الأحداث التي جرت في الساحل السوريالإعلان الدستوري لسوريا 2025التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدةدوافع وكواليس الاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 أذار 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

—————————

سورية أمام استحقاق العدالة وبناء الثقة/ طارق عزيزة

22 مارس 2025

مضت مائة يوم على هروب بشّار الأسد وانهيار نظامه، تسارعت فيها الأحداث في سورية، سياسياً ودبلوماسياً وأمنياً، واتخذت الإدارة الجديدة إجراءاتٍ، غلب على بعضها التسرّع والارتجال. من ذلك، تشكيل حكومة مؤقّتة عنوانها حكومة الإنقاذ، التي كانت تعمل في إدلب، وانعقاد “مؤتمر النصر”، الذي ضمّ ممثّلين عن معظم الفصائل المسلّحة، وأُعلن فيه تكليف أحمد الشرع رئاسة الجمهورية للمرحلة الانتقالية، ثمّ مؤتمر الحوار الوطني، وتوقيع اتفاق يقضي بدمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في مؤسّسات الدولة، وصولاً إلى إصدار الإعلان الدستوري، وما أثاره من جدل سياسي وحقوقي، بين مؤيّدٍ ومعارض. وفي الوقت نفسه، حظيت الإدارة الجديدة بقبول واسع، عربياً ودولياً، فاستقبلت وفود دول عديدة على أعلى مستوى، وقامت بزيارات رسمية إلى عواصم مهمّة في المنطقة والعالم.

ولكن التطوّر الأشد خطراً كان على الصعيد الأمني، عندما نفّذ مسلّحون موالون للنظام البائد هجمات منسّقةً ضدّ عناصر الأمن العام في مناطق الساحل السوري، أودت بحياة مئات، تلتها جرائم وانتهاكات واسعة النطاق على أساس طائفي، راح ضحيّتها مئات المدنيين السوريين العلويين بأيدي “فصائل غير منضبطة”، وفق وصف السلطات، لم يتورّع عناصرها عن تصوير الفظائع التي ارتكبوها، في مناطق وأحياء متفرّقة من مدن اللاذقية وجبلة وبانياس وطرطوس وأريافها. أدّى ذلك إلى إعلان الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، تشكيل لجنتَين مستقلّتَين، الأولى لتقصّي الحقائق ومعرفة المتورّطين لمحاسبتهم، والثانية مهمّتها الحفاظ على السلم الأهلي وتعزيزه.

أكّدت الأحداث الماضية خطورة تراخي السلطة الجديدة في موضوع العدالة الانتقالية، على الرغم من المطالبات والدعوات المستمرّة، على المستوى الشعبي، ومن جهات حقوقية سورية ودولية مختلفة، فمنذ الأيّام الأولى لسقوط النظام، طغت العشوائية والفوضى على كيفية التعامل مع السجون وفروع المخابرات والمقابر الجماعية، ومن ثمّ ملفّ المعتقلين والمخفيين قسراً. وسواء كان ذلك ناجماً عن قلّة خبرة وسوء تدبير، أم نتيجة ترتيباتٍ جرت مع قادة الأجهزة الأمنية لدخول دمشق من دون قتال، فجر 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، أدّى ذلك إلى عبث بمسارح جرائم مرتكبة بحقّ المعتقلين، وفقدان وثائق وأدلّة ربّما تساعد في كشف مصير آلاف المفقودين، فضلاً عن إدانة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات، حتى بدا وكأنّ المسألة برمّتها ليست من أولويات الحكومة. وهي لم تتعاون مع المراكز والمنظّمات الحقوقية السورية والدولية، التي عملت سنوات في إعداد ملفّات قضائية بحقّ ضبّاط متورّطين في جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية في سورية، فتُلقي القبض على من تشملهم ملفّات الاتهام الموثقة بالأدلّة، وتحتجزهم على ذمّة التحقيق، أو في الحدّ الأدنى تضعهم تحت الإقامة الجبرية، للحيلولة دون فرارهم كما فعل سيّدهم المجرم. لذا استطاع كثيرون منهم الفرار، وأجرى آخرون “تسوية” مثل أيّ جندي بسيط كان يؤدّي خدمته الإلزامية أو الاحتياطية في جيش النظام السابق.

يُرجّح أنه كان من شأن اتخاذ خطوات عملية جدّية في ملفّ العدالة الانتقالية خفض حدّة الاحتقان وشعور المظلومية لدى فئات عريضة من الشعب السوري، نالها ما نالها من جرائم نظام الأسد، لكنّها لم تجد بعد “التحرير” أدنى اهتمام بملاحقة كبار ضبّاطه في الجيش والأجهزة الأمنية والمليشيات الرديفة، لمحاسبتهم. وهكذا، جاءت حالة الفوضى الأمنية التي تسبّبت بها المجموعات المسلّحة الموالية للرئيس المخلوع، التي ينتمي أفرادها إلى الطائفة العلوية، ليجدها كثيرون فرصةً لتفريغ الأحقاد، وإرضاء نوازع الثأر والانتقام.

أضرّت تلك التطوّرات، إلى حدّ كبير، بالصورة التي حاولت الإدارة الجديدة تقديمها، في الخارج والداخل، طوال الأشهر الماضية، من خلال خطاب التسامح، والحديث عن “عقلية الدولة”، والسلم الأهلي، وما إلى ذلك من مقولات لا تنسجم مطلقاً مع الوقائع التي استجدت أخيراً. فأيّ معنىً لحلّ الفصائل وضمها إلى وزارة الدفاع، ما دام بعضها يواصل التصرّف عصاباتٍ إجراميةً، تقتل وتنهب مواطنين مدنيين، على أسس طائفية؟ وهل تملك السلطة ما يكفي من القوة والإرادة، لفرض هيبتها على هذه الفصائل، ومحاسبة المتورّطين في الجرائم الطائفية، وبينهم من وثّق أفعاله الشنيعة بنفسه؟… هذا ما ستكشف عنه الأسابيع المقبلة.

كانت الإدارة الجديدة مطالبةً بمسار عدالة انتقالية، ينصف الضحايا ويقتصّ من مجرمي النظام المخلوع، فإذا بها اليوم أمام تحدٍّ إضافي، فرضته فصائلُ محسوبةٌ عليها، لإثبات التزامها بالعدالة وسيادة القانون، وتأكيد قدرتها على حماية مواطنيها من دون تمييز. وضمن هذه المعطيات، لن يكون من السهل عليها الحفاظ على ثقة الداخل والخارج على السواء، ما لم تنجح في بسط الأمن وتحقيق الاستقرار، وهو ما لن يكون التوصّل إليه يسيراً في غياب العدالة والمحاسبة الجادّة.

العربي الجديد

————————–

الثورة السورية وفتنة المنهج القتالي/ رفيق عبد السلام

22 مارس 2025

إثر تمكّن الثوار السوريين من دخول دمشق، واضطرار بشّار الأسد الى ركوب طائرة روسية محمّلة بما خفّ وثقل وزنه من مال ومتاع عام، لاحت بهجة النصر في سورية وعموم المحيط العربي الأوسع، وتجدّد معها الحلم في استئناف مسار التغيير الذي افتتحته ثورات الربيع العربي المُجهَضة بشراسة الثورات المضادّة، وبقدر ما جدّدت الثورة السورية الأمل في دحر الديكتاتوريات المُستعصِية، فقد خلّفت المرارة والارتباك للأنظمة العربية، وللأحزمة السياسية والأيديولوجية المحيطة بها.

على أن المشهد يبدو حتى الآن عادياً، إذ من المعهود في مثل هذه الحالة أن نجد رابحين وخاسرين، محبّين وكارهين، مستبشرين ويائسين، ولا غرو أن تتناقض المشاعر والانطباعات، ويستنبط كلّ طرف تبعاً لذلك استنتاجاته من وحي هذه الهزّات السياسية الكُبرى، ولكن ما هو غير عادي هو الاستسلام لسرديات مصنوعة على المقاس، وكأنّها بديهيات راسخة لا تقبل التشكيك ولا التعقيب. فبعض الخلاصات التي تولّدت من الحدث السوري، وقبله من الثورات العربية، قد تكون صائبةً، وبعضها إن لم يكن خاطئاً ممّا يلتبس فيه الحقّ بالباطل، والحقيقة بالوهم، من ذلك ما استخلصه معسكر الاستبداد العربي من وحي الارتداد على الثورات العربية، وهو أنه ما أهلك قبلهم من الحكام العرب المطاحين، إلا تهاونهم في مواجهة خصومهم، وقطع دابرهم بلا شفقة. وعليه، الواجب إحكام القبضة الأمنية على الشارع، وسدّ كل باب يمكن أن تتسرّب منه رياح التغيير المفاجئة، أي الإجهاز على الخطر في المهد، وهذه هي الوصفة السحرية التي لم تنفكّ تشتغل وفقها الأنظمة التي جاءت أو جيء بها على أنقاض الربيع العربي، من عبد الفتاح السيسي وخليفة حفتر وقيس سعيّد، ومن على شاكلتهم في العواصم العربية. وفي الجهة المقابلة (وهذا ما يعنينا)، تشكّلت استنتاجات مشوّهة وبنيت قياسات فاسدة من وحي الثورة السورية، وجرت على الألسنة والأقلام في العالم العربي مشرقاً ومغرباً، بل تحوّلت إلى ما يشبه البديهيات اليقينية، ومن ذلك أن سبيل التغيير الوحيد المتاح في العالم العربي يمرّ ضرورةً عبر قوّة السلاح والحسم العسكري، ودليل ذلك أن من تقدّموا للحكم بعد ثورات الربيع العربي أطيحوا وزجّوا في السجون، بسبب سلميّتهم “الزائدة”، وتبنّيهم تسويات ديمقراطية لا تصمد أمام الرصاص، وهكذا تدحرج الإسلاميون المسالمون في مصر واليمن وتونس والمغرب، وصمدت طالبان في أفغانستان، وجبهة تحرير الشام وحلفاؤها في سورية.

ما يُخشى اليوم في أجواء حرارة الحدث السوري الميل إلى استنساخ نموذج نمطي من دون اعتبار السياقات وخصوصيات الأوضاع والأحوال، وقد سبق لفلاديمير لينين أن نبّه، بعد الثورة البلشفية في روسيا، في عشرينيّات القرن الماضي، إلى أنه بعد كلّ ثورة ناجحة تتوارد عشرات الثورات الفاشلة، بسبب آفة التكرار والاجترار من دون أخذ الشروط السياسية والاجتماعية بالاعتبار. ما يتجاهله هؤلاء، ومن دون تفصيل قول هنا في الحالة الأفغانية (تختلف شكلاً ومضموناً وجغرافياً عن الحالة العربية، لأنها بكلّ بساطة تدخل في باب حركات التحرير أكثر ممّا تدخل في صنف حركات التغيير) أن الثورات بمثابة سجلّ كبير لا يقرأ من مقدّماته وفواتحه، بل من فصوله الأخيرة وخواتمه، بمعنى أنه لا يمكن الحكم على أيّ ثورة نجاحاً أو فشلاً عند ميلادها أو في أشهرها الأولى، بل بمسارها اللاحق، وما عساها تتمخّض عنه من تغيير على صعيد البنيان السياسي والاجتماعي والثقافي العام، وهذا ما يميّزها من الانتفاضة العابرة، ومن التمرّد العسكري الخاطف، وبما أن الثورات تُعدّ ظاهرةً مركّبةً ومتعرّجةً من المدّ والجزر، والصعود والنزول، وخليطاً من النجاح والتعثّر، فإنها تحتاج بعض الوقت حتى يحكم عليها الباحثون والخبراء والمراقبون نجاحاً أو فشلاً، وفق ميزان عام يبتعد عن ثنائية الأبيض والأسود.

لا ننسى أن الثورة السورية عند انطلاقها لم تختلف نوعياً عن سابقاتها من الثورات العربية، فقد بدأت سلميةً مدنيةً، ولكن عنف نظام الأسد وبراميله المتفجّرة دفعها دفعاً نحو رفع السلاح، وقد كان ينظر إليها قبل أشهر قليلة فقط بأنها انتفاضة فاشلة ومجهضة، جلبت على الناس قدراً غير قليلٍ من العنت والدماء والخراب العمراني، إلا أن مشهد دخول الثوار إلى حلب، ثمّ حمص، وتتويج ذلك بدخول دمشق، قد جبّ سرديةَ “الثورة الفاشلة والمُغامِرة”، ورسّخ بدلاً من ذلك نموذج الثورة المظفرة. ومع آمالنا المعلّقة على الثورة السورية وتمنّياتنا لها بالنجاح وبلوغ المرام، إلا أن ذلك لا يجعلنا نهوّن من حجم المخاطر التي واجهتها وستواجهها في مقبل الشهور، وربّما السنوات المقبلة، بسبب تحدّيات المحيط الإقليمي والدولي، من جهة، ثمّ بسبب طابعها العسكري، الذي اضطرت إلى اللجوء إليه في مواجهة نظام القمع. وقد كان تمرّد الأسابيع الماضية في الساحل السوري، ومن قبله معضلة انتشار السلاح بأيدي مجموعات عرقية وطائفية طامحة للانفصال، مجرّد عيّنة لصعوبة التحوّل وما عساه يواجهها في المستقبل القريب والمتوسّط. الثورات بطبعها هي خروج عن المألوف ونأي عن الوتيرة العادية للزمن السياسي، ولذلك لا تخلو في حالاتها كلّها من هزّات ومنغّصات، وثورة من دون هذه التعسّر تظلّ مسكونةً بروح ثورة مضادّة يمكن أن تنقضّ عليها في أيّ وقت وحين. نقول هذا، ليس لأننا من محبّي القلاقل والزوابع، بل لأن قانون الاجتماع السياسي ينبئ بذلك، وهو في محصلته النهائية لا يخضع لرغباتنا وأهوائنا الذاتية. نعم، التغيير بالسلاح قد تلجأ أليه بعض الثورات، كما جرى الأمر في الحالة السورية ومن قبلها الليبية، ولكنّه ليس بالضرورة النموذج المُحبَّذ، ولا هو الأمثل والأفضل، بل هو بمثابة الضرورة التي تقدّر بقدرها، لما يحمله في طيّاته من مخاطر ومنزلقات، ليس أقلّها صعوبةً التحكّم في موارد السلاح وأدوات القوة بعد سقوط النظام، بما يفتح الباب أمام تفجّر صراعات مسلّحة وعنف، وعنفٍ مضادٍّ، وتعطيل قيام سلطة مركزية شرعية قادرة على بسط السيادة والأمن في التراب الوطني.

ولم يكن ابن خلدون مخطئاً حينما ضيّق مبدأ الخروج المسلّح، وحوّطه بتنبيهاتٍ كثيرةٍ ومحاذير عظيمة، من موقع خبرته العملية بأحوال المُلك وبعقله التاريخي الثاقب، بل زاد على ذلك الدعوة إلى التشدّد في العقوبة على من يحملون السلاح استناداً إلى مثاليات أخلاقية، ورفضاً للظلم، من دون تقدير عواقب الأمور وموازين القوى، فيجنون على أنفسهم وعلى من حولهم شروراً أعظم من التي نهضوا لدرئها، بقوله “فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف، رجاءً في الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويعرّضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون مأزورين غير مأجورين”. الحقيقة الصلبة تقول، إن بوابات التغيير كلّها تبدو موصدةً إلى حدّ كبير في العالم العربي، المنكوب بديكتاتوريات بالغة الشراسة وتدخلات خارجية ثقيلة الوطأة، فالذين راهنوا على التغيير بصناديق الاقتراع أزاحتهم الدبّابات، والذين غيّروا بالانقلابات تم الانقلاب عليهم، والذين أقدموا على رفع السلاح في وجه الدولة ما جلبوا إلا الكوارث. أمّا من راهنوا على ثورات سلمية فقد اصطدموا بجدار الثورات المضادّة المسلّحة، ومن نهجوا خيار الشراكة والتوافق في الحكم جرفتهم قوة الدولة العميقة القاهرة، فلم يكونوا أفضل حالاً ممّن انفردوا بالحكم، وكأنّ الحركة السياسية العربية تبدو هنا أشبه ما يكون بما سمّاه المعتزلة “حركة اعتماد” لا “حركة نقلة”، أي حركة المراوحة في نفس المكان، هذا ان لم تكن الأمور تسير باتجاه مزيد من التراجع والانتكاس. وهذا يعني أن الجانب الإرادي عند الفاعلين السياسيين والاجتماعيين على أهميته من فطنة وتعقّل وذكاء، لا يعصم من التعثّر والانكسار، لأنه بكلّ بساطة لا يشكّل سوى عنصر من بين عناصرَ كثيرةٍ في مشهد سياسي محكوم بموازين قوى صلبة قاهرة، فقد يكون أداؤك السياسي على أحسن وجه، ولكنّك تسقط وتتعثّر ليس لأخطاء كبيرة أو صغيرة، بل لأنك تواجه معادلةً لا قبل لك بها، من سلطويات عاتية، وتدخّلات دولية وإقليمية شرسة.

بات من الواضح أن التغيير في هذه الرقعة من العالم يبدو بالغ الصعوبة والتعقيد، وهي الحقيقة العصيّة التي واجهت من قبل قوى التحرير الوطني، مثلما واجهت التيّارات السياسية على اختلاف عناوينها من اليساريين والقوميين والإسلاميين، والإصلاحيين والثوريين والمهادنين والمتمرّدين، والمتدينين والعلمانيين، بما لا يمكن قياسه إلى أيّ مكان آخر، ليس لأن العرب قد خلقهم الله من طينة خاصّة، ولكن لأن للرقعة العربية خصوصياتها وتعقيداتها، ويعود بعض هذه التعقيدات إلى هشاشة الدولة ذاتها لتكوينها الجيني المشوّه، الذي لا ينتج إلا القمع والعنف، وبعضها يعود إلى صعود تأثير النفط وثقل المصالح الخارجية والتدخّلات الأجنبية المتقاطعة مع دولة احتلال شرسة يُراد لها أن تكون قطب الرحى، الذي تدور حوله المنطقة. ولكن هل يدعونا هذا إلى اليأس من التغيير والكفّ عن مناولة المستبدّين والمنقلبين؟… الجواب بكلّ بساطة بالنفي، لأن موت الأمل يعني الركون إلى الفناء والعدم، خاصّة أنه لا توجد حتميات ونهائيات قاطعة في عالم السياسة المتقلّب، فضعيف اليوم قد يكون قويَّ الغدِ، والعكس صحيح.

ولكن القدر الواضح عند كاتب هذه السطور (حتى الآن) أن على من يريد التغيير في هذه الرقعة من العالم أن يجذّف ضدّ رياح عاتية وقوى بالغة الشراسة، وتحمّل مشاقَّ كبيرة من السجون والمنافي والعذابات والإحباطات، وهذا يفرض بالضرورة خياراتٍ ومسالكَ عابرةً لحدود الدولة القُطرية، التي قبرت كثيراً من أحلامنا وأوهامنا، فقدر هذه الرقعة من العالم، وإن بدت شديدة التشرذم والانقسام، ألا تقوم لها قائمة إلا بالوحدة والتقارب، وهي في ذلك أمام مصيرين لا ثالث لهما، فإمّا خلاصٌ جماعيٌّ في ظلّ شكل من أشكال التضامن العربي أو غرق جماعي في متاهات الفشل والإحباط.

العربي الجديد

———————————–

موسم الدبلوماسية السورية/ فاطمة ياسين

23 مارس 2025

هذه الزيارة الثانية لوزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إلى سورية. صافحت الوزيرة هذه المرّة كل من مدّ يده، وأظهرت نشاطاً سياسياً وإغاثياً بمقابلة مع مندوبين من الساحل السوري الذي كان مسرحاً لموجة عنفٍ راح ضحيتها كثيرون، استمعت خلالها لشهود ممن عاينوا الواقعة، وزارت حيّاً قرب دمشق، وشاهدت عينة من دمارٍ تعرضت له سورية في ظل الرئيس الهارب، ثم أعادت فتح سفارة بلدها المغلقة منذ العام 2012، ومن هناك، تحدّثت عن حرصها على هذه السفارة التي بدت، كما تعكس الصورة، مكاناً مليئاً بالغبار وغير صالح للعمل، فأصرت على وجود عددٍ، وإن كان قليلاً، من أفراد البعثة لتبعث فيها الحياة. وهذه رسالة نوعية إلى قيادة الرئيس أحمد الشرع بأن دولاً أوروبية مستعدّة لاحتضانه، وهذه السفارة الصغيرة إشارة واضحة إلى ذلك، وخاصة لما لألمانيا من شأن مركزي في أوروبا، وإمكانية أدائها دور الوسيط في كثير من نزاعات الشرق الأوسط، ووجود ممثليّة لها في دمشق، مطمئنة لتبقى قريبة من الداخل، بما يؤهلها لتعرف ما يجري بالتفصيل.

وجود وزيرة الخارجية الألمانية في دمشق مرّتين، وقبلها زميلتها وزيرة التعاون الاقتصادي، دليلٌ على نشاط الدبلوماسية السورية بقيادة أسعد الشيباني في الأيام المائة الأولى من تسلم السلطة الجديدة، فقد كان حاضراً قبلها في مؤتمر بروكسل للمانحين، وهو الحضور الأول لممثل حكومي سوري، فقد غاب أي ممثل للنظام خلال التجمعات الثمانية السابقة، وهي خطوة جيدة، تمكّن الشيباني فيها من تقديم سورية الدبلوماسية مجدّداً أمام تجمّع مهتم بها من دول الجوار ودول كبرى أو ذات تأثير إقليمي. وخلال اجتماع بروكسل، التقى الشيباني بممثلي دول مشاركة بوصفه وزيراً للخارجية. ويعد هذا الإجراء، ولو أنه يقتصر على مجرّد اللقاء، تعزيزاً لوجود سورية الدبلوماسي في التجمّعات الدولية الكبرى، وعودة اسمها إلى التداول في أروقة السياسة، وهو الوضع الطبيعي بعد غياب 14 عاماً. والمهم هنا أن التمثيل يأتي بدعم وحماس شعبيين، بعكس حالة النظام السابق الذي فرض نفسه بقوة جهازه الأمني والعسكري.

الجهد الدبلوماسي لسورية في الفترة المقبلة، وهي السنوات الخمس التي أقرّت في الإعلان الدستوري المصادَق عليه قبل أيام، في منتهى الأهمية. وإذا كانت وزارة الخارجية في أيد واعدة، فهناك أذرع دبلوماسية لا تقلّ أهمية عنها، وهي السفارات السورية في الخارج، والوجوه التي ستمثل السياسة السورية الجديدة. ومعروف أن معظم تلك السفارات ما زالت مسجّلة باسم النظام السابق، السفراء وطاقم السفارة بالكامل، وكانت هذه المكاتب الخارجية أعشاشاً لتمرير دعاية النظام وتسويق سياسته القمعية في الداخل، ومن المفترض أن تجرى غربلة متأنيّة لجميع هذه السفارات، وخاصة في الدول الكبرى أو المعنية بالملف السوري، وإعادة هيكلتها بما يليق بسياسة جديدة منفتحة على التعاون مع الخارج والاحترام المتبادل كما يجدر بدولة عصرية، وتجاوز حكم العصابة.

الشأن الخارجي أساسي في حالة سورية التي ما زالت خاضعة لعقوبات عديدة ورثتها من زمن الهارب، مطبقة على مفاصل الاقتصاد الرئيسية، وإذا استمر تطبيقها، فليس من الممكن تجاوز الأزمة على الإطلاق، فمن شأن هذه العقوبات أن تشلّ تقدّم الدولة وتمنعها من ممارسة أي شأن اقتصادي. لذلك، إصلاح العلاقات مع كل الدول الفاعلة على الساحة السورية ضرورة أخرى تُناط بالفريق الخارجي، فقد أحدث نظام الأسد خللاً كبيراً في العلاقات الدولية، ما جعل الشارع الدبلوماسي السوري فارغاً تماماً، وخلت شوارع دمشق من السفارات الدولية، والخطّة التي تسير بها حكومة الشرع حالياً واعدة، وينتظرها حصاد أفضل. ومن المهم اعتماد معايير صحيحة عند تشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة المنتظر الإعلان عنها بعد التوافق على برلمان المائة عضو، وخلال هذه الفترة، من المفترض أن يستمر النشاط الدبلوماسي كالمعتاد، والعمل على استقدام سفارات أوروبية أخرى وغير أوروبية.

العربي الجديد

——————————-

«القدس العربي» تفتح ملف العدالة الانتقالية في سوريا: آليات وتحديات تضميد الجراح

تحديث 23 أذار 2025

تتعدد الملفات والتحديات التي تواجه الحكومة السورية المؤقتة، وأكثرها إلحاحاً العمل على تحقيق الوئام المجتمعي، وتمهيد الطريق لإنجاز المصالحة المجتمعية لتضميد الجروح الاجتماعية، والذي لا يمكن الوصول إليه إلا بتحقيق العدالة الانتقالية.

في سياق التحول السياسي الجذري الذي شهدته سوريا عقب سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، تأتي أهمية العدالة الانتقالية كونها أول خطوة على طريق التعافي المبكر في الأوطان، بعد تعرضها اجتماعيا ووطنيا لمحنة دموية بين بعض مكونات الشعب أو من السلطة ضد بعض المكونات، وهي مهمة لتبيان حقيقة انتهاكات، وإثباتها بأدلة قاطعة، والاعتراف بمعاناة الضحايا وآلامهم، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات قانونياً، ورد الحقوق وجبر الضرر، والتعويض عن المظالم ووضع قوانين تمنع حدوث المظالم والانتهاكات في المستقبل كخطوة أساسية نحو بناء مستقبل مستدام لسوريا، وإصلاح الأنظمة القانونية والسياسية والمؤسسات الّتي تحكم المجتمع، وبخاصة الجيش والأمن والشرطة، فضلا عن أنها الطريق لإنجاز المصالحة المجتمعية.

من هنا، قال عضو لجنة السلم الأهلي في الساحل السوري، الدكتور أنس عيروط، إن الحكومة السورية باشرت في تشكيل هيئة مختصة بالعدالة الانتقالية خلال الأيام السابقة.

وأضاف في لقاء عبر منصة «زووم» مع «القدس العربي»: «هيئة العدالة الانتقالية سيعلن عنها قريبا، وستكون مكلفة بالتحقيق ومتابعة الانتهاكات وتجريم كل من تلطخت يداه بالدماء السورية، سواء كان خلال الأحداث الأخيرة التي شهدها الساحل السوري، أو الانتهاكات التي ارتكبت سابقا خلال حقبة نظام الأسد».

وتعتبر «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» إنشاء الهيئة خطوة أولى نحو الانتقال السياسي التعددي، لضمان عملية تحول منظمة وشاملة، تمهد الطريق نحو استقرار مؤسسي حقيقي. وتؤكد على أهمية الاستفادة من تجارب دولية سابقة في إدارة المراحل الانتقالية، خاصة تلك التي قامت على مبادئ التمثيل العادل، والشرعية السياسية، والفعالية المؤسسية.

«القدس العربي» استطلعت آراء سياسي ومفكر وقاض وحقوقي، حول هذا الملف المهم.

اعتبر السياسي السوري البارز جورج صبرا أن العدالة الانتقالية خطوة هامة وضرورية على طريق التعافي المبكر في الأوطان، بعد تعرضها لمحنة دموية تترك ندوباً وجراحاً بليغة، تتطلب المعالجة.

وتنبع أهميتها حسب ما قال صبرا لـ«القدس العربي»: من كونها المسار الإلزامي لمعالجة الجراح الاجتماعية والوطنية تحقيقاً للمصالحة الوطنية والسلم الأهلي الحقيقي والدائم.

وتابع: تبدأ إجراءات العدالة الانتقالية ومسارها بإنشاء هيئة للعدالة الانتقالية تتولى تنفيذ برنامج للعدل والإنصاف، يرد المظالم إلى أهلها، ويجبر الضرر للضحايا، ويعمل على محاسبة المرتكبين عبر جسم قضائي قانوني مختص. وهذا يتطلب وجود «مجلس القضاء الأعلى» و «المحكمة الدستورية العليا» ليتم عبر هذا الجسم القضائي تحديد مدى شرعية ودستورية الإجراءات التي يتخذها ويقوم بها الحاكم والمحكوم.

وإزاء التحديات أمام تطبيقها في سوريا، قال صبرا: أهم التحديات أمام تطبيقها هو عدم استقلالية الهيئة والجهة القضائية المختصة بتنفيذ برنامج العدالة الانتقالية، والتأثير على قراراتها وإجراءاتها، التي تقتضي توفر المصداقية والنزاهة والشجاعة وعدم المحاباة، لمنع قيام أي أعمال انتقامية أو سياسات عزل أو عقاب جماعي.

وأهم المعايير لسلامة التطبيق «هي المرجعية القانونية المستقلة عبر القضاء وفق الأصول. وكما كان الارتكاب والإجرام فردياً تكون المحاسبة فردية أيضاً. وأن يكون العفو من حقوق الضحايا وصلاحياتهم فقط. وأن تشمل ملفات العدالة الانتقالية ملف المعتقلين والمفقودين، وتشكل لجنة خاصة لمتابعة هذا الملف».

قال المفكر السوري وأستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون، في العاصمة الفرنسية باريس، برهان غليون لـ «القدس العربي» إن العدالة تعني في الحالة الطبيعية للمجتمعات، تطبيق القانون بالعدل والنزاهة باعتباره تنظيما للحقوق انبثق عن سلطة شرعية تمثل الشعب. أما العدالة الانتقالية فهي مفهوم للعدالة النوعية خاص بمراحل استثنائية تمر فيها المجتمعات تتعرض فيها لهزات خطيرة وجماعية مثل الحروب الأهلية أو سياسات القمع السياسي التي يمارس فيها العنف الجماعي، وتحصل فيها انتهاكات كبيرة لحقوق الانسان يصبح فيها التطبيق العادي أو التقليدي للقانون غير كاف لتحرير المجتمع من مشاعر الانتقام ووضع حد نهائي للنزاعات وإطلاق دورة الحياة الطبيعية من جديد.

وأضاف: يحصل أثناء الحروب والحروب الأهلية بشكل خاص أن يشارك آلاف، وربما ملايين الأفراد المتحاربين في انتهاك حقوق الانسان، وسيكون من المستحيل تقديم جميع المشاركين إلى المحاكم العادية والتحقيق في ما ارتكبه كل جندي أو مقاتل من الجرائم أو الأخطاء، مما يستدعي تحديد دائرة المحاسبة في فئة محدودة تتحمل مسؤولية الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت. ويصبح من الضروري البحث عن وسائل أخرى لرد الحقوق والتعويض عن المظالم بالنسبة لقسم كبير من الضحايا. التغاضي عن محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات مهما كان حجمها «يهدر حقوقا فردية وجماعية أساسية، ويقضي على معنى المسؤولية، ويدمر بالتالي أسس النظام الجديد قبل أن يظهر» وفق غليون الذي أضاف: «المحاسبة وإظهار الحقيقة عن الارتكابات المختلفة يشكلان شرطا أيضا لتحقيق العدالة ولإطلاق الحياة الطبيعية وتشجيع التفاهم ووقف دوامة الانتقام المتبادل بين الأطراف المتنازعة».

ولا بد في هذه الحالة، حسب المفكر السوري، من استخدام آليات ووسائل أخرى إلى جانب المحاكمات الجنائية للأشخاص المسؤولين عن ارتكاب الجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مثل إنشاء لجان الحقيقة والمصالحة المستقلة لتقصي الحقائق حول الانتهاكات الماضية، وتقديم التعويضات المادية والمعنوية لضحايا الانتهاكات وأسرهم، من النساء اللواتي تعرضن للعنف والاغتصاب والأطفال المعاقين والمشردين والذين فقدوا أسرهم وعائلاتهم، وأسر الشهداء والذين شردوا عن ديارهم، بما في ذلك الرعاية الطبية، والدعم النفسي، وإعادة التأهيل، وإعادة هيكلة المؤسسات الحكومية والأمنية لضمان عدم تكرار الانتهاكات، وإصلاح القوانين والتشريعات وإلغاء القوانين التي تتعارض مع العدالة والإنصاف، وتعزيز الوعي العام بحقوق الإنسان، وإحياء الذكرى، وإنشاء المتاحف التذكارية لبناء الذاكرة وتخليد ذكرى الضحايا وضمان عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل.

وزاد: سنحتاج في سوريا بالتأكيد لورشات عمل كثيرة ولسنوات طويلة حتى ننجح في تصريف هذا الكم الفائض والهائل من العنف ونعود بالمجتمعات المنكوبة الى وضعها الطبيعي، وإعادة بناء الثقة المجتمعية، ومن وراء ذلك إعادة إطلاق عجلة الحياة بما فيها من استثمار في العقل والعمل، وفي سبيل العودة الى حياة صحية قانونية وسياسية واجتماعية تكفل الأمن والسلام والحياة الكريمة والسعادة للجميع. العدالة الانتقالية، طبقا لغليون، وسيلة أساسية لمساعدة المجتمعات التي انخرطت في حروب أهلية على الخروج من مناخ الحرب بإعادة الحقوق للضحايا منهم وتمكين المخطئين من الاعتراف بخطئهم والاعتذار عنه، ومن ثم إعادة التواصل بين الجماعات التي تقطعت علاقاتها وفقدت الثقة بعضها ببعض وتحولت الى أعداء بسبب الخلاف والنزاع والاقتتال، ومن ثم إطلاق دورة الحياة من جديد وما تستدعيه من تعايش وتعاون وتفاهم بدلا من الاستمرار في دورات الانتقام والانتقام المضاد والحرب الدائمة. ويمكن أن نعرفها بأنها الوسيلة القانونية والسياسية والاخلاقية الرئيسية لمساعدة المجتمعات على الخروج من حقبة الصراع الماضية والانتقال من مناخها ومنطقها الانتقامي والدموي إلى مناخ ومنطق التصالح والسلام. وأخطر ما يمكن أن يهددها ويعطل مسارها هو أن تتحول هي ذاتها إلى أداة للانتقام وتصفية الحسابات الماضية بدلا من العمل على إغلاقها.

المستشار في محكمة النقض السورية القاضي حسين حمادة، لخص من وجهة نظر قانونية مفهوم العدالة الانتقالية بأنها «مجموعة من الآليات والتدابير القضائية وغير القضائية تستخدم لمعالجة آثار انتهاكات حقوق الإنسان في الدول الخارجة من صراعات طويلة».

وأضاف لـ «القدس العربي» أن العدالة الانتقالية تهدف إلى إرساء سيادة القانون وتعزيز المصالحة المجتمعية لتحقيق شعور عام بالعدالة كضمانة للسلام المستدام وحفظ السلم الأهلي، وتعتمد على مبادئ رئيسية، وهي المساءلة: محاسبة مرتكبي هذه الجرائم أمام جهة قضائية مشكلة بطريقة قانونية، وجبر الضرر أي تعويض الضحايا ماديًا ومعنويًا، والإصلاح المؤسسي بمعنى إصلاح المنظومة القانونية والمؤسساتية وفي مقدمتها السلطة القضائية، والكشف عن الحقيقة، وتسليط الضوء على الحقائق لتشكيل فهم جماعي للأحداث، مما يخفف من النقمة المجتمعية. وحول مبررات العدالة الانتقالية، قال إنها تتعلق بمعالجة جرائم جسيمة غير قابلة للتقادم أو النسيان أو الكتم لذا ستظل المطالبة بالمحاسبة وبالحقوق قائمة ولو بعد أجيال.

وتفاقم الرغبة لدى غالبية الشعب في التغيير السياسي والانعتاق من الاستبداد وتحقيق الاستقرار وهذا لا يتحقق إلا بتطبيق مبدأ العدالة والمحاسبة لأركان ورموز النظام الذين يمنعون هذا التغيير، والرغبة البالغة في تقصي تاريخ الجرائم التي كانت تمارس في بداية نشوء النظام لأنها قضايا متعلقة بالمسؤولية، والمفقودين، والمعتقلين والتعويضات. والحد من عودة القمع الذي يشكل جوهر المطالبة بالعدالة الانتقالية.

وتابع: بسبب الحجم الكبير للانتهاكات المرتكبة في سوريا وتعقيد النزاع، فإن العدالة الانتقالية في سوريا ستواجه العديد من الصعوبات التي يمكن التغلب عليها بتوفير الارادة الجادة لدى القيادة الحالية وإيمانها بأن العدالة الانتقالية هي المدخل الموضوعي لاستقرار البلاد، واقتناعها بأن تأخير تطبيق العدالة الانتقالية يمكن أن يؤدي إلى تفاقم ظواهر سلبية منها الانتقام والكراهية بين فرقاء الشعب السوري وانتشار الفوضى، الأمر الذي سينعكس سلباً على المجتمع والقيادة معا.

ودعا القيادة الحالية الى العمل بالسرعة القصوى للبدء بتطبيق مبدأ العدالة الانتقالية والقيام بعدة إجراءات، بينها إحداث دوائر قضائية وطنية متخصصة بملاحقة مرتكبي الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري، ثم تسهيل عودة القضاة المنشقين إلى جسم السلطة القضائية والاستفادة منهم من خلال تعيينهم في الدوائر القضائية المتخصصة بملاحقة مرتكبي تلك الجرائم.

كذلك تطبيق قانون السلطة القضائية السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 98 في عام 1961، وقانون اصول المحاكمات الجزائية السوري رقم 112 الصادر في عام 1950وقانون البينات السوري رقم 30 الصادر في عام 1952.

وأشار أيضا إلى ضرورة تعديل قانون العقوبات السوري رقم 148 الصادر في عام 1949 بحيث تضاف إليه الجرائم المنصوص عليها في المواد 5 – 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الصادر في عام 1998.

كما لفت إلى ضرورة،\ إنشاء هيئة وطنية لتوثيق الجرائم من جميع الأطراف مع ضمان الشفافية وإشراك عائلات الشهداء وأصوات الضحايا وتأسيس صندوق مالي خاص لتعويض الضحايا وأسرهم، ودعم برامج التأهيل النفسي والاجتماعي للمتضررين، وتطهير المؤسسات الأمنية والعسكرية من العناصر المتورطة، ووضع ضمانات قانونية لمنع عودة القمع، وتنظيم حوارات وطنية تجمع مختلف الأطراف لبناء هوية وطنية مشتركة وتعزيز قيم التعايش.

وأوضح حمادة أن «العدالة الانتقالية ليست مجرد وسيلة لمحاسبة الماضي، بل خطوة أساسية نحو بناء مستقبل مستدام لسوريا، يعتمد نجاحها على دعم المجتمع الدولي والتزام السوريين ببناء دولة قائمة على الحقوق والمساواة، وتؤدي إلى كسر دوّامة العنف والجرائم الوحشية، واستعادة سيادة القانون والثقة في المؤسسات، وبناء مجتمعات قوية وقادرة على وأد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان قبل وقوعها ومنع النزاعات في المستقبل، وتجنب تكرار الانتهاكات الجسيمة وتمكين السلام الدائم والعدالة والحقيقة والمصالحة».

تحدث المحامي البارز والناشط في مجال حقوق الإنسان، ميشال شماس لـ «القدس العربي» عن العدالة الانتقالية وما تمثلها من أهمية قصوى في سوريا بالنطر إلى حجم المآسي والضحايا والجرائم التي ارتكبت من قبل نظام الأسد الإجرامي.

وقال: العدالة الانتقالية تشير إلى مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي قام بتطبيقها بعض الدول التي حدثت فيها انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان، وهي ليست نموذجا واحدا أو طريقا واحدا فلكل بلد ظروفه.

تابع: في ظل تطبيق مسار العدالة الانتقالية سوف يتم إنشاء هيئات قضائية كاستحداث محاكم خاصة لمحاكمة مرتكبي الانتهاكات، وأيضا إنشاء هيئات غير قضائية على شكل لجان متعددة، منها على سبيل المثال لجان كشف الحقيقة، أي كشف حقيقة الانتهاكات التي حدثت وماهي أسبابها ووضع سياسات لعدم تكرارها، وتشكيل لجان لتعويض الضحايا وجبر الضرر كأن يتم منحهم مدفوعات نقدية وتقديم خدمات صحية وطبية لهم، والاعتراف بمعاناتهم وتكريم الضحايا وتخليد ذكراهم وإقامة نصب تذكارية لهم لتكون عبرة للأجيال القادمة حتى لا تتكرر هذه المأساة مرة أخرى، وتشكيل لجان الإصلاح مهمتها إصلاح الأنظمة القانونية والسياسية والمؤسسات التي تحكم المجتمع وبحاصة الجيش والأمن والشرطة وتحويلها من مؤسسات قمعية الى مؤسسات تخدم المجتمع والناس، وتشكيل لجان الكشف عن المفقودين، المختفين والمختفيات قسرًا.

وحول التحديات أمام تطبيق كل ما ذكر، قال شماس: مما لا شك فيه أن تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا لن يكون سهلا وسيأخذ سنوات، نظرا لحجم الجرائم والانتهاكات المهولة التي ارتكبت قبل النظام البائد وأيضا من قبل أطراف اخرى على امتداد الأراضي السورية.

وأشار إلى صعوبات وتحديات، تأتي في مقدمها البينة القانونية التي تحتاج إلى تعديلات، فقانون العقوبات السوري على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الابادة، وبالتالي لا يمكن محاكمة المجرمين على هذا النوع من الجرائم، ممكن محاكمته على جريمة قتل عادية، وهذا تبخيس كثير لنوع الجريمة، وللضحايا. والمطلوب اليوم وقبل أن يبدأ مسار العدالة الانتقالية هو إصدار مرسوم تشريعي أو قانون يقضي بدمج المواد القانونية الخاصة بجرائم الحرب وجرائم الإبادة وجرائم ضد الإنسانية الواردة في ميثاق روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية لتصبح جزءا من قانون العقوبات.

وتطرق شماس إلى الحديث عن القضاء السوري «فهو قديم، فاسد ومتهالك وغير فعال، ويحتاج إلى إعادة هيكلة، لذلك من الأفضل هنا إنشاء محاكم خاصة على أساس العدالة الانتقالية وتدريب القضاة وتزويد هذه المحاكم بقضاة أجانب، وذلك حتى نضمن الحيادية والعدالة في المحاكمات».

تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا، وفق شماس، يتطلب أولاً «سلوك نهج متوازن يجمع بين المساءلة، والتعويض، والمصالحة والإصلاح».

وزاد: «تحقيق العدالة والإنصاف للضحايا سيمنع من حدوث عمليات انتقام، ويفتح طريقاً امام تحقيق مصالحة وطنية على مستوى المناطق وعلى مستوى سوريا، ويساعد على تجاوز إرث الماضي الثقيل من الانتهاكات. وإعادة بناء سوريا على أسس جديدة من الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وسيادة القانون والدستور».

القدس العربي

————————————

لبنان بين منطقتَين عازلتَين/ توفيق شومان

22 مارس 2025

لا يبدو المشهد اللبناني بجزئه الجنوبي باعثاً على تفاؤلٍ يدفع نحو التزام حكومة الاحتلال الإسرائيلي بوقف اعتداءاتها شبه اليومية، جنوباً وبقاعاً، فيما المشهد في نصفه الثاني، عند الحدود مع سورية، يبدو مختزناً عوامل اضطرابٍ عديدة تخبو في حين وتنفجر بعد حين آخر، تماماً مثلما جرت عليه الأحوال الدامية في الأسبوع الماضي، وطوال ثلاثة أيام متعاقبة.

في الجنوب، لم يعد من “أسرار الآلهة” القول إن انسحاباً إسرائيلياً من الأراضي اللبنانية المحتلّة بات قريباً أو متوقّعاً في المدى المنظور، بل على الضدّ من ذلك، فالرسائل الإقليمية والدولية التي تأتي إلى بيروت تباعاً، لا تنطوي على أيّ مؤشّر للانسحاب، وكأنّ أغراضها تميل إلى دفع اللبنانيين إلى التكيّف مع وقائع الغارات الإسرائيلية التي لا تعرف كبحاً لجماحها، ولا وقفاً لعنان نيرانها. ما يمكن ملاحظته في الجنوب اللبناني أن الغارات الإسرائيلية راحت منذ فترة تتخذ ممّا يُعرف بـ”الخطّ الثالث” هدفاً وركيزةً لاعتداءاتها، أي في مناطق النبطية والزهراني، وهي الواقعة شمالي نهر الليطاني وبعيدة نسبياً عن الرقعة الجغرافية التي ينصّ عليها قرار مجلس الأمن 1701، المدرجة في نطاق عمليات الجيش اللبناني والقوات الدولية، الأمر الذي يجعل حركة انتقال الأفراد بين بلدات هذا الخطّ ومدنه غير آمنة ويحول دون استعادة الأهالي دورة حياتهم الطبيعية.

والأخطر من ذلك أن منازل جاهزة كان استقدمها أهالي البلدات الحدودية المدمّرة، غدت أهدافاً للغارات الإسرائيلية، وما بين التعرّض لحركة انتقال الأفراد واستهداف المنازل الجاهزة يكمن “بيت القصيد” الإسرائيلي، الذي يعني (من دون لبس وتأويل) حظر العودة إلى البلدات الجنوبية ومنع إعادة الإعمار، ويترافق ذلك مع استراتيجية إسرائيلية أمنية جديدة تقوم على ثلاثة خطوط، الثاني منها خطّ متقدّم داخل أراضي الدول العدوّة ومن ضمنها لبنان، بحسب مقالة نشرها رون بن يشاي في “معاريف” (26/2/2025).

وأمام هذه الوقائع، تطلّ الأسئلةُ الباحثةُ عن الغايات التي تعمل إسرائيل على تحقيقها، فلا يُعثَر إلا على جواب واحد مضمونه ينهض على مقايضة الانسحاب من الأراضي اللبنانية بشروط متعدّدة، يقبع في رأسها الربط بين العودة وإعادة الإعمار من جهة، وبين دوام الاحتلال أو عدمه من جهة ثانية، وكذلك بين الانسحاب وتطبيع العلاقات بين لبنان وإسرائيل. ومن هنا تأتي المواقف المتكرّرة لوزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، حول بقاء قوات الاحتلال في جنوبي لبنان، فخلال أقلّ من ثلاثة أسابيع قال كاتس مرّتَين، إن الجيش الإسرائيلي باقٍ في التلال اللبنانية الخمس وما حولها، الأولى في 27 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، والثانية في الـ14 من الشهر الحالي (مارس/ آذار). ولكن هذه المقايضات الإسرائيلية القائمة على الوعود بالانسحاب، يدرك الإسرائيليون أنها فاقدة قابلية التحقيق، لأن فرص التطبيع مع لبنان غير سانحة وليست متوفرة، ولذلك البديل منها بناء منطقة عازلة وفقاً للخطوط الثلاثة للاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، التي مرّت الإشارة إليها، وتتضمّن إقامة مواقع عسكرية متقدّمة داخل الأراضي اللبنانية، تكون متكاملةً جغرافياً وأمنياً مع المنطقة العازلة التي يقيمها الإسرائيليون في الجنوب السوري، ومتطابقة مع المنطقة نفسها التي يعمل جيش الاحتلال على إقامتها في قطاع غزّة.

