المتحدة على تيسير تلك العملية”، وبقي مجلس الأمن وبيدرسن على هذا المنوال حتى بعد أن فاتهم القطار من دون أن يتسنى لهم تقديم أدنى قدر من التدخل والمشاركة في الشأن السوري.
بالنسبة للشرع، فقد جرى تطبيق الجوانب المهمة من القرار 2254، والتي تشمل حدوث انتقال سلمي للسلطة، والعودة الآمنة للاجئين، وإطلاق سراح المعتقلين.
التحالف الجديد بين الولايات المتحدة وروسيا
في مقابلة أجريت مع أحمد الشرع بتاريخ 29 كانون الأول 2024، قال: “ظهرت معاناة كبيرة مع المحاولات العديدة لإصلاح الأمور في سوريا، غير أن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لم يتمكنا طوال 14 عاماً من الإفراج عن معتقل واحد، أو إعادة لاجئ واحد، أو إقناع النظام بقبول الحد الأدنى من الحل السياسي، رغم أن ذلك كان يخدم مصالحه”، ويبدو أن تصريحه هذا لاقى أصداء مرحبة بين السوريين.
ومنذ كانون الأول الماضي، تقاطر المسؤولون الأجانب الآتون من دول إقليمية ومن الولايات المتحدة، وأوروبا، ومناطق أخرى على دمشق وذلك ليلتقوا بالسلطات الانتقالية في سوريا. كما قام الشرع بزيارات رسمية إلى عدة عواصم في المنطقة، وهنالك أنباء تفيد بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتصل به هاتفياً في 12 شباط الماضي. كما التقى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في 4 آذار في القاهرة، على هامش اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية حول غزة، والذي دُعي الشرع إليه.
ومن جهته، زار المبعوث الأممي غير بيدرسن، دمشق عدة مرات منذ منتصف كانون الأول الفائت، والتقى بالشرع أكثر من مرة. وفي الثالث من شباط، أصدر مكتبه بياناً صحفياً جاء فيه أن “بيدرسن موجود في سوريا منذ أسابيع، وهو يجري مشاورات مع السلطات الانتقالية وطيف واسع من السوريين، ويتابع عن كثب جميع التطورات على الأرض”، وفي اعتراف صريح غريب حول الدور الذي لعبه بالنسبة للتطورات الحاصلة في سوريا، خلص البيان إلى أنه: “سيتابع جميع التطورات السياسية والوضع على الأرض عن كثب، وسيواصل إطلاع الأمين العام ومجلس الأمن بآخر المستجدات بحسب ما يمليه عليه التفويض الموكل إليه.”
وهنا يبدو بأن دور بيدرسن في العملية السياسية خلال الفترة التي أعقبت انتهاء النزاع في سوريا والذي اقتصر على كونه مراقباً وموثقاً للتطورات التي تجري على الأرض، لم يعد بالإمكان تنفيذه من جنيف بل من دمشق.
إذ في 6 آذار، رشحت أخبار عن وقوع مجازر بحق مدنيين خلال اشتباكات حدثت بين فلول مسلحة تابعة للنظام السابق ومجموعات عسكرية تابعة للسلطات الانتقالية في مدينتي اللاذقية وطرطوس على الساحل السوري. ووفقًا للتقارير، قُتل أكثر من ألف مدني خلال أربعة أيام، بعضهم قضى في إعدامات ميدانية نفذت بحق عائلات بأكملها. وفي ظل التحول الأخير الذي شهدته الديناميات السياسية بين الولايات المتحدة وروسيا، عقد مجلس الأمن جلسة طارئة مغلقة للتشاور بناء على طلب قدمته كل من روسيا والولايات المتحدة في 10 آذار، ثم أصدر كل من الرئيس الأميركي والروسي بيانه الخطي بشأن تلك الأحداث بعد مرور أيام على تلك الجلسة.
ولكن لم يتضح حتى الآن إن كانت الديناميات الجديدة التي قامت بين دولتين عضوين في مجلس الأمن ظلتا تتناحران في السابق على الملف السوري، ستتمخض عن نتيجة بناءة أكثر من تلك التي ظهرت خلال السنوات الأربع عشرة الماضية.
أما الآن، فقد فات أوان الاعتراف بأن جهود الوساطة السياسية التي ترأستها الأمم المتحدة طوال عقد من الزمان والمساعي التي بذلها مكتب المبعوث الخاص إلى سوريا لم تكن مجدية ولهذا لابد من إلغاء كل ذلك مع تأسيس منصة جديدة لتتولى مهمة الوساطة، ويمكن لمجلس الأمن أن يصادق على تلك المنصة. ومع ذلك، فإن وجود دور للأمم المتحدة في سوريا خلال هذه المرحلة الانتقالية الحرجة لايزال ضرورياً، حيث سيكون للفريق الأممي العامل في سوريا دور كبير ومهم وذلك من خلال وكالاته الإنسانية والتنموية، وذلك لأن متطلبات إعادة الإعمار في سوريا هائلة، وكذلك الأمر بالنسبة لقدرة الأمم المتحدة وتاريخها مع النجاح في هذا المضمار.
المصدر: PassBlue
تلفزيون سوريا