ذاك في الجنوب اللبناني، أمّا في شرقي لبنان، حيث الحدود مع سورية، فمواجهات الأسبوع الماضي بين الجيش السوري الجديد والأهالي اللبنانيين، أعادت إلى الواجهة إشكالية الحدود اللبنانية السورية، وما تحمله من تعقيدات متراكمة منذ استقلال لبنان وسورية في منتصف أربعينيات القرن العشرين، فتلك الحدود التي لم يعمل الطرفان على ترسيمها أو تحديدها وتثبيتها، وكذلك هي الحدود البحرية، تحمل مرتفعاتها ومنخفضاتها وسواحلها عناصر التأزم المستمرّة منذ عقود، ولا يبدو الخروج من تعقيداتها قابلاً للحلّ القريب، إذا لم تتهيأ الإرادات الحسنة والنيات الحميدة بين الطرفَين، ولا الاستعداد الكامل للجلوس إلى مائدة المفاوضات بهدف اجتراح الحلول التي ترضي الجانبَين.

وفي حال اقتصر الحديث على المواجهات الماضية في منطقة البقاع اللبنانية المحاذية للحدود السورية، فالملاحظة التي تتقدّم سواها، تكمن في انتشار الجيشين اللبناني والسوري في مشارف بعض البلدات المتداخلة في الجغرافيَّتَين اللبنانية والسورية، أو في بعض أجزائهما، وهذا يرسم مساحةً فاصلةً بين الجيشين، وبما يماثل المنطقة العازلة التي لا يقترب نحوها هذا الطرف أو ذاك، وعلى ما أعلن قائد اللواء الأول في الفرقة 52 في الجيش السوري، عبد المنعم ضاهر، أن بيروت ودمشق اتفقتا “على انسحاب ضبّاط وجنود الجيشَين السوري واللبناني من أراضي قرية حوش السيّد علي، من دون أيّ وجود عسكري داخلها، إذ يتمركز الجانبان على أطراف البلدة”.

هل يمهّد هذا الاتفاق لمنطقة عازلة بالتراضي أو بمشروع إقليمي ـ دولي، وبصورة تتعدّى فيها المنطقة العازلة مساحة بلدة واحدة، ولتمتدّ إلى عشرات البلدات والقرى المشتركة والمتداخلة بين لبنان وسورية، وبشكل يغطّي شرقي لبناني وشماله إذا ما ذهبت إلى أقصاه، حيث تتداخل الأراضي اللبنانية بالسورية عند جبل الشيخ في جنوب شرقي لبنان، إلى البقاع شرقاً، وأخيراً، صوب الشمال في منطقة عكّار وغيرها؟… هذا السؤال موضع نقاش واسع ومتوتّر في بيروت، وقد ارتفعت وتيرته بعد الصدامات أخيراً بين الجيش السوري الجديد والأهالي اللبنانيين، إذ لا يذهب تقدير موقف واحد إلى عدم توقّع استئناف الصدامات لأيّ سبب كان، وهذه القناعة متأتية من خطورة المرحلة التي يمرّ بها لبنان وسورية، فكلاهما في طور انتقالي حافل بالتشنجات والاضطراب، وما يرفد هذا النقاش بعناصر متوتّرة إضافية، أن الصدامات الأخيرة ليست الأولى، وإنما هي حلقة في سلسلة عرفتها عدة نقاط في طول الحدود اللبنانية ـ السورية، وفي مناطق بيئتها الاجتماعية مختلفة عن البيئة التي تشكّلت فيها أخيراً ميادين الأحداث، ممّا يضيف إلى المشهد عنصر انعدام الثقة، وهذا بحد ذاته فتيل قابل للاشتعال عند أيّ ظن وافتراض وتخمين، وذلك كلّه يؤدّي إلى إعادة طرح السؤال: هل يجري التحضير لإقامة منطقة عازلة بين لبنان وسورية وفي أيّ مساحة تكون؟

في بيروت، لا إجابةَ قاطعةً حول هذا السؤال، الذي يتموضع في صلب كلّ تحليل يتناول مستقبل العلاقات السورية ـ اللبنانية، وعلى هامش ما يجري، تأتي إشارات من دمشق، لم ترقَ (حتى الآن) إلى مستوى الطرح الرسمي، تفيد عن تصوّر سوري أولي لمنطقة عازلة، قد يأخذ طريقه إلى التبلور أو يوضع في دُرج الإهمال والنسيان إذا أعيد تعبيد طريق بيروت ـ الشام على أسس جديدة لم تحدّد دمشق معاييرها بعد. وفي المقابل، ليست في بيروت خريطة طريق واضحة تتبين منه معالم العلاقة الجديدة مع دمشق الجديدة. وبين غياب المعايير وغموض المعالم، يرتفع الحديث المرتاب في المنطقة العازلة… والله أعلم.

العربي الجديد

—————————-

لماذا قررت طهران إيقاظ جواسيسها في تركيا؟/ سمير صالحة

2025.03.22

فيما كان السفير الإيراني في أنقرة محمد حسن حبيب الله زاده يحمّل إسرائيل مسؤولية ما يجري في سوريا والإقليم، كان جهاز الاستخبارات التركي “ميت ” يضع اللمسات الأخيرة على ملف تسليم خلية تجسس إيرانية إلى القضاء التركي بتهمة التجسس وجمع معلومات عن قواعد عسكرية ومناطق حساسة داخل تركيا وخارجها ونقلها إلى مشغليهم في استخبارات الحرس الثوري الإيراني.

نفذ جهاز الاستخبارات التركي قبل أيام وبالتنسيق مع الأجهزة الأمنية حملة مطاردة واعتقال لخلية تجسس إيرانية مؤلفة من 5 أشخاص تنشط على خط إسطنبول – مرسين – أنطاليا بمهمة جمع معلومات عسكرية وسياسية حول مراكز التصنيع الحربي التركي وأماكن وجودها.

لا بد هنا من العودة بالذاكرة إلى الوراء والهجوم الذي استهدف في تشرين الأول 2024 مقر الشركة التركية لصناعات الطيران والفضاء “توساش” الواقع قرب العاصمة أنقرة الذي أودى بحياة 5 أشخاص، والحديث عن وجود أصابع دولة خارجية على طريقة تبادل الخدمات، في تحريك مجموعة “حزب العمال الكردستاني ” التي أعلنت مسؤوليتها عن هذا الاعتداء.

لا معلومات تفصيلية بعد حول نتائج التحقيقات لكن هناك أكثر من تقرير استخباراتي وأمني تركي يتحدث عن استعدادات إيرانية مكثفة لتفعيل خلايا ناشطة ونائمة إلى جانب محاولة زيادة عدد الشبكات المحلية التي تجندها للعمل لصالحها في الداخل التركي. لذلك فاحتمال توسيع أنقرة لرقعة عمليات المطاردة كبير جدا، بحسب المعلومات المسربة حول نشاطات الخلية والأدوات المستخدمة والأشخاص الذين يتم تجنديهم وتواصلهم المباشر مع قيادات جهاز استخبارات الحرس الثوري الإيراني.

المؤشرات التي تؤكد ذلك لا تعود فقط إلى حملات المطاردة والتوقيف التي ينفذها جهاز الاستخبارات التركي ضد هذه الخلايا ومجموعات التجسس الإيرانية في الأعوام الأربعة الأخيرة والتي تجاوز عدد المعتقلين فيها 40 شخصا تمت عمليات رصدهم وتوقيفهم في العديد من المدن التركية. بل إلى اتساع رقعة التباعد التركي الإيراني في ملفات ثنائية وإقليمية عديدة في الأعوام الأخيرة تقود القيادة الإيرانية للذهاب وراء خطوات بهذا الاتجاه.

 هناك:

– تدهور العلاقات التركية الإيرانية في الإقليم حيال ملفات سياسية وأمنية وتجارية بطابع استراتيجي.

– تراجع النفوذ الإيراني في سوريا وتحميل أنقرة بالتنسيق مع “هيئة تحرير الشام” المسؤولية الأساسية على ذلك.

– التقارب التركي العربي والتركي الغربي وزيادة التنسيق في ملفات سياسية وعسكرية تقلق طهران.

– الصعود العسكري والسياسي التركي خصوصا في مجالات التصنيع الحربي.

– توقيت عملية توقيف عملاء إيران قبل أيام والذي لا يمكن فصله عن انفجار الأحداث الأخيرة في الساحل السوري حيث الكثافة السكانية العلوية وردة الفعل في الداخل التركي من قبل بعض قيادات المعارضة التي تريد لعب هذه الورقة لكسب دعم الجناح العلوي في المدن التركية، والذي حذر بعضهم من أنه يخدم أهداف إيران لزعزعة الاستقرار في تركيا وسوريا. وهكذا تكون إيران قد أضافت البعد السوري الجديد إلى أسباب تفعيل تحرك أجهزة استخباراتها في الداخل التركي منذ سنوات والذي كان يركز على:

 – جمع المعلومات حول النشاطات العسكرية والاقتصادية والأمنية في تركيا.

– مطاردة النشاطات الإسرائيلية وجمع المعلومات حول الأقلية اليهودية في المدن التركية ومحاولة اغتيال رجال الأعمال الأتراك من أصل يهودي كما حدث في شباط 2022 بعد عملية فاشلة خطط لها ضد يائير غللر الصناعي المتخصص في قطاع التكنولوجيا المتطورة وأجهزة التصنيع العسكري انتقاما لمقتل أحد أبرز المشاركين في برامج إيران النووية محسن فخري زاده.

– رصد تحركات مجموعات المعارضة الإيرانية وكوادرها التي طلبت اللجوء إلى تركيا ومحاولة اختطافهم وإعادتهم إلى طهران كما حدث في منتصف كانون الأول 2020 عندما كشف جهاز الاستخبارات التركية عن خلية تجسس تعمل لصالح إيران نجحت في اختطاف أحد رموز المعارضة الإيرانية خلال زيارة له إلى تركيا.

– متابعة نشاطات المجموعات الكردية الإيرانية الهاربة إلى تركيا.

حاولت أجهزة الاستخبارات الإيرانية والإسرائيلية أكثر من مرة نقل المواجهة إلى الساحة التركية رغم جهود جهاز الميت التركي قطع الطريق على عمليات من هذا النوع. لكن هدف إيران هذه المرة وكما يبدو هو محاولة اختراق الداخل التركي نفسه وحيث تكثر الأنباء التي تتحدث عن احتمال اتساع المواجهة التركية الإيرانية.

قناعة كثير من الأتراك اليوم أنه لا يمكن الفصل بين نشاط جهاز الاستخبارات الإيراني المكثف في الآونة الأخيرة فوق الأراضي التركية وبين العديد من التطورات السياسية والاستراتيجية الإقليمية:

– إيران منزعجة من التحول الحاصل في سياسة تركيا الإقليمية وانفتاحها الجديد على العواصم العربية وتدرك أن ذلك سيضر بمصالحها وحساباتها الإقليمية في المنطقة، ويعرقل أكثر من مشروع استراتيجي إيراني في مسائل خطوط التجارة وحركة البضائع.

– وهي تعتبر أنّ سياسة تركيا الجديدة في ملفّات الطاقة عبر مناطق البحر الأسود وشرق المتوسط والقوقاز، تتجاهل النفوذ والمصالح الإيرانية الاستراتيجية على أكثر من خطّ في تلك المناطق بينها قطع الطريق على حلم الوصول إلى السواحل السورية.

– وإيران أيضا تريد عرقلة خطط ومشاريع أنقرة في تفعيل برامج البحث عن مصادر طاقة جديدة بينها اكتشافات حوض البحر الأسود والجهود التركية لصناعة تفاهمات ترسيم الحدود المائية في شرق المتوسط، وكلها ستنعكس سلبا على إيران وحساباتها ومصالحها في المنطقة.

هناك جهود إيرانية تبذل بشكل مكثف لتصفية الحسابات مع أنقرة التي نجحت في إضعاف وتراجع النفوذ الإيراني في الإقليم وعلى أكثر من خط مواجهة تركية إيرانية بطابع سياسي وأمني واقتصادي. وهناك تحسب تركي واستعدادات لسيناريوهات الرد الإيراني ضد المصالح التركية في الداخل والخارج

تلفزيون سوريا

—————————

الجمهورية السورية الثالثة وصعوبات الوصول إليها/ أحمد جاسم الحسين

2025.03.22

تمشي سوريا هذه الأيام، مع كثير من المنغصات، إلى مرحلة جديدة من تاريخها الحديث الذي تجاوز القرن، خارجة من مرحلة دمار سياسي واجتماعي وعمراني، نحو آفاق، لا أحد يستطيع أن يتنبأ بمساراتها، كونها تعطي دلالات مختلفة ومتضاربة أحياناً.

الأحداث التي مرت بها سوريا في العقد ونصف الأخيريْن جعلت منها ملعباً لمباريات دولية كثيرة: كانت فيها الكرة أحياناً، واللاعب الاحتياط، والحكم الاحتياط، وانتبَهوا إليها في الوقت الضائع غير مرة، وسددوا عليها عدداً من ضربات الجزاء، ولجؤوا إلى تقنية “الفار” للتأكد من تحقيق الأهداف.

جزء من الرغبة في اللعب على أرضها يعود إلى موقعها الجيوسياسي وصراعات اللاعبين التي تبحث عن أرض معركة، مما اقتضى تدخلاً إقليمياً ودولياً دائماً.

يحاول عدد من المهتمين في تحقيب التاريخ السوري المعاصر النظر إليه من جهة نظام الحكم وآلياته وطرائقه، متخذين من التسمية الرسمية مدخلاً لذلك، مقسمين تاريخها إلى ثلاث حقب، متصارعة= متكاملة، لأن كل حقبة شهدت إرهاصات ولادة الحقبة اللاحقة.

يرى كثيرون أن الجمهورية السورية الأولى بدأت منذ إقرار دستور عام 1936 حتى مرحلة استلام حزب البعث العربي الاشتراكي الحكم عام 1963. وإن كان هناك فريق يرى أن البداية الفعلية لهذه المرحلة هي عام الاستقلال، في حين يرى آخرون أن التحقق الأولي هو أيام المملكة السورية العربية، على صعوبة الحديث عن ملامح جمهورية في ظل وجود مستعمر أجنبي، إضافة إلى ما مرت به من تحولات انقلابية ووحدة مع مصر غيبتْ التسمية لتصبح جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة، شهدت هذه المرحلة نكبة فلسطين وعدداً من الانقلابات وكتابة أكثر من دستور.

أما الجمهورية الثانية فهناك من يرى أنها بدأت عبر انقلاب 1963 وسيطرة حزب البعث وضباطه على السلطة، وقد شهدت ثلاث خطوات: الخطوة الأولى هي مرحلة اللجنة العسكرية أو لنقل مرحلة صلاح جديد والجناح الماركسي في الحزب بخطوتيها قبل عام 1966 وبعده و امتدت من عام 1963 إلى انقلاب حافظ الأسد نهاية عام 1970، وقد شهدت نكسة حزيران ومجيء عدد من الرؤساء.

ثم خطوة حافظ الأسد التي امتدت إلى وفاته عام 2000 وأخيراً خطوة بشار الأسد حيث تمّ تسليمه الحكم بموافقة دولية وانقسمت إلى مسار عادي حتى عام 2011 ثم مسار تدميري إلى أن رحل نهاية عام 2024. وقد عُرفت هذه المرحلة بمرحلة استقرار الخوف والرعب وسطوة السلطة.

صفات الجمهوريتيْن السوريتين السابقتين، بما أنهما من الماضي، باتت موجودة في الكتب أو الأشخاص الذين عايشوها بجوانبهما المختلفة: نظام الحكم، الرؤساء، الدساتير، البرلمان، القضاء، الاقتصاد، التعليم، دور العسكر، الصحافة، السياقات الإقليمية والعربية والدولية، المشكلات، الحسنات، الإيجابيات، والأثر.

أما الجمهورية الثالثة السورية الثالثة فهي التي تبدأ هذه الأيام بقيادة الرئيس أحمد الشرع بعد ثورة دامت نحو أربعة عشر عاماً، فقد شاءت ظروف عدة بأن يكون حامل شارة النصر هو الجناح السلفي، على الرغم من محاولة أجنحة أخرى تحقيق النصر لكنها لم تنجح.

الحديث عن جمهورية يعني الحديث عن نظام حكم، والمرجع في ذلك أدبيات العلوم السياسية، وهناك أعراف قانونية تشكل عماد النظام الجمهوري.

السوريون عامة لا يثقون بالتسميات السياسية، لديهم ما يشبه القناعة الراسخة التي صنعتها التجارب أن المصطلحات قد لا تعبر عن الواقع الذي عاشوه. وأبرز ما أفقدهم الثقة بكل المصطلحات السياسية ودلالاتها هو حافظ الأسد وابنه، فقد قدما نفسهما للعالم أنهما يقودان نظاماً علمانياً بمظاهر ديمقراطية، حيث لديه مجلس شعب ووزارات ومحاكم وصحافة وسواها من مظاهر، (العالم يغمض عينيه عن وحشية مخابرات الأسديْن) ثم بعد انتصار الثورة رأى العالم بعينيه المجازر والمقابر الجماعية، والمكابس البشرية.

ينشغل السوريون في المنتديات والمقاهي والحياة العامة والخاصة،  وكذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي بالشكل المتوقع للجمهورية السورية الثالثة، وهل يمكن تخمين ذلك في ضوء المئة يوم التي مرت على استلام السلطة الجديدة للحكم؟

وتخطر في بالهم أسئلة كثيرة: معظم الكتلة الصلبة في السلطة الجديدة هم من خارج العمل الوظيفي والإداري الحكومي، فهل يمكن البدء بأجهزة الدولة من الصفر، أم أن الأفضل اسئتناف العمل من حيث انتهى السابقون؟ خاصة أن الرئيس الشرع حلّ أبرز المؤسسات الرئيسية متمثلة بمجلس الشعب والأحزاب والجيش نتيجة لشعوره أنه لا أمل بإصلاحها مستنداً على الشرعية الثورية.

والرئيس ذاته قادم من خارج مؤسسات الدولة، فهو لم يتوظف فيها، ولم يشغل موقعاً أو ينتمي إلى حزب من أحزابها، ولم يجرب فسادها ودولتها العميقة ومداخها ومخارجها: رجل قادم من عالم الجهادية والحلم، وقد استطاع تحقيق حلمه ضمن معطيات إقليمية ودولية تمكن من الإفادة منها في اللحظة المناسبة.

ما هو الحيز الذي يتوفر بين يدي القيادة الحالية كي تمشي إلى الأمام، وقد استلمت بلداً “على الحديدة” ومعظم مواطنيه تحت خط الفقر، وتحيط به دول طامعة به، ويعيش تشرذماً في المطالب من شرقه وجنوبه!

هل هناك إمكانية لتحقيق جمهورية سورية ثالثة وهل يوجد إرادة سياسية داخلية وظروف موضوعية؟ وما متطلباتها؟ أم أنها يمكن في أي لحظة أن تنتكس أو تتراجع أو تتكسر؟

ما هي ملامح الجمهورية التي يسعى إليها الرئيس وفريقه؟ وكذلك مناصروه ومعارضوه؟

من الواضح أن هناك مساحات اشتباك كبيرة كون ثلاث محافظات وأكثر لا تزال خارج سيطرة الحكومة المركزية، فالسويداء متمثلة بالشيخ الهجري رفضت الإعلان الدستوري بشكل صريح، وقسد كذلك لديها رؤيتها لشكل الدولة السورية رغم توقيعها اتفاقاً إطارياً مع السلطة المركزية، وما تريده الدول الأخرى، كذلك وجهات سورية كثيرة معارضة أو موالية، فأيُّ شكل للجمهورية سيكون: خلطة من كل ذلك؟.

حدد الإعلان الدستوري ومؤتمر الحوار الوطني كثيراً من ملامح الجمهورية الثالثة وفقاً لرؤية الرئيس وفريقه بناء على استمزاج رأي مؤيديه وعدد كبير من معارضيه. وبقيت أصوات سورية عدة تغرد في مسارات خاصة بها وتتحدث عن شكل سياسي وإداري متخيل، يبدو أنه من الصعب تحقيقه.

يمكن التنبؤ بكثير من سمات الجمهورية الثالثة، لكنها بالتأكيد ستكون بنكهة سُنية، معتمدة على فرق عمل تبدأ العمل السياسي والإداري أول مرة في حياتها.

تصدر تنبؤات كثيرة من محللين ومتابعين وعينهم على التجربتين السعودية والتركية، من دون الانتباه إلى أن البلد يخرج من حرب وموارده صفرية حالياً، مما يجعل تلك التجربتين بعيدتي المنال، رغم الأحلام السورية الكبيرة. التي هي أكبر من قدرات البلد وظروفه، حيث تتناوشه الدول المجاورة وموارده صفر، ولديه شروخ اجتماعية تحتاج إلى سنوات كثيرة حتى الوصول إلى مرحلة النقاهة وليس الشفاء!

عشرات أعناق الزجاجات تنتظر سوريا، وتحتاج إلى كثير من الحكمة والظروف المساعدة حتى تمر منها ولا تتحول إلى دولة فاشلة. عربياً وإقليمياً هناك فريقان: منهم من لا يريد نجاح التجربة، على الأقل نتيجة للخلفية الدينية للحكام الجدد. ومنهم من يريد نجاحها كونها كسرت امتداد إيران ومدخلاً للاستثمار وإعادة الإعمار.

دولياً: أكثر من يريد نجاح التجربة هي معظم دول أوربا كي تغلق ملف اللجوء السوري الذي غدا عبئاً ثقيلاً عليها.

كيف ستستطيع القيادة الجديدة المشي على حقل الألغام هذا من دون أن تنفجر فتدمرها؟

إشارات إقصائية كثيرة يلمحها متابعون، وأسئلة تكبر كل يوم: لماذا لا تتم الإفادة من الخبراء السوريين الذين ينتشرون في العالم وعدد كبير منهم يريد تقديم خبرته بشكل تطوعي!

متشائمون يعتقدون أنه من الصعب أن تمشي الجمهورية السورية الثالثة إلى الأمام لأن الظروف المحيطة والداخلية كلها ليست مساعدة على  المسير، بل ستكون بلداً معاقاً لفترة طويلة، مسترشدين بتجارب أخرى!

الجانب القانوني والعلاقات مع الدول ليسا العاملين الوحيدين اللذين يؤشران إلى بداية الجمهورية الثالثة.

رؤية الجمهورية؟ وشكلها وأهدافها القريبة والبعيدة ما هي؟ اقتصادياً، واجتماعياً وفكرياً وتربوياً وثقافياً! فالدول عادة ما تضع استراتجيات لكل مرحلة يصوغها خبراء وسياسيون ثم تعرض على الشعب على شكل دستور أو قوانين أو رؤيا سياسية.

 ورؤية الدولة وفقاً لتجارب عدة، هي ليست سابقة على حراك الشعب، بل تصاغ أولاً بأول، لذلك فإن كل موقف يتخذ الآن أو معارضة أو مناقشة أو حراك أو كتابة، أو جهد إعلامي، قد يكون له أثر إيجابي في رسم استراتيجيات الدولة وصياغة سردية الجمهورية السورية الثالثة.

نجد سوريين كثيرين لا يزالون يتعاملون مع العبور نحو الجمهورية السورية الثالثة بطريقة: “يا لعيبة… يا خريبة” مع أنهم ينضوون تحت أحزاب أو تيارات أو أسماء لامعة. مركزين على عثرات التجربة الجديدة! ولا يتوانون عن التصريح ليل نهار أنهم يتمنون خراب التجربة، على ألا تنجح تحت إطار سلطة ذات جذور جهادية. دافعهم الرئيس: أنهم لا يردون لقناعاتهم أن تنكسر، وقد تناسوا أن معظم الشعب السوري محافظٌ ومرحّب، وليس لديه مشكلة كبيرة مع حكم بمرجعية دينية، إنْ استطاعت العبور إلى قوانين إنسانية!

سوريون متحمسون للجمهورية الثالثة يقولون: كل حسابات الواقع كانت تقول بعدم إمكانية انتصار الثورة السورية، لكنها انتصرت! وتاريخ الشعوب يشهد دائماً على أن الولادات والتحولات قاسية وصعبة، لكنها ستأتي رغم العذابات المنتظرة!

تلفزيون سوريا

———————————-

 التحديات التي تواجه سوريا والحلول المطروحة/ حسن الشاغل

2025.03.22

تواجه الإدارة السورية الحالية بعد سقوط النظام البائد العديد من المخاطر، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. هذه المخاطر قد تشغل وتستهلك موارد الدولة، وتؤخر عملية الاستقرار والوصول إلى التنمية والرفاه، وتضعف مؤسسات الدولة.

وتتناول هذه المقالة صيغة تمكن الدولة السورية من استغلال مواردها بطريقة تنهض بالبلاد و تؤمنها تدريجياً، وتصل بها للاستقرار والتنمية الاقتصادية المستدامة.

في البداية لابد من استعراض أبرز التحديات التي تواجه الحكومة الحالية.

عدم الاستقرار الأمني الداخلي

بعد انهيار النظام البائد، انحلت جميع الأجهزة الأمنية والشرطية في البلاد، وتطلب من الإدارة الجديدة أن تعيد بناء المؤسسة الأمنية بشكل كامل. وهذه العملية تتطلب وقتا،  حتى يتم تهيئة العناصر لتكون قادرة على التعامل مع أي حوادث أو ثغرات أمنية قد تعصف بالبلاد، لاسيما أن فلول النظام البائد مازالت تتواجد في العديد من مناطق البلاد. وتحاول هذه المجموعات بين فترة وأخرى ضرب القوات الأمنية الحكومية. ومن الممكن أن تشهد الدولة في الوقت الحالي نقص في القوات الأمنية التي يمكن أن تغطي البلاد بشكل كامل، مما قد يشجع بعض الأطراف لإثارة البلبلة داخل البلاد.

التهديد بالتقسيم الجغرافي أو الفدرالية

مازالت النزاعات بين الأطراف المتناحرة في سوريا موجودة، ولم تبسط بعد الحكومة في دمشق سيطرتها على كامل الأراضي السورية. فقسد مازالت تتحكم بمنطقة شرق الفرات التي تتواجد فيها غالبية احتياطيات النفط السوري، إضافة للمياه، ومناطق زراعية شاسعة، على الرغم من توقيع اتفاق بين الرئيس الشرع ومظلوم عبدي، لكن لم يتم حل المعضلة بشكل كامل، حيث لم يتم الاتفاق بين الطرفين على كيفية إدارة الموارد الاقتصادية، ومازالت الملفات الخلافية عالقة.

علاوة على قسد، لم تنضم القوات العسكرية الموجودة في محافظة السويداء لحكومة دمشق، ورفض زعيم الموحدين الدروز حكمت الهجري الإعلان الدستوري الذي صدق عليه رئيس الجمهورية.

أزمة اقتصادية

بعد سقوط نظام بشار الأسد، دخل الاقتصاد السوري في وضع حرج للغاية، حيث يواجه تحديات كبيرة تحتاج إلى حلول عاجلة لضمان استقرار البلاد ومنع الانهيار الاقتصادي. فالنظام النقدي للبلاد غير مستقر، والبنك المركزي مازال تأثيره محدود في سوق الصرف، وغير قادر على ضبط السوق. فضلاً عن ضعف الخدمات الأساسية (الكهرباء والمياه، والخدمات البلدية ).

ووفقًا لتقرير صادر عن فريق “منسقو الاستجابة” السوري في تاريخ يناير 2025، الذي أجرى إحصائية للدمار الحاصل في سوريا عبر أدوات استقصائية متنوعة. وخلص التقرير إلى تضرر 161 منشأة صحية، وتهدم 892 مدرسة، وتخريب 4626 كيلومترًا من الطرق، وتدمير 51 جسراً. و 511 فرناً، 66 برج اتصالات، و 72 محطة مياه.  وأفاد التقرير بتضرر شبكات الصرف الصحي بطول 7393 كيلومترًا.

وبحسب تقرير نشرته منصة الطاقة المتخصصة، تضرر ما يزيد عن 50% من البنية التحتية للمنظومة الكهربائية، بما في ذلك 59 محطة تحويل. وقدرت كلفة الأضرار المباشرة لقطاع الكهرباء في سوريا  40 مليار دولار.  وبحسب تقرير منشور على موقع الجزيرة نت تعرّض قطاع الطاقة في سوريا لأضرار جسيمة، وإلى انهيار شبه كامل للبنية التحتية للطاقة، وتراجع الإنتاج من 380 ألف برميل يوميا إلى 40 ألف برميل تقريبا.

كما تعرّضت الموانئ السورية، وخاصة ميناء اللاذقية، لأضرار مادية كبيرة نتيجة لهجمات إسرائيلية متكررة في شهر ديسمبر 2021، مما أدى إلى نشوب حرائق وأضرار مادية جسيمة. وتعد البنية التحتية التي تشمل قطاع الكهرباء والطاقة والمياه والطرق، والمنشآت الصحية، علاوة على القطاع الصناعي والذي يعول عليه لانتشال الاقتصاد السوري، القطاعات الأكثر إلحاحاً لإعادة الإعمار والبناء عبر أدوات متنوعة.

تحديات إعادة الإعمار

بلغت كلفة إعادة الإعمار في سوريا 400 مليار دولار أميركي، وفقاً لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة. ويعيق تقدم ملف إعادة الإعمار في سوريا، استمرار العقوبات الدولية المفروضة على الدولة السورية، وارتباط التمويل بوجود شروط وطلبات معلنة قدمتها الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي للحكومة السورية الجديدة، وأهمها، تشكيل حكومة تشارك فيها جميع مكونات المجتمع السوري، وتمثيل ووضع المرأة في المجتمع والدولة، وتطبيق الحكومة لسلوك يضمن الاستقرار الأمني الداخلي والإقليمي.

وتؤخر البدء في عملية إعادة الإعمار له انعكاسات سلبية على الوضع الاقتصادي والمعيشي للبلاد، ويؤخر من عودة اللاجئين من دول اللجوء، ويصعب من الوصول إلى الاستقرار الداخلي.

ومن غير المعلوم متى ممكن أن تعلق العقوبات أو ترفع عن سوريا، وقد تبقى ورقة ضغط بيد الأميركيين على الدولة السورية لفترة قد تمتد لسنوات.

الحلول المطروحة

أمام الحكومة السورية تحديات أمنية واقتصادية في المقام الأول، وهذه التحديات نابعة من استمرار العقوبات الدولية على البلاد، وضبط الأمن.

إدراكاً من ذلك لابد من الدولة السورية أن تتجه للاعتماد على الموارد الداخلية في سبيل تحقيق التنمية ولو بحدها الأدنى على المدى القصير، وتحقيق نمو على المدى المتوسط والطويل.

يبدأ الحل في سوريا عبر العمل على مستويين متوازيين، أمني واقتصادي. حيث من الممكن أن تنطلق الحكومة الجديدة لتحقيق الاستقرار الداخلي من المناطق الأكثر استقراراً في البلاد. وتعد المناطق الشمالية الغربية من سوريا الأكثر استقراراً ( حلب، إدلب، حماة)، ولا تحتاج هذه المدن لجهود لوجستية كبيرة لضمان الأمن والاستقرار.

عند التحرير هربت كل فلول النظام من حلب وحماة إلى المدن الساحلية أو للعاصمة دمشق، ومن جهة أخرى موقع المدن الثلاث شمالي البلاد يجعلها نوعاً ما آمنة، لأن تأمين الحدود الشمالية للبلاد في الوقت الحالي يقع على عاتق تركيا _ وهي دولة حليفة_  بدرجة أكبر من الدولة السورية. فضلاً عن وجود وانتشار قوات تركية في مناطق مثل اعزاز والباب والراعي وحتى على أطراف مدينة إدلب.

وبذلك تعد المناطق الشمالية لسوريا (حلب، إدلب، حماة) مناطق أكثر استقراراً وأمناً مقارنة بباقي المناطق مثل الساحل، والمناطق الحدودية الرخوة مع لبنان والعراق والاحتلال الاسرائيلي.

وبعد تثبيت حالة أمنية مستقرة، تعمل الدولة على تهيئة وتجهيز البنية التحتية اللازمة، وبالقدر المقبول للمحافظات الثلاثة، بما يخدم انطلاق عملية اقتصادية نشطة تحقق إيرادات للدولة وتنشط الدورة الاقتصادية للبلاد.

وعند الوصول إلى المستوى المطلوب من التنمية للمنطقة الشمالية من أمن وتنمية اقتصادية، يتم العمل على نقل التجربة إلى المناطق الأخرى من سوريا.

وبالتوازي مع التعامل مع الملف الداخلي أمنياً واقتصادياً، من المهم أن يقترن ذلك بجهود دولية لإيجاد صيغ وتفاهمات مع الأطراف الدولية الفاعلة والمؤثرة على الملف السوري. ويكون عبر تأسيس تحالفات دولية عسكرية تؤمن مستوى متقدم من الأمن القومي للبلاد، والسعي لبناء تفاهمات واتفاقيات اقتصادية مما يحسن من العمل الصناعي والزراعي داخل البلاد.

تلفزيون سوريا

—————————

14 عاما من الثورة السورية.. سقوط النظام يفتح الباب لأسئلة المستقبل/ وفاء عبيدو

2025.03.22

انطلقت أول مظاهرة في سوريا في 15 من آذار 2011، بعد امتداد الربيع العربي إلى دمشق لتدخل البلاد بحقبة الثورة التي امتدت لأكثر من 13 عامًا في سبيل التغيير السياسي وإسقاط نظام الأسد، حاملةً شعارات “الحرية” التي رددها الشعب منذ اندلاع الثورة السلمية فقابلهم النظام المخلوع بدبابات في الشوارع، وطائرات في السماء، وبقبضة أمنية ملأت السجون بالمعتقلين، وهجرت ملايين السوريين.

ومع حلول ليلة 8 من كانون الأول 2024، وفي مشهد لطالما انتظره السوريون، سقط نظام الأسد وفر بشار هاربا إلى روسيا بعد سنوات من القمع والظلم والحرب والمجازر المرتكبة بحق السوريين.

بدأت الاحتفالات تنتشر في أرجاء البلاد معلنة الفرحة الكبرى، فالثورة انتصرت وسقط الأسد وزال نظامه. وبدأ الشعب يتغنى بدخول قوات ردع العدوان إلى دمشق ورفع علم الثورة في كل ساحات المحافظات السورية، فمنهم من صدح بانتهاء الثورة متوجة بالنصر، وآخر يرى أن الثورة ما زالت مستمرة وتنتظر بقية مطالبها الذي يعد رأس هرمها سقوط النظام.

“سقوط الأسد بداية النهاية”

“الثورة أيقونة تكللت بالنصر”، هكذا تصف الناشطة روز النميري في حديثها مع موقع تلفزيون سوريا نصر الثورة وسقوط بشار الأسد مع نظامه وأعوانه. موضحةً أن هذا السقوط هو بداية انتهاء الثورة، في حين تنتهي بشكل كامل عندما تتحرر سوريا من الطائفية والفلول الداعمة للأسد والتي تحث على التخريب وزعزعة كيان سوريا الجديدة عبر مؤامرات خارجية، عدا ذلك ستعود الثورة لبداياتها إلى حين الانتهاء من الجماعات الأسدية التي لا تنتمي لطائفة إنما تتبع إلى فكر. كما تقول.

كما ترى الناشطة أن ما قدمته من تضحيات خلال الثورة لم تذهب عبثًا فهي معتقلة سابقة وأخت لمغيب قسري وآخر “شهيد”، وأن الثورة وسوريا تستحق التضحيات التي قدمها أبناؤها، وأن الأمل مرتبط بالحكومة الحالية على ألا تفرط بتضحيات ودماء الثوار الأوائل الذين طالبوا بالحرية وصرخوا ضد الظلم والاستبداد وكانوا شعلة طريق النصر.

لدى “النميري”، أمل كبير في الحكومة الجديدة التي تقف أمام تحديات عدة، وقالت “ما يقدمه الرئيس أحمد الشرع من احتواء للشعب بجميع مكوناته تحت سياسته يعطينا الأمل لنصل إلى سوريا الذي نطمح”.

كما أكدت أن المحاسبة هي مطلب مرتبط بإحقاق الثورة وأنه مطلب حق، وتابعت “نطالب بمحاسبة كل من تاجر بنا وبدماء أبنائنا وإخوتنا، وكل المجرمين والمتسلقين ولصوص الثورة قبل لصوص النظام البائد”.

تتمنى “النميري” ألا يكون الطريق طويلًا من أجل بناء سوريا الحرة بكل مكوناتها وأطيافها، والوصول إلى بلد حضاري يرتقي بكل تضحيات الشعب لأكثر من 13 عاما، فالشعب السوري بات منهكا يحتاج للتكاتف من أجل أن تكون سوريا الحضارة، ولكنها ترى أن الواقع يوضح عكس الأمنيات.

في لقاء للرئيس السوري أحمد الشرع مع تلفزيون سوريا في 14 من كانون الأول الماضي، قال إنه رغم الانتصار الذي حققته الثورة السورية، نشدد على أهمية الابتعاد عن قيادة سوريا بعقلية الثورة، وأضاف أن البلاد تحتاج إلى تأسيس دولة تقوم على القانون والمؤسسات لضمان استقرار مستدام. كما أكد على ضرورة نقل العقلية من العمل الثوري إلى بناء الدولة، معتبرا أن مستقبل سوريا يعتمد على إرساء أسس الحوكمة والعدالة.

“الثورة لم تحقق جميع أهدافها”

العميد عمار الواوي أمين سر الجيش الحر سابقا أوضح لموقع تلفزيون سوريا، أن “إعلان النصر الذي تم هو إعلان سقوط النظام وحل جميع نقاط الإجرام وأفرعه ومسالخه وحل مجلس التصفيق وحل حزب البعث البائد الذي كان يقود الدولة بممارسة عصابات مافيوية”.

وأضاف، أن الثورة تنتصر بتحقيق أهدافها وأن “سقوط النظام ومجرمه بشار هو الهدف الأول الذي تحقق، بينما تبقى الأهداف الأخرى الذي طالب بها الشعب، وأن الثورة الشعبية التي خرجت تحت شعار الحرية والعدالة والديمقراطية والمواطنة تنتظر تحقيقها، مشيرا إلى أن هناك مطالب وأهداف تحتاج وقت لتحقيقها”.

يصف العميد الفترة الحالية بأنها فترة وضع الأساسات بالنسبة له ويجب أن تكون متينة ثابتة تنبع من أهداف الثورة سواء كان مؤيدا لاستمرار الثورة أو متيقِّنا من انتهائها بالنصر.

كما يرى نقاطا مهمة وتحديات داخلية وخارجية كبيرة تواجهها الدولة اليوم، منها “أن تبسط قراراتها وقيادتها على كامل تراب الوطن من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، وهو ما تسعى لتحقيقه بواسطة التواصل السلمي والسياسي والمفاوضات بعيدا عن استخدام السلاح ضد أبناء الوطن، باستثناء فلول النظام المدعومة خارجياً والتي تهدف لزعزعة أمن البلد ونشر الفوضى والقتل والإجرام واللصوصية”.

بالإضافة إلى أهمية التواصل مع الدول والتنسيق معهم بواسطة الحصول على الاعتراف الدولي لسيادة سوريا ووحدة أراضيها وقبول الحكومة بالتعامل مع الدول كافة، وهذا يتوقف على قرارات الإدارة الجديدة التي تخدم الشعب السوري وثورته.

“الثورة السورية تغيير شامل وجذري”

يتطلع السوريون للانتقال إلى سوريا الجديدة، وتجاوز المرحلة التي تمر بها البلاد سريعا من أجل العمل على إعادة الإعمار، بينما ما تزل ملامح المرحلة الانتقالية على الصعيد السياسي والإداري بالنسبة لهم غير واضحة.

“الثورة ليست انقلاباً عسكرياً تنتهي بسقوط نظام وإحلال نظام آخر من دون تغيير جذري، إنما هي تغيير شامل وجذري للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة وخلق نظام جديد”، هكذا تصف الكاتبة والصحفية السورية سعاد جروس الثورة.

كما ترى أنه لا يمكن القول إن الثورة انتصرت بمجرد سقوط النظام المخلوع، بل إن الثورة انتهت إحدى مراحلها، والآن بدأت ثورة البناء الذي تتطلع الغالبية العظمى من السوريين إلى الانخراط فيها، ومن المفترض البدء بتأسيس مرحلة جديدة من تاريخ سوريا المعاصر، وبناء دولة جديدة على أسس وقواعد جديدة تلبي طموحات السوريين بالعيش بوطن للجميع.

ومن وجهة نظر “جروس” فإن تحديات بناء سوريا الجديدة أعمق وأخطر من تحديات الثورة على النظام البائد، وأضافت “نحن بحاجة إلى ثورة على العقل الجمعي الذي شوهته الحرب وخمسون عاما من احتكار السلطة”، مشيرةً إلى عدة تحديات منها عسكرة المجتمع وحلول قيم أفرزتها علاقات الفساد والكسب غير المشروع، مكان القيم الأصيلة المتعلقة بالنفع العام، ودور السلطة وحس المسؤولية الوطنية، وإعادة تعريف الوطنية.

وتوضح أن حلم بناء دولة جديدة للجميع يستحق التضحيات، وأن المسؤولية الكبرى لتحقيق هذا الحلم يتحمله أصحاب القرار، “فإما أن يرى سوريا والشعب السوري بعينين اثنتين، ويكون تحت مظلة خطاب وطني جامع ليكون جزءا من المرحلة القادمة، ويتم العبور بالبلاد من مستنقع الرمال المتحركة الذي خلفه الصراع مع النظام البائد، وإما أن ينظر بعين واحدة ليرى فقط ما يريد أن يراه، ويتعمق الانزلاق في المستنقع، على حد قولها”.

ترى الصحفية السورية أن الأغلبية السورية ملتفة حول الإدارة الجديدة وتتمنى لها النجاح، ولكن كي يثمر هذا الالتفاف الشعبي لابد من تفهم مخاوف أطياف وجماعات من السوريين من التغيير والعمل على تبديده وإيجاد أرضية مشتركة للحوار والعمل، مشيرةً إلى اقتراحات من قبلها إضافة إلى العديد من السوريين تتولى معالجة جميع القضايا الخلافية سواء الراهنة أو المستقبلية.

“بناء دولة ديمقراطية”

يعد سقوط نظام الأسد وانسحاب حليفه الإيراني من سوريا، لحظة تاريخية لن ينساها السوريون، بعد 54 عاما من الديكتاتورية والاستبداد.

براءة خطاب صحفية من محافظة اللاذقية وتعيش في إسطنبول، تقول لموقع تلفزيون سوريا إنه لا يمكن اعتبار سقوط النظام بحد ذاته نهاية للثورة، لأن الثورة ليست فقط إسقاط شخص أو نظام، بل تحقيق المطالب التي قامت من أجلها الثورة.

وأضافت أن التحديات ما زالت كبيرة، وأن بناء دولة ديمقراطية يعتمد على مدى استعداد الحكومة الجديدة لإدارة المرحلة الانتقالية، ومدى قدرتها على تجاوز الخلافات ووضع أسس ديمقراطية حقيقية، ثم إن هناك مخاوف كبيرة من تكرار أخطاء الماضي، وتبقى الفرصة موجودة إذا توفرت الإرادة السياسية الحقيقية.

كما أكدت براءة أن التضحيات التي قدمها الشعب خلال أكثر من 13 عاما كانت ضرورية وأن الأمل بمستقبل أفضل، هو ما يجعل الكثيرين يؤمنون بأن التضحيات لم تذهب سدى.

لا تختلف كثيرا وجهة نظر الناشط أنس عبيدو من مدينة سلمية، فهو يرى أن سقوط رأس النظام لا يعني انتهاء الثورة، التي تعد من وجهة نظره “حركة ديناميكية تقوم بها الشعوب لقلب الموازين الغير متعلقة برأس النظام فقط بل متعلقة بممارساته التي أدت لقيامها فسوريا اليوم أمام تركة بعثية وإرهاق مؤسساتي فاسد يحتاج لثورة”.

ويعتبر أن “الثورة لا تنتهي إنما يتغير شكلها بمقتضى الحاجة، أي حينما كانت بحاجة للشارع اتسمت بشكلها الشعبي ثم اتجهت للشكل المسلح وحالياً دورها تحول للمراقبة تجنباً لخلق ديكتاتور جديد محتمل نتيجة نشوة السلطة ولذة الانتصار”.

وأوضح أن جاهزية الإدارة الجديدة تعتمد على الرصد والتقييم المستمر، وإعطاء الفرص بما تقتضيه الحاجة فالواقع السوري معقد والبنية السورية متشابكة بين التماهي مع الحالة العالمية الرأسمالية والجذور الأهلية العشائرية والمللية.

ويتابع قائلا “ثم إن التوازن الحالي ورجحان أي جهة على أخرى قد يخلق تحديا جديدا في حال لم يتم التعامل معه بشكل صحيح.

في 22 من كانون الثاني الماضي، نشرت مبادرة “ريتش

” في 22 من كانون الثاني الماضي، تقريرا يعنى بتحليل آثار 13 عاما من الحرب في سوريا، أوضحت من خلاله أن الانتقال السياسي بعد انهيار النظام يقدم فرصة لنهج متكامل وشامل ويلبي احتياجات السكان المتضررين في جميع المناطق.

كما أشارت إلى أن الاحتياجات في سوريا حرجة وواسعة الانتشار في جميع القطاعات، ويحتاج المجتمع الإنساني إلى ضمان أن التمويل والمساعدة المستمرين سيرافقان بشكل فعال احتياجات وأولويات وتطلعات السوريين المتطورة خلال هذه الفترة الحرجة من التغيير، كي يبقى مسؤولاً أمام السكان المتضررين.

————————-

بين جنيف وسوتشي وأستانا.. الأمم المتحدة تودّع وساطة فشلت في إنقاذ سوريا/ ربى خدام الجامع

2025.03.21

بعد ما يقرب من 700 جلسة عقدها مجلس الأمن بشأن سوريا، لم تأتِ نهاية نظام الأسد نتيجة جهود الأمم المتحدة، بل رغمها. في مقال تحليلي، تعيد هاسميك إجيان المسؤولة السابقة في مكتب المبعوث الأممي إلى سوريا ومديرة إدارة شؤون مجلس الأمن رسم مشهد السقوط المفاجئ لبشار الأسد في كانون الأول 2024، وتفكك النظام خلال 11 يوماً فقط إثر هجوم عسكري خاطف من فصائل المعارضة، وتقدم رؤية نقدية لمسار الأمم المتحدة في هذا الملف.

تشير الكاتبة إلى إخفاق دبلوماسي طويل الأمد، من أنان إلى الإبراهيمي، ومن دي ميستورا إلى بيدرسون، مروراً بمئات الاجتماعات التي لم تنجح في وقف القتال أو فرض مسار سياسي فاعل. وتعرض بالتفصيل كيف تحوّل مجلس الأمن إلى منصة للمواقف المتضادة دون قرارات مؤثرة، وكيف شلّت الخلافات بين الدول دائمة العضوية آليات العمل الأممي، حتى بات الملف السوري رمزاً لفشل النظام الدولي في إدارة الأزمات المعقدة.

ومع بروز سلطة انتقالية جديدة بقيادة أحمد الشرع، تدعو إجيان إلى ضرورة التفكير بمنصة بديلة ترعاها الأمم المتحدة أو يصادق عليها مجلس الأمن، معتبرة أن المرحلة الانتقالية تتطلب حضوراً أممياً مختلفاً، لا يكرر أخطاء الماضي، بل يركز على دعم جهود الإغاثة وإعادة الإعمار، لا الوساطة السياسية التقليدية التي استنفدت فعاليتها.

ترجمة المقال:

إثر فرار بشار الأسد من البلد في 8 كانون الأول 2024، شنت فصائل المعارضة السورية هجومًا عسكريًا سريعًا ومفاجئًا، بدعم من جهات خارجية عديدة، حيث انطلقت من حاضنتها في إدلب بشمال غربي سوريا وتوجهت إلى حلب، ثم تقدمت جنوبًا نحو العاصمة دمشق، وحدث كل ذلك في غضون 11 يومًا فقط، فأنهى السقوط المفاجئ للنظام الحرب المدمرة التي بدأت قبل ما يقرب من 14 عاماً باحتجاجات مناهضة للحكم الديكتاتوري الدموي الذي انتقل للابن بشار عبر التوريث.

أي أن التغيير حصل في سوريا ليس بفضل الأمم المتحدة، بل رغماً عنها.

ومع انعقاد مئات الاجتماعات لمجلس الأمن الأممي حول سوريا على مدى 13 عاماً، وتعاقب أربعة مبعوثين أمميين على الملف السوري، بات من الصعب تمييز الأثر الجماعي لهذه الجهود في تسوية الصراع في سوريا. لذلك، ثمة حاجة ماسة إلى إحداث تغيير في نهج الأمم المتحدة تجاه سوريا، ولكن هل ستصبح الديناميات السياسية التي تغيرت مؤخراً في روسيا والولايات المتحدة محركاً لهذا التغيير في مجلس الأمن؟

وإضافة لذلك، آن الأوان للإقرار بأن جهود الوساطة السياسية التي تبذلها الأمم المتحدة منذ عقد من الزمن، وتلك التي يبذلها مكتب المبعوث الخاص إلى سوريا الذي ترأس الجهود الساعية لتسوية الحرب السورية، قد وصلت إلى مرحلة انعدام الجدوى بصورة لا يمكن العدول عنها، ولذلك لابد لتلك الجهود أن تتوقف، كما ينبغي تجهيز منصة بديلة لتترأس ذلك العمل، ويمكن لها أن تحظى بمصادقة من مجلس الأمن. بيد أن ذلك لا يعني بأنه لم يعد لدى الأمم المتحدة دور لتمارسه في سوريا خلال الفترة الانتقالية الحرجة.

لم تترتب إخفاقات الأمم المتحدة على انعدام محاولاتها، فمنذ عام 2011 وحتى 2022، أي قبل عامين من الغزو الروسي لأوكرانيا والحرب على غزة التي اندلعت في تشرين الأول 2023، كانت الحرب في سوريا القضية الأكثر حدةً والتي أثارت انقسامات كثيرة ضمن جدول أعمال مجلس الأمن.

وخلال الفترة الممتدة من عام 2011 إلى عام 2024، عقد مجلس الأمن ما يقرب من 700 اجتماعاً، سواء خلف الأبواب الموصدة أو عبر تلك الاجتماعات العلنية، ولم يحظَ أي نزاع آخر في تاريخ المجلس الذي يمتد لـ80 عاماً بامتياز تخصيص ثلاث جلسات بالشهر من أجله، كما كان الحال مع الحرب السورية، إذ كان المجلس يعقد كل شهر اجتماعاً حول “ملف الأسلحة الكيميائية”، واجتماعاً آخر حول “الملف الإنساني”، واجتماعاً ثالثاً حول الجوانب السياسية في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، عُقدت العديد من “جلسات الطوارئ” حول سوريا خلال عطلات نهاية الأسبوع وفي ساعات متأخرة من الليل، خاصة في ذروة الحرب بين عامي 2016 و2018.

وخلال الفترة ما بين عامي 2012 و2022، أصبحت سوريا الموضوع الأول الذي يناقش في المشاورات المغلقة لمجلس الأمن، حيث تجري المناقشات الأكثر حدة وصراحة بين الدول الأعضاء. وفي عام 2016، ركزت 30% (أو ثلث) المشاورات المغلقة للمجلس على سوريا.

ولكن، وعلى الرغم من كثافة التركيز والاهتمام الفريد الذي أولاه مجلس الأمن لسوريا، كانت النتائج والتأثيرات على الأرض محدودة للغاية، ولم تحقق سوى تقدماً ضئيلاً نحو التوصل إلى حل للنزاع.

فورة في القرارات

طوال فترة النزاع، فشل مجلس الأمن في اعتماد مشاريع قرارات حول سوريا أكثر من تلك التي تبناها بالفعل، حيث تبنى 25 قراراً بالضبط، في حين استُخدم حق النقض ضد 29 مشروع قرار من قبل عضو دائم أو اثنين، أو لم يحظ ذلك المشروع بأصوات كافية حتى يتم إقراره. ومعظم هذه القرارات، سواء تلك التي اعتمدت أم لا، تتصل بتجديد عمليات إدخال المساعدات الإنسانية عبر الحدود التي سمح المجلس بإدخالها بداية في عام 2014، أو تتعلق بملف الأسلحة الكيميائية في سوريا، وقلة قليلة من تلك القرارات لها علاقة بالملف السياسي المعني بتسوية النزاع السوري.

في عام 2019، فشل مجلس الأمن في اعتماد أي قرار بشأن سوريا، إذ استُخدم حق النقض ضد مشروعي قرارين معنيين بالشأن السوري، ولم يحصل مشروعا قرارين آخرين على أصوات كافية، وهذه المشاريع كانت مرتبطة ببرنامج تمرير الإغاثة الإنسانية عبر الحدود وبوقف إطلاق النار في إدلب عام 2019.

ثم ألغيت عمليات الإغاثة الإنسانية التي كان الناس بأمس الحاجة إليها خلال مواجهة نهائية حدثت داخل مجلس الأمن في صيف عام 2023، بعد تراجع عدد المعابر الحدودية المرخصة للقيام بذلك من أربعة معابر في عام 2014 إلى معبر واحد في مطلع عام 2023. كما لم يتخذ مجلس الأمن بشأن سوريا أي قرارات في عام 2024 وذلك قبل سقوط نظام الأسد في كانون الأول الماضي.

في بداية الصراع السوري، حدد الأعضاء الخمسة الدائمون في المجلس (أي بريطانيا، والصين، وفرنسا، وروسيا، والولايات المتحدة) خطوطهم الحمراء، ومارسوا الضغط أو التهديد أو لجؤوا إلى تقديم المغريات لإقناع الدول العشرة الأعضاء المنتخبة في المجلس بالانحياز إلى صفهم في معركتهم السياسية التي أضحت أعتى وأصلب إثر اندلاع أزمتي أوكرانيا وغزة بعد مرور عقد من الزمن.

وبحلول عام 2017، أدى الانقسام الحاد بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بشأن سوريا إلى تحويل اجتماعات المجلس العلنية إلى مسرحيات مسيّسة هدفها تحقيق مكاسب سياسية بدلاً من أن تكون منتدى للبحث عن حلول للنزاع. وكانت تلك الجلسات تُعقد بانتظام بما لا يقل عن ثلاث مرات بالشهر، من دون أن يعتريها أي انقطاع.

وفي العام نفسه، ألغى المجلس آلية التحقيق المشتركة التي لم تعمر طويلاً، فقد اعتمدت هذه الآلية بموجب القرار 2235 لعام 2015 لتكون بمنزلة شراكة بين هيئة الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وكانت مفوضة بتحديد هوية المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيميائية ومحاسبهم فيما يتصل بالحالات التي أكدت فيها بعثة تقصي الحقائق التابعة للمنظمة وقوع تلك الهجمات في سوريا.

لكن الاتهامات المتبادلة بالتحيز بين خبراء آلية التحقيق المشتركة، بالإضافة إلى التفسيرات المتضاربة لتقاريرهم، دفع بروسيا والولايات المتحدة إلى توجيه الضربة القاضية لتجديد تفويض تلك الآلية. ولذلك طرحت تلك الدولتان مشروعين لقرارين يقف أحدهما ضد الآخر وذلك في تشرين الثاني من 2017، ولهذا لم يعتمد أي  بفضل حق النقض أو لعدم توفر ما يكفي من الأصوات المؤيدة لهما. والمفارقة هنا أن تدمير ترسانة الأسلحة الكيميائية السورية كان أحد الإنجازات القليلة الأولى التي حققها مجلس الأمن، عندما تبنّى بالإجماع القرار 2118 في أيلول عام 2013.

ثم جاء القرار 2118 إثر انضمام سوريا إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية في الشهر ذاته، إلى جانب توقيع اتفاق إطاري بين روسيا والولايات المتحدة حول القضاء على الأسلحة الكيميائية في سوريا. وقد وضع القرار لنفسه هدفاً طموحاً يتمثل بتدمير مخزون سوريا من الأسلحة الكيماوية وبرنامجها الكيماوي بشكل كامل وذلك حتى منتصف عام 2014، أي خلال فترة تقل عن عام واحد. ويُذكر أن هذه السلسلة من التطورات السريعة جاءت بعد استخدام مؤكد للأسلحة الكيميائية في الغوطة بريف دمشق، وذلك في 21 آب 2013، وهذا ما أكد احتمال تنفيذ ضربات جوية أميركية ضد سوريا بعد أن أعلن الرئيس الأسبق باراك أوباما عن “الخط الأحمر” الذي حدده للنظام السوري.

اعتبر كثيرون بأن العملية المشتركة التي نفذتها منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة لتدمير مخزون الأسلحة الكيميائية في سوريا قد حققت نجاحاً باهراً. غير أن مجلس الأمن أمضى عقداً آخر في خلافات ازدادت حدة بين الأعضاء الخمسة الدائمين حول ملف الأسلحة الكيميائية في سوريا، وذلك بسبب الاتهامات التي وجهت إما لسوريا حول عدم إعلانها بشكل كامل عن برنامجها الكيماوي، أو بسبب العقبات التي وضعتها دمشق أمام جهود بعثة التحقق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية.

هل كانت تلك المخاوف حقيقية أم مجرد مسرحيات سياسية؟ يحق للمرء طرح هذا السؤال، خاصة بعد أن علقت الاجتماعات الشهرية حول هذا الملف فجأة في كانون الثاني وشباط من عام 2025، بعد أن انتهى حكم الأسد في كانون الأول من عام 2024، وعلى الرغم من عقد اجتماع واحد لمجلس الأمن في آذار الجاري، بما أن المجلس واصل وبوتيرة سريعة عقد اجتماعاته الشهرية العلنية حول الملفين الإنساني والسياسي في سوريا.

تبعات سقوط الأسد على مجلس الأمن

كاد النزاع السوري أن يقصم ظهر مجلس الأمن وأن يسهم في تقويض مصداقيته الهشة التي أنذر بظهورها الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، فقد بدأ تدخل الأمانة العامة للأمم المتحدة لحل النزاع السوري في عام 2012، عندما قامت، بالتعاون مع جامعة الدول العربية، بتعيين الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان كمبعوث خاص مشترك لسوريا.

وعلى جناح السرعة، تفاوض أنان على وقف إطلاق النار، وسعى إلى دعم ذلك الوضع عبر نشر بعثة مراقبة، وهي بعثة المراقبين الأممين إلى سوريا، كما شكل “مجموعة العمل من أجل سوريا” في جنيف، ضمت وزراء خارجية الدول الخمس التي تتمتع بعضوية دائمة في مجلس الأمن بالإضافة إلى وزراء خارجية عدد من الدول الإقليمية، وكذلك ممثلين رفيعي المستوى عن الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية.

نتج عن ذلك خطة سلام تألفت من ست نقاط، عُرفت باسم “بيان جنيف”. ومع الانهيار السريع لوقف إطلاق النار وتعليق أنشطة بعثة المراقبين الأمميين، فشل مجلس الأمن في تبني البيان بسبب خلاف وقع بين الولايات المتحدة وروسيا حول معنى “هيئة الحكم الانتقالي” المذكورة في الخطة؛ وتحديدًا، حول دور الرئيس بشار الأسد فيها. وبسبب إحباطه من جراء تراجع الدعم الدولي لجهوده، استقال أنان محتجاً على ذلك بعد أقل من ستة أشهر على توليه لتلك المهمة.

أما خلفه، وهو المسؤول الأممي البارز والدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي، فقد اتّبع نهجاً مغايراً، فمن خلال الدعم الذي حصل عليه عبر إجماع المجلس كما بدا وقتئذ، بما أن مجلس الأمن تبنّى في أيلول من عام 2013 القرار 2118 المؤيد لبيان جنيف والداعي إلى عملية سياسية يقودها سوريون، أعطى الإبراهيمي الأولوية للمفاوضات ضمن الطيف السوري.

وفي أواخر عام 2013، نجح في عقد أولى جلسات المفاوضات برعاية أممية بين النظام السوري البائد والمعارضة السورية في مونترو وجنيف، إلا أن هذا الإنجاز سرعان ما تعثر بسبب تعنّت الطرفين السوريين وحلفائهما الأجانب. وفي أيار من عام 2014، أعلن الإبراهيمي انسحابه، فكانت جهوده تلك آخر محاولة جادة تخوضها الأمم المتحدة للتوسط من أجل التوصل إلى تسوية شاملة للأزمة السورية.

أتى بعد الإبراهيمي، ستيفان دي ميستورا، ثم غير بيدرسن ابتداء من عام 2018، وأخذ كل منهما يلعب دوراً دفاعياً إلى أقصى الحدود، إذ عندما كانت سوريا تحترق، أضاع دي ميستورا أكثر من أربع سنوات مثلت فترة شغله للمنصب وهو يروج لسلسلة من المقترحات الفاشلة، كان من بينها “تجميد” الأعمال العدائية بصورة مؤقتة في أحد أحياء مدينة معينة، بيد أن ذلك لم يتحقق على أرض الواقع ولم يكن له تأثير على مجريات الحرب، ومن تلك المقترحات أيضاً “اختبار شدة التوتر” الذي خرج به في أواسط عام 2015 والذي يتألف من “216 مشورة” لم يحقق أي منها هدفه المعلن المتمثل بتقليص الهوة بين الأطراف السورية، كما لم تتمخض عنها أي رؤى وأفكار جديدة لحل القضية، ومن مقترحاته الفاشلة أيضاً النقاشات التي دارت حول “السلل الأربع” لقضايا لم يتمخض عنها مفاوضات مجدية بالنسبة لأي جانب من جوانب الأزمة.

لذا، وبدلًا من قيادة الجهود الدولية، وجد دي ميستورا نفسه يراهن على شرعية الأمم المتحدة مقابل مقعد على طاولة مبادرات مثل المجموعة الدولية لدعم سوريا التي أنشأتها واشنطن وموسكو، ومؤتمرات الحوار الوطني السوري التي رعتها روسيا وأقيمت في كل من سوتشي وأستانا.

المبعوث الأممي الأخير

من جانبه، كرّس غير بيدرسن أكثر من ست سنوات ضمن محاولة عقيمة لكتابة دستور سوري جديد، أو بشكل أدق، لإقناع الأطراف السورية بحضور اجتماعات يتم فيها الاتفاق على جدول أعمال لمفاوضات حول القضايا الدستورية، وحتى نكون منصفين بالحكم على بيدرسن، فإن قرار مجلس الأمن رقم 2254 (الصادر في عام 2015) كلّف الأمم المتحدة بالتعاون مع السوريين بوضع “جدول زمني وإطار لعملية تسعى لصياغة دستور جديد” خلال ستة أشهر، ولهذا يمكن أن يحسب لذلك الرجل أنه على الأقل تمكن خلال سنة واحدة أن يطلق العملية التي فشل دي ميستورا بالتأسيس لها خلال السنوات الثلاث الأولى من توليه لمنصبه.

أما على صعيد الملف السياسي السوري، فقد أثبت مجلس الأمن عجزه بصورة موازية، إذ نتيجة للانقسامات والاستقطاب، فشل أعضاؤه – وخاصة الدول الخمس دائمة العضوية – في التوصل إلى قرار حاسم بشأن الأزمة السورية يدعم السلام والأمن الدوليين. وذلك لأن المجلس تحوّل إلى منصة للاستعراضات القائمة على المزاودات وتبادل الاتهامات بالنسبة للدمار الذي لحق بسوريا والمعاناة التي يعيشها شعبها.

ومنذ فرار الأسد المفاجئ إلى منفاه في روسيا في مطلع كانون الأول 2024، وللمرة الأولى منذ اندلاع النزاع السوري عام 2011، يبدو بأن مجلس الأمن توصّل إلى إجماع جديد بشأن سوريا، شاركت فيه الولايات المتحدة وروسيا، على الرغم من استمرار ديناميات الضغينة والتوتر بشأن أوكرانيا وغزة.

في 17 كانون الأول، وبعد مشاورات مغلقة حول الملف السوري، أصدر المجلس بياناً صحفياً دعا فيه إلى “تنفيذ عملية سياسية قائمة على المشاركة يقودها سوريون وتصنع بأيديهم، وذلك استناداً إلى المبادئ الأساسية الواردة في القرار 2254 (2015)، على أن تُيسّر الأمم المتحدة هذه العملية”. وفي هذا السياق، أعربت الدول الأعضاء عن دعمها لجهود المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسن، وذلك في العمل على تسهيل هذه العملية السورية التي سيترأسها سوريون وسيصنعونها بأيديهم”.

في 29 كانون الثاني ، وبعد نحو شهرين من دخول تحالف من الفصائل المسلحة المعارضة إلى دمشق، عُيّن أحمد الشرع، القائد الفعلي لهذا التحالف، رئيساً انتقالياً لسوريا لفترة “انتقالية” غير محددة، كما جرى تعليق العمل بدستور عام 2012، وحلّ البرلمان، والجيش، وسائر الجماعات المسلحة، وكذلك حزب البعث.

في اليوم التالي، أطلّ الشرع، المعروف سابقًا باسمه الحركي “أبو محمد الجولاني”، وزعيم فصيل “هيئة تحرير الشام” التي كانت سابقًا مرتبطة بتنظيم القاعدة ومدرجة كمنظمة إرهابية لدى مجلس الأمن، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي – وخرج علينا ببيان متلفز مُسجل مدته ثلاث دقائق، تعهّد فيه بـ”تشكيل حكومة انتقالية شاملة تُجسد التنوع في سوريا”. وأضاف بأن هنالك عزم على إجراء “حوار وطني… ليكون منصة مباشرة للحوار والنقاش والاستماع لوجهات النظر المختلفة حول برنامجنا السياسي القادم”. وأتبع ذلك بقوله: “بمجرد استكمال هذه الخطوات، سنعلن عن إعداد إعلان دستوري ليكون المرجع القانوني خلال الفترة الانتقالية”. وفي مقابلة أجريت معه لاحقاً، أوضح أن الفترة الانتقالية قد تمتد لأربع سنوات، إلى أن تجرى انتخابات جديدة، وأن صياغة دستور جديد قد تستغرق ما بين سنتين إلى ثلاث سنوات. وهكذا، عُقد مؤتمر للحوار الوطني خلال يوم واحد بدمشق بتاريخ 25 شباط، وبحضور نحو 900 مشارك ومشاركة من السوريين والسوريات.

إلا أن مجلس الأمن والمبعوث الخاص بيدرسن خلال تلك الفترة، واصلا ترديد شعارهم القديم الذي ظلا يرددانه طوال عقد كامل كما يفعل المرء عندما يقوم كل فجر للصلاة، وهذا الشعار يدور حول “قيام عملية سياسية قائمة على المشاركة يقودها سوريون وتصنع بأياديهم وتستند إلى المبادئ الأساسية للقرار 2254 (2015)، على أن تعمل الأمم المتحدة على تيسير تلك العملية”، وبقي مجلس الأمن وبيدرسن على هذا المنوال حتى بعد أن فاتهم القطار من دون أن يتسنى لهم تقديم أدنى قدر من التدخل والمشاركة في الشأن السوري.

بالنسبة للشرع، فقد جرى تطبيق الجوانب المهمة من القرار 2254، والتي تشمل حدوث انتقال سلمي للسلطة، والعودة الآمنة للاجئين، وإطلاق سراح المعتقلين.

التحالف الجديد بين الولايات المتحدة وروسيا

في مقابلة أجريت مع أحمد الشرع بتاريخ 29 كانون الأول 2024، قال: “ظهرت معاناة كبيرة مع المحاولات العديدة لإصلاح الأمور في سوريا، غير أن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لم يتمكنا طوال 14 عاماً من الإفراج عن معتقل واحد، أو إعادة لاجئ واحد، أو إقناع النظام بقبول الحد الأدنى من الحل السياسي، رغم أن ذلك كان يخدم مصالحه”، ويبدو أن تصريحه هذا لاقى أصداء مرحبة بين السوريين.

ومنذ كانون الأول الماضي، تقاطر المسؤولون الأجانب الآتون من دول إقليمية ومن الولايات المتحدة، وأوروبا، ومناطق أخرى على دمشق وذلك ليلتقوا بالسلطات الانتقالية في سوريا. كما قام الشرع بزيارات رسمية إلى عدة عواصم في المنطقة، وهنالك أنباء تفيد بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتصل به هاتفياً في 12 شباط الماضي. كما التقى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في 4 آذار في القاهرة، على هامش اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية حول غزة، والذي دُعي الشرع إليه.

ومن جهته، زار المبعوث الأممي غير بيدرسن، دمشق عدة مرات منذ منتصف كانون الأول الفائت، والتقى بالشرع أكثر من مرة. وفي الثالث من شباط، أصدر مكتبه بياناً صحفياً جاء فيه أن “بيدرسن موجود في سوريا منذ أسابيع، وهو يجري مشاورات مع السلطات الانتقالية وطيف واسع من السوريين، ويتابع عن كثب جميع التطورات على الأرض”، وفي اعتراف صريح غريب حول الدور الذي لعبه بالنسبة للتطورات الحاصلة في سوريا، خلص البيان إلى أنه: “سيتابع جميع التطورات السياسية والوضع على الأرض عن كثب، وسيواصل إطلاع الأمين العام ومجلس الأمن بآخر المستجدات بحسب ما يمليه عليه التفويض الموكل إليه.”

وهنا يبدو بأن دور بيدرسن في العملية السياسية خلال الفترة التي أعقبت انتهاء النزاع في سوريا والذي اقتصر على كونه مراقباً وموثقاً للتطورات التي تجري على الأرض، لم يعد بالإمكان تنفيذه من جنيف بل من دمشق.

إذ في 6 آذار، رشحت أخبار عن وقوع مجازر بحق مدنيين خلال اشتباكات حدثت بين فلول مسلحة تابعة للنظام السابق ومجموعات عسكرية تابعة للسلطات الانتقالية في مدينتي اللاذقية وطرطوس على الساحل السوري. ووفقًا للتقارير، قُتل أكثر من ألف مدني خلال أربعة أيام، بعضهم قضى في إعدامات ميدانية نفذت بحق عائلات بأكملها. وفي ظل التحول الأخير الذي شهدته الديناميات السياسية بين الولايات المتحدة وروسيا، عقد مجلس الأمن جلسة طارئة مغلقة للتشاور بناء على طلب قدمته كل من روسيا والولايات المتحدة في 10 آذار، ثم أصدر كل من الرئيس الأميركي والروسي بيانه الخطي بشأن تلك الأحداث بعد مرور أيام على تلك الجلسة.

ولكن لم يتضح حتى الآن إن كانت الديناميات الجديدة التي قامت بين دولتين عضوين في مجلس الأمن ظلتا تتناحران في السابق على الملف السوري، ستتمخض عن نتيجة بناءة أكثر من تلك التي ظهرت خلال السنوات الأربع عشرة الماضية.

أما الآن، فقد فات أوان الاعتراف بأن جهود الوساطة السياسية التي ترأستها الأمم المتحدة طوال عقد من الزمان والمساعي التي بذلها مكتب المبعوث الخاص إلى سوريا لم تكن مجدية ولهذا لابد من إلغاء كل ذلك مع تأسيس منصة جديدة لتتولى مهمة الوساطة، ويمكن لمجلس الأمن أن يصادق على تلك المنصة. ومع ذلك، فإن وجود دور للأمم المتحدة في سوريا خلال هذه المرحلة الانتقالية الحرجة لايزال ضرورياً، حيث سيكون للفريق الأممي العامل في سوريا دور كبير ومهم وذلك من خلال وكالاته الإنسانية والتنموية، وذلك لأن متطلبات إعادة الإعمار في سوريا هائلة، وكذلك الأمر بالنسبة لقدرة الأمم المتحدة وتاريخها مع النجاح في هذا المضمار.

المصدر: PassBlue

تلفزيون سوريا

——————————-

وأنا أريدها أن تنجح أيضاً/ مصطفى علوش

2025.03.22

لكي تغيّر العالم عليك أولاً أنت أن تتغيّر، هذه ليست قاعدة، إنما قانون، فكري وسياسي، فلا يمكن أن تقود طائرة مدنية بشهادة قيادة صالحة فقط  لدراجة نارية، ولايمكن أن تقود البلد سياسياً بعقلية زعيم عشيرة أو قبيلة.

+A

حجم الخط

-A

لكي تغيّر العالم عليك أولاً أنت أن تتغيّر، هذه ليست قاعدة، إنما قانون، فكري وسياسي، فلا يمكن أن تقود طائرة مدنية بشهادة قيادة صالحة فقط لدراجة نارية، ولا يمكن أن تقود البلد سياسياً بعقلية زعيم عشيرة أو قبيلة.

وأنا مثل ملايين من السوريين، نريد لهذه الإدارة السياسية، بقيادة الرئيس أحمد الشرع أن تنجح بقيادة بسوريا في هذه الظروف العصيبة جداً، وأرى أن نجاحها مرهون بمشاركة الناس في مختلف القطاعات في إدارة البلاد، وهذه المشاركة ضرورية ليشعر الجميع بالأمان، عدا طبعاً مشاركة المجرمين الذين نطالب بمحاسبتهم ضمن قضاء مختص وعادل.

لماذا هذا  الإقصاء للخبرات؟

على سبيل المثال، كيف يمكن أن تعيد تشغيل التلفزيون السوري الرسمي وأنت تستبعد الكثير من الخبرات الفنية والإعلامية؟ وهل يمكن من الأصل تشغيل التلفزيون دون مهندسين اختصاصيين، وإعلاميين، وفنيين في مختلف الاختصاصات؟

وما ينطبق على التلفزيون ينطبق على عمل الإذاعة الرسمية. فالناس تحتاج وبشكل عاجل إلى إعلام رسمي حكومي تتابعه لتعرف ما يحدث في البلد، ومن مصلحة الرئيس الشرع والحكومة الانتقالية أن يكون عندها إعلامٌ يتابع نشاطاتها.

من مصلحة الرئيس الآن أن يتابع تنفيذ كل القرارات الحكومية التي تتخذها الحكومة الانتقالية، وأن يقوم بكل الخطوات السياسية التي تعيد ثقة الناس بالعمل السياسي الرسمي، فنحن ممتلئون بذاكرة سياسية سلبية عن سمعة الحكومات والعاملين فيها، إنها بسبب تركة الأسد الثقيلة.

أعرف أنّ هناك ملفات دولية وإقليمية ومحلية هائلة التعقيد، وأعرف كما غيري يعرف أن مشكلة الفصائل تحتاج إلى قرارات سريعة ليعاد إدماجها في مؤسسسات الدولة الجديدة، وكل غريب ومتطرف يجب أن تجد له الحكومة حلاً، والمعيار هو مصلحة السوريين، فلا يمكن لجيش وطني أن تكون عقيدته دينية في بلد فيه  17 طائفة وإثنية وعرقية.

الغرب يريد استقرار سوريا

اللافت في هذه المرحلة أنّ هناك ما يشبه الإجماع الغربي والدولي، ما عدا “إيران”، من أجل استقرار سوريا، إذاً إنها فرصة للاستثمار السياسي الصحيح، ولا نريد أن نذكّر في بديهيات السياسة الدولية الخاصة بمدى مصلحة الآخر في تقديم الدعم لك، وفي حال فعل ذلك، ماذا يمكن أن تقدم له مقابل ذلك.

ثمة خبرات سياسية وثقافية وفكرية تم استبعادها حتى الآن من المشاركة السياسية، ومنها السادة: رياض حجاب وبرهان غليون وآخرون كثر تعرفهم الذاكرة السورية، وأستغرب حتى الآن، لماذا هذا الإقصاء لمثل هذه الأسماء الموثوقة.

ولكي نبقى قريبين من سوريا، علينا فتح معظم الملفات الواجب فتحها للنقاش العام، فرغم الضريبة الرهيبة التي دفعها السوريون، ما زال هناك قسم من هؤلاء يعاملون البقية على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، فحلّ مشكلة الطائفية يحتاج إلى حوار سوري سوري تقودة نخب ثقافية وفكرية مشهود لها بالكفاءة، ولايمكن أن تحلّ مشكلة الطائفية عبر التجاهل والإنكار وتطريزنا بوسائل التواصل الاجتماعي بأننا نريد أن نعمرها بالحب. وأنّ السماء زرقاء والعصافير تزقزق.

سوريا تحتاج إلى السلام

تحتاج سوريا الآن إلى رؤية سياسية واقعية، جوهرها مصلحة جميع السوريين، ولكي تنفعنا هذه السياسة، علينا طرح موضوع السلام مع الجوار ومع العالم باعتباره تكتيكاً واستراتيجية، ولكي يساعدنا المجتمع الدولي، علينا التمسك سياسياً بكل القرارات الدولية المتعلقة بسوريا.

تاجر الأسد بسوريا وأهلها ولطّخ سمعتهم بالتراب، وحين كانت أجهزة مخابراته تخوّن الناس ظلماً، وترجمهم بأحكام العمالة والخيانة، كان الأسد الأب والابن يبحثان في الليل والنهار عن رضا إسرائيل والولايات المتحدة والغرب عموماً.

ثم لماذ هذا الخوف الرسمي الحكومي من مفهوم الديمقراطية والعلمانية؟ ولماذا حتى اللحظة لم أسمع الرئيس الشرع يستخدم هاتين المفردتين في تصريحاته؟ وهو الخبير والعارف بأن نهاية كل حكم فردي ستكون عاجلاً أو آجلاً مثل نهاية الأسد؟

لكي تنجح الإدارة السياسية الحالية في قيادة البلاد لا بد من إشراك المجتمع الأهلي في قيادة جميع القطاعات.

ولا بدّ لها من استشارة اختصاصيين أكفاء في مختلف المجالات، هذه الإدارة تحتاج للنقد والتقويم والتصويب، ولا تحتاج إلى أي مدح، إلا إذا كان المدح في مكانه الصحيح.

الناس متعبة وخائفة ومرهقة، ولكن أغلبيتها لديها عزيمة هائلة لمساعدة الإدارة الجديدة في العبور في هذه المرحلة الاستثنائية.

وربما نحتاج إلى تذكير الرئيس الشرع بأن رغيف الخبر ليس رفاهية وتقديم الخدمات الأساسية ليس رفاهية، والسوري يدفع الكثير من أجل خدمات باتت في عرف الجميع بائسة.

نريدها أن تنجح، ونريد لهذا الرئيس يوماً ما أن يترك الرئاسة لغيره وذلك ضمن أعراف سياسية نأمل في إيجادها، وينام في بيته مطمئناً، ليتفرغ لكتابة مذكراته كما يفعل رؤساء العالم.

ولأننا نريد المساهمة في بناء سوريا علينا جميعاً فهم مفردات مثل الديمقراطية والعلمانية والدولة حتى يتسنى لنا جميعاً يوماً أن نكون جزءاً من مستقبل سوريا.

شخصياً أريد أن أزور سوريا وأن أكون مطمئناً ألّا يسألني أحد عن طائفتي، فطائفتي هي كل أهل سوريا.

——————————

الاحتجاجات في سورية… اختبار لقدرة الحكومة على إدارة الوضع/ جلنار العلي

22 مارس 2025

في سنوات القمع التي عاشها السوريون في مناطق سيطرة نظام بشار الأسد قبل سقوطه في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، التي قيّدت فيها السلطات حرية التعبير بكافة أشكالها، لم تجد الاحتجاجات في سورية آذاناً صاغية، ولم تلقَ أي اهتمام من المعنيين، بل كانت تدور في حلقات فارغة وضيّقة لتعود إلى أصحابها كما خرجت، أي بلا تنفيذ، حيث مُنِعَ التظاهر بكافة أشكاله، لذلك اعتاد المواطنون الصمت والانتظار. وشكّل سقوط النظام نقطة تحوّل حقيقية في هذا السياق، إذ خرج السوريون عن صمتهم، وانتشرت الاحتجاجات في سورية فضلاً عن وقفات وهتافات للمطالبة بإيقاف قرار ما أو للتعبير عن مظلمة معيّنة. مثلاً عندما أصدرت وزارة التربية قراراً بإجراء بعض التعديلات على المناهج مطلع العام الحالي، قوبل هذا القرار بوقفة احتجاجية أمام مبنى الوزارة، وعندما صدرت قرارات بإلزام موظفين حكوميين بإجازات لمدة ثلاثة أشهر، احتج الكثير من الموظفين ونظموا وقفات احتجاجية إما أمام وزاراتهم أو أمام اتحادات العمال في المحافظات. كما خرجت تظاهرة في مدينة اللاذقية مطلع الشهر الحالي عبّر فيها الأهالي عن رفضهم للتحريض الطائفي، وغير ذلك الكثير من الوقفات التي يريد منها المحتجون التعبير عن رفضهم لحدث ما. البعض ينظر إلى هذه الحالة على أنها إيجابية لكونها تعطي هامشاً من الحريات للسوريين، أما البعض الآخر فيعتبر أن هذه الاحتجاجات الدائمة تدل على قصور وخلل في الأداء الحكومي. ولأن الاحتجاجات في سورية حالة جديدة على الشارع، رصدت “العربي الجديد” آراء مواطنين خرجوا إلى بعض التظاهرات لمساندة المعنيين فيها، على الرغم من أنهم ليسوا متضررين مباشرة.

الاحتجاجات في سورية كورقة ضغط

في السياق، قال صلاح السعدي، الذي خرج في عدة احتجاجات عمالية، إنه لا يعرف مدى استجابة الحكومة لتلك الاحتجاجات في سورية ولكن بعد خروج مواطنين كثر لم يلمس أي تغيير، وإنما استمرت السلطات بأعمال التسريح والفصل ومنح الإجازات القسرية. وبرأي السعدي، إن الاحتجاجات في سورية تبقى ورقة ضغط على الحكومة أمام الدول الأخرى التي تراقب أداءها، لذلك يجب عدم اليأس منها أو تعويد السلطات على عدم وجودها. أما منى إبراهيم (اسم مستعار)، الموظفة في وزارة الصحة، فاعتبرت أنه على الرغم من عدم وجود بوادر استجابة للاحتجاجات العمالية، إلا أنها تثمّن عدم تعرض المتظاهرين للعنف من قبل عناصر الأمن، ولكن سيفقد هذا الأمر بريقه بعد فترة من الزمن في حال لم تلق المطالب آذاناً صاغية. وبعد مضي شهرين على الوقفة الاحتجاجية أمام وزارة التربية اعتراضاً على تعديل المناهج بشكل غير مدروس، سخر منير الصالح، وهو أحد أولياء الطلاب الذي كان موجوداً فيها، بقوله: “حضرنا ولم يحضر واجبنا حقاً”، معتبراً أنه لا جدوى من تلك الاحتجاجات في سورية طالما أن الحكومة لا تستمع ولا تستجيب.

الصحافي المتابع لقضية الاحتجاجات، عمار ديوب، قال لـ”العربي الجديد” إن عدد الاحتجاجات في سورية منذ سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، فاق المائة احتجاج، وذلك في كافة المحافظات السورية. ولفت إلى أن أغلب تلك الاحتجاجات في سورية عمالية لا تحمل في طياتها أي قضايا سياسية، فأصحابها لم يرفعوا شعارات تطالب بالديمقراطية أو فصل السلطات على سبيل المثال، وإنما تطالب بإيقاف التسريح التعسفي، علماً أن هذه التظاهرات محقة بالكامل، لا سيما أن هؤلاء الموظفين متعاقدون مع الدولة بشكل دائم، بينما الحكومة مؤقتة، كما أنها تمثل مواطنين يعيشون على أجورهم بشكل كامل، وبينهم موظفون لديهم خدمة تزيد على 20 عاماً، يعانون بالأساس من ويلات الفقر. ويعتبر ديوب أن استمرار النهج الحكومي الحالي سيؤدي إلى انفجار أزمة اجتماعية مستقبلية، لأن عدد العمال الذين جرى تسريحهم وصل بالبداية إلى 300 ألف عامل، تحت مسمى فائض أو عمال “أشباح”، إضافة إلى 100 ألف عامل أُلزِموا بإجازات قسرية، فضلاً عن عاملين في أجهزة تمّ حلها وكانوا يعملون بها كعناصر الجيش السابق والشرطة وآخرين، مضيفاً: من الممكن أنه تم إخراج مليون مواطن من وظائفهم، وإذا تم احتساب أعداد عائلاتهم بشكل وسطي، فإن الحديث هنا يكون عن حوالي أربعة ملايين إنسان، وتضاف هذه الأعداد إلى عائلات ضحايا الثورة والمهجرين من منازلهم، ليشكل هذا الأمر كارثة حقيقية.

الاحتجاجات حالة إيجابية

من جهته، اعتبر الباحث السياسي مؤيد غزلان قبلاوي، في تصريح لـ”العربي الجديد”، أن الاحتجاجات في سورية لا تدل على قصور حكومي، بل هي حالة إيجابية ودليل رقابة شعبية على منهج السياسات الجديد، وتعبير عن أولويات الحاجات الشعبية، وهو ما يسمى بالاستفتاء المستمر للمسار السياسي ومدعاة لتغيير القوانين والمنهجية السياسية في كثير من الدول، لكن ضمن ضوابط وقوانين خاصة بالتظاهر والاحتجاج. وأضاف أن التظاهر هو حالة تعبّر عن تقبّل الحكومات للإصغاء للرأي الجمعي للشعب، وهو أداة قياس مباشرة وفقاً لطبيعة المتظاهرين، فلا يوجد حكم سياسي خالٍ من الأخطاء والعثرات في مراحل المأسسة في كل دول العالم، أما المهم فهو أن تخضع تلك الاحتجاجات لقانون ينظّم انعقادها ومحتوى رسائلها، فهناك الكثير من التظاهرات لا تعطى تراخيص في أوروبا أو الدول المتقدمة في العالم، مثال تظاهر اليمين المتطرف ذي المرجعية النازية في ألمانيا أو إسبانيا وغيرها، وأي محتوى ينادي بالانقسام عن وحدة البلاد.

ورأى قبلاوي أن الحالة السورية ما زالت لم تبلغ ولا تقارن بغيرها من الدول، فلكل دولة خصوصياتها، وما ينطبق على دولة ليس بالضرورة مفيداً في دولة أخرى، وهذا الأمر يعود إلى التوافقات السياسية والمجتمعية بين الدولة والحكومة، لافتاً إلى أن الإعلان الدستوري المؤقت والدستور الدائم يضم عادة مادة تنظم الحريات الشخصية والعامة، من حقوق التظاهر والتعبير، وهذا أيضاً يعود في كيفيته وحدوده لطبيعة كل شعب ودولة. وكي لا يتم تجاهل تلك الاحتجاجات، اقترح قبلاوي أن ترسل الحكومة السورية ممثلين من الوزارة التي يجري الاحتجاج أمامها للاستماع إلى هذه الاحتجاجات، ونقلها بشكل مكتوب، واستقبال وفد يمثل المحتجين للحوار معهم، وبذلك يتم تشكيل حوار سياسي مستمر بين الحكومة التنفيذية والمجتمع، وإرساء مبادئ حوارية تفاوضية مع المحتجين، وذلك في الحالة العادية التي يكون فيها التظاهر مدنياً وسلمياً ويعبّر عن حاجة معيّنة. وأكد قبلاوي أنه في حال قام المجلس التشريعي بواجبه الكامل على اعتبار أنه نافذة ويمثل مطالب الشعب بشكل مباشر، فإن الاحتجاجات ستقل حتماً، أما في حالات الانسداد السياسي وتعطّل المجلس التشريعي، فستزداد التظاهرات بشكل أكبر، وسيتوجب دراسة المسارات الموجودة في الحكومة التنفيذية المؤدية إلى التظاهر، علماً أن سورية لا تعيش تلك الحالة من الانسداد السياسي وإنما هي تمرّ بحالة استكشافية بين الشعب والحكومة الجديدة، التي ستبدأ بالعمل عند استقرارها وفقاً للمحددات والمجلس التشريعي الجديد، لتشكل حالة لاستقطاب كل مطالب المجتمع. وأوضح أنه يمكن أن يكون هناك ديوان رقابي أو ديوان للمظالم، تتقدم فيه الجموع خطيّاً بكل الأمور التي تعتقد أنها تشكّل مظلمة ما، وهذا الأمر يعفي من التظاهر غير المنظم أو العشوائي.

ظاهرة الاحتجاج

أما الباحث في الدراسات السياسية سامر ضاحي، فذكر في حديث لـ”العربي الجديد” أن فكرة الاحتجاج هي ظاهرة طبيعية تحصل خلال المراحل الانتقالية التي تمر بها البلدان المختلفة، للتأكيد على المطالب، وفي الحالة السورية تعكس محاولات إعادة تشكيل العلاقة بين السلطة والمجتمع بعد عقود من القمع السياسي. ولفت إلى أن الاحتجاجات بصورتها الحالية في المحافظات السورية أقرب إلى ردود أفعال نتيجة مشكلات أوجدتها الإدارة الجديدة من خلال قرارات اتخذتها، لأن هذه الاحتجاجات لا تعبّر عن مطالب سابقة بقدر ما تعبّر عن رفض بعض الإجراءات التي قامت بها الإدارة الجديدة. كما أنها تعبّر أيضاً عن التحديات التي تواجه هذه الإدارة في تنفيذ تعهدات ووعود بسيطة قطعتها حين وصلت إلى دمشق عكست عدم وعيها لمشكلة “الدولة” في سورية، مضيفاً: يبدو أن قدرتها على تحقيق الوعود لا تزال موضع شك متزايد لدى المجتمع وهي بحاجة لإجراءات ملموسة وليس التصريحات الرنانة فقط، مثل الأوضاع الأمنية والاقتصادية والخدمية.

في المقابل، لا يمكن إنكار وجود هامش من الحرية بدأ السوريون في استكشافه بعد سقوط نظام الأسد، برأي ضاحي، سواء كان سببه اقتناع الإدارة الجديدة أو حاجتها لشرعنة نفسها أو حتى وقوعها تحت ضغط خارجي. لكنه أوضح أن بعض الأسئلة بدأت تعلو أخيراً من دوائر مقربة من الإدارة حول ترخيص الاحتجاجات، مشيراً إلى هوامش في طريقها إلى الضيق بدل الاتساع. أما على المستوى السياسي، فرأى ضاحي: “أعتبر هذه الاحتجاجات نوعاً من الاختبارات لقدرة الإدارة الجديدة على إدارة المرحلة، ومدى تفاعلها أو استجابتها لمطالب الشارع بطرق ديمقراطية، فإذا احتوت التحركات عبر الحوار والسياسات الفعالة، سيكون ذلك مؤشراً واضحاً على انتقال صحي نحو مرحلة أكثر استقراراً، أما عدم الاستجابة أو التعامل معها بأسلوب من اللامبالاة فقد يزيد من تعقيد المشهد السياسي”. وشدّد على أن المماطلة والتسويف ورمي المسؤولية على أطراف أخرى دوماً، ستدفع الشارع السوري إلى مراجعة حماسه تجاه الإدارة الجديدة، مستنداً إلى انتقال سياسي بعيد عن الديمقراطية، وخطاب عام يتجه إلى الفردية.

العربي الجديد

——————————

نفيٌ رسميّ: لا تسليم لسجناء سوريين والأولوية لمعتقلي الرأي/ بتول يزبك

السبت 2025/03/22

“لا تسليم لسبعِمئة سجينٍ سوريّ”. بهذه العبارة ينفي مصدرٌ قضائيّ رفيع المستوى، في حديثه إلى “المدن”، ما نُسِب إلى مصادرٍ قضائيّةٍ لبنانيّةٍ بشأن استعداد بيروت لتسليم ما يزيد على سبعمئة سجينٍ سوريٍّ من أصل ما يربو على ألفَي سجينٍ يقبعون في السجون اللبنانيّة، وذلك بعد استكمال ملفات المحكومين والموقوفين الذين تنطبق عليهم شروط التسليم. وقد أثارت هذه التسريبات بلبلةً في الأوساط الحقوقيّة والسياسيّة، خصوصًا أنّها جاءت من دون بيانٍ رسميٍّ مفصَّل، ولم يصدر أيّ تأكيدٍ أو نفيٍ واضح من الجانب السوريّ. كما أثار مضمونها مخاوف لدى السجناء السوريين، ولا سيّما الموقوفين بتهمٍ سياسيّة أو بالانتماء إلى فصائلَ معارضةٍ للنظام السوريّ السابق، خشيةَ ألّا يكونوا مشمولين في عملية التسليم التي يطالبون بها منذ سقوط النظام الأسديّ.

إشكاليّة التسليم

ومع انتشار هذه التسريبات، برزت تساؤلاتٌ حول الآليّة القانونيّة والإنسانيّة التي قد تُعتمَد في تنفيذ قرارٍ حسّاسٍ كهذا. وبحسب ما تداوله بعض المراجع، فإنّ الأمر يخصّ موقوفين متّهمين بتهمٍ متنوّعة، من بينها “الإرهاب” أو الانتماء إلى تنظيماتٍ جهاديّة وفصائلَ مسلّحةٍ خلال ذروة النزاع السوريّ، فضلًا عن عددٍ كبيرٍ منهم لم تصدر بحقّهم أيّ أحكامٍ قضائيّة بعد.

وقد أثارت هذه التسريبات ذعرًا في صفوف السجناء الذين عبّروا عن خشيتهم من “تسليمٍ جزئيّ” يشمل بعضهم دون غيرهم، خصوصًا أنّهم كانوا قد فكّوا إضرابهم عن الطعام بناءً على تطميناتٍ سابقةٍ بعمل السلطات السوريّة على ملفّهم (راجع “المدن”). وصدر بيان عن “مبادرة سوريون عبر السجون” جاء فيه: “نشرت إحدى الوكالات العالميّة تصريحًا لمسؤولٍ قضائيّ لبنانيّ قال فيه إنّ لبنان مستعدٌّ لتسليم أكثر من سبعمئة سجينٍ سوريّ. وعليه، نطرح تساؤلاتٍ حول ما إذا كان التسليم يشمل جميع المتّهمين بالإرهاب، ولماذا تمّ تحديد العدد بسبعمئة فقط، وما مصير قرابة ألفٍ وخمسِمئة موقوفٍ آخر؟ هناك مخاوف أيضًا من تسليم ذوي الأحكام الطفيفة أو من شارفوا على إنهاء محكوميّتهم، واستثناء السجناء السياسيّين المتّهمين بجناياتٍ كبرى. كما ذكّرت وزارة الخارجيّة السوريّة سابقًا بأنّها تريد استعادة جميع المعتقلين، فكيف تمّ اختزال العدد إلى سبعمئة فقط؟ ندعو السلطات اللبنانيّة إلى عدم تسييس هذا الملفّ والنظر إليه كمسألةٍ إنسانيّةٍ تقتضي تسليم كلّ السجناء السوريين بلا استثناء، كما ندعو الحكومة السوريّة الانتقاليّة إلى تسريع تنفيذ وعودها باسترداد أبنائها، مع توفير ضمانات المحاكمة العادلة واحترام حقوق الإنسان”.

وأشار البيان أيضًا إلى الاتفاقيّة القضائيّة الثنائيّة الموقّعة بين لبنان وسوريا عام 1951، مذكّرًا بأنّ السلطات اللبنانيّة ارتكبت في السابق خروقاتٍ عبر تسليم سجناءٍ اختفوا قسريًّا أو تعرّضوا لانتهاكاتٍ جسيمة. لكن بعد سقوط النظام السوريّ السابق أواخر عام 2024، باتت أيّ إعادةٍ محتملةٍ مشروطةً بضمان محاكماتٍ عادلةٍ وعدم تكرار الانتهاكات بحقّ المعارضين السياسيّين.

وتعود جذور هذه القضيّة إلى زيارةٍ قام بها رئيس الوزراء اللبنانيّ السابق نجيب ميقاتي إلى دمشق في كانون الثاني الماضي، إثر الإطاحة بالرئيس السوريّ السابق بشار الأسد وتولّي الرئيس الانتقاليّ أحمد الشرع الحكم. آنذاك، أعلنت الخارجيّة السوريّة التوصّل إلى تفاهمٍ مع ميقاتي بشأن استرداد جميع المعتقلين السوريين في السجون اللبنانيّة. ومنذ ذلك الحين، ظلّ الملفّ متأرجحًا بين الأخذ والردّ، وشابته مساوماتٌ سياسيّة، ولا سيّما بعد ورود تسريباتٍ عن رفضٍ سوريٍّ قبول السجناء أو اللاجئين إلّا في حال استرداد أموال سوريا المجمَّدة في المصارف اللبنانيّة.

هواجس الحقوقيّين

في هذا الإطار، يُعرب مدير مركز سيدار للدراسات القانونيّة، المحامي محمّد صبلوح، عن مخاوفه من تلك التسريبات. ويشير في حديثٍ إلى “المدن” إلى أنّ صحفًا موثوقة، منها بعض الصحف الفرنسيّة، نشرت تصريحاتٍ منسوبةً إلى مصدرٍ قضائيٍّ تتحدّث عن تسليمٍ وشيكٍ لسبعمئة سجينٍ سوريّ. ويتساءل صبلوح: “منذ متى تُعلِن الدولة عن قرارٍ بهذه الحساسيّة عبر  تصريحٍ منسوبٍ إلى مصدرٍ قضائيّ؟ أولى الخطوات الطبيعيّة في هذا النوع من الإجراءات هي التواصل مع الحكومة السوريّة وعرض الملفّ عليها، ثمّ الإعلان رسميًّا عن الأمر بعد موافقتها. الغريب أنّ هذا الإعلان جاء من دون أيّ توضيحٍ أو تفاصيل”.

ويضيف: “طالبنا منذ البداية، ومع بعض المسؤولين السوريين والسفارة السوريّة، بأن تُمنَح الأولويّة للمئتي موقوفٍ بتهمٍ تتعلّق بمشاركتهم في الثورة وآرائهم السياسيّة. أمّا من صدرت بحقّهم عقوبات جنائيّة فيجب انتظار تجهيز السجون في سوريا لاستقبالهم. ما حدث أثار ارتباكًا كبيرًا لدى الموقوفين السوريين عمومًا، ولا سيّما السياسيّين منهم؛ إذ تساءلوا: من هم هؤلاء السبعمئة؟ وهل هم مشمولون بتلك القائمة؟ ولماذا هذا العدد تحديدًا؟ إضافةً إلى ذلك، ليس معلومًا ما إذا كان هذا التسريب يهدف إلى طمأنة الموقوفين الذين كانوا مضربين عن الطعام، أم أنّ له أهدافًا أخرى؟ ويبقى أنه من المستغرَب أن يصدر عن دولةٍ إعلانٌ مشابه من دون مصدرٍ واضحٍ يمكن الاستفسار منه”.

ويؤكّد صبلوح أنّ وزارة العدل السوريّة والسفارة السوريّة نفتا علمهما بأيّ قرارٍ رسميٍّ بخصوص التسليم، وأنّهما اطّلعتا على الأمر عبر وسائل الإعلام فقط، مشيرًا إلى أنّ الأولويّة لدى الطرف السوريّ تبقى لمعتقلي الرأي، فيما لا معلوماتٍ مؤكّدة لدى بقية الجهات السوريّة الرسميّة. ويضيف: “السؤال الأبرز هو: هل سيؤدّي هذا الأسلوب الملتبس في إدارة ملفّ المعتقلين السوريين إلى إغلاق الباب أمام أيّ حلولٍ أخرى؟ هناك مطالباتٌ في لبنان تتعلّق بتخفيض العقوبات أو إصدار عفو، وربّما التوجّه نحو العدالة الانتقاليّة مستقبلًا. والتعامل مع الملفّ بهذه الطريقة العشوائيّة قد يمثّل عرقلةً واضحةً لكلّ محاولةٍ جادّةٍ لفتح صفحةٍ جديدة”.

نفْيٌ قضائيّ

في موازاة ذلك، يشير مصدرٌ قضائيّ لبنانيّ لـ”المدن” إلى أنّ ما يجري تداوله حاليًّا معلوماتٌ قديمةٌ تعود إلى عهد حكومة الرئيس السابق نجيب ميقاتي، ولا مستجدّات في الملف حتّى اللحظة، مؤكّدًا أنّ بيروت لم تتلقَّ أيّ طلبٍ رسميٍّ من دمشق لتسلّم الموقوفين السوريين. ويضيف أنّ القانون اللبنانيّ يحدّد بوضوحٍ آليّات التعامل مع الأجانب الذين ارتكبوا جرائم على الأراضي اللبنانيّة، بحيث يجري درس كلّ ملفٍّ على حدة في حال ورود طلبٍ رسميٍّ من دمشق، ثمّ تُعقَد مباحثاتٌ تفصيليّة بين الجانبين. ويشدّد على أنّ شيئًا من هذا لم يحصل فعليًّا منذ حكومة ميقاتي السابقة، ولم يجرِ أيّ تواصلٍ حتّى اللحظة.

ويلفت المصدر إلى أنّ القضاء اللبنانيّ حاول في الأسابيع الماضية التواصل مع دمشق بشأن هذا الموضوع، لكن أُبلِغ بأنّ المكتب المولَج متابعة الملفّ أُغلِق إبّان سقوط نظام الأسد، ولم يُعيَّن أيّ شخصٍ للمتابعة.

وتوازت التسريبات مع ردود أفعالٍ حقوقيّةٍ وتحركاتٍ في صفوف السجناء أنفسهم، إذ طالبوا بتوضيحاتٍ حاسمةٍ من الحكومتين اللبنانيّة والسوريّة. وحذّر ناشطون في “مبادرة سوريون عبر السجون” من مغبّة أيّ إجراءٍ مفاجئٍ قد يزيد من الاحتقان في ظلّ الغموض الراهن حول آليّات التسليم والجهات المشمولة به.

أبعادٌ معقّدة

وتعود قضيّة المعتقلين السوريين في لبنان إلى السنوات الأولى من النزاع السوريّ، حين لجأ آلاف السوريين إلى الأراضي اللبنانيّة، إمّا هربًا من المعارك أو بسبب نشاطهم المعارض للنظام السابق. وخلال ذروة النزاع، وُجِّهَت إلى كثيرين تهمٌ تتعلّق بالإرهاب أو الانتماء إلى تنظيماتٍ مسلّحة، فضلًا عن اتّهام بعضهم بشنّ هجماتٍ على الجيش اللبنانيّ في المناطق الحدوديّة. ومع مرور الوقت، ازداد عدد السوريين الموقوفين في السجون اللبنانيّة، وبقي عددٌ منهم بلا محاكماتٍ حاسمة، فيما حُوِّل آخرون إلى القضاء العسكريّ في بيروت.

وقد تفاقمت الأزمة مع تدهور الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة في لبنان، في ظلّ اكتظاظ السجون وتردّي الخدمات الغذائيّة والطبيّة. وعاد الحديث عن تسليم المعتقلين إلى بلادهم بعد التغيّر السياسيّ في سوريا، عقب الإطاحة بالنظام الأسديّ وتسلّم المعارضة السلطة. ورغم صدور تصريحاتٍ رسميّةٍ سوريّةٍ تشير إلى الرغبة في استعادة المعتقلين، ظلّ هذا الملفّ مرتبطًا بشروطٍ ماليّةٍ وسياسيّةٍ، من بينها المطالبة بأموالٍ سوريّةٍ مجمَّدةٍ في المصارف اللبنانيّة.

لا شكّ في أنّ هذا الملفّ بالغُ الحساسيّة قانونيًّا وإنسانيًّا، لكونه يستدعي التمييز بين السجناء الذين يُتهمون بجرائم جنائيّة، وأولئك الذين يُعَدّون ناشطين سياسيّين أو معارضين للنظام السوريّ السابق. كما يُثار جدلٌ حول ازدواجيّة المعايير، ولا سيّما في ظلّ عدم فتح ملفاتٍ تخصّ مجموعاتٍ لبنانيّة قاتلت في سوريا، في حين يُحاكَم سوريّون بتهمٍ مشابهةٍ على الأراضي اللبنانيّة. ويرى مراقبون أنّ الفشل في بلورة تفاهمٍ واضحٍ بين بيروت ودمشق قد يُلقي بظلاله السلبيّة على العلاقات الثنائيّة، خصوصًا في ظلّ اعتماد لبنان على المعابر البريّة السوريّة للتجارة والتواصل الإقليميّ. وفي المقابل، قد تلجأ دمشق إلى استخدام هذا الملفّ ورقةَ ضغطٍ سياسيّةٍ عبر إغلاق الحدود أو فرض رسومٍ إضافيّةٍ على انتقال الأفراد والبضائع.

في المحصّلة، يبقى مصير نحو ألفَي سجينٍ سوريٍّ معلّقًا بانتظار التوصل إلى تفاهمٍ ثنائيٍّ واضحٍ وشفّاف، يكفل ضماناتٍ قضائيّةً وإنسانيّةً، ويُفرّق بين الملفات الجنائيّة المحضة والقضايا السياسيّة. ومن دون إصدار بيانٍ جليٍّ من الحكومتين، ستظلّ التسريبات موضع تأويلٍ وتوظيف، فيما تزداد مخاوف السجناء السوريين من احتمال البقاء في السجون بلا أحكامٍ أو التعرّض لتصفياتٍ سياسيّة، ما لم تُعلَن إجراءاتٌ ملموسةٌ ومضمونةٌ تحفظ حقوقهم وتعزّز ثقتهم بمسار العدالة، وتحديدًا العدالة الانتقاليّة التي ترفع السّلطتان اللبنانيّة والسوريّة لواءها بعد التغييرات الجذريّة التي طرأت في الشهور الأخيرة.

المدن

———————

الأزمات إذ تُدخِل المثقف في الزواريب/ محمد حجيري

الجمعة 2025/03/21

تنتج الأزمات الكبرى أو الحروب، مفاهيم وتعابير بائسة، تردّ الشخوص المفترض أنهم خارج الاصطفاف والانقسام، إلى زواريب وعصبيات ضيقة، تجعلهم في موقع مستهجن وملتبس. المجتمع الطائفي ليس بريئاً من لعبة وضع الأسماء في الزواريب، كذلك النخب السياسية والإعلام، وحتى بعض المثقفين أنفسهم.

فعلى مدار الحرب الأهلية في لبنان، لا سيما في سنواتها الأولى، شاع مصطلح “المثقفون المسيحيون” و”المسيحي الوطني”. كان ذلك للتعبير عن سياق تاريخي هو سياق تمايز فئة من المثقفين “بالسياسة” عن سياسة الأكثرية السائدة في الطائفة التي انتسبوا إليها، ولادةً أو تديناً، أي “التزاماً لأحكام الدين وطقوسه من دون التزام سياسات الحزب السائد او الحاكم في الطائفة”(وجيه كوثراني). الأحزاب اليسارية والإسلامية والقومية، لجأت إلى توظيف “المسيحي الوطني” في إطار “البروباغندا السياسية”، من أجل التحريض ضد خصومها من داخل “طائفتهم”. أكثر من ذلك اخترع اليسار اللبناني ما يسمى الطائفة الوطنية والطائفة الرجعية والطبقة الطائفة.

بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتظاهرة 14 آذار 2005، عدنا إلى نغمة تشبه نغمة “المسيحي الوطني”، فبدأنا نقرأ ونسمع مفرداته في الخطاب الإعلامي المقروء والمسموع والمرئي، وهو مصطلح “المثقف الشيعي”. كان وليد جنبلاط يريد “شريكا” أو جناحاً يصله بالطائفة الشيعية، مع أنه وحلفاءه أقصوا المعارضة الشيعية بعد “الحلف الرباعي”، فاختار جنبلاط الحديث عن بعض المثقفين الذي كانوا يؤيدون شعارات 14 آذار في زمن الانقسام العمودي. رد أمين عام “حزب الله” آنذاك حسن نصرالله، على خصومه ممن استخدموا نقد “المثقف الشيعي” ضد “حزب الله”، معتبراً ان هذا الاستخدام كان خدمة للحزب من حيث لا يدري أصحابه، وأنه برهان على “لا طائفية الحزب”، وعلى حال التعدّد القائمة في الطائفة الشيعية.

الشاعر عباس بيضون الذي قال في تلك الأيام: “للأسف أنا مع 14 آذار” على اعتبار أنها ترفع شعارات الدولة، كتب في جريدة “السفير” مقالاً بعنوان “عن المثقفين الشيعة” قال فيه: “تكلم وليد جنبلاط عن مثقفين شيعة في غير خط حزب الله وسمى بعضهم، أما السيد نصر الله فوجد هذا مفيداً لتقليل الصورة الشيعية ل حزب الله . أقلام مشايعة ل حزب الله حاسبت هؤلاء المثقفين على تسمية نحلهم إياها سواهم، واتهمت هؤلاء بالبُعد عن منابعهم الشيعية والجهل بالتاريخي الشيعي في لبنان واندراجهم في ثقافة كولونيالية. كل ذلك لم يجد جواباً من هؤلاء، لأنهم استشعروا أن ثمة قضية تفتح باسمهم هم في غنى عنها ولا دخل لهم فيها. لم يسم أي من هؤلاء نفسه، وهم فرادى ولم يجتمعوا قط في كتلة أو جبهة، مثقفاً شيعياً لا في أوله ولا آخرته، وليس عليه أن يدافع عن اسم لم ينتحله ولم يتسم به”.

في كتابه “بين فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه/ الدولة والمواطن” لخص الباحث وجيه كوثراني واقع الاصطفاف ووضع المثقف في إطار التوظيف السياسي، فقال: “هذه خلاصة ما تؤول إليه حال المثقف الذي ينتقد “طائفته” عندما تتعبأ حول ايديولوجيا واحدة وثقافة واحدة وخط واحد: تعطيل دوره السياسي كمواطن، بل تعطيل دوره كمواطن باحث وكاتب، منتج لمعرفة ما، أو فن او ابداع. ذلك أن الحياة السياسية اللبنانية أضحى متنها يمارَس داخل الطوائف”.

ليس السياسيون وحدهم أصحاب المسؤولية عن تعطيل عن المثقف كمواطن، فيروس الطائفية  كان حاضراً لدى بعض “النخبة” الذي يسيطرون على واجهة المؤسسات الإعلامية والثقافية والاجتماعية، ومنطق 6 و6 مكرر يحصل ضمن عرض مسرحي أو في ندوة عابرة عن كتاب. قال الباحث أحمد بيضون في مقابلة صحافية: “نشأنا في مواجهة مراجعنا الطائفية لا في حضنها ولا على ركبها (…) انا واحد من مجموعة أفراد (…) يشعرون بأن وجهة النظر الطائفية والتصنيف الطائفي هما تهديد لهم، وهما أمر هم مضطرون لمواجهته بصور متعددة ليس من الضرورة أن تكون دائماً صور رفض. فأحياناً قد تُدعى إلى مناسبات ويُطلب منك مشاركات بصفة طائفية ضمنية. والذين يدعونك لا يصرحون لك بها لكنك تشعر بأن ما جعل هذه المجموعة المدعوة إلى القيام بعمل أو لإعطاء رأي بأمر معين تتشكل على هذا النحو، إنما هو منطق طائفي. هذا المنطق هو الطاغي في البلد”.

ما حصل يحصل في لبنان على مدى سنوات، ربما حصل شبيهه في زمن بشار الأسد في سوريا. يقول أحد الزملاء ممازحاً كنت تسمع تعابير غريبة عجيبة مثل “علوي بس جيد”، “سني بس بيشرب”، “كردي بس وطني”، “معارض لكن يحب الرئيس”، كان التركيز على انتماء المثقفين المعارضين إلى الطائفة العلوية، جزءاً بارزاً من ثقافة الثورة، تعطل دورهم كمواطنين سريعاً. وبعضهم وجد في إبراز ولائه سلّماً للوصول والاستغلال، ووظف أصله الطائفي على شاكلة “المسيحي الوطني”، والأرجح أن النظام الأسدي نشر في أرض خصبة فيروس تعطيل المواطنة في المجتمع وفي الثقافة وفي السياسة، بل انضم بعض المثقفين الموالين إلى خانة معطّلي المواطنة، إذ لديهم اتهاماتهم المسبقة عن كل من كان يعارض، يتهمون كاتباً مؤيداً للثورة بأنه “جبهة نصرة” مع أنه “مسيحي”، أو يتهمون باحثاً تحدّث عن العلوية السياسية بأنه داعشي لمجرد أنه سنّي دمشقي. والآن مع أحداث الساحل والنظام الجديد سقطت الأقنعة، بدأ الفرز بالهمس وربما بالمباشر في الفايسبوك: فلان “روائي سنّي” في مواجهة فلان “شاعر حداثوي لكن علوي”، وذاك مثقف درزي. والأسوأ من ذلك أن بعض المشاهير يُحارَبون لمجرد أنهم علويون… جمال سليمان نموذجاً.

المدن

—————————–

المسلمون منزعجون أكثر من المسيحيين”…  تصاعد مخاوف سوريين بسبب الدعوات الإسلامية/ مناهل السهوي

22.03.2025

ظهرت “الدعوات إلى الإسلام” في الفضاءات العامّة في سوريا بعد فترة وجيزة من سقوط النظام، وتنوّعت أشكالها بين ملصقات تدعو النساء والرجال إلى اللباس المحتشم، ودعوات لنساء “مخمّرات” يطلبن من النساء في الشوارع ارتداء لباس شرعي وصولاً إلى الدعوة للإسلام عبر مكبّرات الصوت.

سيارات دعوية تجوب الأحياء ذات الغالبية المسيحية في دمشق بين الحين والآخر، مردّدة عبر مكبّرات الصوت عبارات مثل: “إن الدين عند الله الإسلام، ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه”.

تمرّ هذه السيارات في مناطق باب توما، وباب شرقي، والقصاع، وصولاً إلى حي الدويلعة، يرافقها عدد من الدراجات النارية، وفي أحدث ظهور لها، توقّفت إحداها أمام كنيسة مار يوسف في حي الدويلعة المتاخم لباب شرقي، وأظهر مقطع فيديو مجموعة من الأشخاص متجمهرين حول السيارة، بينما بدأ رجل غاضب يصرخ: “أنا مسلم، وعبقلك تفل!” ثم يدفع أحد مستخدمي السيارة، قبل أن يصعد هو وشخص آخر إليها ويغادرا الحي.

ظهرت “الدعوات إلى الإسلام” في الفضاءات العامّة في سوريا بعد فترة وجيزة من سقوط النظام، وتنوّعت أشكالها بين ملصقات تدعو النساء والرجال إلى اللباس المُحتشم، ودعوات لنساء “مخمّرات” يطلبن من النساء في الشوارع ارتداء لباس شرعي، وصولاً إلى الدعوة للإسلام عبر مكبّرات الصوت.

قلق مسيحي سوريا يتزايد

تُثير هذه الدعوات قلقاً لدى الأقلية المسيحية، وحتى لدى باقي الأقليات انتهاء بالمسلمين المعتدلين، إذ يرى البعض في هذه الدعوات ضغطاً دينياً في مرحلة حسّاسة من تاريخ البلاد، تقول ريتا (اسم مستعار) وهي شابة مسيحية من دمشق: “الأديان تشترك في رغبتها في نشر تعاليم دينها، لكن الطريقة تختلف. ففي أوروبا، مثلاً، يتمّ عرض الكتاب المقدّس على المارّة في الشوارع، مما يُتيح لهم قراءة بعض الآيات من الإنجيل”.

 تتابع ريتا: “المشكلة التي نشهدها في سوريا هي النزعة الإقصائية، حيث يُنظر إلى الآخرين على أنهم لا يفهمون شيئاً، ويُقدَّم الإسلام على أنه الطريق الصحيح الوحيد. ما يميّز الوضع هنا هو الأسلوب القسري، حيث يتمّ استخدام أساليب ومظاهر غير مألوفة ومزعجة حتى للمسلمين أنفسهم، مثل اللحى والملابس الغريبة مثل الجلابيات، ليتمّ دعوة المسيحين للانضمام، ويُنظر إليهم على أنهم لا يفهمون الحقيقة أو حتى ضالّون”.

تقول كريستين (اسم مستعار) وهي شابة مسيحية، كانت تمرّ قبل أيام في حي الدويلعة وشاهدت سيارة الدعوة: “منذ البداية، قلّة قليلة من المسيحيين ابتهجت حقاً بسقوط النظام، بينما ساد الخوف والتوجّس لدى الأغلبية، خشية أن تنزلق البلاد نحو التشدّد، لا سيما إذا تولّت القوى الإسلامية الحكم”.

غالباً ما يُواجَه قلق المسيحيين، سواء في الأوساط الشعبية أو على وسائل التواصل الاجتماعي، بالقول إن هذه الدعوات تندرج ضمن حرّية التعبير التي يسعى إليها السوريون. وحول ذلك يقول الكاتب والباحث روجيه أصفر: “هل هذه الحرّية تشمل الجميع؟ هل يمكنني كمسيحي، على سبيل المثال، أن أذهب إلى أحياء ذات أغلبية مسلمة وأدعو إلى المسيحية بالطريقة نفسها التي يتمّ فيها التعبير عن هذه الدعوات؟ أعتقد أن الكثير منا يتّفق على أنه أمر غير ممكن. وبالتالي، فإن الأمر لم يعد حرّية تعبير، بل أصبح حرّية محصورة بفئة معينة”.

يتابع أصفر قائلاً: “مع توازن القوى الذي نعرفه، حيث توجد أغلبية وأقليات، ومنطق منتصر ومهزوم ومظلومية سنّية محقّة وعميقة، يصبح الموضوع أكبر من مجرد حرّية تعبير. إنه تحدٍ لفرض رأي معين، ويمكن أن يُعتبَر استفزازاً. إذا كان الحادث فردياً، قد يتعامل الناس معه بشكل مختلف، ولكن عندما يصبح جزءاً من سلسلة تصرّفات صادرة عن سلطة الأمر الواقع، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بفرض آراء دينية على المسلمين السنّة من مذاهب مختلفة، يصبح من السذاجة أن نراه مجرّد تصرّف فردي أو تعبير عن حرّية شخصية. الموضوع يتعدّى ذلك ليصبح فرض رأي وتحدياً واستفزازاً”.

حول هذا تقول ريتا: “ما يزعجني أكثر، هو أن هذا النوع من الدعوة الدينية لا يقتصر فقط على نشر الدين، بل يتضمّن أيضاً التهديد بالعقاب لمن لا يتوافق معه، مما يقلّل من الأمان ويزيد من القلق والتوتّر بين الناس”.

لكن خوف ريتا الأكبر هو أن يتحوّل هذا الدافع الديني إلى تهديد مباشر، أو أن يتعرّضوا للعنف أو حتى القتل. فبعد طرد سيارة الدعوة من حي الدويلعة، انتشرت بين السكان مخاوف من أن يعودوا للانتقام منهم، حسبما تقول ريتا.

بجميع الأحوال المخاوف من هذه الحركات تمسّ الأقليات كلها وحتى المجتمع السنّي المعتدل، الذي لم يعتد هذه المظاهر، وهو ما تختصره كريستين بقولها: “الإسلام مزعوجين أكثر من المسيحيين”، وهذا ما تجسّده حادثة الدويلعة حين قام رجل مسلم بطرد سيارة الدعوة.

خوف على الحريات الدينية

كانت كريستين تدافع عن الحكومة الجديدة أمام عائلتها وأصدقائها، مطمئنةً إياهم بأنه لا داعي للقلق كأقلية، وأن الحكومة الجديدة لن تتجرّأ على ارتكاب أية انتهاكات بهدف الحفاظ على صورتها أمام المجتمع الدولي، خاصّة مع سعيها للتخلّص من العقوبات، لكنها اليوم، باتت تشعر أن الواقع ليس كما تصوّرته، وأن هناك خطراً حقيقياً يهددهم.

تقول كريستين: “قد لا يُغادر المسيحيون سوريا، لكنهم قد يُحرمون من ممارسة طقوسهم بحرّية، في ظلّ توجّه الدولة نحو إسلامية خالصة. قد يُشبه ذلك وضع المسيحيين في الأردن، حيث يمكنهم أداء شعائرهم، لكن من دون صدى واسع أو ظهور علني بارز”.

وهو ما يُوافق عليه روجيه أصفر: “أعتقد أنه ليس هناك خطر مباشر على حياة المسيحيين في سوريا بسبب ديانتهم، بل الخوف الأكبر يكمن على حقوقهم وحرّياتهم الشخصية. فهم يعيشون في قلق دائم على نمط حياتهم الذي قد يتأثّر بالتغيّرات السياسية والاجتماعية. يمكن تشبيههم بعصفور الكناري في المناجم، إذا حدث تهديد أو تغيير غير صحّي، سيكونون أول من يشعر به”.

يُذكر أنه في يوم سقوط حُكم بشّار الأسد، ساد الذعر في بلدة معلولا ذات الأغلبية المسيحية، وفرّ بعض سكانها إلى دمشق، بعد انسحاب جيش النظام السابق وتقدّم “هيئة تحرير الشام”، خشوا تكرار سيناريو 2013، عندما سيطرت “جبهة النصرة” على البلدة لسبعة أشهر، محوّلةً إيّاها إلى ساحة حرب شهدت القتل والخطف وتدمير الكنائس والمنازل.

ما موقف السلطة مما يحدث؟

ما يحصل يُثير أسئلة حول رضى السلطة الجديدة ودورها، وحول هذا يقول روجيه أصفر: “من خلال متابعتي، يظهر لي أن السلطة تتّبع سياسة تسمح بالفوضى، وبتوجّه إعلامي يتقصّد الغموض، وقد تكون جزءاً من سياسة جسّ نبض لمواقف معيّنة وفرض بعض الآراء باسم الدين. يتمّ السماح لبعض العناصر من ذوي الحميّة الدينية العالية، بالتعبير عن آرائهم، أو ربما في حال تلقّي ردود فعل رافضة بقوّة تُمنع هذه التعبيرات لاحقاً، لتظهر السلطة أنها تدعم حرّية الآخرين وتحميهم”.

تواصل “درج” مع الكاهن فراس لطفي من دمشق، الذي قال: “وصلتني مشاهد أناس يدعون للإسلام في أحياء يقطنها المسيحيون في باب شرقي وباب توما، فسارعنا إلى إعلام السلطات المحلّية، التي استنكرت بشدّة وقالت إنها تصرّفات فردية وغير رسمية”، كما أعلمت السلطات الكاهن أنها ألقت القبض عليهم، وشجّعته على تقديم شكوى مباشرة في المرّة المقبلة لدى أقرب مخفر أو جهة أمنية، لكن ظهور سيارة جديدة قبل أيام في حي الدويلعة يُثير تساؤلات عن مدى الجدّية في معالجة هذا الوضع.

يُذكر أنه لا تُوجد أرقام دقيقة لأعداد المسيحيين في سوريا، لكن لا ينفي ذلك تناقصهم منذ بداية الثورة السورية، وترك الكثيرين منهم سوريا نحو بلدان المهجر، خصوصاً مع التسهيلات الأوروبية التي قُدّمت لهم تحت شعارات إنقاذ مسيحي الشرق.

روجيه أصفر يقول: “الخطر على الوجود المسيحي في المنطقة يزداد بسبب سياسات السلطة الحالية. يُعاني المسيحيون من تراجع الحرّيات والضغط الديني والاجتماعي. ربما شعروا بالارتياح لغياب الأسد، إلا أنهم لا يرون أي مؤشّر إيجابي من السلطة الجديدة، مما يعني أن الوضع لم يتحسّن بشكل ملموس، ولا يبدو أن الوضع الحالي يُشير إلى تحسّن حقيقي مقارنة بالوضع السابق  النظام السابق”.

يزيد الوضع الاقتصادي من الاحتقان في الشارع السوري، كما يتسبّب بالإحباط لكثير من السوريين بخاصة الشباب، الذين حاولوا التمسّك بالبلد رغم انتهاكات نظام الأسد.

تقول ريتا: “قضيت سنوات طويلة متمسّكة بفكرة أنني لا أريد مغادرة البلد، وأنني أحبّ هذا المكان وأريد العودة إليه دائماً. لكن في الآونة الأخيرة بدأ شعور جديد يتسلّل إليّ. صرت أفكّر أنه ربما أصبح من الضروري مغادرة البلاد بسبب حالة الخوف المتزايد، وكأننا نعيش تحت تهديد مستمرّ. لقد كنت أظنّ أن الوضع في سوريا كان صعباً بسبب النظام والظروف الاقتصادية، لكن الآن بدأت أشعر وكأننا نعيش في جوّ من الاضطهاد والخوف، وكأننا قد نكون الضحايا الجدد”.

تتابع ريتا: “حتى أصدقائي المسيحيين يتحدّثون بالطريقة نفسها عن مغادرة البلاد، ويتشاركون المخاوف نفسها. نحن لم نعد نخشى فقط من الاعتقالات والتضييق على آرائنا، بل أصبح الخوف من أن الانتماء الديني نفسه يشكّل تهديداً لنا”.

درج

————————–

بستان هشام: ماذا عن عودة دمشق الأموية؟/ عدي الزعبي

22-03-2025

            أيّـامَ عاصِمَةُ الدّنيا هُـنَا رَبطَـتْ                   بِـعَزمَتَي أُمَـويٍّ عَزْمَـةَ الحِقَـبِ

            نادتْ فَهَـبَّ إلى هِنـدٍ وأنـدلُـسٍ                    كَغوطةٍ مِن شَبا المُـرَّانِ والقُضُـبِ

            سعيد عقل. قرأتُ مجدك

        يرتبط تاريخ سوريا الحديث بمبالغات قومية فجة، ساحرة البلاغة، لشاعر متفرّد، عنصري، حقود، طبع شعره النقي على صورة البلد الفتي الخارج من تاريخٍ مضطربٍ مشتت عتيّ.

        احتفى سعيد عقل بالإمبراطورية الأموية، ومعقلها الدمشقي. وفي فترة تشكيل الوعي الوطني، أصبحت أغانيه أثيرةً على أثير إذاعة دمشق. استعارت سوريا من لبنان الثلاثي الموسيقي: فيروز والأخوان رحباني وعقل، ليبنوا لها استعادة قومية عجيبة: عروبة أوسع من البلد، بين ماضٍ ادّعوا أنه بيّن مفهوم، وحاضرٍ مخرومٍ تحوّل إلى كابوس طويل مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة.

        ومع تحرير سوريا، تعود مبالغات الأمجاد الاموية، بلافتات وتصريحات واحتفالات تحيي تراثنا الأموي، وتنطق بمحبة أسطورية، دمشقية بشكل رئيس، لبني أمية، أبناء عم الرسول. كأن سقوط آل الأسد فتح أبوابا لاستعادة تاريخ مفقود، عاثت فيه ميليشيات شيعية متطرفة فساداً، حارمةً أهل السنة من معقلهم الأموي السنّي التاريخي الأقدس.

        ويبدو أن هذا ما أثار حفيظة الرئيس السوري، أحمد الشرع، في مقابلة شهيرة:

        «أهل الشام لم يعتادوا على رؤية مثل هكذا خطاب، أهل الشام مسالمين، هم أبسط من أن يدخلوا في حالة نعرات ثقافية وطائفية وتاريخية، ليس لهم فيها ذنب. أحداث حصلت منذ 1400 سنة، ما علاقتنا نحن بها؟ يأتون أناس ليثأروا من أهل الشام، على حدث تاريخي حصل قبل 1400 سنة؛ أي عقل هذا؟ أي منطق؟ شو علاقتنا بالموضوع؟… هناك من يستغل حالة فقهية أو شرعية… ليحتل أراضي وبلدان… والنتيجة تكون دوماً سقوط عواصم عربية في يد دولة مثل إيران..».

        ولا أعلم كيف ينظر الرئيس، أو الوزير أسعد الشيباني، أو السيد أنس خطاب رئيس المخابرات العامة (هؤلاء أشهر القادة اليوم، وأكثرهم نفوذاً، على ما يُشاع)، أو غيرهم من شباب الهيئة، إلى تراث فيروز الأموي الدمشقي. هذا سؤال مفتوح، وأرجح أنهم يميلون إليه، بسبب توافق الآراء بين الطرفين: الثلاثي اللبناني، وأصحاب المحطة الأخيرة الكبيرة في التحرير.

        وعودة سوريا إلى أمويتها أمرٌ لا مراء فيه (حلوة لا مراء فيه؟ ها؟)؛ وأنا لا أماري فيها، خصوصاً إذا كان المقصود أن سنّة سوريا استعادوا بلدهم من شيعة إيران. واليوم، سقط ذلك النظام الذي استجلب الميليشيات الشيعية، وحان الوقت لعودة الأمور إلى مجاريها؛ ولو تفاءلنا، نحو مواطنة متساوية لكل السوريين، بغض النظر عن انتمائهم الطائفي والإثني والجندري.

        ولكن، ما صلة كل ذلك، بالضبط، بالأمويين العظام، السلالة الأكثر أهمية في تاريخ الإسلام؟ كيف يعود تاريخٌ انتهى قبل 1400 سنة، إلى الحياة، في القرن الحادي والعشرين؟ لماذا الأمويون، تحديداً؟

        أولاً، وقبل كل شيء، لم تحقق سوريا، أو دمشق، مجداً كالذي عرفته أيام الأمويين: حكموا نصف العالم المعروف حينها. وفتوحات الأمويين أكبر وأوسع من فتوحات الراشدين والعباسيين مجتمعين. ويدينُ انتشار الإسلام لهم أكثر مما يدين لأية أسرة أخرى. تسعون سنة، فقط لا غير، عمر الحكم الأموي، غيّرت وجه تاريخ العالم، بدون رجعة. لا يوجد في تاريخ دمشق، أو سوريا كلها، ما يضاهي المجد الاموي، أو حتى يقترب منه، لا قبلهم، ولا بعدهم. هذه كانت المرة الوحيدة التي شكلت فيها سوريا إمبراطورية مترامية الأطراف. قبلها، كانت ممالك مفككة، تخضع غالباً للجيران في الرافدين، أو مصر، أو الحثيين من الشمال؛ ثم، للإسكندر وخلفائه، وبعدهم الأرمن، والرومان، والبيزنطيين. وبعد الأمويين، أيضاً، بقيت عاصمة صغيرة لممالك صغرى وولايات منكمشة؛ باستثناء عهدي أبطال الإسلام الأشهر والأنقى: نور الدين الزنكي (التركي) وصلاح الدين الأيوبي (الكردي)، ولكن بإمبراطوريات أصغر بكثير من الأموية. وبهذا المعنى، تكون دمشق، وسوريا كلها، أموية: وستبقى أموية.

        آه، تذكرتُ أمراً شديد الأهمية. ربما يجب أن نسأل الصحفي الباحث حسام جزماتي حول الموسيقا. فقد كانت جبهة النصرة، على ما أذكر، تحرّم الموسيقا. واليوم، سليلتُها، هيئة تحرير الشام، لا تعلّق على الموضوع. والسيد حسام يتابع تفاصيل أساليب وأفكار الهيئة، بدقة فذة، لا أعرف من أين يأتي بها. السؤال له، ولنا، هو التالي: هل تغير قادة الفصيل؟ هل يستطيع شبابه تعديل أفكارهم؟ أم أنهم ما زالوا يحرّمون الموسيقا، بما فيها أغان لا يجوز تحريمها، مثل «اسهار بعد اسهار» و«يا حبيبي كلما هب الهوى»؟ وبكل الأحوال، كما نعلم جميعاً، لا يوجد ما يشير إلى هذا التحريم، على الإطلاق، منذ التحرير في الثامن من كانون الأول (ديسمبر)!

        ولكن، ماذا فعل هؤلاء الأمويون؟ ما الذي أرادوه؟ كيف أداروا البلاد؟ وماذا يبقى منهم، إلى جانب الفخر القومي الأجوف؟

        بدايةً، تاريخهم متداخل مع تاريخ الراشدين والعباسيين. لا يمكن تقسيم التاريخ الثقافي والفني والإداري والاقتصادي إلى شرائح مختلفة بناءً على تعاقب السلالات الحاكمة. عهد معاوية أقرب في مضمونه إلى عهد الراشدين. وقد يكون معاوية بن أبي سفيان خامس الخلفاء الراشدين، لأنه الأخير الذي اعتمد أسلوب الحكم العربي شبه-البدوي الديمقراطي في شبه الجزيرة، حيث لم يكن عنده حاجب أو وزير، وسياساته كلها تقوم على المفاوضات والمراضاة وحسابات القبائل. وتحوّل الأمر إلى ملكية على الطريقة الساسانية/البيزنطية مع قدوم الفرع المرواني من الأسرة الأموية، ليكتمل مع وصول المأمون العباسي إلى السلطة.

        أسلم معاوية مبكراً، وحسُن إسلامه بشهادة الجميع. كان على علاقة طيبة مع أبي بكر وعمر وعثمان، وأبلى بلاء عظيماً في فتوحات سوريا، كقائد عسكري وكوالٍ لا يشق له غبار. ولم يكن وحده من طالب بدم عثمان. في الحقيقة، الكثير من المسلمين كانوا يساندونه، ويريدون معاقبة أولئك الذين اغتالوا خليفة رسول الله وصديقه، الاغتيال الذي رفضه علي وأبناؤه. وجاء اغتيال الإمام علي مصادفة، فمال عموم المسلمين إلى معاوية، بما فيهم الحسن والحسين، وبايعوه، كما بايعته القبائل، في محاولة صادقة لحقن الدماء. والتزم معاوية بكل تفاصيل اتفاقياته، باستثناء توريث ابنه الخلافة (وكان الشيعة سبّاقين في تقديم فكرة العائلة الملكية، قبل الأمويين). وحدهم الخوارج، صادقين مع أنفسهم ومتسقين تماماً مع إيمانهم المتطرف ضد فكرة السلطة، والتطهرية العنيفة مع الأعداء بما فيهم المدنيين، رفضوا معاوية وعلي، ولم يروا أي فارق بين الرجلين. وسيتابع الخوارج معركتهم لعقود ضد الأمويين والزبيريين والشيعة والعباسيين.

        ودعوني أعود إلى الموسيقا: بغض النظر عما يسمعه قادة الهيئة من أغانٍ، أو ما سيقوله الأستاذ حسام عن الموضوع، لا يتضح من التاريخ متى بالضبط أصبحت فكرة تحريم الفنون مقبولة عند بعض الفقهاء. على الأغلب، بالتدريج، في نهاية العصر العباسي ربما. في عصر الراشدين، والعصر الأموي، انتشرت مجالس الغناء، خصوصاً في دمشق والمدينة المنورة. وامتلأت قصور الأمويين برسومات مأخوذة من الفن البيزنطي، وهو أمرٌ سيتكرر مع سلالات لاحقة، وفي المنمنمات التي ستتحوّل إلى فن. ولكن، ليس في المساجد: منذ البداية، ابتعد المسلمون عن أي تجسيم في معابدهم. وعلى أية حال، شجع المصلح السلفي الأستاذ الإمام محمد عبده الفنون، وأصّل لها فقهياً.

        مرّ مقتل الحسين سريعاً مع توسع الدولة، وكان لثورة عبد الله بين الزبير في الحقيقة أخطار أكبر من ثورة الحسين بكثير. وسيتناسى المؤرخون ثورة آل الزبير (وحده الإمام السيوطي سيعتبرهم خلفاء شرعيين!) ليبقى دم الحسين لعنةً سيكررها الشيعة على رؤوس الأمويين، وسيساهم العباسيون في تشويه سمعة أسلافهم، أيضاً.

        وبعيداً عن الخلاف السني- الشيعي، قدّمت الخلافة الأموية بعض أهم شخصيات الأمة وأكثرها تأثيراً: معاوية الذي وحّد الأمة بعد العنف والتمزق في الفتنة؛ وعبد الملك وابنه الوليد اللذان شيّدا الدولة العربية ومؤسساتها، بتعريب الدواوين والعملة المتداولة، وبناء الجامع الأموي وقبة الصخرة- بداية العمارة الإسلامية الفنية. ولاحقاً، عمر بن عبد العزيز، حفيد الخطاب، العادل الزاهد. وأكثرهم أهمية، يزيد الناقص: الفيلسوف الذي آمن بالحرية البشرية والديمقراطية والمساواة (على العكس من الخليفة الفيلسوف الأشهر، المأمون، الذي اتّبع نخبوية المعتزلة العقلانية المحتقِرة للعامة)، ويكاد يكون الخليفة الوحيد الذي مثّل معاني الإسلام الأعمق (برأيي، وبرأي صديقيه المتكلم الجهم بن صفوان والثائر الكوزموبوليتاني الحارث بن سُريج، ودراسات أستاذنا هادي العلوي). وأخيراً بطولة مروان الحمار وشجاعته وحنكته، التي لم تساعده مع انهيار الجيوش والمعنويات.

        ولا يستطيع المرء أن يهرب من التساؤل: هل يقرأ شباب الهيئة أشعار نزار الأموية؟ أو رياض الصالح الحسين؟ أو المعري؟ أو أبي نواس؟ هل يستمعون إلى «مضناك جفاه مرقده»؟ أم يفضلون أغاني فضل شاكر، السنّي الصادق، ابن الثورة السورية المخلص؟ الأناشيد الجهادية؟ أو ريم السواس، سراً، كما أفعل أنا ومعظم أصدقائي؟ أم يفضلون الجوبي على الدلعونا؟ ولكن، ما لي ولهم: فليسمعوا ما يريدون، طالما لا يفرضون رأيهم علينا: تتسع سوريا، وفنها، ومستقبلها، للجميع: للسلفيين، والإخوان، والقوميين العرب، والشيوعيين، ومحبي أبو وديع، والحلبيين، وخلاعة ريم وسارية السواس، بل حتى هذا الراب العربي الحديث الذي لا أحتمله، ولكل من تطيب له نفسه أن يدلي بدلوه، ويغني ويدندن بما يعجبه ويطربه، في هذا البلد الحر.

        ودعوني أقدّم صورة غير دقيقة تماماً لما حدث مع السنّة: التبستْ صورة الأمويين في الأذهان، مع صعود الماركسية في العالم العربي، والقراءات المادية للتاريخ الإسلامي، بحيث أصبح المذهب السني، متمثلاً بالأمويين والعباسيين، صورة للجمود الديني، «الثابت»، والشيعة المتصوفة والأقليات (يستخدم المسلمون لفظ «الفرق») صورة «للمتحول»، بحسب بعض التأويلات لعمل أدونيس. بحث العلمانيون عن ثوريين في الإسلام، واهتدوا إلى الحسين، فاعتبروه ممثلاً لهم. تلك القراءات ترافقت مع هوس غربي قديم-متجدد استشراقي بالأقليات، على حساب السنّة (تذمر عبد الرحمن بدوي من هذا الهوس، ومن حجم الدراسات الهائل المخصصة للأقليات). فوق كل ذلك، وصل العلمانيون إلى صورة مشوهة للصوفية، مثل «دين الحب» وغير ذلك من قشور لا تشكل جوهر الصوفية، ووضعوا تلك الصورة في مواجهة ما رأوا فيه جموداً وتخلفاً وتعصباً يتسم به أهل السنّة. ومع صعود نجم الخميني، تعاضد العلمانيون معه، وشجّعوه، واعتبروه معبّراً عن الثورات الشعبية الحقيقية الأصيلة. (تذمر صادق جلال العظم من الإعجاب الكبير الذي يكنه العلمانيون للخميني، مبكراً جداً). ويجب أن نضيف: لم تساعد ممارسات المملكة العربية السعودية منذ خلافها مع الناصرية حتى انقلاب محمد بن سلمان في تحسين صورة السنّة، ولا الجرائم الهائلة التي ارتكبها «أسد السنّة» صدام حسين، ولا شعارات وبرامج الإسلام السياسي عموماً.

        وبخصوص الثورة: كل ما سبق تخرصات لا توافق التاريخ. لا يوجد شيعة ثورية وسنّة سلطوية: الفكر الشيعي المتعلق بحكم ديني لآل البيت أكثر سلطوية وثيوقراطية من الفكر السني السياسي، المتردد عموماً بين خلافة مطلقة وشورى غير ملزمة. ولكن، تاريخياً، الأقليات والطوائف غير السنية تحبّذ الثورات، ولا يحبذها السنة عموماً، بمعنى أن التذمّر من الولاة، والبعد عن مراكز السلطة، يجعل المتذمرين أقرب إلى الخوارج أو الشيعة في معظم الأحوال. وهذا لا يعني أن أحد الطرفين أكثر تحرراً، بمفاهيمنا الحالية. هناك تجليات مختلفة للتحرّر والتمرد: مقتل الحسين، وثورة النفس الزكية، وحبس ابن تيمية، وصلب الحلاج، وجلد أبي حنيفة، وسجن أبي العتاهية والمتنبي والفرزدق، ونفي ابن رشد، وغيرها الكثير، مظاهر متعددة لثورية مساواتية أصيلة لا-سلطوية مختلطة بالدين وبقيمه وبرؤاه الديمقراطية وغير الديمقراطية، بتمظهُراتها الشيعية والسنية. 

        يفكر المرء أن أغاني فيروز الدمشقية، لم تكن لتُسجّل إلا لأنها سبقت الانهماك العلماني بثورة الحسين وتراثه منذ صعود الماركسية، ثم الانقسام الشيعي السني الذي انفجر بعد ثورة الخميني والحرب العراقية الإيرانية التي تبعتها. أقصد أنه لم يكن ليجرؤ أحد في لبنان أو سوريا على التغني بالأمويين بهذه الطريقة، في العقود التي تلت تسجيل الأغاني. البراءة التي غنّت بها فيروز دمشق الأمويين، بدون أبعاد سنّية، مثيرة جداً لنا، في هذا العصر، عندما تعود دمشق أموية!

        وتغيب عن شيطنة الأمويين المستمرة نهايتهم المأساوية. المجزرة التي حلت بهم لا مثيل لها في تاريخ الإسلام كله. استؤصلت شأفتهم بهمجية. قُتل أفرادهم فرداً فرداً، ولوحقوا، من حدود الهند حتى أقاصي المغرب العربي. ولولا الحظ والشجاعة اللذان رافقا عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس، لما بقي منهم ذرة. نُكّل بهم، وعُذّبوا، وقُطّعوا، ونُبشت قبورهم، وأُحرقت جثثهم. انتقام غير مفهوم، لا يرضى به دينٌ. ومع ذلك، لم يكفِهم ذلك، وبقي كثيرون يشهّرون بهم، ليل نهار.

        وبالإضافة إلى كل ما ذُكر أعلاه، وبالاتفاق مع السيدة فيروز، يبدو لي أن دمشق أموية لا تعني بالضبط أنها سنّية. ولدينا سببان يجعلنا نؤكد ذلك: الأكثرية المسيحية، والفن والثقافة البيزنطيان.

        كان معظم سكان بلاد الشام مسيحيين في العهد الأموي، ربما أكثر من ثمانين بالمائة. ولا أعلم إن كانت محاولة تنصير معظم الشعب السوري اليوم، لإعادة عقارب الساعة إلى العهد الأموي، ستحظى بموافقة محلية، خصوصاً من السنّة. بالإضافة إلى ذلك، سيكون لعملية التنصير الواسعة صعوبات أخرى: هل ننصّر الناس على المذهب الأرثوذكسي، أم اليعقوبي؟ في نهاية العهد البيزنطي، وفي العهد الأموي، انقسم مسيحيو سوريا بين الروم الأرثوذكس، وبين اليعاقبة. تبنى معظم العرب والسريان المذهب اليعقوبي، وكانت اللغة السائدة السريانية وأشكال مختلفة من الآرامية في الأرياف، مع حضور اللغة العربية في أماكن كثيرة. وفي المدن، ساد المذهب الأرثوذكسي الملكي، وكانت لغة الثقافة والحكم والإدارة اليونانية. وفوق كل ذلك، هناك جيوب وثنية صغيرة. لأسباب تاريخية متعددة، تراجع الحضور اليعقوبي، وأصبح معظم مسيحيي سوريا من أتباع كنيسة الروم الأرثوذكس.

        لو أردنا أن نحافظ على اللغة العربية، والأكثرية السنّية، يجب أن نقفز في الزمن بضعة قرون، أو حتى أكثر، نحو العهد المملوكي: أي أن تعود دمشق مملوكية، لا أموية! فقد انتشر الإسلام بالتدريج. لم يفرض العرب دينهم، أو لغتهم، بالسيف. عوامل متعددة، منها قمع متقطع، أتاح للغة والدين أن يسودا. لذا، العودة الطوعية إلى العهد الأموي غير ممكنة، إلا بعمليات تنصير واسعة في المدن والأرياف، عمليات قد يوافق عليها الغرب لرفع العقوبات عن سوريا.

        السبب الثاني، الوضع الثقافي. تشكلت الثقافة الإسلامية بالتدريج، وأخذت شكلها الواضح المميز في بغداد، في العصر العباسي. الفن الإسلامي التجريدي، والخط الكوفي والثلث، والأرابيسك، والمقامة، والمنمنمات، وغيرها، منجزات عباسية. الفن الأموي شكل حلقة وسيطة بين العباسي والبيزنطي. والثقافة، الأدبية والشعرية، شبه غائبة. في الحقيقة، شكلت أهاجي جرير والفرزدق والأخطل أشهر ما قدمته الثقافة العربية في هذا العصر، وهو أسوأ وأبغض ما قدمه العرب في تاريخهم كله. شيء معيب، ومخجل. على العكس، حققت سوريا إنجازاً لا مثيل له، عندما قدمت شيخنا المعري، ملاك الأدب العربي، بعد قرون من نهاية العهد الأموي.

        لا دينياً، ولا ثقافياً، تبدو العودة إلى العهد الأموي مغرية اليوم.

        لماذا؟

        الجواب بسيط ومعروف: لا يوجد ماضٍ قومي نهائي سرمدي، تقوم في جوهره أمة متخيلة مفترضة ثابتة أصيلة عبر التاريخ، لا عربية، ولا إسلامية، ولا سنّية، يمكن استعادته واستعادة أمجاده كلما شعرنا بالضيق والخسارة. سوريا بلد متخلخل الانتماء والمعنى، ربما، أكثر من جيراننا في شبه الجزيرة، ومصر، والرافدين، وتركيا، واليونان. وهذه ميزة، يجب أن نتمسك بها. «الفسيفساء» السورية واقعة تاريخية، ترتبط بوجود سني عربي أكثري، وبضعف هوية وطنية واضحة الملامح. هذه بلدنا، ومنها يمكن أن نبني سوريا الجديدة: يمكننا أن نستشير الماضي، ونناقشه، ونتفاعل معه، كي نرسم المستقبل كما نريده نحن اليوم.

        وماذا عن عودة دمشق الأموية، التي تتردد يومياً على مسامعنا؟

        طيب: المقصود من ترديد جملة «دمشق أموية»، هو الحاضر، وليس الماضي. الماضي الأموي لم يكن سنّياً، ولكن الحاضر متخم بالخلاف الطائفي، العلوي/السني، والاحتلال الشيعي وجرائمه. اجتاحت الميليشيات الشيعية دمشق، على مدى عقد الحرب، لاعنةً معاوية والأمويين علناً وفي الشوارع، وأحياناً شاتمةً أبا بكر وعمر، أيضاً. نفهم من هذه العبارة إذن، التخلص من الاحتلال الشيعي الإيراني وأذرعه، واستعادة كرامة الأكثرية السنية. وهذان أمران مقبولان، ولكن مع شرح صريح لما حدث، ويحدث، وسيحدث: أي نقاش الانقسام العلوي/ السنّي في البلد، ومخاطر تحول السنّة إلى جماعة حاكمة على حساب الأقليات.

        ويبدأ النقاش مع تحرير دمشق، ولا يرجع إلى زمن الأمويين، بل إلى أيام حافظ وابنه بشار: هل كان نظام الأسد طائفياً؟ وبأي معنى؟ بعض العلمانيين يصرّون على أن النظام البائد لم يميّز بين السوريين، وأن ضحاياه من كل الطوائف، وكذلك المستفيدين منه. أي أنه نظام علماني، والطائفيون هم من يرفضون الإقرار بذلك. في حين يرى علمانيون آخرون، وأنا منهم، أنه نظام طائفي بشكل كبير: توزيع المناصب محاصصة طائفية، والمحسوبيات طائفية، والأهم، أن التعذيب في سجن تدمر (في الثمانينيات) وفي صيدنايا في الثورة الأخيرة يكاد يقتصر على السنة، واستهدفتهم قوى النظام وبراميله بشكل مقصود مخصوص. البلد كان يخضع لسيطرة علوية أمنية، دفع ثمنها السنّة. ليس كجنوب أفريقيا، أي كل علوي يتمتع بامتيازات على حساب كل السنة. كلا، بسبب التركيبة المحلية، والاعتماد على حزب قومي عربي اشتراكي (البعث)، لم يكن هذا ممكناً أو مرغوباً. بل جرى تطييف البلد بالسر، وحكمها حافظ وبشار من خلال إثارة مخاوف الأقليات، خصوصاً العلوية. ولقد سمعتُ من عوائل علوية كثيرة، أن ليلة 7 كانون الأول (ديسمبر) 2024، هي أكثر أيامهم ذعراً: جهّز الكثير منهم أطفالهم ونساءهم للانتحار، بدلاً من أن يقبض عليهم الجهاديون ليغتصبوهم ويذبحوهم. لم يحصل ذلك؛ ولكن الذعر الذي انتشر، ما زالت جذوره قائمة. والتجاوزات والانتهاكات تتكرر بحق العلويين، العسكر والمدنيين، منذ السقوط. وفي السادس من آذار (مارس)، حدثت المذبحة: عقب عملية اغتيال لأفراد من الأمن العام قامت بها فلول النظام، ارتكبت مجموعات مسلحة سنّية تابعة لوزارة الدفاع السورية مجزرة بحق العلويين، لأنهم علويين، استمرت عدة أيام، يندى لها جبين البلد المكسور، وسيذكرها تاريخ سوريا طويلاً جداً.

        وعلى الرغم من محبتي وتقديري وإعجابي بالعهد الأموي، إلا أن الفخر بالماضي المتخيّل تثير ذعري من الفروسية، والتعصب، والجهل بالتاريخ، والمثالية الطهرانية، وتغييب كل فعل براغماتي وتفكير عملي- وهذه عماد الديمقراطية والتسامح. البلد تغلي بخطابات متعددة، متناقضة، مركّبة، مربكة- وعلينا ان نختار ما نريده، وألا نترك أنفسنا تنساق خلف إحياء تاريخ وهمي، مبني على مبالغة قومية وطنية، أو دينية، هو فاتحة كل عنف وانتقام في الثورات المنتصرة.

        وأفضّل أن نعجب بالأمويين بعين تاريخية، واقعية: العهد الذي يفصل البيزنطيين عن العباسيين، الانطلاقة الواثقة في الفتوحات، الرغبة بالاكتشاف، الإنصات والتجريب، التأثر بالثقافات المحلية والغريبة والبعيدة والقريبة والاستفادة منها والعمل معها، التخبط البشري في محاولة الوصول إلى المثال الديني، فساد بعض الولاة والعمال وأفراد العائلة الحاكمة، انفجار العصبيات القبلية التي لعب على وترها معظم الخلفاء، بالإضافة إلى مشكلة العرب وغير العرب: دخول العجم في الإسلام لم يترافق مع توزيع الغنائم بالتساوي على الجميع، وهذا ما سيفعله العباسيون في ثورتهم، لينهوا سيطرة العرب على الدين والدولة، فاتحين المجال أمام مساواة كاملة.

         كل هذا لم تعكسه أغاني فيروز، ولا الاحتفاء بعودة دمشق الأموية.

        إذن، ماذا نفعل مع أغاني فيروز الدمشقية؟

        لا أعرف. أنا أتخبط هنا، كدمشقي في أندلس: بعض الصور جميلة، والتلحين ساحر، يضيف إليها صوت فيروز بعداً ميتافيزيقياً قصيّاً. على سبيل المثال: «حلواً كما الموت، جئت الموت لم تهب»، أو« شـامُ أهلوكِ إذا همْ على نُـوَبٍ، ٍقلبي على نُـوبِ»، أو «الهوى لحظ شآمية، رق حتى قلته نفذا». ليس أنني لا أطرب، بل وأطير، في تلك الصور تغنيها فيروز في صباحات دمشق المنهكة الحزينة التي لا تشبه ذلك الفخر أو المجد. ولكن، على العموم، على المرء أن يكون حذراً جداً من الحماسة الزائدة، خصوصاً في الموسيقا، أحد أعمق ملكات البشر الغريزية العاطفية. وقد طالب أفلاطون بفرض رقابة صارمة على كل أنواع الموسيقا، لأنها تثير العواطف، وتشكم حكم العقل. وكان محقاً في تحليله لتعطيل العقل. ولكنني لا أؤمن بالطغيان، بل بحرية واسعة؛ ولا أتبع أفلاطون، عكس فلاسفة العرب والنهضة الأوروبية وأرسطو، الذين احتقروا العامة والديمقراطية.  ولا تراودني أية أحلام إمبراطورية، لا أموية ولا عباسية ولا رومانية، وأفضّل دوماً واحدة من تجسدات فيروز الأخرى؛ ربما، فيروز «كيفك إنتا»، أو «لله كبير»، أو «قد أتاك يعتذر»، أو «يا مية مسا»، أو «قديش كان في ناس»…

        وهذه التجسدات يمكن أن يسمعها المرء في البستان؛ وكلمة بستان فارسية الأصل، وتعني حديقة المنزل، إذ انتشرت فكرة الحدائق في الحضارة الأخمينية، ومنها أخذها السلوقيون والعرب والمسلمون والرومان. وليس كما في الصورة الباذخة الفاخرة الساحقة، في قصيدة سائليني، لسعيد عقل، التي شدت بها فيروز متحّكمة بمشاعر الحب والمجد معاً، بسيطرة مرعبة كاملةٍ على أنفاسها الرقيقة:

            أمَـويُّـونَ، فإنْ ضِقْـتِ بهم             ألحقـوا الدُنيا بِبُسـتانِ هِشَـامْ

        ما كل هذا الترف، لملوك لا يهتمون بنا؟ ما كل هذا التمسك بسلطة تريد حكم العالم؟ ولماذا نحكم العالم، أصلاً؟ تحويل الدنيا كلها إلى بستان أموي، للخليفة هشام بن عبد الملك، المشهور بحكمته، وبخله أيضاً؟ كلا، كلا يا أصدقاء، على العكس من هذا الترف، أتمنى لو استطاع كلّ منا أن يملك حديقة منزلية صغيرة، بستاناً شخصياً فارسياً حميمياً ناعماً بسيطاً؛ لو كان كلٌ منا خليفة، كل شخص، في سوريا، وخارجها، في كل مكان في المعمورة: مع أزهار محلية، كالجوري، والغاردينيا، والياسمين، والأقحوان؛ وربما، شجيرات نعناع، وخزامى؛ وأشجار فاكهة حلوة، كالإجاص؛ وبالطبع، الكرمنيتنا التي تملأ شوارع دمشق وتلوّنها بعذوبة أرضيّة؛ أو أحراش قرى قرفيص وسلحب وصنوبر وأرزة، بزيتونها الذي يكاد زيته الدامي يضيء البلد المعتم الحزين.

        سوريا اليوم على مفترق طرق، بعد خروجها من الكابوس. لسنا بحاجة إلى النفخ في تفاهة المجد؛ بل على النقيض، الغرق في جمال البساتين، والخضرة الطبيعية، وتفاهات الحياة اليومية، والكسل البشري، على طريقة الولاة الأمويين وقصورهم المنتشرة من الرصافة في البادية إلى جنوب فلسطين؛ وأيضاً، حتى لو كان الأمر مربكاً متعباً، القدرة على تقبل الخلاف: بين أولئك الذين يشربون «المتة» (الدروز والعلويون وأهالي القلمون)، وبين من يشربون الشاي (وانا منهم، السوريون الحقيقيون الطبيعيون يعني)؛ أو من يشربون القهوة حلوة (أعوذ بالله، وتجدهم في كل الأعمار والأطياف والطوائف)، ومن يشربونها سادة (ذوّاقة القهوة النبلاء)، وبين من يشربها وسط (أف، شو تقل الدم هاد؟)، وبين من لا يشربها (آه، يعيشون بيننا أيضاً بشكل طبيعي!)؛ بين من يقرأ المتنبي ويعتبره شاعراً عظيماً بترفعه وغروره وشتائمه (وهم أغلبية، للأسف الشديد) ومن يفضلون المعري بهدوئه وحزنه وتأملاته التي لا تجد أجوبة (أولئك سينقذون سوريا، والعالم)، وحتى من يقول إنه لا يقرأ الشعر العمودي بتاتاً (لا تعليق على أمثالهم).

        ولو كان لي أن اختار استعادة أموية، لملتُ إلى لطف نزار قباني، الأموي بحق، المهووس بالحب والجمال، بدلاً من الأمجاد. ليس أنني أعتقد أن نزار كان مهتماً بالدقة التاريخية؛ لا والله، كان الرجل يعبث بالوقائع والحقائق، ويشجع تصورات أمجاد تافهة كما فعل عقل- ولكنه يقلب معنى الأمجاد إلى أبعاد حسية، تعلي من شأن القبلة، واللمسة، والهمسة:

            أدخل صحنَ الجامع الأمويّْ

            أُسلِّمُ على كلِّ من فيهْ بَلاطةً.. بلاطهْ

            حمامةً.. حمامَهْ

            أتجولُ في بساتين الخطِّ الكُوفيّْ

            وأقطفُ أزهاراً جميلةً من كلام اللهْ …

            وأسمعُ بعينيَّ صوتَ الفُسَيْفُسَاءْ..

            وموسيقى مسابح العقيقْ..

            تأخذني حالةٌ من التجلِّي والانخِطَافْ،

            فأصعدُ دَرَجاتِ أوَّل مئذنةٍ تُصادِفُني

            مُنَادياً:

            «حَي على الياسمينْ»

            «حي على الياسمينْ».

موقع الجمهورية

———————————

 في غربة السلطة الجديدة عن سوريا/ عمر قدور

السبت 2025/03/22

لا معلومات معلنة في سوريا حول تسيير الأمور الحكومية فيها. فمثلاً، ألغى الإعلان الدستوري منصبَ رئاسة الحكومة، وهناك حكومة لها رئيس يُفترض أنها حكومة تصريف أعمال انتهت مدة ولايتها، التي قيل إنها لثلاثة شهور. ولا يُعلم شيء عن مصير الحكومة المقبلة التي سيرأسها السيد الشرع بموجب النظام الرئاسي الجديد، مع أن بعض زواره كان قد نقل عنه نية تشكيلها في بداية الشهر الجاري، ثم رشحت أخبار عن رجال أعمال سيكونون من ضمنها، وسرعان ما نفوها.

يُذكر أن الحكومة الحالية تجاوزت (بكثير من القرارات والإجراءات) ما تكون عليه حكومات تصريف الأعمال عادةً، لكن لا يوجد نقاش سوري عام حول التخبط في ملفات أساسية خاصة بالدولة السورية. ومنذ تسلمت السلطة الجديدة مهامها هناك تيار، هو الأعلى صوتاً، يريد إسكات أي صوت نقدي. السلطة نفسها تبدو، بالمقارنة مع مناصريها، أكثر تسامحاً مع النقد، ولو من باب تجاهله، بعدما سعت في أيامها الأولى إلى الإيحاء بأنها تتابع حتى ما يُنشر عنها في السوشيال ميديا. التيار الجارف للمتطوعين يتكفّل أيضاً بحرف أي نقاش عن موضعه وعن أهدافه، ومن ثمّ تسخيفه لجعل السلطة أعلى من أن تكون موضع بحث وتدقيق.

مما لم يُطرح للتفكير موضوع غربة السلطة الجديدة عن سوريا. نعلم أن هناك من سيصرخ مستنكراً: وهل كانت سلطة الأسد تمثّل السوريين وقريبة منهم؟ في الجواب: بالتأكيد، نشأ بشار الأسد في كنف القصر، وتربّى مع أشباهه من أبناء السلطة، ولم يكن في أي يوم ابناً لسوريا وقد رأينا حصيلة ذلك.

بالعودة إلى غربة السلطة: هذا كلام لا يضير السلطة إذا أريد أخذه بواقعية، فالأكيد أن السوريين، بسبب انقسامهم بين خمس سوريات، صاروا غرباء عن سوريا الجامعة بحدودها المعترف بها دولياً. الذين أتوا مع السلطة من إدلب إلى دمشق قد يكون كثر منهم يرى العاصمة لأول مرة في حياته، ولم يتعرّف عليها من قبل كمدينة للعيش، فهي بالنسبة له عاصمة ترمز للسلطة فحسب. لو حدث العكس، أي ذهاب شوام إلى إدلب لأول مرة، واستقرارهم فيها كسلطة، لكانت المقاربة ذاتها.

اليوم هناك سلطة أتت في ظروف استثنائية جداً، والعديد من قادتها لم يجرّبوا العيش الطبيعي في سوريا موحّدة. هي سلطة لون واحد، كما لا تخفي هي نفسها ذلك، وهذا اللون الأيديولوجي لا يساعد في إسباغ الواقعية على أصحابه، لأنهم محكومون بأفكار تدعو إلى تغيير الواقع أكثر بكثير من فهمه والتصالح معه. قد يمكن مع الوقت تدارك غربة الوافدين مع السلطة إلى دمشق، لكن متطلبات الحكم لا تنتظر، وسيبقى الصدْع قائماً مع باقي الأصقاع.

لا يكفي الكلام والشعارات الجامعة، وحتى النوايا الطيبة، لرأب هذا الصدع السوري، لذا لا مفرّ من شراكة حقيقية، الشراكة التي يجدر بالسلطة إدراك ضرورتها وأبعادها، فلا تكتفي بشراكة مطلوبة منها خارجياً، أو بشراكة تستقطب الانتباه لكونها شراكة مناصب هي بطبيعتها تحت الأضواء. هذا النوع كان العهد البائد قد أتقنه أيضاً، وأحياناً بإجرائه محاصصة غير معلَنة، فضلاً عن أن طول بقائه أتاح له النفاذ إلى العديد من البيئات الأهلية والتعاطي مع شيوخها أو زعاماتها التقليدية، على حساب منطق الكفاءات والشراكة الحقيقية.

هناك اليوم في السلطة الجديدة وزراء لم يختبروا التدرّج في المناصب، واكتساب الخبرة من خلال ذلك؛ هذه أول وظيفة عامة لهم، ولم يصلوا إليها أيضاً بالانتخابات التي هي بمثابة مران على الديموقراطية وتحمُّل مسؤولياتها. مع ذلك، لا أحد الآن ينافس هذه السلطة، خصوصاً مع القناعة السائدة بأنها أتت بالتفاهمات الدولية التي أذنت بإسقاط سلفها. أي أن الشراكة التي يطالب بها كثر ليست شراكة سياسية، ولا منافسة لها على موقعها المكتسب دولياً وإقليمياً.

بالتأكيد، هناك طامحون إلى الحصول على قطعة أو فتات من كعكة السلطة، وهؤلاء يبذلون جهودهم للتقرّب منها. من جهتها، تلاقي السلطة جهودهم إذ تستقبل بعض من يذهب إليها، بما يوحي باستئناف أسلوب الاستزلام المعروف. وحتى إذا أخذنا بالحسبان الرغبة العميقة بالاستئثار بالسلطة، لدى أهلها، فلديهم فرصة الاحتفاظ بالمستوى الأعلى، والمشاركة على أساس الكفاءات في المستويات المتوسطة، أما الإمساك بجميع المفاصل والهيمنة  التامة، فهي وصفة لاستمرار الخراب السوري المعمم.

وفق منطق الاستئثار، ستكون سوريا بلداً طارداً لما تبقى فيها من كفاءات، ولن تجتذب إلا ندرة ممن غادر بفعل المنطق ذاته. هذا المنطق يتنافى أصلاً مع منطق الدولة التي يجب أن تكون عمومية، وأن تكون وطنية. فلا دولة بالمفهوم الحديث المعاصر ما لم يكن جسدها مُلكاً عاماً، وتداولُ السلطة لا يمسّ بمبدأ عمومية الدولة، واحتكار السلطة لفئة ما ليس محتّماً أن يكون مساوياً لتغوّلها على الدولة بأكملها. أما وطنية الدولة فتمرّ عبر حياديتها إزاء مختلف مواطنيها، حتى إذا لم تكن السلطة محايدة، وهي لا تكون محايدة عادةً.

من المؤشّرات غير الجديدة على السوريين (مثلاً) أننا لا نعلم شيئاً عن وجود فئة من المستشارين لدى السلطة الحالية، علماً أن وجود هذه الفئة ضروري جداً إلى جوار المناصب الحكومية العليا التي تخضع عادة لحسابات السياسة. إن أي مسؤول، مهما بلغ من سعة الاطلاع، بحاجة إلى مستشارين حقيقيين من أصحاب الكفاءات، يشعرون باطمئنان إلى أن خبراتهم محل احترام، فلا يضطرون إلى إسماع المسؤول ما يودّ سماعه كما كان يحدث من قبل.

في الواقع لا يبدو أن السلطة الجديدة تتجه إلى إقامة شيء من الفصل بينها وبين الدولة، ومفهوم التكنوقراط الذي يُطرح أحياناً من قبلها شديد التبسيط، ومعظم التعيينات بمستوى أقل من التوافق مع التأويل المبسَّط، في حين أن المطلوب هو بناء دولة حقيقية من الكفاءات الموجودة، وتأهيل المزيد من الكفاءات، خصوصاً من الذين تضرروا بفعل الحرب على مستوى التعليم والمهارات المهنية، فتكريمهم لا يكون بمنحهم مناصب أعلى من إمكانياتهم مثلما يحدث الآن.

بالعودة ثانية إلى غربة السلطة، كان يمكن لها التعاون مع المجتمعات المحلية من أجل تلافي تغرّب السوريين المتبادل خلال أكثر من عقد. هذا كان ولا يزال ضرورياً من أجل السلم الأهلي، وأولاً من أجل إفساح المجال لتلك المجتمعات كي تصون سلمها الأهلي، إذ صار معلوماً في معظم الحالات أن الذين ارتكبوا أعمال الثأر أتوا من خارج المجتمعات المحلية. جدير بالذكر أن مئات الناشطين في الساحل وسواه تطوعوا منذ الساعات الأولى لسقوط الأسد من أجل تفادي السيناريوهات الأسوأ، ومنهم من التقى بممثلين عن السلطة الجديدة أظهروا قدراً من الدماثة يفوق الاهتمام وجدية المتابعة المطلوبَيْن.

وعطفاً على تغرّب السوريين المتبادل، يجوز القول أن جزءاً من المشاركة يبدأ بالإقرار بضرورة اعتماد قدر من اللامركزية على صعيدي الإدارة والأمن الداخلي. فالتخوّف من المشاركة هو سمة غير ديموقراطية في الأساس، وهو يغلِّب توحيد البلاد على توحيد أهلها وفق إرادة مشتركة تأتي من ثقتهم بالدولة الوليدة. ورغم كون التغرب المتبادل سمة شائعة في العقد الأخير فهناك شرائح واسعة من عابري الانقسامات الأهلية، وممن يودّون عبورها من خلال دولة وطنية حقيقة، ولا تساعدهم الخطابات التحريضية التي تقوّض الدولة من أساسها، من دون أن تُبدي السلطة إزاءها الحزم الواجب.

لقد منحت السلطة نفسها، بموجب الإعلان الدستوري، سلطات كافية لإعاقة المبادرات الاجتماعية، ولإعاقة أية عملية اصطفاء ديموقراطية. مدة السنوات الخمس ليست طويلة لو كانت على سبيل الإعداد لمستقبل ديموقراطي تداولي، إلا أنها كافية لتقويض حلم الدولة إذا بقي سائداً منطق الاحتكار الذي بطبيعته يلغي عموميتها ووطنيتها.

المدن

—————————–

اقتصاد وسياسة ومبادئ.. أي دور يلعبه الأوروبيون في إعادة إعمار سوريا؟/ لين خطيب

22 مارس 2025

يلعب الاتحاد الأوروبي دورًا مهمًا في تشكيل الانتقال السياسي في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وذلك من خلال المساعدات المالية والمشاركة الدبلوماسية والسياسات المختلفة. ويُظهر الاتحاد التزامًا بتحقيق الاستقرار والتعافي الاجتماعي والاقتصادي. لكن ما طبيعة الدعم الأوروبي، وما مدى فعاليته، وما التحديات والعوائق التي تعترضه؟

التزامات مالية

في المؤتمر التاسع في بروكسل حول سوريا، آذار/ مارس 2025، زاد الاتحاد الأوروبي تعهده الذي قطعه في مؤتمر بروكسل الثامن، إذ تعهد الآن بتقديم ما يقرب من 2.5 مليار يورو كمساعدات لعامي 2025 و2026، موزعة كالتالي:

720.5 مليون يورو في عام 2025 لدعم السكان داخل سوريا واللاجئين في لبنان والأردن والعراق.

600 مليون يورو في عام 2026 لمواصلة المساعدات الإنسانية.

1.1 مليار يورو للفترة 2025-2026 لدعم اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة في تركيا.

وقالت أورسولا فون ديرلاين، رئيسة المفوضية الأوروبية: “بالطبع، لا يزال طريق المصالحة والتعافي طويلًا، ولكن لأول مرة منذ عقود، يمكن لأمل سوريا أن يصبح حقيقة. يمكن لسوريا أن تصبح بلدًا يستطيع فيه الجميع التعبير عن آرائهم، بحقوق متساوية وتمثيل للجميع، رجالًا ونساءً على حد سواء، بغض النظر عن الدين أو العرق أو الأيديولوجيا”.

وسط أمل متجدد

كان تشريع الاتحاد الأوروبي، بخصوص العقوبات المفروضة على سوريا، يشتمل على استثناء نطاق للمساعدات الإنسانية لضمان استمرار تقديم المساعدات في جميع أنحاء البلاد. في 23 شباط / فبراير 2023، أضاف المجلس استثناء إضافيًا إلى العقوبات لتسهيل سرعة تسليم المساعدات الإنسانية بعد الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا.

في 24 شباط/ فبراير 2025، قرر المجلس تمديد هذا الإعفاء إلى أجل غير مسمى، مما يعكس التزام الاتحاد الأوروبي بموازنة العقوبات مع الاحتياجات الإنسانية العاجلة.

وفي اليوم نفسه، علق الاتحاد الأوروبي عددًا من التدابير التقييدية المفروضة على القطاعات الاقتصادية الرئيسية في سوريا، بما في ذلك الطاقة والنقل والتمويل لدعم التعافي الاقتصادي. وذكر القرار على وجه الخصوص:

– تعليق التدابير القطاعية في قطاعي الطاقة (بما في ذلك النفط والغاز والكهرباء) والنقل.

– إزالة خمس كيانات (المصرف الصناعي، ومصرف التسليف الشعبي، ومصرف التوفير، والمصرف الزراعي التعاوني، والخطوط الجوية العربية السورية) من قائمة الجهات الخاضعة لتجميد الأموال والموارد الاقتصادية، والسماح بتوفير الأموال والموارد الاقتصادية للبنك المركزي السوري.

– إدخال بعض الاستثناءات على حظر إقامة علاقات مصرفية مع البنوك والمؤسسات المالية السورية داخل أراضي الدول الأعضاء، للسماح بالمعاملات المرتبطة بقطاعي الطاقة والنقل، بالإضافة إلى المعاملات اللازمة للأغراض الإنسانية وإعادة الإعمار.

– تمديد تطبيق الاستثناء الإنساني الحالي لأجل غير مسمى.

وبالإضافة إلى تقديم المساعدات الإنسانية الفورية، يربط الاتحاد الأوروبي دعمه المالي بإحراز تقدم في الانتقال السياسي في البلاد، تماشيًا مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، الذي يدعو إلى تسوية سياسية شاملة.

لكن الاتحاد أبقى على العقوبات ضد الأفراد والكيانات المرتبطة بالنظام السابق، والإنتاج غير المشروع للأسلحة الكيميائية، والاتجار بالمخدرات، فضلًا عن عدد من التدابير القطاعية، مثل تجارة الأسلحة، والسلع ذات الاستخدام المزدوج، ومعدات القمع الداخلي، وبرامج التنصت والمراقبة، واستيراد/تصدير السلع التراثية الثقافية السورية. ولا تزال قائمة العقوبات المحدثة في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 تشمل 318 فردًا و86 كيانًا مرتبطًا بنظام الأسد يخضعون لتجميد الأصول وحظر السفر.

شرط الانتقال السياسي

مع تصاعد العنف في المنطقة الساحلية في آذار/مارس الفائت، أصدر الاتحاد الأوروبي بيانًا أعرب فيه عن قلقه العميق إزاء الأحداث في سوريا، مستنكرًا الهجمات التي شنتها الميليشيات الموالية للأسد ضد قوات الأمن العام، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من قبل الأمن العام وجهات مرتبطة به. كما دعا الاتحاد السلطات الانتقالية إلى ضمان المساءلة من خلال تحقيقات شفافة، وطالب بوجود رقابة دولية لمنع المزيد من العنف.

موقف الاتحاد الأوروبي واضح: لن يتم تقديم مساعدات إعادة الإعمار الكاملة وإزالة جميع العقوبات والتدابير التقييدية حتى تمر سوريا بانتقال سياسي حقيقي. شدد القادة الأوروبيون على أن أي دعم يجب أن يكون مرتبطًا بإصلاحات ديمقراطية ملموسة وتحسينات في حقوق الإنسان وعملية لانتقال سياسي واضح وشامل.

ولكن هذا ليس بالسهولة التي قد يبدو عليها. تواجه الحكومة الجديدة تحديات ضخمة في إعادة بناء الاقتصاد والبنية التحتية، وضمان الأمن وتوحيد البلاد. إن التوترات الأخيرة بين تركيا وإسرائيل حول مستقبل سوريا ومحاولات بلاد مثل روسيا وإيران وإسرائيل زعزعة استقرار سوريا وحكومتها المؤقتة من خلال ضخ المعلومات المضللة بشكل مستمر والتحريض على العنف في مناطق معينة؛ تضفي مزيدًا من عدم اليقين على الاستقرار الإقليمي وعلى محاولات الانتقال السياسي. توحيد الأراضي وضمان الأمن من أهم القضايا التي تواجهها الحكومة السورية هذه الأيام، وتجعل الانتقال الديمقراطي الذي هو في حد ذاته مهمة شاقة، مسعى أكثر صعوبة.

والحقيقة المرة أنه على الرغم من تركيز الاتحاد الأوروبي على خلق بيئة ديمقراطية يستطيع فيها الجميع التعبير عن آرائهم، فإن السوريين يواجهون تحديات اقتصادية وحياتية تجعل القضايا الديمقراطية ثانوية للكثير منهم. لا يزال 90% من السوريين يعيشون في الفقر مع بنية تحتية منهارة، علمًا أن أحد أهم مؤشرات نجاح الانتقال الديمقراطي هو وجود طبقة وسطى قوية. الاستقرار الاقتصادي والراحة النفسية شرطان أساسيان لضمان الانتقال لحكم ديمقراطي طويل الأمد.

إنجازات.. ولكن

شهد الاقتصاد السوري تحسنًا ملحوظًا خلال الأشهر الثلاثة الماضية. في كانون الثاني/يناير الفائت، انخفض معدل التضخم السنوي ويرجع ذلك إلى استقرار سعر الصرف وزيادة العرض في السوق المحلية. كما تحسنت معدلات التضخم الشهرية، وانخفضت أسعار الغذاء بنسبة 12.5% في شباط/فبراير. وانخفض سعر اسطوانات الغاز المنزلية بشكل واضح وتم توفرها. ولمعالجة نقص الكهرباء، زوّدت دولة قطر، عبر الأردن،سوريا بـ2 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي يوميًا، مما يوفر 400 ميجاوات إضافية من الكهرباء يوميًا.

وقد تم القبض على الكثير من مجرمي نظام الأسد وإطلاق حرية الإعلام والعمل السياسي، ووقف إنتاج المخدرات، وحل الأجهزة الأمنية والمخابراتية.

وإذا نظر الاتحاد في دقائق الأمور وركز على العمل التدريجي التراكمي ومكن هذه الإنجازات الحياتية المهمة بدلًا من التركيز على ما لا يزال مفقودًا، فإن احتمالات النجاحات السياسية ستكون أفضل. وسوف تتاح للسوريين الفرصة للمساهمة في التحول السياسي في بلدهم بدلًا من الشعور بالتهميش والوصاية.

إنها في الواقع فرصة للاتحاد الأوروبي ليظهر دعمه الكامل ويساعد السوريين على النهوض، ولتجسيد شعاراته المرفوعة في مجال حقوق المواطن والمواطنة. في هذا السياق فإن إعادة فتح السفارة الألمانية في دمشق تمثل بادرة دبلوماسية مشجعة على تجدد التواصل البناء بين السوريين وأوروبا.

———————————–

حتى لا نؤسّس لمكارثية ما بعد الأسد/ رغيد عقلة

23 مارس 2025

من قال إن الكتابة عمل ترفيهي لا ينطوي على محاذير جمَّة؟ وإن التطرّق إلى مواضيع بعينها قد لا يقلّ خطورة عن عبور حقول الألغام؟ تستطيع مقالة الرأي أن تكون “حصيفةً” في اختيار مواضيعها، فتتجنّب الإشكالي، وتلوذ بأمان ما هو رائج، أو على الأقل الأكثر قبولاً، مع الوقت تصبح منشوراً سياحياً، وربما دبلوماسياً، أو أي شيء آخر، غير مقالة الرأي السياسي.

ليس من مهام مقالة الرأي أن تُرَوِّج رأياً سياسيّاً معيناً، وإلا أصبحت نشرةً سياسيةً على طريقة الأحزاب العقائدية، فحسْبُها أن تعرض الواقع كما هو، وإن كان من خلال رؤية كاتبها، أما الحيادية فمقبولة لأنها من لوازم التحليل السياسي، على ألا تنتج مقالةً “سويسرية” بلا لون ولا طعم ولا رائحة، أو أن يكون نضال أفكارها على طريقة منظومة عدم الانحياز…!، فمن البديهي انحياز المقالة إلى وجهة نظر كاتبها، التي قد لا تحظى وقت النشر بشعبية القبول، ما سَيُعَرِّضُها لانتقادات تزداد حدتها، مع تصاعد مَدٍّ مكارثيٍ يحاول تثبيت أقدامه.

تستدعي الأحداث الكبرى ظواهر كبرى، وليست المكارثية استثناءً، فقد تحوّلت من هَوَس مكافحة الشيوعية في الولايات المتحدة، إلى كابوسٍ مرعب يتناول الأفكار والفنون والآداب، زادت في حدّته الحرب الباردة، التي رسمت خواتيم الحرب العالمية الثانية مداراتها، وإذا كان المجتمع الأميركي قد تمكّن لاحقاً من استئصال شأفة المكارثية، فإنها باقيةٌ على امتداد المعمورة كبركانٍ خامد، توقظه وتعيد تفعيله أحداث كبرى، خصوصاً إذا استدعت مواقف مختلفة، وأحياناً متناقضة، من الناس عموماً، ومقالات الرأي السياسي خصوصاً، في أي زمانٍ ومكان، لا حَصَانة منها لأحد.

ليس من المصادفة أن القضايا الوطنية هي الأكثر استدعاءً للفكر المكارثي، ففي النهاية كان جوزيف مكارثي أميركياً وطنياً (patriotic)، ولكن على طريقته، بل تزداد موجة المكارثية حدّةً كلما كانت أكثر تبنّياً لقضايا تمسّ الأمة في صميم وجدانها الوطني، الأمر الذي رأيناه مع “طوفان الأقصى” ومفاعيله والمواقف المختلفة منه، في المنطقة العربية والعالم، ونراه ونعيشه اليوم مع سقوط الأسد الوريث، ومرحلة ما بعد نظامه المنهار.

في موجة صعود “طوفان الأقصى” وتداعياته، وحجم التضامن العربي والعالمي مع الشعب الفلسطيني وقضيته، كان عملاً شبه انتحاري أن يناقش الكاتب أو المفكر أو حتى الإنسان العادي خيارات حركة حماس السياسية مثلاً، أو أن يستدعي مناقشة جدوى أن يكون النضال من أجل فلسطين وقضيتها ضمن الإطار “الإسلاموي” على حساب الإطار القومي العروبي، على أن موجة التضامن العالمي مع فلسطين والفلسطينيين، والتي استدعتها مفاعيل الطوفان ربما أثبتت أن (أنسنة) القضية الفلسطينية ستكون الإطار الأكثر تأثيراً وانتشاراً على مستوى العالم.

مع امتداد زمن مأساة غزّة خصوصاً والفلسطينيين عموماً، ظهرت بوادر توجه مكارثي يقف حاجزاً من دون توجيه أي انتقاد إلى حركة حماس أو إلى الإسلام السياسي، زاد من سطوته حجم الجرائم المريعة التي تعرّض ويتعرّض لها المدنيون الفلسطينيون منذ أكتوبر/ تشرين الثاني 2023، والتي لن تكون “حلول” الرئيس ترامب العقارية لغزّة آخرها، فالإقليم كله يمور على نيران ما بعد الطوفان، ولياليه قد تكون حبالى بمشاريع ربما يمتد تأثيرها بتداخل مخيف من البحر الأحمر جنوباً إلى خليج إسكندرونة شمالاً، ومن البحر المتوسط غرباً إلى بحر العرب شرقاً.

يعيش السوريون اليوم حالة مشابهة تماماً، لا أدَلَّ عليها من حالة الانقسام الحادّ بينهم، في وعلى وحول كل شيء، الأمر الذي تجاوز كل الانقسامات التي عاشتها القضية السورية في سنوات الجمر بمواجهة إجرام نظام الأسد منذ مارس/ آذار 2011 وحتى سقوطه المريع في ديسمبر/ كانون الأول 2024، فهم مختلفون على المرحلة الانتقالية، وشروطها وحدودها، وكذلك على الشكل النهائي لسورية، والذي يطمحون إليه في المرحلة المقبلة، وعلى الإعلان الدستوري، والتخوّف الشديد لدى بعضهم من أنه يؤسّس لمرحلة طويلة نسبياً (خمس سنوات كما جاء في بعض أحاديث الرئيس أحمد الشرع)، ستكون كافية لإحداث تغييرات بنيوية في المجتمع السوري، وقادرة على فرض رؤى وفكر ونهج من يقفون وراءها في شكل دستور سورية ومستقبلها في نهاية المرحلة الانتقالية، التي ربما ستتحوّل، مع الوقت، أو ربما هكذا يطمح أصحابها، لتكون مرحلة طويلة جداً، كالتي عاشها السوريون على امتداد العقود الأخيرة.

يتزامن هذا الانقسام السوري الحاد مع سعار طائفي كان لعقود تهمة موصوفة، لبسها نظام الأسدين بكل كفاءة واقتدار، تحوّل اليوم ليصبح ماركةً مقبولة لا تثريب أن تسيطر على عقول الجميع وغرائزهم، في مقدمتهم من كانوا ضحاياه عقوداً طويلة، ولعل مكمن الخطر أن ضحايا المراس الطائفي بالأمس يستخدمونه مسوِّغاً لمراسهم التبريري اليوم، الأمر الذي لا يُبَشِّر بخير لمستقبل هذا البلد المنهك، فالسوريون قد يكون مبرّراً لهم أن يُحمِّلوا نظام الأسديْن مسؤولية كل الإرهاصات التي يعيشها بلدهم اليوم، وقد يكونون معذورين في ذلك، الذي لا عذر فيه أن تكون رؤاهم السياسية لبلدهم أسيرةً لهذا الإرث الثقيل. حتى وإن حمل الحديث عما ينتاب الوضع السوري اليوم الكثير مما قد يراه بعضهم سلبيةً أو سوداوية، إلا أن تجاوز ذلك والقفز فوقه قد يكون الأكثر سلبيةً وأشد خطورةً، ولعل الجرأة على طروحاتٍ كهذه، في هذا التوقيت خصوصاً، تعتبر مجازفةً تحمل في طياتها خطراً كذاك الذي جاء في التشبيه العبقري للمتنبي واصفاً حال سيف الدولة تنوشه الأخطار من كل جانب، في قوله بِعَجُزِ بيته الشهير: “كأنك في جفن الردى وهو نائمُ”.

على أن الخطر الحقيقي الذي يتربّص بالسوريين، خصوصاً الذين يكتبون في الشأن العام، ألا يركبوا هذه المخاطرة، ويستسلموا باستمتاع، ومعهم قرَّاؤهم، للنشوةِ المبالغ فيها بمرحلة ما بعد الساقط المخلوع، ونظامه المافيوزي المجرم، والتي قد تعيدنا مع من سيخلفه إلى بداية الدائرة، من حيث بدأنا معهُ، من أقبح وأقذع منظر رأته نواصي شوارع دمشق على امتداد تاريخها الطويل: من لوحات “منحبك” الأسدية السيئة الذكر.

العربي الجديد

———————————

وزارة دفاع من دون ملامح/ عبسي سميسم

23 مارس 2025

مضى نحو مائة يوم على تشكيل وزارة الدفاع في حكومة تصريف الأعمال التي حددت الإدارة السورية الجديدة لها ثلاثة أشهر لإنجاز مهامها والانتقال إلى حكومة جديدة “تكنوقراط” ترسم ملامح المرحلة الانتقالية، فيما لا يزال الغموض يكتنف تركيبة الوزارة وتركيبة الجيش السوري التي كُلفت بتشكيله.

ويبدو أن المهمة التي أوكلت للوزير مرهف أبو قصرة من أصعب المهام، فعملياً، أبو قصرة استلم وزارة من دون أي عنصر بشري بعد حل الوزارة السابقة وحل جيش النظام السابق. وبالتالي، كان المطلوب منه تشكيل وزارة دفاع من الصفر بكل إداراتها ومؤسساتها، اعتماداً على عناصر جدد، في ظل انعدام الثقة من قبل الإدارة الجديدة حتى بالعناصر المنشقين عن نظام بشار الأسد، وكذلك تشكيل جيش وطني من فصائل معظمها كانت في الأمس القريب في حالة تناحر فيما بينها، وفي ظل ظرف عسكري بالغ التعقيد.

ينعكس هذا التعقيد خصوصاً مع رفض العديد من الفصائل التي كانت تعمل خارج إطار المعارضة الانضمام إلى وزارة الدفاع، مثل فصائل السويداء في الجنوب السوري، أو الانضمام بشروط لم يعرف بعد مدى القدرة على تطبيقها، كحال قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرق سورية. وحتى الفصائل التي كانت تعمل في الشمال السوري، لم تُعرف بعد الطريقة التي دُمجت بها في وزارة الدفاع.

ورغم الإعلان عن تشكيل بعض الإدارات ضمن وزارة الدفاع، مثل إدارة القوى الجوية وإدارة شؤون الضباط وغيرها، إلا أن وزارة الدفاع لا تزال حتى الآن تفتقر إلى تركيبة مؤسساتية واضحة المعالم. أما على مستوى الجيش، فحتى اللحظة لم يحسم ما إذا كان اسمه الجيش العربي السوري أم الجيش السوري، ولا ما إذا كان قادة الفصائل الذين أعلنوا دعمهم الإدارة الجديدة وانضواءهم ضمن وزارة الدفاع، سينضمون بالرتب والألقاب التي منحت لهم بصفتهم قادة فرق وألوية ضمن هذا الجيش.

بالإضافة إلى عدم حسم ما إذا كان هؤلاء القادة سيقبلون بحل الفصائل التي كانوا يقودونها ليصار إلى توزيع من يرغب من عناصرها ضمن وحدات الجيش المختلفة، أم أنهم سيكونون عبارة عن مليشيات مستقلة ضمن الجيش. تحوّل تلك العناصر إلى مليشيات أمر خطير ينذر بتفكك هذا الجيش ويفتح الباب واسعاً لوضع كل الفصائل، سواء تلك التي أعلنت ولاءها للإدارة الجديدة، أو التي ستنضم لاحقاً، لوضع شروط مشابهة من شأنها تحويل الجيش إلى مجموعة من المليشيات التي تكرس حالة الفصائلية التي ساهمت في فشل تجربة الجيش الوطني سابقاً.

العربي الجديد

————————–

وصف الهزيمة وهزيمة الوصف!/ حازم صاغية

23 مارس 2025 م

لم نعد بحاجة إلى إعمال التحليل لبرهنة أنّ الحرب، في نظر الإسرائيليّين، لم تنته: لا في غزّة التي عاد إليها الموت والتوحّش بكامل زخمهما، ولا في لبنان الذي لا يُجلى عنه، ولا في سوريّا التي تُقضم أرضها ويمضي الاستيلاء على سمائها كما أُسّس في العهد البائد. وإذ يضيف الأميركيّون إلى الإسرائيليّين الشطر الحوثيّ من اليمن، يتبدّى أنّ هدف الحرب المتجدّدة أميركيّ بقدر ما هو إسرائيليّ. أمّا إيران، التي لم يعد سرّاً تدمير سلاحها الجوّيّ، فتكاد تنحصر خياراتها بين الاستسلام الاستباقيّ وتلقّي الضربة، وهذا بعدما رُسمت للعراق حدود صارمة في الحركة والتدخّل.

وأن يكون هدف التصعيد الإسرائيليّ – الأميركيّ معاهدات سلام تترجم ما سمّاه نتنياهو «شرقاً أوسط جديداً»، أو تستكمل فصل «السلام الابراهيميّ»، فبات يملك الكثير من الوجاهة المعزّزة بالقرائن. وفي هذه الغضون ترتفع حظوظ أفعال احتلاليّة وإحلاليّة كتهجير سكّان غزّة أو ضمّ الضفّة الغربيّة إلى الدولة العبريّة.

ولا نضيف جديداً حين نصف الطور الراهن من الحرب بما وُصف به الطور الأوّل. فهو أيضاً من صناعة القوّة الإسرائيليّة العارية غير المعنيّة بشيء وغير المكترثة بقانون دوليٍّ لم يعد يكترث به في العالم كثيرون. لكنّ هذا لا يلغي أنّ الفارق الفلكيّ في موازين القوى يجعل موازين القوى نفسها تعبيراً افتراضيّاً، وذلك بعدما جُرّبت الحروب والمقاومات تباعاً لتنتهي بنا إلى ما نحن فيه حاليّاً. فوق هذا، تعيش منطقة المشرق تنافساً في الضعف والهزال اللذين يضربان جيوشها واقتصاداتها ومجتمعاتها المدنيّة، فضلاً عن بعثرة سكّانها في ظلّ هجراتها المليونيّة. وهي، إلى ذلك، تفتقر إلى أدنى القدرة الذاتيّة على إعادة الإعمار الضاغطة في سوريّا وغزّة ولبنان، ولا تجد، في مواجهة التغوّل الإسرائيليّ، حلفاء قادرين ومؤثّرين في العالم. ولئن كانت الأوضاع الأهليّة داخل بلدانها شديدة التردّي، تعصف بها رغبات انفصاليّة مكتومة، فإنّ أوضاعها الحدوديّة، على ما دلّت الاشتباكات اللبنانيّة – السوريّة مؤخّراً، أقرب إلى أن تكون استطالة لأوضاعها الأهليّة المضطربة.

هذه اللوحة الكئيبة تحضّ على التوقّف مليّاً أمام أوضاعنا: ماذا نفعل، كيف نوقف التدحرج عند حدّ، ألا يُفترض بنا أن نراجع الأفكار والممارسات والعلاقات التي أفضت بنا إلى هذا الجحيم؟

وحدهم الممانعون هم الذين يملكون جواباً واضحاً وقاطعاً كحدّ السيف، جواباً يقلب صيغة الإمام مالك بن أنس رأساً على عقب، بحيث تغدو: لن يدمَّر آخر هذه الأمّة إلاّ بما دُمّر به أوّلها، أي أنّنا بالمقاومة إيّاها نغادر النفق الذي وضعتنا فيه المقاومة. والسلوك هذا قابل للقراءة من زوايا مختلفة تتضارب حيناً في ما بينها وتتكامل أحياناً:

فهناك، بالطبع، البُعد الإيرانيّ، ومفاده إبقاؤنا في خنادق ساقطة بما يتيح لطهران مفاوضة الولايات المتّحدة، علماً بأنّ خياراً كهذا يتساقط يوماً بيوم هو الآخر.

وهناك البُعد الإعجازيّ، حيث يُناط بمعجزة ما أن تتدخّل وتقلب المعادلات التي تصفع وجوهنا ولا تترك أيّ حيّز للغموض أو الاجتهاد في التأويل.

وهناك البُعد العدميّ، وقد ذكّرنا مؤخّراً الزميل عمر قدّور بأنّ معمّر القذّافي سمّى بلده «الجماهيريّة العربيّة الليبيّة الشعبيّة الاشتراكيّة العظمى» تحديداً بعد تعرّضها لغارات جوّيّة أميركيّة في 1986. وهكذا يرتبط اكتساب العظمة بالتعرّض لضربات الأقوياء.

وتنطوي العدميّة هذه على بُعد انتحاريّ تلخّصه العبارة التوراتيّة المنسوبة إلى شمشون «عليّ وعلى أعدائي يا ربّ»، والذي تستعرضه خصوصاً أحوال الشطر الحوثيّ من اليمن البائس.

وأخيراً، هناك البُعد الجريميّ الذي تعبّر عنه شعارات كـ «القتال بلحم الأطفال»، وتترجمه التضحية بالبشر في ظلّ يأس كامل من الانتصار، بل من تحسين شروط الهزيمة. وفي ظلّ هذا اليأس المعزّز بالواقع، يغدو «الأعداء» في العبارة الشمشونيّة هم نحن بوصفنا وحدنا المرشّحين للموت المجّانيّ.

ومنذ القرن السابع عشر كان الفيلسوف الإنكليزيّ جون لوك قد ميّز، في تأمّله «الفهمَ الإنسانيّ»، بين ما سمّاه «صفات أساسيّة» للأشياء والموادّ و»صفات ثانويّة». فالتفّاحة، مثلاً، ذات حجم ووزن محدّدين، وهذان من صفاتها الأساسيّة، أمّا مذاقها فواحد من صفاتها الثانويّة. وبسبب «موضوعيّة» الصفات الأساسيّة يُستبعد الخلاف فيها، فلا يمكن لواحد أن يقول إنّ وزن التفّاحة ربع كيلوغرام ولسواه أن يقول إنّه ثلث كيلوغرام، ويكون الجوابان صحيحين. أمّا الصفات الثانويّة، ولأنّها «ذاتيّة»، فتُجيز لأحدهم أن يعتبرها طيّبة المذاق، كما تجيز لغيره أن يعتبر مذاقها غير مُستحبّ.

أمّا الأساسيّ في واقعنا الراهن فهو الهزيمة التي لا يلوح في الأفق ما يمكن اقتراحه علاجاً سهلاً لها. وأمّا الثانويّ فاختلافنا في النظر إلى أسبابها وإلى النتائج المنجرّة عنها، وربّما في عواطفنا ورغباتنا المتّصلة بها. لكنّ الممانعين يجعلون الأساسيّ، الموضوعيّ، ثانويّاً وذاتيّاً، والثانويّ، الذاتيّ، أساسيّاً وموضوعيّاً، ثمّ يتصرّفون على هذا الأساس دونما اكتراث بالبشر وبالأكلاف الهائلة. وهذا ما قد يدفع بعض المتأمّلين بـ»الفهم الإنسانيّ» إلى تشاؤم عميق.

الشرق الأوسط»

————————

تيارات وأحزاب سياسية تعلن تشكيل “تحالف” جديد في دمشق.. ما أهدافه؟

2025.03.23

أعلنت تيارات وأحزاب ومنظمات سياسية، أمس السبت، تشكيل جسم جديد في دمشق تحت مسمّى “تحالف المواطنة السورية المتساوية” (تماسُك)، وأطلقت بياناً تأسيسياً طالبت من خلاله بنظام “لامركزي” في سوريا، والدعوة لمؤتمر وطني عام يستند إلى “روحية القرار 2254″، بحسب تعبيرها.

وجاء في البيان التأسيسي للتحالف: “دخلت سوريا يوم الثامن من كانون الأول 2024 مرحلة تاريخية جديدة، بخلاصها من سلطة مستبدة أحكمت جورها على رقاب الناس طيلة أكثر من خمسة عقود متتالية، مخلفة دماراً هائلاً للبشر والحجر، وبلداً متعبة على كل الصعد، ولكنها في الوقت نفسه عازمة على استعادة وحدتها وسيادتها والنهوض على قدميها مجدداً في مرحلة جديدة تحمل فرصة تاريخية أمام الشعب السوري ليقرر مصيره بنفسه، لأول مرة منذ عقود عديدة.

ورغم ما يضعه المفصل التاريخي الراهن من تحديات ومهام جسام أمام السوريين، إلا أنه محكوم في الوقت نفسه بقدر كبير من الأمل والإصرار والعزيمة على بناء مستقبل أفضل يرتقي لمستوى عطاء السوريين والسوريات، ودرب الآلام الطويلة التي قطعوها منذ آذار 2011، بل وقبله بعقود”.

وأوضح الموقعون على البيان أن “القوى السياسية والمنظمات المدنية والاجتماعية (في التحالف)، واستناداً للتواصل فيما بينها. وللقاءات التشاورية التي عقدتها في العاصمة دمشق على مدى ثلاثة أشهر، ترى أن المهام الوطنية الملقاة على عاتق السوريين في هذه المرحلة، تتطلب استلهام روح وفكر الآباء الأوائل السورية، قادة الثورة السورية الكبرى، الذين ترفعوا عن الانتماءات الضيقة ما قبل الوطنية، الاثنية والدينية والطائفية والعشائرية، وحتى السياسية والأيديولوجية، واتحدوا تحت الشعار الوطني الجامع: الدين لله والوطن للجميع”.

“مهام وطنية كبرى”

وبحسب البيان، فإن البلاد “تحتاج إلى أوسع تحالف وتوافق بين كل الوطنيين السوريين، بمختلف انتماءاتهم، وتحتاج تحديداً واضحاً للمهام الكبرى وتعاوناً في تحقيقها”.

واشتملت تلك “المهام الكبرى” على:

1. تصليب وحدة سوريا أرضاً وشعباً، في ظل دولة واحدة، وجيش وطني واحد ينحصر فيه حمل السلاح وتنحصر مهامه في الدفاع عن البلاد ويكون حيادياً تجاه الحياة السياسية في البلاد.

2. الحفاظ على السلم الأهلي، والدفاع عنه عبر محاصرة العقليات الثأرية وخطابات الكراهية وتجريم التحريض الطائفي وأيضاً تجريم إنكار جرائم وفظائع النظام الساقط، وأخذ العبر من الأحداث والجرائم والانتهاكات المؤلمة التي جرت في الساحل السوري لمنع تكرارها ما يتطلب مساراً واضحاً وشفافاً للعدالة الانتقالية يستجيب للوضع العياني الملموس دون استنساخ لتجارب البلاد الأخرى، وبما تفرضه المصلحة الوطنية.

3. إنقاذ الغالبية الساحقة من السوريين من الفقر المدقع الذي تعيشه، وتأمين سبل الحياة الكريمة لها عبر إعادة إقلاع الاقتصاد الوطني، وبالاستناد بالدرجة الأولى إلى الإمكانيات المحلية، مع مواصلة المطالبة برفع العقوبات دون التعويل على حصوله في أي وقت قريب. وهذا يتطلب صياغة نموذج اقتصادي سوري يركز على القطاعات الإنتاجية (زراعية صناعية) ويقوم على تحقيق أعمق عدالة اجتماعية وأعلى نمو بالاستناد إلى الخبرات والعقول السورية.

4. العمل بكل الأشكال المتاحة من أجل استعادة الأراضي السورية المحتلة وفي مقدمتها الجولان المحتل.

5. حل القضية الكردية حلاً ديمقراطياً وطنياً عادلاً.

6. قضية المرأة السورية وحقوقها، وقضية الشباب ودورهم، هي قضايا أساسية بالنسبة لكل السوريين.

“لامركزية تضمن سلطة الشعب المباشرة في المناطق السورية”

وختم المتحالفون بيانهم بالقول إن “تنفيذ تلك المهام، يتطلب حواراً مسؤولاً متواصلاً بين أوسع طيف من القوى السياسية والاجتماعية السورية بما في ذلك السلطة الحالية وتعبيراتها السياسية، التي تقع على عاتقها مسؤولية مشاركة الوطنيين السوريين في عمليات التحضير للمؤتمر الوطني العام وللمرحلة الانتقالية ككل، بما في ذلك التحضير من أجل صياغة الدستور الجديد، وبما يصب في سوريا دولة مدنية ديمقراطية تعددية، يحقق دستورها صيغة متطورة للعلاقة بين اللامركزية التي تضمن ممارسة الشعب لسلطته المباشرة في المناطق وتحقق الاكتفاء الذاتي والتوزيع العادل للثروات والتنمية في عموم البلاد، والمركزية في الشؤون الأساسية (الخارجية، الدفاع، الاقتصاد) ويكون عمادها الأساسي هو المواطنة المتساوية لكل أبنائها بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو الإثنية أو المنطقة أو الجنس، وتضمن حرية التعبير والتجمع والعمل السياسي والنقابي، وذلك بالاستفادة من روحية القرار 2254 التي تنص على حق الشعب السوري في تقرير مصيره بنفسه”، على حد وصفهم.

اقرأ أيضاً

حدس

أول حزب سياسي بعد سقوط النظام.. إطلاق الحزب الدستوري السوري في طرطوس

أطراف تحالف “تماسُك”

ووفق منشور على حساب التحالف في فيس بوك، فإن القوى والمنظمات الموقعة على البيان التأسيسي لتحالف “المواطنة السورية المتساوية” (تماسك) والمنضوية ضمنه هي:

    جبهة التغيير والتحرير

    مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)

    التيار الثالث لأجل سوريا

    حزب الإرادة الشعبية

    حركة التجديد الوطني

    تيار مواطنة

    تجمع التشكيليين السوريين المستقل

    المبادرة الوطنية في جبل العرب

    مركز المواطنة المتساوية

    تجمع سوريا الديمقراطية

    حزب التحالف الوطني الديموقراطي السوري

    حركة التغيير الديمقراطي

    ملتقى الحوار الوطني

    حزب البعث الديمقراطي

    حركة الشغل الديمقراطي

    حزب العمل الشيوعي

    تجمع شباب سوريا الأم

    الطريق الوطني السوري

    تجمع الشباب الديمقراطي

    حزب الشباب الوطني السوري

    حزب التضامن العربي الديمقراطي

    التيار المدني الديمقراطي

    النادي التفاعلي صحنايا

    حزب الانتماء السوري الديمقراطي

    تجمع مواطنة

    الحركة الشبابية السياسية

    حركة تمكين

    تيار طريق التغيير السلمي

تلفزيون سوريا

——————————-

التجهيل واستدامة السيطرة/ بسام يوسف

2025.03.23

السائد لدى معظمنا عند تعريف الجهل القول بأنه غياب للمعرفة، وأنه صفة يتحمل مسؤوليتها الفرد، فهو قادر على التخلص منها إن أراد، لكن هذا السائد يتجاهل، أو يجهل، المعارك الثقافية والسياسية والاقتصادية التي تدور بشراسة لتجهيل الناس وتضليلهم، وأن هناك من يعمل باستمرار على التجهيل وصناعته، وأن هناك علماء ومراكز بحث ورؤوس أموال كبيرة مخصصة للتجهيل، وتوظيف الجهل الناتج في الاقتصاد والسياسة والعلوم والثقافة وصناعة الرأي العام.

في علم الاجتماع يطلق على علم التجهيل (Agnotology، الأغنوتولوجيا) وهو مصطلح يستخدم لوصف دراسة الأفعال المتعمدة والمدروسة التي تهدف إلى نشر التضليل، وخلط الأمور، للتأثير على الرأي العام، ولكسب التأييد، أو لبيع منتج ما، أو للإضرار بالسمعة، أو لتغيير حقائق.. إلخ.

هناك أساليب وخطط متعددة يلجأ لها صناع التجهيل، مستهدفين بها جمهوراً معيناً يحدده هدف التجهيل، ومن أهم هذه الأساليب، وأكثرها استعمالاً:

1- التشكيك في الخبراء، أو ذوي الاختصاص، أو الموثوقين:

الهدف من هذ الأسلوب هو تقويض ثقة الجمهور بجهات مختصة، أو بمؤسسات، أو بأشخاص مختصين، وتشويه سمعتهم، وغالباً ما تختلف خطط التشويه حسب اختلاف المناطق وقيمها وثقافتها، وتقدم لنا التجربة السورية آلاف الأمثلة عن هذا الأسلوب، ويمكن القول إنه من الصعب جداً اليوم أن تجد جهة سورية أو شخصاً سورياً مهتماً بالشأن العام لم يتعرض لحملات التشويه والتشكيك.

2- استعمال اللغة المخاتلة، حمالة الأوجه، والتي تحتمل تفسيرات متعددة قد تصل حد التناقض، هذا يخلق انطباعاً زائفاً يضع المصداقية موضع الشك، فعندما تقول مثلاً إن هناك معلومات متناقضة عن حدوث انتهاكات في منطقة ما، في الوقت الذي تؤكد جهات كثيرة على حدوث مجازر، فإنك تمارس هنا تشكيكاً متعمداً يهدف إلى تجهيل آخرين بحقيقة ما يجري.

3- استغلال السلطة، والسلطة هنا لا تقتصر على السلطة السياسية فقط، بل تشمل كل أوجه السلطة، الدينية والاقتصادية والإعلامية، وحتى سلطة القبيلة أو العشيرة.. إلخ، وهذا ما يتم استخدامه على نطاق واسع اليوم، فلكل منا مرجعياته التي يثق بها ويعتمدها لتشكيل رأي ما، وفي التبعية الكاملة يصبح الرأي مستمداً من المرجعية، وليس من المحاكمة المنطقية للشخص، ويصبح الأمر أكثر خطورة في حال التبعية لجهة تمثل وجهاً من أوجه القداسة، كما هو السائد في المجتمعات التي لم تعرف جيداً الحقوق الفردية، ويغلب عليها الانتماءات العصبية، وترى المجتمع جماعات منفصلة، وليس مجموع أفراد.

4- التشكيك في المعلومات، أو تفخيخ الحقائق بمعلومة خاطئة بشكل متعمد، وهو أسلوب استعمل كثيراً في الثورة السورية، كأن تورد جهة ما الخبر صحيحاً لكنها وبمهارة تضمنّه تفصيلاً يسهل دحضه، أو تمتلك الوثائق التي تكذّبه، وعندما ينتشر الخبر تقوم جهات متواطئة بنشر ما يدحض ويكذّب هذا التفصيل بوضوح وبالوثائق الأمر الذي يقلل إلى حد كبير من مجمل الخبر.

ما سوف أركّز عليه فيما يلي هو التضليل السياسي، وعلى نحو أكثر تحديداً التضليل السياسي ضد الناشطين السياسيين، أو ضد أشخاص لهم رمزيتهم السياسية أو الثقافية أو الدينية لدى جمهور ما، عبر نشر معلومات كاذبة، أو نشر خطاب كراهية سواء عبر الإعلام، أو عبر “السوشيال ميديا”، ثم يأتي ما هو أخطر من التضليل بحق الأشخاص إلى التضليل بحق الجماعات، وهو اليوم ما نكاد نلمسه في تفاصيل الحدث السوري اليومية، وفي هذا الصدد نرى بوضوح ضخّاً متصاعد لخطاب الكراهية والعنف الطائفي ضد مجموعات عرقية أو دينية، يتعمد إخفاء حقيقة الاختلاف في وجهات النظر، أو المشاريع أو الأفكار، وتعميم معلومات مضلّلة، لمنع الجمهور العام من معرفة الحقيقة.

لن أقدّم أمثلة على كل ما تقدم، فنحن جميعاً على دراية كبيرة بتفاصيل كثيرة وأمثلة كثيرة حول هذا التجهيل المتعمد، وربما يمكن القول إن القسم الأكبر من السوريين عايش بشكل شخصي تجربة خاصة، لكن ما أراه بالغ الخطورة اليوم هو أن انتهاج سياسة التجهيل لعقود طويلة (طوال فترة حكم عائلة الأسد) ومن ثم خلال سنوات الثورة في المناطق التي خرجت عن سيطرة نظام الأسد، أصبح يهدد بشكل حقيقي المجتمع السوري، فـ”الحقائق” السائدة اليوم لدى معظم السوريين هي “الحقائق” التي يزوده بها التاريخ، والتي لا نحتاجها غالباً، ولا يمكن البناء عليها إذا ما أردنا فهم مشكلات اللحظة الراهنة، والاشتغال على إيجاد الحلول لها، بينما تغيب عمداً حقائق الحاضر بالغة الأهمية لإعادة إنتاج مقدمات وأسباب خروجنا من الكارثة التي تعصف بنا كسوريين.

للتصدي للتضليل السياسي الخطير الذي نتعرض له كسوريين، والذي تطغى عليه لغة عاطفية بدلاً من الحقائق، ويعتمد بشكل رئيسي على إثارة مشاعر الخوف أو الغضب لدى الجمهور، لا بد لنا من امتلاك وعي نقدي للمعلومات التي تضخّ بكثافة شديدة كل يوم، ولا بد من البحث عن مصادر موثوقة، والأهم من كل هذا لا بد من دعم الإعلام المستقل، والصحافة المستقلة على نحو خاص، ولا بد أيضاً من خلق ودعم منظمات المجتمع المدني التي تختص بمكافحة التضليل الإعلامي.

في الاقتصاد يمكن استعمال التجهيل لتسويق منتج ما، لكن ما نتعرض له اليوم في سوريا يمكن أن يلعب دوراً مهماً في رسم مصير سوريا، وبالتالي مصير كل أفرادها، لكن، وبغياب شبه كامل لدور النخب الثقافة والفكرية والسياسية، وبغياب الإعلام المسؤول، يصبح من السهل جداً على الجهات الداخلية والخارجية تذرير المجتمع السوري، وتفكيك كل ما يبقيه مجتمعاً واحداً.

تلفزيون سوريا

——————————

السوريات والتدبير السياسي: وجهات نظر النساء مهمة/ آمال قرامي

22 مارس 2025

يلاحظ المتابعون للشأن السوري كثرة حضور النساء في وسائل الإعلام التقليدية والميديا الاجتماعية، وهو حضور متميّز يتجاوز أهداف عرض الذات أو إضفاء مسحة جماليّة على المشهد الإعلامي أو تحقيق تكافؤ الفرص بين الجنسين ضمن سياسات إعلامية مُنصفة ليرسي تقاليد جديدة وممارسات مدنيّة منطلقها الأساسيّ: المواطنة المسؤولة التي تجعل كلّ سوريّ/ة معنيًّا بالشأن العامّ ومنخرطًا في مشروع إعادة بناء سورية الجديدة.

 تُبرز مشاركة سوريات ”الداخل وبلدان المنفى” في النقاش العامّ، من خلال تقديم الشهادات وكتابة التدوينات ونشر الفيديوهات في مواقع التواصل الاجتماعية والإدلاء بالتصريحات في مختلف وسائل الإعلام المحلية والعالمية… مدى قدرتهنّ على تحليل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومختلف الخطابات وجرأتهنّ على إبداء مواقفهنّ وتقييم أداء المسؤولين في الحكومة والتعبير عن مخاوفهن أو استيائهنّ أو غضبهنّ… كما أنّ حضور أغلب السوريات في الميديا وعلى أرض الميدان يقيم الدليل على فاعليتهنّ واستقلاليتهنّ وتصميمهن على الاضطلاع بأدوار متنوّعة.

ولذا لم تتخلّف السوريات في المنفى عن العودة لمعاينة الأوضاع والمساهمة في تعزيز مسار بناء الثقة وبثّ التوعية. ولم تقتصر مشاركة النساء على اختلاف انتماءاتهنّ ومرجعياتهنّ ومعارفهنّ، على تحليل الأخبار والخطابات السياسية، وعلى رأسها خطابات الرئيس أحمد الشرع لفضح التناقضات الداخلية والأيديولوجيات المتحكّمة فيها، وشرح بعض التصرّفات والقرارات فقط، بل وجدنا إصرارًا على إحياء ذاكرة التعايش والتصدّي لخطابات التعصّب، وحرصًا على تأسيس المبادرات الإيجابية لمواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية والتحديات، وممارسة للنقد. وثمّة دعوات للإفادة من خبرات أهل القانون والناشطين/ات الحقوقيين في صناعة الدستور الجديد وهناك تنظيم لحملات الإغاثة والتبرّع وغيرها من المبادرات المندرجة في إطار العمل المدنيّ، فضلًا عن نشاط نسويّ يرصد قرارات الدولة وتحرّكات مختلف الفاعلين ويسائلهم ويكشف عن التعنّت الذكوري المتقاطع مع الأيديولوجيا والسنّ والطبقة والطائفية والمذهبية… وهو تعنّت جعل المسؤولين الجدد لا يقرّون بعجزهم عن مواجهة التحديات ولا بحاجاتهم إلى خبرات الآخرين ولا يعترف بكفاءة النساء وضرورة الإفادة من تصوّراتهنّ وخبراتهنّ.

يثبت هذا الحضور النسائيّ النوعيّ والديناميكيّ شدّة وعي السوريّات بمسؤولياتهنّ تجاه الوطن، وإيمانهنّ بضرورة استمرار الفعل السياسيّ وتنمية الرصيد النضاليّ واقتناعهن بأهميّة تعدّد الأصوات وإقرارهنّ باختلاف التجارب والخبرات وتنوّع وجهات النظر. ولكنّ الفجوة بين فاعلية النساء وبين مرئيتهنّ في مجال التدبير السياسيّ وصنع القرار تلفت الانتباه، ذلك أنّ صنّاع القرار لم يكترثوا لهذا الأمر وليست لهم إرادة سياسية لتشريك النساء في إدارة المرحلة مثلهم مثل سياسيّين آخرين في المنطقة (من أهل اليمين وأهل اليسار).

لا يهتّم صنّاع القرار بآراء النساء وتصوّراتهنّ للفعل السياسيّ ولا يقرّ هؤلاء بجدوى استشارتهنّ حول استراتيجيات مرحلة البناء وقواعده الدستورية ولا يصغي أغلبهم لمطالبهنّ السياسية. فمتى كان التعويل على ما تنتجه النساء من معرفة سياسية وتاريخية تثبت خبراتهنّ وتجاربهنّ؟ إنّ السياسة عالم ذكوريّ بامتياز، وما على النساء إلا البقاء على الهامش.

لا يولي أغلبهم اهتمامًا بفهم النساء للسياسة وتعريفهنّ لها، ولا يبدي أكثرهم فضولًا لمعرفة كيف تُقارب النساء الشأن العامّ؟ وكيف يعبّرن عن مطالبهنّ وحقوقهنّ السياسية؟ وكيف يحدّدن شكل النظام السياسيّ المرغوب فيه؟ وكيف يفهمن علاقتهنّ بالدولة؟

وانطلاقًا من هذا الواقع السياسيّ-الاجتماعيّ الذي يستنقص من شأن النساء ولا يعترف بمواطنيتهن التامة وتهيمن عليه مجموعة من التمثلات الاجتماعية والدينية وتحكمه رهانات السلطة تستمرّ فاعلية السوريات وضغطهنّ المتواصل من أجل تشريك الكفاءات النسائية والدفاع عن حقوقهنّ في أن تحترم أفكارهنّ ويكنّ في مواقع صنع القرار.

وتقودنا هذه الفاعلية النسائية التي أربكت سردية المرأة ضحية الصراعات والحروب، إلى الوعي بضرورة أرشفة أنشطة السوريات المختلفة وإنتاجهنّ خلال هذه المرحلة التاريخية المفصلية والعمل على إرساء مشروع التاريخ الشفويّ للسوريات تقديرًا لجهودهنّ وتثمينًا لوجهات نظرهنّ، فالنساء لسن وافدات إلى عالم السياسية، بل إنّهن سياسيّات ومنتجات لمعرفة سياسيّة ذات قيمة ومدبّرات للسلطة وشريكات في إدارة المرحلة وبناء الوطن.

العربي الجديد

—————————-

كي لا يكون “عجّان” أو “موسى” جديد في سوريا/ إياد الجعفري

الأحد 2025/03/23

فيما تتابع شريحة واسعة من السوريين تطورات مسلسل “تحت سابع أرض”، والصراع الدائر فيه بين حيتان قطاع الصرافة الذي يمثّل غطاءً لنشاط تزوير الدولار، يظهر أحد أبرز حيتان هذا القطاع في سوريا، سابقاً -وربما حتى اليوم-، فؤاد عاصي، في موقف إشكالي بشوارع العاصمة دمشق.

بطبيعة الحال، لسنا في وارد اتهام الرجل بالمسؤولية عن الانتشار الكثيف للدولارات المزوّرة في أسواق دمشق، قبل بضعة أسابيع. إذ لا يوجد ما يدل على أي رابط بينه وبين هذه القضية. لكن تلك مناسبة، للإشارة إلى استمرارية سطوة “المارد” المرتبط به، على سوق الصرافة والحوالات بسوريا: شركة “الهرم”.

خلال الأسبوعين الفائتين، توالت الإرهاصات التي تشي بولادة المعادلات الجديدة الحاكمة لقطاع من أكثر القطاعات توليداً للدخل والثروة، في سوريا المنهكة اقتصادياً، وذات القطاعات الإنتاجية الراكدة. إنه قطاع الصرافة والحوالات. إذ وبعد أسابيع من الحرية المطلقة، التي أُتيحت للناس بالعمل في هذا القطاع، من دون أي قيود، بدأت القيود تنبثق من رحم تبلور سطوة السلطة الجديدة الحاكمة في دمشق.

إذ شنّت دوريات أمنية تتبع لمحافظة دمشق، حملة على بسطات الصرّافين، وصادرت أموالهم. وكان يمكن ربط ذلك حصراً بغاية ضبط نشاط “البسطات” المثير للاستياء من جانب كثير من السوريين. لكن، بعد أيام، شنت الضابطة العدلية لمصرف سوريا المركزي حملة أخرى ضد المحال التجارية والأشخاص الذين يمارسون أعمال الصرافة والحوالات من دون ترخيص. وأشار بيان المركزي بهذا الخصوص، إلى مصادرة أموال مزوّرة، مطالباً “الإخوة المواطنين” بعدم التعامل مع أي جهة غير مرخصة. وكان لافتاً أن المصرف تلقى سيلاً من الانتقادات تعليقاً على هذا الإعلان، أشار فيها بعض المعلّقين إلى أن الإجراءات الأخيرة للمركزي تخدم مصالح شركات الصرافة والحوالات المرتبطة بنظام الأسد البائد، والتي لا تزال تعمل بقوة وبكل أريحية. من أبرزها بطبيعة الحال، شركة “الهرم” لفؤاد عاصي.

وخلال الفترة ذاتها، أصدر المركزي قراراً فرض بموجبه شروطاً جديدة للترخيص، تخص شركات الصرافة والحوالات العاملة في شمال غرب سوريا. أبرز هذه الشروط، رفع سقف التأمين المطلوب من هذه الشركات، من 100 ألف دولار كحد أقصى سابقاً، إلى 1,250 مليون دولار. وفي حال عدم الالتزام، تفقد الشركة المعنية، ترخيصها القانوني. هذا الشرط، قرأه المعنيون بأنه يصب في صالح الشركات الكبرى العاملة في هذا المجال. فهو يعزّز قدرتها على احتكار وضبط السوق، لصالحها. هذه الاعتراضات ردّ عليها المركزي بصورة غير مباشرة، عبر تصريحات لمصدر لم يتم تسميته، ضمن المكتب الإعلامي، تحدث من خلال صحيفة “الحرية” الرسمية –”تشرين” سابقاً- عن ضرورة قيام المركزي بدوره المنوط به، في تنظيم قطاع الصرافة والحوالات، عبر مؤسسات مرخّصة وخاضعة للرقابة “حسب الأصول”، بصورة تحمي حقوق المتعاملين في ظل انتشار العملات المزوّرة، وحالات الاحتيال. ووفق المصدر، فإن المركزي يعمل على استصدار صك تشريعي يقضي بإعادة تنظيم قطاع الصرافة بشكل كامل.

بطبيعة الحال، لا يعترض أحد على تنظيم قطاع الصرافة والحوالات في سوريا. فالفلتان الذي عمّ هذا القطاع خلال الأشهر الثلاثة الفائتة، لا يجوز أن يستمر على المدى المتوسط والبعيد. لكن العقدة تكمن في طبيعة المعادلات التي من المرتقب أن تحكم هذا القطاع، المثير لشهية “الحيتان” والمتنفّذين في سوريا. فنحن نتحدث عن حجم أعمال يومي يتراوح ما بين 3 إلى 7 مليون دولار. يرتفع في موسم رمضان، وما قبل عيد الفطر، إلى وسطي 10 مليون دولار يومياً.

في عهد نظام الأسد، وتحديداً في العشرية الأخيرة، كانت المعادلات الحاكمة لهذا القطاع، أربع. الأولى: حيتان أعمال، شركاء لمتنفّذين يديرون شركات صرافة وحوالات مرخّصة تحتكر السوق، وتُفصَّل القرارات الناظمة لهذا القطاع على قياسها. المعادلة الثانية: تجرّيم أي نشاط بالصرافة أو تعامل بالدولار خارج قنوات المؤسسات المرخّصة المحصورة بـ”الحيتان” إياهم. المعادلة الثالثة: حجب الدولار عن عموم السوريين، وتسليمهم حوالاتهم بالليرة السورية حصراً، ليبقى الدولار متاحاً لهذه الشركات “ذات الحظوة”، لتتولى بيعه للتجار والمستوردين. المعادلة الرابعة: توفير الدولار لخزينة الدولة، عبر الحصول على جانب من إيرادات شركات الصرافة “ذات الحظوة” بالقطع الأجنبي، مقابل تسليم السوريين حوالاتهم بالليرة السورية، وبسعر أقل من السعر الحقيقي بكثير. وبذلك، كان الطرفان، الدولة ومن فيها من متنفّذين، و”حيتان” هذا القطاع، يموّلون أنفسهم على حساب أغلبية كبيرة من السوريين، تصل إلى نحو الثلثين، تعيش بصورة أساسية على حوالات أقاربهم في الخارج. وكانت حصيلة هذه المعادلات الأربع، إثراء فئة محدودة، مقابل انخفاض متواصل في القدرة الشرائية لغالبية السوريين.

في ذلك العهد، كان جانب من السوريين يتحايل على قيود سلطة نظام الأسد عبر السوق السوداء، التي كانت توفّر بديلاً أكثر عدالة بكثير، من المؤسسات المرخّصة لـ”الحيتان”. لكن ذلك كان وقفاً على مقدار المجازفة التي كان السوريّ مستعداً للإقدام عليها، في ظل حملات أمنية متكررة تستهدف الناشطين في السوق السوداء والمتعاملين معها. بعد سقوط النظام، تكشفت السوق السوداء في العلن وتوسّعت بصورة لم تشهدها سوريا منذ أكثر من نصف قرن. رافق ذلك الكثير من حالات الاحتيال وعدم الأمان في التعاملات. بالتوازي، استمر عمل شركات الصرافة التي كانت تحتكر السوق سابقاً، وأبرزها “الهرم” وشقيقاتها. بل وتوسع عمل هذه الشركات، التي بقيت مقصد شريحة واسعة من السوريين، الراغبين بتجنب المخاطرة باستلام عملات مزوّرة من بائعي الأكشاك والبسطات. وللمفارقة، واصلت “الهرم” وشقيقاتها العمل وفق بعض المعادلات القديمة. وأبرزها، تسليم الحوالات بالليرة السورية حصراً. هذه المرة، بذريعة عدم توفّر الدولار. وهي ذريعة غير مفهومة اليوم في ظل شح السيولة من الليرة، واضطرار السوريين لبيع مدخراتهم من الدولار لتمويل مشترياتهم الملحة.

ومع إجراءات الترخيص الجديدة التي فرضها المركزي، وامتناع شركات كانت مرتبطة بالنظام السابق عن تسليم الحوالات بعملتها الأصلية، تصبح المخاوف من إعادة استنساخ معادلات سوق الصرافة والحوالات في عهد النظام البائد، مشروعة.

ونحن نقف على أعتاب صدور صك تشريعي لتنظيم قطاع الصرافة والحوالات، لا بد من الإشارة إلى كارثية استنساخ نماذج من قبيل “العجّان” أو “المقدم موسى”، التي يقدّمها مسلسل “تحت سابع أرض”. هذه النماذج لا تخص نشاط تزوير الدولار فقط، بل تعني بصورة أهم، قصة التحالف الخطر بين حيتان قطاع الصرافة والحوالات وبين متنفّذي السلطة في عهد النظام البائد، وفق معادلات أرهقت السوريين لأكثر من عقدٍ من الزمن. ولا يجوز القبول باستنساخها مجدداً. ويكفي لطمأنة المتابعين بهذا الصدد، ألا تكون شروط الترخيص للمؤسسات المعنية في هذا المجال، صعبة، بصورة تؤدي إلى حصر السوق في قبضة أصحاب الملاءة المالية الضخمة القادرة على احتكاره. يجب إتاحة هذا القطاع لأكبر قدر ممكن من المتنافسين. وأن تبقى وظيفة السلطات مراقبة أي مخالفات متعلّقة بالتزوير أو الاحتيال.. لا أكثر.

المدن

——————————–

إعادة بناء المؤسسة العسكرية في سوريا بعد سقوط الأسد/ العقيد عبد الجبار العكيدي

الأحد 2025/03/23

تعتبر إعادة بناء المؤسسة العسكرية في سوريا، بعد حلّها وتفكيكها من قبل رأس النظام البائد قبيل فراره إلى موسكو، من أكبر التحدّيات المعقّدة التي تفرضها الظروف الراهنة، فضلاً عن التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه سوريا. ومع ذلك، فإنها تُمثّل إحدى أهم الخطوات نحو تحقيق الاستقرار، وبسط الأمن، وإرساء سلام مستدام في بلد أنهكته الحرب، واستنزفت موارده على جميع الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية. كما أسهمت تلك الحرب في تمزيق النسيج الاجتماعي، وخلّفت انقسامات عميقة بين مكوّناته، مما يجعل إعادة بناء الجيش السوري الجديد ضرورة مُلحّة، بل من أهم الاستحقاقات الراهنة.

ولعلّ هذه الخطوة تلبّي تطلعات الشعب السوري في جيش يعكس القيم الوطنية والأخلاقية والثقافية، ويمثل كافة أطيافه ومكوناته. غير أن هذه العملية ليست باليسيرة كما قد يظن البعض، إذ تتطلّب مراعاة السياق الفريد للوضع السوري، والتحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، لضمان تأسيس جيش وطني حقيقي قادر على حماية سيادة الدولة.

إعادة هيكلة الجيش

إن إعادة هيكلة الجيش السوري الجديد ليست مجرّد مسألة عسكرية، بل تُعدّ ركيزة أساسية لإعادة بناء الدولة السورية على أسس من الاستقرار والشفافية. وتستلزم هذه العملية منهجية شاملة ومتعدّدة الجوانب، تأخذ في الاعتبار التنوع الثقافي والوطني للشعب السوري، وتُركّز على تفكيك الولاءات السياسية والطائفية داخل المؤسسات العسكرية.

ولتحقيق ذلك، ينبغي وضع قوانين صارمة تمنع تدخل القوى السياسية في الجيش، والتأكيد على أن يكون الجيش مؤسسة وطنية لا تخضع لأي حزب سياسي أو طائفة. كما يجب إنشاء برامج تدريبية لتطوير مهارات الجنود والضباط، وتحديث استراتيجياتهم وفقاً لأخلاقيات العمل العسكري والمعايير الدولية، مع احترام حقوق الإنسان.

كما يجب أن يعكس الجيش السوري الجديد التنوع الموجود في المجتمع السوري، بما يضمن تحقيق المساواة والعدالة، ويعزّز الوحدة الوطنية، ويمنع أي احتكاك داخلي. ويجب أن يكون قادراً على حماية البلاد. ولتحقيق ذلك، لا بد من ردّ الاعتبار لكافة المنشقّين عن جيش النظام من ضباط وضباط صف وجنود، وإعادتهم ليكونوا النواة الأساسية والعمود الفقري لهذا الجيش. كما ينبغي وضع آلية مدروسة لدمج الفصائل العسكرية المعارضة في الجيش الجديد بعد تدريبها وتأهيلها وفق معايير عسكرية حديثة، لضمان الحدّ من انتشار السلاح والانقسامات.

تحديات وفرص

بعد أكثر من عقد من الحرب، يواجه الجيش السوري والقوى الأمنية تحديات كبيرة تتعلّق بالانقسامات الداخلية، والتدخلات الخارجية، وغياب الثقة بين مختلف مكوّنات المجتمع. لذا، فإن أي عملية لإعادة بناء الجيش السوري كمؤسسة وطنية محترفة يجب أن تستند إلى معايير الجيوش الحديثة، وتقوم على مبادئ المهنية والحياد. كما ينبغي تضمين الدستور الجديد قوانين تنظّم دور الجيش وعلاقته بالسلطة التنفيذية، وتضمن عدم تدخّله في السياسة، مع وضعه تحت رقابة البرلمان لضمان المساءلة والشفافية، والالتزام بالقوانين الدولية.

مع ذلك، تواجه هذه العملية العديد من التحديات الناجمة عن تعقيدات الوضع السابق، ومن أبرزها:

1.   دمار البنية التحتية العسكرية التي تعرّضت لأضرار جسيمة بفعل الحرب، مما يستلزم إعادة بناء شاملة تتطلب استثمارات ضخمة.

2.   تعدد الفصائل المسلحة واختلاف مرجعياتها السياسية وتوجهاتها الفكرية والأيديولوجية.

3.   الانقسامات الطائفية والإثنية والسياسية التي كرّسها حكم الأسد بشطريه (الأب والابن).

4.   التدخلات الخارجية التي قد تعرقل أي محاولة لبناء جيش مستقل.

دروس من تجارب دول أخرى:

مرت العديد من الدول بتجارب مماثلة في إعادة بناء جيوشها بعد النزاعات، ويمكن لسوريا الاستفادة من هذه التجارب. فعلى سبيل المثال، أعيد بناء الجيشين الألماني والياباني بعد الحرب العالمية الثانية على أسس جديدة جعلتهما مؤسستين محترفتين خاضعتين لسلطة مدنية. كما شهدت البوسنة والهرسك عمليات دمج لقوات متصارعة ضمن جيش موحد بعد نزاع التسعينيات، وتمكّنت رواندا من إعادة هيكلة جيشها بعد الإبادة الجماعية، ليصبح قوة استقرار وليس أداة صراع.

وللاستفادة من تلك التجارب، يمكن اعتماد معايير تضمن بناء مؤسسة عسكرية متماسكة تعمل كدعامة أساسية لتعزيز الأمن والاستقرار، وتساهم في بناء الثقة بين الجيش والشعب، مما يمهّد لاستقرار طويل الأمد. ومن هذه المعايير:

1.   ضمان التمثيل العادل لجميع مكونات المجتمع السوري في الجيش الجديد، ليعكس التنوع الثقافي والاجتماعي للبلاد.

2.   توحيد الجهود العسكرية تحت مظلة الدولة، عبر دمج جميع الفصائل المسلحة ضمن هيكلية الجيش، وتنفيذ برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، لضمان انتقال سلس للمقاتلين إلى الحياة المدنية أو العسكرية المنظمة، وفق المعايير المهنية.

3.   صياغة عقيدة عسكرية جديدة تعكس القيم الوطنية، وتلتزم بالحياد والاستقلالية، بعيدًا عن التجاذبات السياسية والطائفية.

4.   تعزيز المهنية والتدريب العسكري، وتوفير التكنولوجيا الحديثة، وتزويد الضباط والجنود بالمهارات اللازمة لحماية الدولة والدستور، مع ضمان معايير مهنية عادلة في اختيار الجنود والضباط.

5.   ضمان الشفافية والمساءلة عبر وضع آليات رقابية صارمة لمنع الفساد، ومحاسبة أي انتهاكات أو تجاوزات داخل المؤسسة العسكرية، وإدخال مفاهيم جديدة مثل حفظ السلام، مكافحة الإرهاب، وإدارة الأزمات.

6.   فرض رقابة مدنية على الجيش، بحيث يكون خاضعًا للسلطة التشريعية ويعمل في إطار القانون والدستور، مع الالتزام بالقانون الدولي لحقوق الإنسان.

نحو مستقبل أكثر استقراراً

إعادة بناء الجيش السوري ليست مجرد خطوة تقنية، بل هي حجر الأساس في إعادة إعمار سوريا وضمان مستقبل أكثر استقراراً. فالجيش الجديد يجب أن يكون قوة لحماية السيادة الوطنية، وليس أداة لقمع الشعب أو الانخراط في النزاعات الداخلية. ونجاح هذه الجهود يعتمد على إرادة سياسية صادقة، تعاون دولي داعم، وثقة داخلية بين المؤسسة العسكرية والمجتمع.

في نهاية المطاف، فإن بناء جيش وطني قوي سيكون ركيزة أساسية لاستعادة الأمن، وإعادة الشعور بالانتماء إلى دولة موحدة يسودها القانون والعدالة، بعيدًا عن الصراعات والانقسامات.

المدن

——————————-

 روسيا ومصير الأسد/ رامي الشاعر

23-03-2025

لقد أعلن الكرملين مراراً وتكراراً على لسان المتحدث الرسمي دميتري بيسكوف أن موسكو تدير حواراً واتصالات مع القيادة السورية الحالية.

إلا أنه، وفي الوقت نفسه، من السذاجة التفكير بأن أحداً في روسيا يفكر فيما يثار من شائعات بشأن “تسليم بشار الأسد”، حيث ينبغي التأكيد هنا على ما أعلنه الكرملين من قبل وهو أنه استقبل الرئيس السوري السابق وعائلته لدواعٍ إنسانية لا سياسية، وهو أمر في غاية الأهمية. بمعنى أن روسيا قد اعترفت بقيادة المرحلة الانتقالية في دمشق، وبالرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع لحين وضع دستور البلاد وإجراء انتخابات.

يتعين أيضا الإشارة إلى أن مغادرة الأسد كانت في سياق اتفاق على المساهمة في تغيير الوضع في سوريا دون حدوث صدام عسكري واسع النطاق لا تحمد عقباه، وحرب أهلية ضروس، وهو ما شاركت به دول أستانا (روسيا وتركيا وإيران). والقيادة الحالية في سوريا تدرك تماماً، فيما أتصور، أنها تتحمل المسؤولية ليس فقط أمام الشعب السوري الذي عانى ويلات الحرب طوال عقد ونيف من الزمان، وإنما أمام منطقة الشرق الأوسط والأطراف الدولية التي سهلت لها استلام هذه المسؤولية.

لذلك، وبالنسبة لروسيا، فقضية مصير الأسد قضية محسومة وليست قابلة للنقاش، وأتصور أن القيادة السورية الحالية تعي ذلك تماماً.

أما ما حدث في الساحل السوري فلم تكن هناك أي استعدادات عسكرية جدية، وإنما كانت بعض المبادرات الفردية، ومجموعات متناثرة، يمكن تسميتها فعلياً بالعصابات، التي يحركها الحقد وضياع المصالح والمكانة التي كانوا يتمتعون بها وعائلاتهم إبان حكم الأسد، وهي تراكمات أعتقد أنها بصدد الزوال على المدى المتوسط لا البعيد، وما تحتاجه سوريا الآن هو إرساء دعائم الدولة الديمقراطية الحديثة، التي يقف فيها المواطنون بكافة أعراقهم ودياناتهم وأطيافهم وفئاتهم سواسية أمام سيادة القانون. وكلي يقين أن ذلك ستتم معالجته مع الوقت بحكمة العقلاء وبوقوف روسيا تقليديا بجانب الشعب السوري.

إن موسكو واثقة من أن السوريين بكافة فئاتهم سيتجاوزون هذه المرحلة، وأن القيادة الحالية على مستوى من المسؤولية يسمح بتجاوز كل هذه الظروف والخروقات وتأمل روسيا ونحن جميعاً معها أن يتم التوصل إلى وفاق يضمن السيادة السورية على كامل التراب الوطني السوري، والتواصل يجري يومياً بين موسكو ودمشق من خلال القنوات المتعددة بما في ذلك بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والسوري أحمد الشرع للمساعدة في إتمام ذلك.

وأود التأكيد هنا أيضاً أنه ليس لروسيا أي سيناريوهات أو مصالح أو أهداف لتواجدها المحدود في سوريا سوى مساعدة السوريين في الحفاظ على وحدة أراضيهم. واستخدام روسيا لميناء طرطوس على الساحل السوري لخدمة أسطولها العسكري وتأمين احتياجاته في البحر الأبيض المتوسط بالقطع سيحتاج إلى مساعدة فنية، يمكن ضمانه من خلال اتفاقيات مشتركة ورسمية بين الحكومتين الروسية والسورية، وروسيا مهتمة بالحفاظ على هذه الصلة وتطويرها وتنمية العلاقات الاقتصادية والفنية والثقافية والاجتماعية، حيث تهتم روسيا بالحفاظ على تنمية العلاقات مع كافة بلدان الشرق الأوسط القريبة نسبياً من حدودها الجنوبية، لذلك فضمان الاستقرار والأمن في هذه المنطقة يصب مباشرة في مصلحة الأمن القومي الروسي، وتحديداً في القوقاز، وكذلك يضمن الأمن والسلم الدوليين بصفة عامة.

ومما لا شك فيه أن المحادثة الهاتفية للرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب تطرقت إلى أمن منطقة الشرق الأوسط، لأن روسيا على قناعة تامة بأنه لا يمكن أن يعمّ السلام العالمي وتجنب حدوث صدام دولي أو نووي لا قدر الله دون التوصل إلى وفاق تام بين الدولتين النوويتين العظميين ليس بشأن أوكرانيا وأوروبا فحسب، وإنما أيضا بشأن كافة القضايا الدولية المتنازع عليها في العالم، وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط.

أما بخصوص ما تم تداوله من شائعات، أصفها بالسخيفة، أن بشار الأسد يخضع لما يشبه الاحتجاز أو الإقامة الجبرية، أو أنه نُقل إلى سيبيريا، فلا صحة لذلك من قريب أو بعيد، إلا أن الرئيس السوري السابق يعي أنه لا يجوز له القيام بأي نشاط إعلامي أو غيره، ويعي أن وضعه الحالي مؤقت، وربما يتغير مع تجاوز سوريا محنتها الراهنة والتعافي من الأمراض التي تعاني منها الآن، والتوصل إلى وفاق وطني يؤمن الاستقرار لجميع فئات الشعب السوري الدينية والعرقية.

وروسيا في هذه الأوقات الصعبة التي تمر بها سوريا تقدم لها مساعدات نفطية لعجز الأخيرة، في ظل الوضع الراهن، عن استخدام إمكانياتها النفطية نتيجة العقوبات، إضافة إلى العائق المادي. ونأمل أن تتجاوز سوريا هذه المرحلة في أقرب فرصة ممكنة لتتمكن من الاستفادة من ثرواتها وإمكانياتها النفطية الذاتية.

إن سوريا هي درة التاج في المنطقة، وتعافيها سيؤثر على الجميع بالإيجاب، ونأمل أيضا أن يتحسن الوضع بالتزامن في لبنان وفلسطين، وأن تلتزم الأطراف بالمواثيق والاتفاقيات الدولية وأن يعلو صوت ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن الدولي التابع لها فوق نزوات ومغامرات السياسيين أصحاب المصالح الضيقة والأفكار المتطرفة.

نورث برس

————————-

===================

=====================

عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 23 أذار 2025

تحديث 22 أذار 2025

————————

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

الأحداث التي جرت في الساحل السوري

——————————

سوريا في شهر الثورة.. التحديات كبيرة/ أحمد مظهر سعدو

2025.03.23

تتشابك التحديات وتتعقد، بعد نحو 4 شهور من انتصار ثورة الشعب السوري، وإزالة نظام الأسد، وفرار رأس النظام إلى موسكو. إذ يحاول السوريون الاحتفاء بتاريخ ثورتهم العظيمة، ثورة الحرية والكرامة في ذكراها، أمام تحديات كبيرة وكثيرة ومتعددة، بل وأكثر تعقيدا، طالت مجمل الواقع المتغير في المشهد السوري. حيث لم تُترك سوريا بشعبها المكافح لفرحة النصر، كما لم  يُترك الإنسان السوري ليعيش زمنا جديا خاليا من القتل والموت والعبث بأوضاعه، حتى بدأت المشكلات والإشكاليات تنبثق في طريقه الشاق نحو بناء الدولة السورية الجديدة، الخالية من خراب عصابة الأسد، فسادها وإفسادها وحالة الدولة السورية التي عاشها السوريون على مدى ٥٤ عاما من حكم آل الأسد ومساراتهم المليئة بالدم والنهب والخراب على كل المستويات، حتى أضحت سوريا في الدرك الأسفل من الفوات والعفن على جميع الأحوال والمتغيرات.

تتمظهر اليوم حالات كثيرة من تلك التحديات التي تعوِّق حركة العمل المطلوب من أجل سوريا الحرة، التي لا بد من أن تبنى على أسس جديدة وقيم وطنية أخرى، وسيادة جدية للدستور والقانون المغيبين قسرا زمن الأسد الابن وقبله الأب.

ولعل التحدي الأكبر هو ماتفعله إيران وأدواتها من الفلول التشبيحية، في محاولاتهم المستمرة ضمن الساحل السوري، وكذلك على الحدود اللبنانية السورية، من أجل زعزعة الأمن والاستقرار الضروريين جداً من أجل قيامة جديدة للدولة السورية. وإذا كانت غايات إيران في ذلك ومعها زبانية نظام الأسد واضحة المعالم، وهي التي انهزمت على يد الشعب السوري صبيحة 8 كانون أول/ ديسمبر 2024 هزيمة نكراء، أسهمت في هدم صرح المشروع الإيراني الفارسي الطائفي في المنطقة، وتم قطع  الطريق كليا على امتدادات وأطماع إيران في المنطقة، فأصبح طريق طهران بغداد دمشق بيروت غير سالك، بل مقطوع نهائيا في أوسطه، أي داخل الجغرافيا السورية تحديدا، وهو ما جعل إيران/ الملالي تتجرع كأس السم الزعاف في سوريا هذه المرة، بعد أن تجرعه (آية الله الخميني) في العراق أواخر ثمانينيات القرن الفائت. من هنا فإنها لن تألو جهدا من أجل العمل وبشتى السبل، لزعزعة الأوضاع الأمنية في سوريا، ضمن محاولاتها البائسة للعودة من جديد إلى الساحة السورية المطرودة منها، رغم كل إمكانياتها وثقلها العسكري.

أما التحدي الآخر الذي يقف في طريق الدولة الجديدة في سوريا، فهو تحدي القوة المتصاعدة الإسرائيلية  حيث  خرجت إسرائيل منتصرة في حربها على قطاع غزة وجنوبي لبنان، وهي اليوم تريد أن تستثمر وتستغل هذه الفرصة عبر سوريا، في ظل وجود عسكري لجيش سوري ناشئ ومتواضع، وضمن اللاإمكانات الجدية للمواجهة، كي تنجز وضعا جديدا عبر قضم المزيد من الأراضي السورية  في الجولان والهيمنة على كامل المنطقة العازلة، وتدمير ما تبقى من عتاد عسكري سوري، واللعب على الوتر الطائفي، بدعوى حماية الأقليات، وخاصة في الجنوب السوري . كل ذلك يجري في ظل غياب كامل لأي مشروع عربي قادر على لجم التمدد الإسرائيلي، أو إيقاف التهديدات الصهيونية المستمرة للوضع الجديد في سوريا، وضمن أجواء هيمنة الرئيس الأميركي (دونالد ترمب) على العالم، وانحيازه المطلق إلى جانب إسرائيل، على حساب العرب كل العرب، من دون الاهتمام بمواقف النظام العربي الرسمي الضعيف، هذه المواقف التي لا تتعدى شكلية إصدار بيانات لا تسمن ولا تغني من جوع.

كما لا يمكننا إلا التوقف أمام التحدي الآخر الذي لايقل خطورة، وهو موضوع شمال شرقي سوريا، حتى بعد أن تم توقيع اتفاق مهم بين الإدارة السورية الجديدة وتنظيم (قسد)  حيث ما تزال هناك الكثير والكثير جدا من من العقبات، التي تعترض طريق تنفيذه خلال تسعة أشهر قادمة، وهي المدة الزمنية المعطاة له من أجل الإنجاز، حيث ما برحت هناك كثير من العقبات بل والخلافات بين الطرفين، وصولًا إلى حالة اندماج ما، قد تحصل وقد لا تحصل في المؤسسة العسكرية السورية الجديدة، وهذا يرتبط بالضرورة وبشكل مباشر وواضح بمدى رضى أو عدم رضى الإدارة الأميركية عن أداء الحكم الجديد في سوريا.

كذلك فإن إشكالية الجنوب السوري ماتزال قائمة، واللعب بورقة (الدروز) من قبل الإسرائيليين ما تزال جدية، رغم الوقوف المعلن لمعظم الفعاليات الوطنية السورية في جبل العرب، انحيازا حقيقيا وواضحا إلى جانب وحدة سوريا، والاندماج بالحالة السورية الجديدة، وعدم الالتفات إلى ما تحاول أن تفعله إسرائيل من تحريك لبعض أدواتها في السويداء من أجل الهيمنة على الجنوب السوري والتهيئة لحالة جديدة من تفسخ الوحدة الوطنية السورية.

وقد لا يقل أهمية عن كل ذلك تحدي بناء الدولة الوطنية، على أسس تشاركية وحدوية لا تتكئ على اللون الواحد، ولا تسمح بالانفراد بالسلطة، من قبل لون سياسي واحد بحد ذاته، فمطالبات الداخل والخارج تفترض مشاركة الجميع، وفق معايير وطنية ديمقراطية تتمكن من تخطي زلات وهنات الإعلان الدستوري، وصولًا إلى تشكيل حكومة وطنية جديدة، متعددة المشارب، وقادرة على الوصول إلى بناء وطني للدولة ديمقراطي وعصري. بالإضافة إلى ضرورة الإسراع في تشكيل هيئة عليا للعدالة الانتقالية، التي باتت ضرورية وملحة، لتقطع الطريق على كل العابثين بأمن الوطن السوري. وكذلك العمل بدأب من أجل تأمين الخدمات الضرورية للعيش، وتحسين الأداء الاقتصادي الأفضل، كي يجذب ذلك السوريين المهجرين قسرا إلى الخارج، كي يعودوا جميعا ويسهموا في بناء الوطن السوري القادم والجديد.

ولن ننسى التحدي الآخر الكبير وهو تحدي كيفية إقناع الغرب وخاصة الأميركان بإزالة كل أنواع العقوبات المفروضة على سوريا، والتي لم يعد هناك من مبرر لوجودها، بعد إزاحة السبب، الذي أدى إليها، وهو “نظام الفاشيست” الأسدي، وهو مايجب الاشتغال عليه وبشتى الطرق، وعبر كل أصدقاء سوريا، حتى لا تبقى هناك معوقات حقيقية على طريق بناء اقتصاد سوري وطني قوي وقادر على الإيفاء بالمتطالبات الوطنية السورية المعيشية للناس.

إذا فالتحديات كبيرة وكثيرة، لكن الأمل ما يزال موجودا لتخطيها جميعا، وعبر جهد حقيقي، يشارك فيه كل السوريين، مع أصدقاء الشعب السوري، الذين وقفوا إلى جانب سوريا، لكن المسألة شاقة ومتعبة، وتحتاج إلى كثير من الانفتاح والتشاركية، والعمل الدؤوب من أجل سوريا التي نحب ونرغب جميعا.

————————–

السوريون العلويون وموسم قطاف الدم/ عبير نصر

22 مارس 2025

كتبتُ في “العربي الجديد”، منذ سنتين، عدة مقالات تناولت اختطاف نظام الأسد الطائفة العلوية في سورية، مستثمراً مظلوميّتها التاريخية لصهرها في دورة عنف يُعاد تدويرها متى دعت الحاجة، بعدما جعل أفرادها يقفون في حيّزٍ من الغموض الهُويَّاتي وعدم اليقين الوطني، مختصراً كينونتهم في مليشيات متطرّفة، وأكباش فداء في جبهات القتال. وبناء عليه، كتبتُ إنه لا بدّ أن يأتي يومٌ يدفع فيه العلويون فاتورة طغيان الأسد، فاستدامة سيطرته على البلاد أصبحت مستحيلةً، وهم الدرع الحامي لعرشه المقدّس، فكيف لا يتلقّى عنه رصاص اللوم والانتقاد وسياط الغضب. على التوازي، لم تكن العلاقة بين نظام الأسد والحاضنة الموالية متجانسةً أبداً، وهذا تأتّى بعد مراجعةٍ نقديةٍ صارمةٍ للذاكرة الجمعية العلوية في ظلّ عدم القدرة على التكيّف المرن مع إكراهات السلطة وإجرامها، فقد انتقدت ثلّة من المثقّفين والناشطين السوريين العلويين علناً استبدادها وفسادها، فأصدرت رابطة تنسيقيّات الساحل السوري، ورابطة الإخاء الوطني والعيش الواحد، عام 2011، بياناً بشأن ما وصفتاه زوابع إعلامية مثارة عن تأييد الطائفة العلوية ممارسات الأسد ضدّ المتظاهرين، كما اضطر بعض زعمائها إلى إصدار ما سمّي “إعلان وثيقة إصلاح هُويَّاتي” عام 2016، نصّ على عدم تحميل الطائفة وِزر الجرائم التي ارتكبها النظام، تلاها في عام 2023 ظهور “حركة الضبّاط العلويين الأحرار”، التي أعلنت (من قلب ريف القرداحة) دعمها حركة التحرّر الوطني وانضمامها إلى المجلس العسكري السوري، ما أسفر آنذاك عن حرائق هائلة في منطقة التمرّد لن يخفى على أحد بالطبع منفذها، ثمّ ظهور حركة “10 آب” في الساحل السوري، معبّرة عن فقدان الأمل بالنظام الحاكم، ودعت إلى الحفاظ على الوطن بعيداً عن أيّ تدخل خارجي.

هذه التحرّكات الأشبه بمساراتٍ ثورية في الظلّ، لأنها من دون زعامة موحّدة، ولم تشفع للطائفة اليوم، حصلت بعد إحباطات عميقة بين العلويين الذين باتت لديهم شكوك بشأن الوجهة التي يقودهم بشّار الأسد إليها. كتبتُ إنّ ثمّة موسم حصادٍ دموي قادم للصمت العلوي، بعدما نجح النظام في توريطهم بالمقتلة السورية للتمترس بهم، وهو استحقاق سوري لا بدّ منه في بلد ابتُلي بلعنةِ الهُويَّة ما قبل الدولتية. وها هو المُتوقَّع يحدُث أخيراً. ولكن لنطرح السؤال الملحّ: لماذا كان الثمن باهظاً إلى هذه الدرجة وقد انتصرت الثورة، وسقط نظام الأسد البائد؟

شكّل سقوط نظام الأسد وتصدّر الإسلاميين المشهد السياسي في سورية منعطفاً مفصلياً، لتُحصَد أخيراً تركة الأزمات الثقيلة التي أودعها الأسد (الأب)، مؤسّس مملكة الرعب، وابنه المخلوع، ورغم عدم امتلاك القيادة الجديدة رؤيةً سياسيةً نهائيةً للمرحلة الانتقالية، لكن المهم (وقبل أيّ شيء) تفاديها اللجوء إلى الوسائل المتّبعة طوال خمسة عقود وسط اتساع رقعة الخوف “الأقلّوي”، الذي يُعبّر عن حالة الهلع النفسي الارتدادي بعد مجازر الساحل السوري، وهو في الأصل ناتج من سوء هضم المظلوميات التاريخية والوقوف على مسبّباتها الحقيقية. في السياق، وصف الجغرافي الفرنسي جاك ويولرسه العلويين عام 1940 بأنهم منسيون من التاريخ، وللمفارقة هم اليوم في قلب الحدث يتعرّضون لعقابٍ جماعي مهول. مجازر بالجملة أشبه بطعنةٍ عميقة في جرح لم يندمل بعد. ولعلّ توقّع حدوث هذه الانتهاكات، إن آجلاً أو عاجلاً، يبرّر تطرّف الطائفة العلوية سابقاً واستكانتها لحكم الأسد، الذي عزف بحرفيةٍ مذهلة على نغمةِ اندلاع ويلاتٍ مذهبية، فسجنَ العلويين في “غيتو” رعبٍ كامل الأوصاف، ربّما لن تخرج منه قريباً، رغم أنّ رئيس المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، قد صرّح: “ستبقى الدولة ضامنةً للسلم الأهلي ولن تسمح بالمساس به على الإطلاق”. لكن الجرح فُتح في منطقة الساحل السوري حقّاً، ولا بدّ من تضميده، ما يطرح مجموعة متشابكة من أسئلة شائكة لطالما جرى تأجيلها، وينبغي الإجابة عنها بشفافية تامّة، وهو أمر بالغ الأهمية مقدّمةً لإعادة صياغة العقد الاجتماعي السوري على أسس الدولة الحديثة وبداية تحوّل جديد في تفاعل الديني والسياسي معاً.

يتساءل الخبير في الشؤون السورية في مؤسّسة الدفاع عن الديمقراطيات (مقرّها واشنطن)، ديفيد أديسنيك، إذا ما كانت هيئة تحرير الشام تعتبر هُويَّة الأسد بوصفه علوياً سبباً لوحشيته الشديدة؟ وإذا كان الجواب “لا”، فلا سبب يُذكر لإلقاء اللوم على العلويين والانتقام. بالتالي، من الضرورة بمكان مسارعة النظام الجديد إلى معالجة جرح الساحل السوري بجدّية قصوى، لتحديد مدى قدرته على استيعاب مقتضيات المرحلة المأزومة وسط إشكالات شتّى ذاتية وموضوعية، والتأكيد على أنّه نظام ضدّي لسياسة نظام الأسد سيتفادى بخفّةٍ سياسيةٍ نتائج الكمين الذي نصبته “فلوله”، فمذابح الساحل تعدّ أشدّ موجات العنف دمويةً منذ عقود، كما تعتبر تحدّياً حقيقياً لحكومة دمشق في سعيها إلى الحصول على الشرعية الدولية ورفع العقوبات الأميركية والغربية، فيما يرى مراقبون أنّ “المذبحة العلوية” تلعب لصالح إسرائيل، وتطرح وضع الدروز والأكراد تحت حمايتها المطلقة، تنفيذاً لخطّةٍ شيطانيةٍ مضمرةٍ تطاول المنطقة العربية بأسرها.

فعلياً، إذا جاز لنا التأمّل، ولو قليلاً، في كمّية الدم السوري الذي أُريق لقاء انتفاضة الشعب السوري ضدّ الأسد، فسنتأكّد حكماً أنّ سقوط الأخير لن يمرّ من دون ثمن باهظ يدفعه الفقراء من مواليه، ما قد يؤدّي إلى حربٍ أهليةٍ مستدامة، وتفسّخ وفوضى، إنْ لم يُتدارك الأمر. فالمجازر تُوجب قراءة عميقةً ومتأنّيةً لمعالجة المخاوف التي باتت تطرح نفسها بإلحاح شديد، خاصّة أن العلويين (بعد عام 2011) حوصروا بين مطرقة الجهاديين، الذين يعتبرونهم مرتدّين، وسندان نظام فاشي منّاهم بحربٍ سهلة الفوز، بينما تعاني فقراً وطنياً مزمناً. والنتيجة: فُرّغت القرى العلوية من الشبّان، وعندما اتّشحت نساؤها بالسواد وضعن حواجز في مداخل قراهنّ الجبلية لمنع الجيش من أخذ أبنائهنّ بالقوة، وكان كلّما وجد نظام الأسد صعوبةً في تعويض القتلى من العلويين لجأ إلى الترهيب والإكراه والاعتقال. واليوم تستمرّ الطائفة العلوية في دفع فاتورة نظام ديكتاتوري لعب على وتر تسييس الهُويَّات الطائفية، تستعيد ذكريات الاضطهاد التاريخي المرير لتطفو المخاوف الوجودية إلى السطح مترافقةً مع أفق سياسي لم تتضح بعد معالمه، هي التي اعتبرت سقوط بشّار الأسد حلماً وردياً تحقّق بمعجزة إلهية، وأملت ألا يتحوّل كابوساً جديداً.

في ضوء ما سبق، وإذا ما تناولنا تاريخياً حالات الانتقال من منطق الثورة إلى منطق الدولة، سنجد أنّ الخروج من متاهة الاستبداد مرَّ دائماً بطرقٍ عُبّدت بجثث الأبرياء. وفي سورية اليوم تنفجر التناقضات استجابةً لعمليات التحوّل العميقة، بينما يقبع العلويون في حالة تخبّط مريعة، يحاولون إنشاء مجالس فاعلة نظراً لغياب القيادة، تصدر بيانات متشرذمة تزيد الطين بِلَّةً، ما يجعل رهانهم الوحيد على السلطة الجديدة ومدى نجاحها في تخفيف الحمولة الأيديولوجية عن خطابها الديني المتشدّد، وتحويل الطائفة الجريحة من مجرّد جيوب علوية مهمّشة في إقليم ملتهب إلى مشاركين فاعلين في بناء الدولة السورية. عيونُ العلويين تتجه إلى الرئيس الشرع بانتظار محاسبة مرتكبِي مجازر الساحل كي لا يُختزَل مصيرهم بتلك الأم السورية (أم أيمن) وهي تجلس بجانب جثث عائلتها، شاردةً في قهرها وصمتها وعجزها، لا تلوي على شيء.

العربي الجديد

————————–

تفاصيل ما حدث في جبلة بعد هجوم فلول النظام.. سرقات واسعة وإحراق للممتلكات/ حسام جبلاوي

2025.03.22

دفعت مدينة جبلة جنوبي اللاذقية فاتورة باهظة ثمنا للهجمات التي شنها فلول النظام المخلوع في السادس من الشهر الجاري، سواء من أرواح المدنيين وعدد من شبانها الذين قاتلوا بما توفر من سلاح ومنعوا سيطرة الفلول لأكثر من يومين على المدينة، أو من ممتلكاتهم التي تعرضت للحرق والنهب بعد سيطرة الجيش السوري على المدينة.

ومع بداية الهجمات التي انطلقت في قرية الدالية بريف جبلة بادعاء تسليم أكبر مخزن للسلاح في الساحل السوري ومحاصرة قوات الأمن العام والاعتداء عليهم بكمين قتل فيه وجرح عدد من العناصر، تطور الأمر بسرعة خلال ساعات وبدأت تظهر مجموعات مسلحة لفلول النظام على طريق اللاذقية – جبلة وعند قاعدة حميميم العسكرية الروسية، وتزامن ذلك مع نصب حواجز في أحياء جبلة الشمالية والكورنيش ومهاجمة سيارة للأمن العام ذهب ضحيته خمسة عناصر أحدهم من مدينة جبلة.

حاولت بعدها مجموعات فلول النظام التقدم نحو داخل المدينة من جميع الجهات الشمالية والجنوبية والشرقية مع قلة أعداد عناصر الأمن العام، لكن عددا محدودا من شبان المدينة أوقفوا الهجوم رغم حصارهم بأسلحة فردية وقتل خلال هذا التصدي سبعة من أهالي المدينة بالإضافة إلى رجل وزوجته قتلا على طريق اللاذقية – جبلة على يد مسلحي فلول النظام.

عمليات سطو واسعة في أحياء جبلة

ومع وصول التعزيزات الكبيرة للجيش السوري والأمن العام ووصولهم إلى داخل جبلة، فوجئ أهالي جبلة بعمليات سرقة وسطو واسعة لمختلف الأحياء بما فيها تلك التي كانت تتصدى لهجمات مسلحي فلول النظام، وأحرقت ونهبت عشرات السيارات واستمر الوضع على حاله لمدة يومين.

هذا الأمر أغضب الكثير من سكان المدينة الذين طالبوا الحكومة بضبط الأمور وتعويض الخسائر التي تكبدها مدنيون لا علاقة لهم، كما سجلت انتهاكات بحق عدد من المدنيين وترهيبهم.

وبحسب الناشط الإعلامي في مدينة جبلة فراس حاج عمر تتحمل مجموعات مسلحة جاءت لفك الحصار عن المدينة مسؤولية في بعض هذه الانتهاكات، كما استغل عدد من اللصوص المسلحين حالة الفوضى لتنفيذ سرقاتهم، وبعض من السيارات أحرقت على يد مسلحي فلول النظام.

جبلة

وأضاف حاج عمر:” كانت ليلة مرعبة سمعنا أصوات المتاجر تكسر وأصوات إطلاق رصاص كثيف، وتزامن هذا مع انقطاع الكهرباء ولم يكن بمقدور أحد إيقاف هذه الأعمال وسط غياب عناصر الأمن العام الذين كانوا مشغولين بمعارك مع مسلحي فلول النظام في مناطق أخرى”.

وأكد الناشط أن المجموعات التي نفذت عمليات سرقة ونهب جاءت من مناطق مختلفة ولم يستبعد أن تكون من خارج منظومة وزارة الدفاع مع وصول الكثير من هذه المجموعات بشكل فردي وغير منظم مؤكدا ضرورة محاسبتها على ما اقترفته بحق سكان المدينة.

خسر أحمد فندو أحد سكان مدينة جبلة كامل بضاعة متجره الذي يبيع فيه هواتف وحواسيب إلكترونية بالقرب من الملعب البلدي وقال في حديث لموقع تلفزيون سوريا إن خسارته كبيرة جدا ولا يمكنه تعويضها لاسيما أن بعض البضائع بالدين ولم يدفع ثمنها بعد.

وتساءل فندو:” هل هذا جزاء سكان المدينة الذين دفعوا دمهم ثمنا لمقاومة فلول النظام؟ ومن سيتحمل نتائج ما حصل؟ وطالب في حديثه الدولة السورية بتشكيل لجنة لإحصاء الأضرار وتعويض الأهالي.

من جانبه قال المحامي عبد الله غزال وهو من سكان مدينة جبلة إن ما حصل من تجاوزات مخيف ويجب عدم تكراره، مضيفا في حديث لموقع تلفزيون سوريا أن عشرات السيارات بما فيها عربته سرقت أو أحرقت دون أن تكون ضمن مناطق الاشتباك.

وأشار غزال إلى أن الأمن العام سعى بعد يومين لضبط الأوضاع وإعادة ما أمكن من المسروقات لكن التدخل كان متأخرا جدا والأهالي خسروا الكثير من أرزاقهم.

وفاقمت هذه المشكلة من معاناة أهالي المدينة وريفها وما زالت بعض المتاجر مغلقة حتى اليوم بعد سرقتها، وسط جهود بعض المتطوعين لنفض الركام وإصلاح الأضرار.

من جانب آخر تسببت هجمات فلول مسلحي النظام في أضرار كبيرة في المشفى الوطني بجبلة ومشفى النور التخصصي الخاص، وتعرضت أجزاء في المشفيين للتكسير والتخريب.

وقال الطبيب عبد الوارث قره علي وهو إداري في مشفى جبلة لموقع تلفزيون سوريا إن المشفى يعاني من نقص كبير في المستلزمات الطبية، كما تحتاج غرف العمليات والإسعاف إلى عربات نقل مرضى بعد تعرض الكثير منها للتخريب.

ويخدم مشفى جبلة المركزي في المنطقة آلافاً من سكان المدينة والريف وهو المشفى الحكومي في مدينة جبلة وريفها الواسع.

انتهاكات في الساحل السوري

أصدرت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان

تقريراً أولياً يوثّق حصيلة الانتهاكات المرتكبة إثر الهجمات التي شنَّتها مجموعات مسلحة خارجة عن إطار الدولة مرتبطة بفلول نظام الأسد، وتمركزت بصورة رئيسة في محافظات اللاذقية وطرطوس وحماة، والتي أسفرت عن مقتل 803 أشخاص خارج نطاق القانون خلال الفترة الممتدة من 6 إلى 10 من آذار 2025.

وأشار التقرير إلى أنَّ سوريا شهدت في تلك الفترة تدهوراً أمنياً غير مسبوق، وصفه بأنَّه أحد أسوأ موجات العنف التي شهدتها البلاد منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 من كانون الأول 2024.

جبلة

وقد نفّذت المجموعات المسلحة الخارجة عن إطار الدولة المرتبطة بنظام الأسد هجمات منسّقة استهدفت مواقع أمنية وعسكرية تابعة لوزارتي الدفاع والداخلية في الحكومة المؤقتة، ما دفع القوات الحكومية الرسمية إلى شن عمليات أمنية موسعة لملاحقة المهاجمين. وشاركت في هذه العمليات إلى جانب القوات الرسمية فصائل عسكرية محلية، وتنظيمات إسلامية أجنبية منضوية شكلياً تحت مظلة وزارة الدفاع دون أن تندمج معها تنظيمياً بصورة فعلية، بالإضافة إلى مجموعات محلية من المدنيين المسلحين الذين قدموا الدعم للقوات الحكومية دون أن تكون لهم تبعية رسمية لأي تشكيل عسكري محدد. وفق التقرير.

وأضافت الشبكة “إلا أنَّ هذه العمليات الأمنية لم تقتصر على ملاحقة المتورطين مباشرةً في الهجمات، بل سرعان ما تحولت إلى مواجهات عنيفة ارتُكبت خلالها انتهاكات جسيمة واسعة النطاق، اتّسم معظمها بطابع انتقامي وطائفي، وكان للفصائل المحلية والتنظيمات الإسلامية الأجنبية التابعة شكلياً لوزارة الدفاع الدور الأبرز في ارتكابها”.

وأوضح التقرير أنَّ هذه الأحداث تضمنت عمليات قتل خارج نطاق القانون، شملت إعدامات ميدانية وعمليات قتل جماعي ممنهجة بدوافع “انتقامية وطائفية”، إضافة إلى استهداف المدنيين، بمن فيهم أفراد الطواقم الطبية والإعلامية والعاملون في المجال الإنساني. كما طالت الانتهاكات المرافق العامة وعشرات الممتلكات العامة والخاصة، متسببة في موجات نزوح قسري طالت مئات السكان، فضلاً عن اختفاء عشرات المدنيين وعناصر من قوى الأمن الداخلي، الأمر الذي أدى إلى تفاقمٍ حادٍّ في الأوضاع الإنسانية والأمنية في المناطق المتضررة.

تلفزيون سوريا

———————

أحداث الساحل السوري والسياسات المسؤولة للدولة الناشئة/ رغد الشماط

22/3/2025

عقارب الساعة لن تدور إلى الوراء، ونظام الأسد وأبده قد سقط!. هذا يقين السوريين، رغم أن البعض ما يزال يسعى لإيجاد مخرج ينقذه من الوقوف أمام العدالة، ومحاسبته عن جرائمه التي ارتكبها في عهد النظام البائد، حتى لو كان ذلك على حساب أبناء قريته وطائفته.

واخترت هنا الوقوف على تصرف الدولة السورية الجديدة الوليدة مع تسارع الأحداث في الساحل السوري؛ والمقارنة التي لا بد منها بين تعامل نظام كان مترسخًا على مدار عقود، وبين نظام حكم ناشئ لم يستكمل بعد بناء جيش منظم، وقوى أمن منضبطة، وأجهزة استخبارات متكاملة.

وكان السؤال الذي تبادر لذهني وأنا أتابع إجراءات وتصريحات الإدارة السورية الجديدة المتتابعة: ماذا لو اتبعت حكومة النظام المخلوع هذه السياسات المسؤولة عند انطلاقة شرارة الثورة السورية في عام 2011؟

بداية، لقد أسقطت الدولة السورية مخططًا للتمرد، أُريد له أن ينتهي بانقلاب مكتمل الأركان، مدعوم من عدة دول وقوى خارجية، استخباراتيًا وعسكريًا وإعلاميًا، حيث سُجل نشاط مكثف لصفحات ومواقع روسية وإيرانية بعد فترة طويلة من خمولها.

وتحقق إحباط هذا المخطط الانقلابي بدعم منقطع النظير من الشعب السوري، الذي أثبت أنه لن يتخلى ولن يتنازل بسهولة عن المكاسب العظيمة التي حققها، ودفع ثمنها غاليًا؛ إذ ذكرت بعض التقارير توجه نحو 70 ألف سوري من جميع المحافظات نحو الساحل السوري في غضون ساعات بعد دعوات إعلان النفير العام.

بعد ساعات من اشتعال الأحداث في الساحل، توجه الرئيس أحمد الشرع بخطاب حازم وقوي وواضح للشعب وللمقاتلين وللمدنيين في النقاط الساخنة، وأكد على المضي قدمًا في القضاء على فلول النظام المخلوع، أعلن فيه تحمل المسؤولية عن سقوط الضحايا من المدنيين، وعن إجراء تحقيقات ومحاسبة المتورطين.

كما ذكّر بأخلاق التعامل مع الأسرى، وطالب “جميع القوى التي التحقت بمواقع الاشتباك بالانصياع الكامل للقادة العسكريين والأمنيين هناك، وأن يتم على الفور إخلاء المواقع لضبط التجاوزات الحاصلة، ليتسنى للقوى العسكرية والأمنية إكمال عملها على أتم وجه”.

وبعد أقل من 24 ساعة على خطابه الأول، ظهر الرئيس مرة أخرى معلنًا تفعيل المسار القانوني والحقوقي والمجتمعي، وذلك بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق مؤلفة من قضاة وحقوقيين، لمتابعة التحقيقات بشأن سقوط الضحايا من المدنيين، والنظر والتحقيق في الأحداث التي تسببت بمقتل قوات الأمن، إضافة إلى تشكيل لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي، وهو اعتراف مهم بوجود مشاكل وانقسامات عميقة ضمن المجتمع السوري، لا يمكن تجاوزها بقرار.

كان هذا بينما شارك الشرع في صباح اليوم نفسه المصلين في صلاة الفجر، وأرسل رسائل طمأنة للشعب السوري، وفي السياق نفسه أعلن محافظ اللاذقية عن اعتقال عدد من المتورطين بالانتهاكات ضد القرى العلوية، وظهر الناطق باسم إدارة العمليات العسكرية مع مواطنين من هذه القرى لطمأنتهم، وتشجيعهم على البقاء في قراهم، كما ظهرت مشاهد لقوات الأمن تقوم بمصادرة كل المسروقات وإعادتها لأصحابها.

ويساهم حضور الرئيس المستمر، والبدء بإجراءات عملية لحماية السلم الأهلي، إضافة إلى مشاهد انتشار قوات الأمن مع أبناء القرى العلوية مع استمرار العمليات العسكرية والأمنية، وإعلان الدولة عزمها تطهير الساحل السوري من فلول النظام.. يساهم هذا كله في طمأنة جميع مكونات الشعب السوري، وترسيخ مبدأ الدولة وقدرتها على تحقيق العدالة للجميع.

ويبدو أن الدولة الوليدة تنجح شيئًا فشيئًا في هذا، حيث كان من اللافت للنظر أن نداءات الاستغاثة التي خرجت من مناطق الطائفة العلوية طالبت بتدخل وزيادة حضور قوات الأمن السورية الجديدة لتأمين حمايتهم.

وهذا ما لم يحدث على الإطلاق في زمن النظام المخلوع، رغم حدوث مجازر مروعة وأكثر بشاعة وتنظيمًا في المناطق السنية.

على مدى أكثر من 50 عامًا من حكم آل الأسد لسوريا، لم تتحمل السلطة يومًا مسؤوليتها تجاه هذا الشعب، رغم امتلاكها أدوات الدولة الكاملة، وتجذر سلطتها وسيطرتها في مختلف مناحي الحياة.

قبل 14 عامًا انطلقت شرارة الانتفاضة في درعا، وطالب المتظاهرون حينها بمحاسبة المتورطين بتعذيب أطفال كتبوا عبارات مناهضة للنظام، إلا أن قوات الأمن واجهتهم بمزيد من العنف المنظم.

ولم يظهر الرئيس السوري إلا بعد تصاعد الاحتجاجات والمواجهات الدامية مع الأجهزة الأمنية، وذلك بخطاب هزيل لا يرقى لتحديات المرحلة، وتطلعات الشعب إلى محاسبة مرتكبي الجرائم، والعبور نحو حوار وطني شامل.

وتذكر بعض التقارير أن السوريين كانوا ينتظرون الخطاب الأول للرئيس المخلوع بعد الثورة بكثير من الأمل والتوقعات المرتفعة؛ نظرًا لمواقف سوريا الخارجية “الإيجابية”، والتوقعات بأن الرئيس الشاب يجلب نهجًا مختلفًا لإدارة سوريا.

أي إن الرئيس المخلوع اختار التخلي عن مسؤوليته في حماية المجتمع السوري من حرب أنهكته على مدار 14 عامًا، رغم فرصه الكثيرة وقدرته على تغيير مصير البلاد.

واليوم، حين يؤكد الرئيس الجديد أن الدولة هي الضامن للسلم الأهلي، فهذا من عجائب الدنيا السبع بالنسبة للإنسان السوري، الذي لم يعرف إلا نظامًا يقتات على الطائفية وإثارة القلاقل المذهبية والعرقية، وامتدت أذرعه خارج البلاد مساهمةً في الانقسامات وتغذيتها، وعمل النظام البائد على مواجهة الانتفاضة والثوار ببث الفتنة الطائفية والتحريض بين مختلف مكونات الشعب السوري، وإثارة مخاوف الطائفة العلوية من تبعات تغير نظام الحكم في سوريا.

ولكن الدولة الوليدة اليوم ترى أنها تستمد شرعيتها بتعزيز السلم الأهلي، وضمان تعايش مختلف فئات الشعب في سلام وأمان، وترى هذا هو السبيل الوحيد لبناء دولة قوية ذات أسس راسخة.

ورغم أن الانتهاكات التي وقعت خطيرة، ويبدو أنها كانت جزءًا من آلية تغذية مخطط التمرد، بإثارة المخاوف وانهيار السلم الأهلي المهدد أصلًا، فإنها كانت أقل من المتوقع إذا ما نظرنا إلى الأعداد الغفيرة من الحشود التي توجهت إلى هذه المناطق، إضافة إلى الإرث الثقيل الذي خلفه النظام الطائفي، وتوريطه لطائفته في ارتكاب مجازر وجرائم بحق المناطق السنية المجاورة لها، فضلًا عن المظلومية العميقة التي يشعر بها كل السوريين تجاه الامتيازات منقطعة النظير التي قدمها النظام لطائفته على حساب مصلحة الشعب ككل.

ومن الجدير بالذكر أن الحاضنة الشعبية للثورة السورية طالبت السلطات الجديدة بتسريع إجراءات العدالة الانتقالية، ومحاسبة مرتكبي الجرائم في زمن النظام البائد، وهو ما يراه كثيرون صمام الأمان للسلم الأهلي.

حق لكل سوري أن يفخر ببلده اليوم كما افتخر بثورته بالأمس، إنها أيام ثقال طويلة لكنها أيام عظيمة، وستبقى وسام شرف وعز على صدر كل سوري اختار المضي قدمًا في بناء دولة عدالة.

ولئن كان البعض يركز على محاسبة المتورطين بانتهاكات ضد الأقليات، فإن علينا ألا نفقد البوصلة، وأن نقف جميعًا إلى جانب جميع الضحايا بلا استثناء، ومنهم أيضًا رجال الأمن الذين سقطوا غدرًا وهم يحمون هذه الأحياء العلوية -كما بقية الأحياء والمدن- من الفلول واللصوص.

كذلك لا ننسى الضحايا من الطوائف الأخرى، الذين استهدفتهم فلول النظام، وتعرضت سياراتهم لهجمات لأنها تحمل لوحة “إدلب”، وكأن النظام الذي لم يكتفِ بقتل السوريين على “الهوية ” على مدار خمسين عامًا، يحاول أن يكمل عمله بقتلهم على “لوحة السيارة”.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

كاتبة سورية

الجزيرة

———————–

جبل محسن مرآة الساحل السوري: نزوح وخوف من المجهول/ جنى الدهيبي

الأحد 2025/03/23

منذ السادس من آذار الجاري، توجه آلاف النازحين من الساحل السوري إلى جبل محسن في طرابلس. وأبناء الجبل ذو الغالبية العلوية يعيشون هواجس كبيرة، حتى بعد الهدوء الحذر الذي أعقب المواجهات الدامية في الساحل السوري.

وتفيد معطيات “المدن” بأن عشرات العائلات في جبل محسن لديها أقارب ممن قضوا قتلاً وإعداماً في الساحل السوري. ,يسود الجبل حالة من السخط جراء العمليات بين فلول النظام وقوات الأمن التابعة للإدارة السورية الجديدة، والتي أسفرت عن سقوط أكثر من 1500 مدني، معظمهم من الطائفة العلوية.

مبادرات فردية وجماعية

حالياً، تستضيف عشرات القاعات والمدارس والمنازل في جبل محسن العائلات النازحة من الساحل السوري. ورغم عودة الهدوء النسبي في سوريا، يواصل آلاف السوريين نزوحهم من الساحل السوري إلى شمال لبنان عبر المعابر غير الشرعية ومن النهر الكبير الذي يفصل أقصى عكار عن سوريا.

تنتشر المبادرات الفردية والجماعية لإيواء النازحين السوريين في الجبل، وسط سخط من غياب أي دور للمنظمات المحلية والدولية. وهو ما أكده رئيس الطائفة العلوية الشيخ علي قدور، أثناء ترؤسه وفدًا من الطائفة زار رئيس الحكومة نواف سلام قبل أيام. قدور، الذي حمل قائمة مطالب تحت شعار “حقوق العلويين في لبنان”، أعرب عن خشيته من تداعيات ما حدث في الساحل السوري على لبنان، خصوصًا وأن عدد النازحين منه تجاوز الثلاثين ألفًا. وقال بوضوح: “على المنظمات الأممية أن تتعاطى مع النازحين من الساحل السوري كما تعاطت مع أسلافهم”.

التصدي للفتنة والتحولات

بعد اندلاع المواجهات في الساحل السوري، ساد القلق في جبل محسن من افتعال أي فتنة. ويقول الناشط المدني في جبل محسن يوسف سلطيه “إن الجيش اللبناني تمكن من إبقاء الوضع في الجبل تحت السيطرة، حيث يجري دوريات مكثفة بفضل التنسيق مع الفعاليات المحلية والأجهزة الأمنية”.

ويؤكد سلطيه لـ”المدن” أن “هناك محاولات من بعض الأطراف لاستغلال الظرف في الساحل السوري لإثارة الاضطراب في جبل محسن، الذي عاش سنوات طويلة من المعارك والجولات القتالية مع أبناء منطقة التبانة. لكن المجلس العلوي في الجبل والفعاليات السياسية والمدنية بذلوا جهودًا كبيرة لدرء محاولات الفتنة، مؤكدين على ارتباط أبناء الجبل بالميثاق الوطني اللبناني، وعدم ربط وجودهم أو تهديده بما يحدث في الساحل، والمشهد السوري عمومًا، بعد سقوط نظام بشار الأسد”.

يتقلب جبل محسن على تحولات كبرى، عنوانها أن ما قبل سقوط الأسد ليس كما بعده. يفصل  بين أبنائه (علويّون) وأبناء باب التبانة (غالبية سنية) شارع سوريا. وبعد سنوات من جولات القتال ورغم “المصالحة” بين أبناء المنطقتين، فإن ما يحدث اليوم لا ينفصل عن المسار التاريخي للجبل. ولا شك أن أبناء جبل محسن، كحال أبناء باب التبانة، أدركوا أنهم طوال سنوات الحروب والاقتتال الطائفي والسياسي، كانوا فيها وقودًا للحزب العربي الديمقراطي بقيادة آل عيد والمحسوب على آل الأسد، وكذلك للنظام السوري، لا سيما خلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، حين كان الجيش السوري يحتل لبنان ويمعن في قتل وقمع أبناء طرابلس.

العلاقة مع سوريا

تاريخياً، يعيش عشرات الآلاف من العلويين في جبل محسن والقرى المجاورة لعكار شمالًا. وتربطهم قرابة وعلاقات وطيدة مع علويي سوريا. وأثارت الأحداث في الساحل السوري مخاوف كبيرة في نفوس أبناء جبل محسن، حيث وجدوا فيها تهديدًا لوجودهم. وكأنهم يتعرضون لانتقام طائفي بعد سقوط الأسد الذي كان يشكل مظلة لهم، بدءًا من الساحل السوري. غير أن أبناء جبل محسن، بعد سقوط الأسد، تجاوزوا اختبارًا صعبًا، وتمكنوا من درء محاولات الفتنة والاستفزاز. إذ بادر كثيرون منهم إلى إزالة صور الأسد المرفوعة في الجبل، فيما أبدوا احتضانًا وتفهمًا لخيار الشعب السوري، وقبولاً لفكرة الانتقال السياسي في سوريا.

ويقول ناشطون في جبل محسن إنهم تعاملوا بوعي كبير مع سقوط الأسد، بهدف انعكاس الانتقال السياسي في سوريا إيجابًا على العلويين في كلا البلدين، مقابل رفض الانجرار إلى دوامة القتال والانتقام والفتنة.

لكن ما وصلهم من مشاهد دامية في الساحل السوري، وما يخبرهم به النازحون الذين هربوا من القتل ويخافون من العودة، أجج مشاعر الخوف والرغب، وطرح أسئلة كثيرة عن مستقبل الأقلية العلوية التي كانت تحكم سوريا. لذا، ما يجمع عليه العلويون في جبل محسن هو أن حصانتهم الأولى والدائمة هي لبنان، دولة ودستورًا وجيشًا وميثاقًا للعيش المشترك.

المدن

———————————–

بروكسل 9”.. تعهدات لا تسد الفجوة

 أحداث الساحل تكبح اندفاعة الأوروبيين

عنب بلدي – جنى العيسى

تحديث 23 أذار 2025

بقيمة تعهدات أقل بنسبة تقارب 29%، اختتم مؤتمر المانحين الدوليين بشأن سوريا الذي ينظمه الاتحاد الأوروبي اجتماعه السنوي في العاصمة البلجيكية، بروكسل، لكنه وللمرة الأولى حظي بتمثيل سوري بناء على دعوة رسمية لوزارة الخارجية السورية.

لاقت قيمة التعهدات المالية التي قدمتها الدول المانحة في المؤتمر الذي عقد في 17 من آذار الحالي، عدم قبول خاصة من قبل المنظمات الدولية والأممية العاملة في سوريا، إذ لا تسد إلا جزءًا قليلًا من احتياجات البلاد، خاصة في ظل المتغيرات التي فرضها سقوط النظام المخلوع، وأولوية الحاجة إلى إعادة الإعمار بدلًا من الاكتفاء بالمساعدات الإغاثية والإنسانية المؤقتة.

من الناحية السياسية، بدا موقف الاتحاد الأوروبي إيجابيًا تجاه الحكومة السورية، لكنه مشروط وحذر، فعلى سبيل المثال، لم يتم التطرق بشكل شفاف وواضح إلى أن أموال هذه المساعدات ستعطى للحكومة بشكل مباشر، كما لم يتم إبداء القابلية لإزالة العقوبات الأوروبية المفروضة على سوريا بسبب انتهاكات مارسها النظام السابق بشكل كامل وغير مشروط.

منذ عام 2017، ينظم الاتحاد الأوروبي مؤتمرات للمانحين في بروكسل لدعم سوريا، وكان مؤتمر هذا العام بعنوان: “الوقوف مع سوريا: تلبية احتياجات انتقال ناجح”.

تعهدات أقل من المأمول والحاجة

وصلت قيمة تعهدات الدول المانحة في مؤتمر “بروكسل” بنسخته التاسعة المخصص لدعم سوريا ودول المنطقة إلى 5.8 مليار يورو (6.3 مليار دولار أمريكي)، وهو مبلغ أقل من المبلغ المقدم في 2024، نتيجة عدم مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية في الدعم هذا العام.

وكانت أمريكا تعهدت في “بروكسل 8” بـ545 مليون يورو، بحسب بيانات يوفرها الاتحاد الأوروبي.

المفوضة الأوروبية للبحر المتوسط، دوبرافكا سويكا، قالت، إن الدول المانحة تعهدت بما مجموعة 5.8 مليار يورو، هي 4.2 مليار من الهبات، و1.6 مليار يورو من القروض.

مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، قالت إن هذه التعهدات ستدعم سوريا في المرحلة الانتقالية الحاسمة، وتعالج الاحتياجات الماسة على الأرض.

من سيحصل على الأموال؟

في مؤتمرات “بروكسل” السابقة التي عقدت على مدار السنوات الثماني الماضية، كانت تعهدات الدول المانحة التي يتم الإيفاء بجزء منها فقط تصل إلى سوريا عبر منظمات أممية ووكالات تابعة لها عاملة على الأرض.

دعوة الحكومة السورية بشكل رسمي لحضور المؤتمر للمرة الأولى في تاريخه أنبأت بأن الأموال يمكن أن تصل إلى سوريا عبر الحكومة نفسها، التي تحتاج بدورها إلى هذه الأموال نظرًا للأولويات الملحة التي تنتظرها خاصة فيما يتعلق بملف إعادة الإعمار، وهو ما لم يجرِ فعلًا.

للحصول على معلومات تتعلق بطريقة وصول أموال التعهدات إلى سوريا والجهات التي ستتسلمها هناك، بالإضافة إلى طبيعة الدور الرقابي الذي سيمارسه الاتحاد الأوروبي لناحية صرف الأموال، فضلًا عن القطاعات التي سيتم التركيز عليها في التمويل، تواصلت عنب بلدي مع المكتب الصحفي لبعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا، إلا أنها لم تتلقَ ردًا حتى ساعة تحرير التقرير.

في سياق متصل، نقلت صحيفة “الشرق الأوسط” عن وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل آلباريس، قوله إن الاتحاد الأوروبي سيقدم النسبة الكبرى من تعهداته في مؤتمر “بروكسل 9” على شكل مساعدات عينية عبر الوكالات الدولية ومنظمات إنسانية، وليس عبر الحكومة الانتقالية مباشرة.

أربع أولويات رئيسة

التعهدات المطروحة في مؤتمر “بروكسل 9” في حال إتمام دفعها بالكامل، وهو ما لا يحدث كل عام، لا تكفي حاجة البلاد، وفق ما أكده الباحث في الاقتصاد السياسي جوزيف ضاهر، لعنب بلدي.

تتراوح تكلفة إعادة الإعمار في سوريا بين 250 و400 مليار دولار، ولا يزال أكثر من نصف السكان السوريين نازحين داخل البلاد وخارجها، ويعيش 90% من السكان تحت خط الفقر، ويعتمد 16.7 مليون شخص، أي ثلاثة من كل أربعة أشخاص في سوريا، على المساعدات الإنسانية بحلول عام 2024، وفقًا لأرقام صادرة عن الأمم المتحدة.

في هذا السياق، اعتبر جوزيف ضاهر، أن أي فاعل سياسي يخلف نظام الأسد يواجه مهمة جسيمة، في حين أن احتياجات السكان والبلاد تستمر في التزايد.

بالإضافة إلى المشكلات الهيكلية الاقتصادية للبلاد والعقوبات، فإن إجراءات التقشف (إنهاء الدعم وتسريح موظفي الدولة) للسلطة الحاكمة الجديدة تزيد من تكلفة حياة السكان واحتياجاتهم.

في ظل انخفاض قيمة التعهدات مقارنة بمؤتمر “بروكسل 8″، يرى ضاهر أن الأولوية في سوريا من الناحية الاقتصادية يمكن اختصارها بأربعة محددات رئيسة تتمثل بـ:

    زيادة تحويل المساعدات الطارئة إلى مساعدات إعادة الإعمار.

    رفع العقوبات المفروضة على البلاد وتنشيط الاقتصاد.

    إعادة بناء البنى التحتية للبلاد، وخاصة موارد الكهرباء والطاقة، وشبكات النقل، ومؤسسات الصحة والتعليم.

    الاستثمار في القطاعات الإنتاجية للاقتصاد، وخاصة الصناعة والزراعة، ودعم الإنتاج الوطني.

تكلفة التقاعس أعلى من تكلفة الاحتياجات

عقب إعلان قيمة التعهدات في “بروكسل 9″، حذرت “لجنة الإنقاذ الدولية” من أن التعهدات التي انخفضت بنسبة 29% عن تعهدات العام الماضي، لن تكفي لسد فجوة التمويل المتزايدة التي لا تزال تعوق الاستجابة الإنسانية بشدة، موضحة أن قيمة هذه التعهدات لن تكفي لدعم السوريين في التعافي وإعادة الإعمار بعد عقود من الدمار.

بدورها، دعت الأمم المتحدة الدول المانحة إلى عدم التقاعس في دعم سوريا لأن تكلفة التقاعس أكبر من تكلفة الدعم، وقال منسق الأمم المتحدة المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية في سوريا، آدم عبد المولى، في مؤتمر صحفي عبر الإنترنت، في 20 من آذار الحالي، إن تكلفة التقاعس “أعلى بكثير من تلبية الاحتياجات الفورية ومتوسطة الأجل للشعب السوري”.

وأضاف عبد المولى أن سوريا تقف عند “نقطة تحول” مع بداية عهد جديد من “الأمل في السلام والأمن”، محذرًا مما خلفته الأعمال العسكرية على مدار 14 عامًا، إذ يحتاج اليوم 16.5 مليون شخص إلى المساعدة الإنسانية في سوريا.

“تحت المجهر”

في جلسة مغلقة لوزراء الاتحاد الأوروبي قبيل مؤتمر “بروكسل” مع وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، شدد الوزراء على أن الاتحاد عزم على مساعدة النظام الجديد “بشرط أن تساعدنا الحكومة الانتقالية بأفعالها وخطواتها العملية وتدابيرها الملموسة لاحترام جميع الأقليات وحمايتها، وإرساء أطر تشريعية واضحة تضمن احترام الحريات الأساسية، خاصة حقوق المرأة”.

ورغم التوقعات الإيجابية التي كانت تنتظر “بروكسل 9” من الناحية السياسية، يرى البعض أن التطورات الأمنية الأخيرة في الساحل السوري، دفعت الاتحاد الأوروبي إلى “وضع النظام السوري الجديد تحت المجهر”، كما قالت رئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لاين، أمام مجلس وزراء الخارجية، ومراقبة الإجراءات التي يتخذها قبل الإقدام على أي خطوة في اتجاه تقديم المزيد من المساعدات ورفع العقوبات الاقتصادية.

الباحث السياسي في مركز “أبعاد للدراسات” فراس فحام، قال لعنب بلدي، إن استمرار العقوبات الأمريكية سيبقى عائقًا لطرح مشاريع إعادة إعمار حقيقية من طرف الأوروبيين، لأن أوروبا لا تريد المزيد من التوتر مع الإدارة الأمريكية.

خشية الأمريكيين تبرر للاتحاد الأوروبي، وفق فحام، عدم تبني سياسة دعم واضحة لإعادة إعمار سوريا، موضحًا أنه بدلًا عن ذلك يتجه الأوروبيون إلى منح تمويل لدول الجوار ومنظمات الأمم المتحدة لتقوم بدورها في الإشراف على بعض مشاريع إعادة التعافي المبكر.

تعليقًا على الحذر الأوروبي وضبط عدم الانفتاح الكامل مع حكومة دمشق، أشار فحام إلى وجود مطالب سياسية ضمن الاتحاد الأوروبي، تتعلق بضمان عدم استمرار استخدام روسيا الشواطئ والأجواء السورية ووجودها في منطقة حوض البحر المتوسط على اعتباره “تهديدًا للأمن القومي الأوروبي”.

من هذا المنطلق، يريد الاتحاد الأوروبي التأكد إلى أي مدى سيكون هناك إعادة تقييم للعلاقات بين دمشق وموسكو.

يتوقع الباحث فحام أن يكون هناك توجه أوروبي إلى المزيد من تقليص العقوبات، إلا أن الموقف الأمريكي ومدى استعداد أمريكا لتقليص العقوبات التي تفرضها على سوريا سيكون مؤثرًا بشكل كبير في هذا السياق.

عني بلدي

———————————

===================

=====================

واقع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا  تحديث 23 أذار 2025

تحديث 22 أذار 2025

————————

لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي

دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وأحمد الشرع

——————————

بعد إنتهاء مهمة التحالف الدولي: تقييم الخطوات القادمة للقوات الأميركية في سوريا

ربى خدام الجامع

2025.03.21

في 27 أيلول 2024، أعلنت الولايات المتحدة والعراق عن خطة انتقالية من مرحلتين لسحب تدريجي لعمليات التحالف في العراق، ومع ذلك، لابد أن تبقى القوات الأميركية في البلاد لدعم المهمة ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في شمال شرقي سوريا والعراق، إذ هنالك قرابة 2500 جندياً من قوات التحالف في العراق، و2000 جندياً أميركياً في سوريا.

ومن المتوقع أن تنتقل القوات الأميركية تدريجيًا من مواقعها الحالية في بغداد إلى إقليم كردستان في العراق، بما يعزز النفوذ الاستراتيجي لحكومة الإقليم باعتبارها مركزاً لوجستياً وعملياتياً للعراق وسوريا معاً. لكن، وبعد سقوط نظام الأسد في سوريا في كانون الأول الماضي ، ومع إمكانية عودة تنظيم الدولة لنشاطه عبر الحدود، فضّلت بغداد الإبقاء على قوات التحالف في قاعدة عين الأسد غربي العراق لمواجهة التهديدات المحتملة القادمة من الحدود السورية. ويعكس هذا التغيير أيضاً قلق العراق من الارتباطات السابقة للسلطات الجديدة في سوريا التي كانت تابعة لتنظيم القاعدة كما شاركت في القتال داخل العراق.

تشتمل المرحلة الأولى من خطة الانسحاب، والتي من المقرر لها أن تنتهي في أيلول 2025، على إنهاء القيادة العسكرية للتحالف وتحويلها إلى شراكات أمنية مؤلفة من طرفين، أما المرحلة الثانية التي تمتد حتى أيلول من 2026 على أقل تقدير، فستواصل خلالها دول التحالف السابقة عملياتها ضد تنظيم الدولة في شمال شرقي سوريا انطلاقاً من القواعد الموجودة في العراق، وبالتنسيق مع الولايات المتحدة، وحكومة إقليم كردستان، والحكومة الفيدرالية في العراق.وبعد ذلك، من المرجّح أن تبقى القوات تعمل بموجب اتفاقيات أمنية مشتركة مع الحكومة الفيدرالية في العراق.

هذا ولقد أفاد المفتش العام للبنتاغون في تقريره الفصلي الذي رفعه للكونغرس الأميركي بتاريخ 19 شباط ، بأن التحالف بقيادة الولايات المتحدة يعتزم توسيع عديده وعتاده في قاعدة أربيل الجوية الموجودة في إقليم كردستان، إلى جانب جعل عمليات السيطرة والتحكم في قاعدة عين الأسد تتم في بغداد.

غير أن التطورات الحاصلة في سوريا قد تؤخر عملية الانتقال في العراق، إلا في حال قررت إدارة الرئيس دونالد ترمب الانسحاب من سوريا، كما فعلت عندما أعلنت لفترة قصيرة عن ذلك في عام 2019، لأن انسحاباً كهذا قد يمهّد الطريق لعملية تركية تستهدف قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مما قد يخلق فراغاً أمنياً يمكن لتنظيم الدولة أن يستغله، لا سيما في مناطق مثل دير الزور، وقد أفادت شبكة NBC بأن ترمب أبدى اهتماماً بالانسحاب، ما دفع البنتاغون إلى إعداد خطط لذلك.

هنالك أيضاً الخوف من أن يستغل تنظيم الدولة الوضع الأمني في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، لا سيما في ظل محدودية قدرات الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع في السيطرة على كامل الأراضي السورية، واضطراره إلى التعامل مع مقاتلين أجانب تعود أصولهم لآسيا الوسطى (على الرغم من أنه لا يعير هذا الخطر أي أهمية). ومع ذلك، فإن استمرار الغارات الأميركية ضد تنظيمي الدولة والقاعدة في سوريا بعد سقوط النظام يثبت أن التهديد لا يزال قائماً، فقد واصلت القيادة الوسطى الأميركية مع قسد تنفيذ عمليات مشتركة ضد فلول التنظيم تكللت بالنجاح.

يتعين على الولايات المتحدة خلق حالة توازن في علاقاتها مع بغداد وأربيل في حال إرسالها لمزيد من جنودها إلى إقليم كردستان، إذ قد يحتاج الكرد لضمانات أمنية، يمكن أن تشمل نظم دفاع صاروخي بموافقة بغداد، وذلك لردع أي هجوم يمكن أن يستهدف أربيل. وفي حال قررت الولايات المتحدة الانسحاب من سوريا، فيجب أن تبدأ بمحادثات مع تركيا لاحتواء أي تصعيد عسكري قد يُزعزع الاستقرار. كما يمكن لواشنطن أن تدعم عملية السلام الجديدة التي أصبحت قيد النقاش حاليًا بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية، وثمة حاجة لتوقيع اتفاقيات ثنائية جديدة بين بغداد ودول التحالف في حال إنهاء مهمة التحالف، وكذلك بهدف تطوير برنامج خاص لتأشيرات الهجرة المخصصة للشركاء السوريين والعراقيين الذين تعاونوا مع القوات الأميركية، تحسبًا لأي انسحاب أميركي مرتقب.

المشهد العسكري والسياسي الحالي

تأسست فرقة العمل المشتركة الموحدة وعملية العزم الصلب في تشرين الأول من عام 2014، وتضم قوات من 25 دولة، وهي جزء من التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ويضم 87 دولة عضواً في محاربة تنظيم الدولة. وتعمل قوات فرقة العمل المشتركة الموحدة وعملية العزم الصلب مع قوات مكافحة الإرهاب العراقية، وقيادة العمليات المشتركة في العراق، والقوات الجوية العراقية، وقوات البيشمركة العراقية والكردية، والقوات التابعة لها التي تسعى لمكافحة للإرهاب، وعلى صعيد منفصل، هنالك بعثة حلف شمال الأطلسي إلى العراق.

تحتفظ قوات التحالف التي تترأسها الولايات المتحدة بنحو 2500 جندياً في العراق، ولديها وجود عسكري موزع على أربع قواعد رئيسية وهي قاعدة أربيل الجوية في إقليم كردستان ومركز الدعم الدبلوماسي في بغداد عند المطار، وقاعدة يونيون الثالثة الواقعة في المنطقة الخضراء ببغداد، وقاعدة عين الأسد الجوية في محافظة الأنبار. وفي كانون الأول من عام 2021، أعلن التحالف عن تغير دوره من قتالي إلى استشاري في العراق وذلك بعد انتهاء العمليات الكبرى ضد تنظيم الدولة في 2017. غير أن القوات الأميركية واصلت مساهمتها في عمليات مشتركة، ومنها تلك العملية التي نفذت في غربي العراق واستهدفت تنظيم الدولة في آب من عام 2024 ما أسفر عن إصابة سبعة جنود أميركيين، كما شاركت في عملية نفذت في السادس من كانون الثاني والتي قتل فيها أحد جنود التحالف.

أما في سوريا، فهنالك نحو 2000 جندي أميركي في شمال شرقي سوريا، ضمن محافظتي دير الزور والحسكة، ويشمل ذلك منطقة خراب الجير، ومهبط الرميلان، والشدادي، والقرية الخضراء التي أقيم فيها مركز لدعم العمليات، وفي منطقة كونكو، وفي قاعدة التنف المقامة على الحدود السورية-الأردنية. وهذه القوات تعمل على دعم عمليات قوات سوريا الديمقراطية منذ قيام معركة كوباني. كما تنشط قوات التحالف في الرقة، وعملت أيضاً من مدينة كوباني على مراقبة مساعي وقف إطلاق النار بين الفصائل المدعومة تركياً وقسد في منبج.

حافظت القوات الأميركية على شراكتها مع قسد منذ هزيمة تنظيم الدولة في آذار من عام 2019 في معركة البوغوز، كما دعم التحالف الجيش السوري الحر في قاعدة التنف القريبة من الحدود مع الأردن والعراق، لكنها وسعت نفوذها بعد سقوط الأسد إلى تخوم تدمر.

ومنذ سقوط نظام الأسد، تعرض كرد سوريا لهجمات شنتها فصائل مدعومة تركياً. ثم إن النظام الجديد في دمشق تربطه علاقات وطيدة مع تركيا، ولهذا يناقش مع أنقرة مخططات لإقامة قواعد تركية في سوريا.

وفي كانون الأول من العام الفائت، أجبرت الفصائل المدعومة تركياً قوات قسد على الانسحاب من شمالي حلب ومنبج، ولايزال القتال محتدماً بالقرب من سد تشرين الاستراتيجي. يذكر أن تركيا نفذت ثلاث عمليات عبر الحدود منذ عام 2016 وكان هدفها من خلالها الحد من الإدارة الذاتية لقسد مع التلويح بشن هجمة عسكرية أخرى عبر الحدود، وذلك لأن تركيا تعتبر قسد رديفاً لحزب العمال الكردستاني الذي صنفته الولايات المتحدة كتنظيم إرهابي، ولذلك شدد المسؤولون الأميركيون على أهمية مواصلة دعمهم لقسد وسعوا لقطع الطريق على أي عملية تركية جديدة.

وبصرف النظر عن المساعدات المقدمة لقوات قسد، يسعى التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة إلى ترحيل الأجانب ضمن مقاتلي تنظيم الدولة ومساعدة قسد على تأمين السجون والمخيمات التي تؤوي عائلات مقاتلي تنظيم الدولة، وعلى رأسها مخيم الهول.

ديناميات العلاقات ما بين الولايات المتحدة والحكومة العراقية وإقليم كردستان

منذ سقوط صدام حسين في 2003، شهدت العلاقات بين الحكومة العراقية وإقليم كردستان توترات حول الميزانية، وذلك بخصوص تمويل قوات البشمركة وصادرات النفط، والمناطق المتنازع عليها مثل منطقة كركوك الغنية بالنفط. وتنص المادة 140 من الدستور العراقي على إجراء استفتاء للبت بأمر تلك المناطق وتابعيتها إما لإقليم كردستان أو للعراق. إلا أن هذا الاستفتاء لم ينفذ حتى الآن.

وبعد أن حررت الولايات المتحدة العراق، تقدمت قوات البشمركة نحو أجزاء من محافظة نينوى وكركوك وديالى، على الرغم من معارضة بغداد. وفي كانون الثاني من عام 2010، اتفقت القوات الأميركية والعراقية وقوات البشمركة الكردية على تسيير دوريات مشتركة في تلك المناطق بهدف الحد من التوتر. وفي حزيران من عام 2014، تقدمت البشمركة في المناطق المتنازع عليها بعد انهيار الجيش العراقي تحت وطأة إحدى عمليات تنظيم الدولة، وبعد مرور شهر على إقرار الاستفتاء باستقلال كردستان في أيلول 2017، أخرج الجيش العراقي قوات البشمركة من المناطق المتنازع عليها، فاستغل تنظيم الدولة الفراغ الحاصل في السلطة ضمن ما يعرف بخط التنسيق الكردستاني الذي يفصل بين القوات المسلحة العراقية وقوات البشمركة في المناطق المتنازع عليها، واستعان مقاتلو تنظيم الدولة بتلك الثغرات الأمنية التي تمتد على مسافة تتراوح ما بين 3-5 كيلومترات ليشنوا هجومهم على قوات الأمن العراقية والكردية، إلى جانب قتلهم لمدنيين واختطافهم لآخرين وممارسة الابتزاز عليهم من أجل تحصيل الأموال. ونتيجة لذلك، ضغط التحالف من أجل إقامة جسور مشتركة من القوات العراقية وقوات البشمركة وذلك لسد الثغرة كما حرص على رفع مستوى التنسيق بين بغداد وأربيل، فانتقد بعض السياسيين في العراق الولايات المتحدة بسبب المدفعية التي قدمتها لقوات البشمركة الكردية، إذ خشي هؤلاء من تعاظم قوة تلك القوات، مما كشف بأن الدعم الذي قدم من أجل أي تطورات مستقبلية قد جرى تقديمه على مستوى عال من التنسيق. وفي تشرين الأول من عام 2017، وقعت اشتباكات بين قوات البشمركة وقوات الأمن العراقية عقب محاولة العراق التقدم في مواقع البشمركة، غير أن العراق استغل قوته ونفوذه منذ فترة قريبة للحد من الاستقلال الذاتي الممنوح لإقليم كردستان.

أما حالياً، فتعمل كل من إيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وهولندا، والولايات المتحدة على تقديم دور استشاري في معظمه داخل إقليم كردستان، وذلك ضمن عمليات المجموعة الاستشارية متعددة الجنسيات التي تؤيد برنامج الإصلاحات وتدعمه حتى يعمل على توحيد القطعات العسكرية التابعة لأحزاب سياسية متناحرة وعلى رأسها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني تحت مظلة وزارة شؤون البشمركة.

قدمت الدول المشاركة في التحالف التدريب والسلاح لقوات البشمركة والقوات العراقية خلال حرب القضاء على تنظيم الدولة، ولهذا، في حال قررت القوات الأميركية الرحيل عن تلك المناطق، فسيكون من الصعب الالتزام ببرنامج الإصلاحات لكونه يعتمد على الدعم التقني والمالي الذي يقدمه التحالف والدول الغربية، كما يرجح أن تتحول مواصلة الدعم إلى عنصر ضروري بالنسبة للعلاقات الثنائية الجديدة.

أكد العقيد والتر فان بيجليفت وهو مستشار عسكري سابق لدى القنصلية الهولندية العامة بأربيل على أن المجموعة الاستشارية متعددة الجنسيات ليست جزءاً من التحالف، ولهذا بوسعها البقاء ومواصلة عملها ككيان منفصل، وأضاف: “أما عملية العزم الصلب فتمثل التحالف وتشارك في المجموعة الاستشارية متعددة الجنسيات بوصفها كياناً سابعاً مضافاً لها”. ولقد قدّم صندوق وزارة الدفاع الأميركية لتدريب وتجهيز القوات ضد تنظيم الدولة  مخصصات مالية لرفد رواتب قوات البيشمركة التابعة لوزارة شؤون البيشمركة. ومن المقرر أن تتوقف هذه المخصصات في عام 2026، لكن التحالف الدولي يتوقع أن يستمر هذا الدعم لما بعد تشرين الأول من عام 2026.

وفي كانون الأول الماضي، زار وزراء دفاع هولندا وإيطاليا وألمانيا كلًا من بغداد وأربيل لمناقشة عملية الانتقال نحو اتفاقيات أمنية ثنائية واستمرار مكافحة تنظيم الدولة، وذلك في ظل التطورات التي أعقبت سقوط النظام السوري، وهذا ما دفع وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين إلى التصريح بأن العراق يجري حاليًا مباحثات حول علاقات أمنية ثنائية مع الولايات المتحدة ودول غربية أخرى مثل فرنسا.

وأضاف بأن هذه الاتفاقيات ستأتي: “بشكل وأسلوب مختلف.. كما أعطينا الموافقة بشأن بقاء بعثة حلف شمال الأطلسي”.

في حين صرح وزير الدفاع الهولندي روبن بريكلمانس بأن النقاشات مستمرة حول احتمال انسحاب قوات التحالف، وحذر من أنه سواء تم الانسحاب أم لا، فإن “أي تصعيد للتوتر في سوريا قد يمنح تنظيم الدولة فرصة لتعزيز موقعه هناك”.

وخلال جلسة تثبيت تعيينه في مجلس الشيوخ الأميركي، صرح وزير الخارجية ماركو روبيو بأن تخلي الولايات المتحدة عن شركائها ستترتب عليه عواقب وخيمة، وقال:

“لقد قدم هؤلاء الشركاء تضحيات كبيرة وتعرضوا لمخاطر جسيمة، بل إنهم هم من سجن مقاتلي تنظيم الدولة.”

وأكد في بيان صدر في 9 آذار بأن:

“الولايات المتحدة تقف إلى جانب الأقليات الدينية والعرقية في سوريا، بما في ذلك المجتمع الكردي.” وبحسب تقارير، فإن العراق تراجع أيضًا عن موقفه الداعم لانسحاب قوات التحالف، وذلك بعد سقوط النظام السوري الذي كان حليفًا للحكومة العراقية.

وفي تصريح له خلال مؤتمر ميونيخ للأمن في شباط الماضي، شدد رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني على أن التوقيت “غير مناسب” لانسحاب التحالف من العراق.

العوامل المؤثرة في إعادة انتشار القوات

في حال بقاء القوات الأميركية في العراق، فإنها ستتعرض لتحديات أمنية عديدة. إذ على الرغم من تعهد بغداد بحماية قوات التحالف، واصلت الجماعات المسلحة الموالية لإيران استهداف هذه القوات في العراق وسوريا باستخدام الطائرات المسيّرة، وصواريخ أرض-جو، وقذائف صاروخية، فقد شنت هذه الجماعات ما لا يقل عن 170 هجوماً منذ اندلاع حرب غزة في 7 تشرين الأول 2023.

وتمثل تلك الهجمات التي تستهدف القوات الأميركية جزءاً من حملة الضغط التي تشنها إيران لإجبار القوات الأميركية على مغادرة العراق، وهذه الحملة بدأت قبل الحرب على غزة. وإضافة إلى ذلك، نفذت إيران والجماعات التي تدعمها 32 هجوماً في إقليم كردستان بين أيلول 2018 وتشرين الأول 2023. وتعتبر وزارة شؤون البيشمركة هذه الميليشيات إحدى التهديدات الرئيسية، وخاصة بعد أن أدى هجوم صاروخي إيراني في كانون الثاني من عام 2024 إلى مقتل رجل الأعمال الكردي بشرو ديزايي.

ينص قانون تفويض الدفاع الوطني الأميركي لعام 2024 على تزويد قوات البيشمركة بنظم دفاع جوي لتحمي نفسها من هذه الهجمات. وأشارت تقارير إلى أن الولايات المتحدة تتوقع البقاء في كردستان إلى ما بعد عام 2025 وذلك لتكون ضمانة أمنية في وجه هذه التهديدات، إلا أن وجود القوات الأميركية هناك يجعل الإقليم أيضًا هدفاً لإيران، خاصة إذا تمركز معظم الجنود في كردستان. كذلك قد يُثير تعزيز الوجود العسكري الأميركي في كردستان مخاوف جيران العراق وذلك بالنسبة إلى احتمال دعم الولايات المتحدة لقيام دولة كردية مستقلة، وهذا ما يحتم إبقاء جنود أميركيين بهدف التنسيق في بغداد.

وإذا تحتم بقاء القوات الأميركية وعساكر تابعين لدول أخرى في العراق بموجب اتفاقيات ثنائية، عندئذ لابد من مواصلة تقديم الرواتب والدعم من أجل إدخال إصلاحات على قوات البشمركة حتى تسقر أمورها وتتعزز إمكانياتها إلى جانب مواجهتها للميليشيات المدعومة إيرانياً، كما أن السبب وراء ذلك يتلخص في أن المجموعة الاستشارية متعددة الجنسيات لا تتبع للتحالف بشكل رسمي.

خطوات محتملة لإعادة الانتشار وتداعياته

هنالك قوات من عدة دول تابعة للتحالف موجودة في قاعدة أربيل الجوية، في حين تم إخلاء قوات التحالف من قاعدة حرير الجوية في كردستان في 20 تشرين الأول 2024. وتخطط الولايات المتحدة والعراق لتقليص عدد قوات التحالف البالغة 2500 جندياً خلال عامين.

تواصل قوات التحالف تقديم المشورة للقوات الأمنية العراقية والكردية، وتشارك الوحدات الخاصة في عمليات مكافحة الإرهاب، بما أن الولايات المتحدة، وإيطاليا، وفرنسا دخلت في شراكات فعلية مع قطعات مكافحة الإرهاب العراقية والكردية وتلك التابعة للبشمركة، وهدفها تحييد المخاطر المتمثلة بخلايا تنظيم الدولة. وفي حال رحيل التحالف عن العراق، فإن هذه العمليات قد تتوقف على الأرجح، ما لم تُوقّع اتفاقيات ثنائية جديدة، رغم أنه من المرجّح استمرار هذه العمليات للحد فرص تنظيم الدولة في العودة إلى الظهور من جديد.

خلاصة

لتوطيد الثقة واستمراريتها مع كل من بغداد وأربيل بعد قيام علاقات جديدة بين العراق والولايات المتحدة، ينبغي على الولايات المتحدة تحقيق توازن دقيق يمنع ظهور أي انحياز واضح لكردستان. لذا، يجب الإبقاء على قوة صغيرة من القوات الأميركية في بغداد بعد انسحاب التحالف وذلك لتنسيق العمليات مع الحكومة العراقية.

نفّذ تنظيم داعش أكثر من 150 هجوماً في عام 2024 في كل من العراق وسوريا، وهذا العدد أعلى من عدد الهجمات التي أعلن التنظيم عن تنفيذه لها في 2023. وبعد سقوط النظام السوري وتولي حكومة انتقالية وأحمد الشرع لمقاليد الحكم في سوريا في كانون الأول الماضي، تواصل مسؤولون أميركيون مع الإدارة السورية الجديدة، كما أعرب مسؤولون عراقيون عن تخوفهم من استيلاء تنظيم الدولة على أسلحة الجيش السوري والعمل على إعادة تنظيم صفوفه من جديد.

بلغت تلك المخاوف أوجها في العواصم الغربية مع احتمال هروب مقاتلي تنظيم الدولة وأهاليهم المحتجزين في شمال شرقي سوريا في حال نفذت تركيا أي هجوم يستهدف قسد، ولهذا لابد من الاعتماد على مزيد من الدبلوماسية الغربية لاحتواء الوضع، كما أبدى المسؤولون في دمشق اهتمامهم بتولي أمور السجون والمخيمات المقامة هناك.

نظراً لاعتماد القوات الأميركية في سوريا على قواعدها في أربيل، فإن عمليات مكافحة الإرهاب في سوريا يمكن أن تستمر، إلا في حال قرر ترمب الانسحاب من سوريا، مما قد يفتح المجال لعودة التنظيم، خاصة في ظل تصاعد عملياته مؤخرًا في سوريا. لكن زيادة النفوذ الأميركي في كردستان قد تستدعي هجمات من جماعات مدعومة من إيران أو قوات الحشد الشعبي، الأمر الذي لابد أن يتطلب لضمانات حماية لأربيل.

من المرجح لأي وجود أميركي أقوى وأكبر في إقليم كردستان أن يحقق للولايات المتحدة نفوذاً أكبر في ملف إصلاح قوات البيشمركة التي تتبناه حكومة كردستان، ومن المرجّح استمرار الدعم المالي الأميركي لهذه القوات من أجل إقامة علاقة وطيدة مع إقليم كردستان، ومن المتوقع أن تبقى دول أوروبية مثل ألمانيا، وهولندا، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا وغيرها من القوات العسكرية الدولية التابعة للتحالف الدولي من أجل محاربة تنظيم الدولة في العراق، وأن تواصل شراكتها وتقديم مشورتها لقوات الأمن العراقية وخاصة لقوات البيشمركة الكردية.

على الرغم من أن عدد القوات الأميركية في العراق وسوريا قليل نسبياً مقارنة بتعداد عساكرها في كوريا الجنوبية مثلاً، يلعب وجودها دوراً محورياً في منع عودة تنظيم الدولة والاحتفاظ بنفوذها في تلك المنطقة بما أنه يمكن لإيران أو روسيا أو حتى الصين ملء الفراغ الذي ستخلفه الولايات المتحدة حال رحيلها.

توصيات سياسية

إعادة تموضع القوات: ينبغي للإدارة الأميركية أن تحتفظ بالعدد الحالي لقواتها، مع نقل بعض القوات الموجودة في الأنبار إلى كردستان لتعزيز التعاون بين العراق وسوريا، وتقليل فرص تعرض القوات لهجمات من إيران وميليشياتها.

الاحتفاظ بالقوات الأميركية في سوريا: إن البقاء في شمال شرقي سوريا ضمانة للانتصار على تنظيم الدولة إلى جانب كسب الولايات المتحدة لنفوذ جديد عند تشكيل الحكومة السورية الجديدة، ثم إن القوات الأميركية وقوات قسد تقوم حالياً بحماية البنية التحتية النفطية المهمة التي يمكن أن تستفيد من الاستثمارات الأميركية في تطوير قطاع النفط والغاز.

إصلاح قوات البيشمركة: لابد أن يستمر الدعم الأميركي للإصلاحات الخاصة بقوات البشمركة، بيد أن هذا الدعم يجب أن يربط بشرط إحراز تقدم في تحقيق أهداف الإصلاحات إلى جانب تشكيل حكومة جديدة تضم الحزبين الكرديين (أي الحزب الديمقراطي وحزب الاتحاد الوطني).

التمركز الدائم للقوات: على وزارة الدفاع الأميركية أن تدرس فكرة إقامة قواعد دائمة لعساكرها في إقليم كردستان العراق، إلى جانب زيادة التمويل المخصص للإنشاءات العسكرية المعنية بتشييد الثكنات والمقار ومركز للاحتجاز في شمال شرقي سوريا.

الاستقلالية في مجال الطاقة وإجراء إصلاحات مصرفية: يجب على إدارة ترمب مواصلة دعم النمو الاقتصادي في العراق واستقلالية مجال الطاقة فيه وذلك عبر إنهاء الاستثناءات الممنوحة لإيران بخصوص قدرتها على بيع الكهرباء للعراق، مع تشجيع بغداد على استئناف تصدير النفط عبر أنابيب النفط التي تمر بين العراق وتركيا، إلى جانب توجيه إرشادات للمصارف العراقية من خلال الإصلاحات حتى تمنح المستثمرين العراقيين والأجانب مزيداً من الثقة.

الضمانات الأمنية: يحتاج الكرد أيضاً إلى ضمانات أمنية بسبب نشر عدد أكبر من القوات الأميركية، بما أن ذلك يمكن أن يشمل نشر نظم دفاع صاروخية بما يمنع تعرضها لأي هجوم، ويبنغي لذلك لأن يتم بشفافية وبموافقة بغداد على تجنب تصعيد التوتر وذلك بموجب اتفاقيات أمنية مشتركة، كما لابد من تحذير إيران من مغبة تنفيذ أي هجوم على الكرد العراقيين سواء عبر وكلائها أو من بواسطة الصواريخ الباليستية التي تملكها.

التعاون الإقليمي: قد يسهم إشراك تركيا في النقاشات حول النشاطات العسكرية الأميركية في العراق وسوريا في التخفيف من حدة الأعمال العسكرية التركية التي لابد أن تؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وبوسع الولايات المتحدة دعم عملية السلام بين حزب العمال وأنقرة التي ماتزال في الوقت الراهن قيد المناقشة في تركيا، كما يمكن للولايات المتحدة مواصلة دعمها لقسد في أثناء عملية اندماجها ضمن صفوف وزارة الدفاع السورية الجديدة.

الاتفاقيات الثنائية: على العراق أن يسارع إلى توقيع اتفاقيات ثنائية جديدة مع دول التحالف إلى جانب تلك التي وقعها مع الولايات المتحدة، تحسبًا لما يمكن أن يحدث بعد عام 2026 وللتطورات التي تحدث اليوم في سوريا.

البرنامج الخاص لمنح التأشيرات: في حال الانسحاب الأميركي من العراق وسوريا، يتوجب عندئذ على الولايات المتحدة إطلاق برنامج خاص بمنح تأشيرات الهجرة على أن يخصص للشركاء السوريين، وأن يستمر العمل به مع الشركاء العراقيين وذلك من أجل حماية من خاطروا بأرواحهم عندما دخلوا في شراكة مع الولايات المتحدة.

المصدر: New Lines Institute

تلفزيون سوريا

———————————

باي باي أوجلان/ درويش محما

تحديث 22 أذار 2025

ظهور حزب العمال الكردستاني في أواخر السبعينيَّات من القرن الماضي هو أسوأ ما حصل للكرد في تاريخهم المعاصر، وأفضل ما قد يحصل لهم في المستقبل القريب هو اختفاء هذا الحزب بكل فروعه ومشتقاته. وكلما سألني أحدهم عن كيفية التخلص من هذه العاهة المستديمة التي أصابت الكرد في مقتل، كنت أقول: بقاء هذا الحزب من عدمه بيد أنقرة.

عملية السلام التي أُعلن عنها قبل بضعة أشهر في تركيا، بإشراف غير علني من الرئيس التركي السيد رجب طيب أردوغان، تجري بشكل حسن وسلس، وإذا استمرت الأمور على هذا المنوال، سنشهد خلال الأشهر القليلة القادمة، وقبل انقضاء العام الحالي، نهاية وخاتمة سعيدة لهذه العملية التي جرى التخطيط لها بعناية في أنقرة.

قبل شهر من الآن، وبالتحديد في 18 شباط (فبراير) الماضي، خطا السيد عبد الله أوجلان من سجنه في إمرالي الخطوة الأولى في مسار عملية السلام الجارية، برسالة مقتضبة من خط يده، يعلن فيها عن رفضه لكل ما هو قومي كردي، وأن ديمقراطية الشعوب وأخوة الشعوب هي غايته ومنتهى أمنيته، والسلاح يجب تركه والتخلي عنه، وحزبه حزب العمال الكردستاني يجب حله وفسخه. رسالة أوجلان هذه أُرسلت لثلاث جهات: قيادات “بي كا كا” في جبال قنديل، ومظلوم عبدي قائد قوات “قسد” في شمال سورية، وأوروبا حيث يتواجد أتباعه ومريدوه بكثرة.

الرد بالموافقة من قبل قنديل لم يتأخر، فأوجلان كان واضحاً في رسالته وقد كفى ووفى وعمل ما باستطاعته، ولأن طلباته أوامر بطبيعة الحال، ستعمل قيادات قنديل على عقد مؤتمر للحزب في قادم الأيام كما طُلب منها، وسيكون مؤتمرهم الأخير إن شاء الله، يعلنون فيه عن حل حزبهم المشؤوم وإلقاء سلاحهم. أما السيد مظلوم عبدي، قائد ميليشيات “قسد”، وهو عضو في حزب العمال الكردستاني منذ نعومة أظفاره، والابن الروحي لعبد الله أوجلان، فقد صرح في البداية وعلى العلن، أنَّ الرسالة موجهة لحزب العمال الكردستاني، وأنها لا تخصه ولا تخص “قسد” كونهم سوريين، لكن العبرة بالنتائج لا بالتصاريح، حيث استعجل عبدي إلى دمشق، وحتى يثبت أنه ابن أبيه والأكثر وفاءً وحرصاً على تنفيذ أوامره، قام بالتوقيع مع الرئيس السوري أحمد الشرع، في العاشر من آذار (مارس) الحالي، على اتفاق يقضي بدمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سورية ضمن إدارة الدولة السورية الجديدة، دون أي امتيازات تُذكر للمكون الكردي السوري.

الرئيس أردوغان، المهندس البارع لعملية السلام الجارية اليوم، أعلن بدوره عن رضاه عن الاتفاق الذي حصل بين السيد عبدي والرئيس أحمد الشرع، بعد مرور 24 ساعة من إعلان بنود تلك الاتفاقية، ولم يكتفِ بذلك، بل أرسل وفداً رفيع المستوى من حكومته إلى دمشق، يترأسه وزير الخارجية التركي السيد هاكان فيدان، للوقوف على تفاصيل الاتفاق وإعطاء بعض النصح والإرشادات للقيادة السورية. وفي خطوة مباركة تصالحية أخرى، وبعد مقاطعة طويلة من طرف الرئيس أردوغان لحزب المساواة والشعوب الديمقراطية المحسوب على أكراد تركيا، أعلن الرئيس أردوغان عن قبوله واستعداده للقاء بعض القياديين من الحزب المذكور، طبعاً للوقوف على مجريات عملية السلام والبحث في مستجداتها.

مبادرة السلام التركية-الكردية تجري كما خُطط لها في أنقرة، وإصرار تركيا القديم الدائم على نزع سلاح “قسد” لم يعد مطروحاً اليوم، بل على النقيض من ذلك، تركيا تريد وبشدة انضمام “قسد” واندماجها بالقوات العسكرية والأمنية السورية. ولا يحتاج المرء إلى الحنكة السياسية لفهم الأمر وهضمه، فموافقة قنديل على حل حزب العمال الكردستاني من جهة، والأحداث الأخيرة التي جرت في الساحل السوري، من عمليات قتل وحشية طالت المدنيين من أبناء الطائفة العلوية من جهة أخرى، دفعت تركيا إلى تغيير موقفها من ميليشيات “قسد”. فانضمام أكثر من 100 ألف مقاتل محترف ومتمرس من “قسد”، ودمجهم في الجيش والأمن السوريين، يُعتبر تركة ثمينة خلفها حزب العمال الكردستاني المنحل قريباً، وهبة من الله للرئيس أحمد الشرع، ليس فقط من أجل استتباب الأمن والأمان في سورية، بل سيتم استخدام تلك القوات على أفضل وجه، لوضع حد لسيطرة المتشددين على الجيش السوري والإدارة السورية. فالعمليات العسكرية الأخيرة التي جرت في الساحل السوري، كشفت عن الوجه البشع لهؤلاء التكفيريين المنضوين تحت مظلة الجيش السوري، وهذا أمر خطير للغاية، قد يتسبب في جرّ الدولة السورية إلى مكان آخر، وهذا ما لا ترغب فيه تركيا ولا يتوافق مع طموحاتها بسورية موحدة مزدهرة حليفة وقابلة للحياة وتمتلك القيم والمعايير نفسها التي تمتلكها وتؤمن بها الحكومة التركية.

خلال زيارته لتركيا في 4 شباط (فبراير) الماضي، الرئيس أحمد الشرع في مؤتمره الصحفي الذي عقده، لم يقل “الجمهورية العربية السورية”، بل قال “الجمهورية السورية”، وكررها مرتين على التوالي، لكن نص الإعلان الدستوري الذي صدر في 13 آذار (مارس) الحالي، والذي وقع عليه الشرع نفسه، أخذ بالاسم الدارج القديم، “الجمهورية العربية السورية”. وقد يقول قائل: ما السبب وراء هذا التغيير؟ أعتقد جازماً أنَّ تغيير اسم الدولة من “الجمهورية العربية السورية” إلى “الجمهورية السورية” هو تحصيل حاصل، وسيثبت في نص الدستور السوري الدائم، كاستحقاق قادم مرتبط بنجاح عملية السلام التي تجري بين تركيا وعبد الله أوجلان.

العد التنازلي للتخلص من حزب العمال الكردستاني قد بدأ، وكلنا أمل وتفاؤل بزمن كردي أفضل في غياب هذا الحزب وأفعاله من إرهاب وعنف ودماء ونفاق وتهاون بحقوق الكرد وأرواحهم، “ودرب يسد وما يرد”.

ايلاف

————————–

لماذا قررت طهران إيقاظ جواسيسها في تركيا؟/ سمير صالحة

2025.03.22

فيما كان السفير الإيراني في أنقرة محمد حسن حبيب الله زاده يحمّل إسرائيل مسؤولية ما يجري في سوريا والإقليم، كان جهاز الاستخبارات التركي “ميت ” يضع اللمسات الأخيرة على ملف تسليم خلية تجسس إيرانية إلى القضاء التركي بتهمة التجسس وجمع معلومات عن قواعد عسكرية ومناطق حساسة داخل تركيا وخارجها ونقلها إلى مشغليهم في استخبارات الحرس الثوري الإيراني.

نفذ جهاز الاستخبارات التركي قبل أيام وبالتنسيق مع الأجهزة الأمنية حملة مطاردة واعتقال لخلية تجسس إيرانية مؤلفة من 5 أشخاص تنشط على خط إسطنبول – مرسين – أنطاليا بمهمة جمع معلومات عسكرية وسياسية حول مراكز التصنيع الحربي التركي وأماكن وجودها.

لا بد هنا من العودة بالذاكرة إلى الوراء والهجوم الذي استهدف في تشرين الأول 2024 مقر الشركة التركية لصناعات الطيران والفضاء “توساش” الواقع قرب العاصمة أنقرة الذي أودى بحياة 5 أشخاص، والحديث عن وجود أصابع دولة خارجية على طريقة تبادل الخدمات، في تحريك مجموعة “حزب العمال الكردستاني ” التي أعلنت مسؤوليتها عن هذا الاعتداء.

لا معلومات تفصيلية بعد حول نتائج التحقيقات لكن هناك أكثر من تقرير استخباراتي وأمني تركي يتحدث عن استعدادات إيرانية مكثفة لتفعيل خلايا ناشطة ونائمة إلى جانب محاولة زيادة عدد الشبكات المحلية التي تجندها للعمل لصالحها في الداخل التركي. لذلك فاحتمال توسيع أنقرة لرقعة عمليات المطاردة كبير جدا، بحسب المعلومات المسربة حول نشاطات الخلية والأدوات المستخدمة والأشخاص الذين يتم تجنديهم وتواصلهم المباشر مع قيادات جهاز استخبارات الحرس الثوري الإيراني.

المؤشرات التي تؤكد ذلك لا تعود فقط إلى حملات المطاردة والتوقيف التي ينفذها جهاز الاستخبارات التركي ضد هذه الخلايا ومجموعات التجسس الإيرانية في الأعوام الأربعة الأخيرة والتي تجاوز عدد المعتقلين فيها 40 شخصا تمت عمليات رصدهم وتوقيفهم في العديد من المدن التركية. بل إلى اتساع رقعة التباعد التركي الإيراني في ملفات ثنائية وإقليمية عديدة في الأعوام الأخيرة تقود القيادة الإيرانية للذهاب وراء خطوات بهذا الاتجاه.

 هناك:

– تدهور العلاقات التركية الإيرانية في الإقليم حيال ملفات سياسية وأمنية وتجارية بطابع استراتيجي.

– تراجع النفوذ الإيراني في سوريا وتحميل أنقرة بالتنسيق مع “هيئة تحرير الشام” المسؤولية الأساسية على ذلك.

– التقارب التركي العربي والتركي الغربي وزيادة التنسيق في ملفات سياسية وعسكرية تقلق طهران.

– الصعود العسكري والسياسي التركي خصوصا في مجالات التصنيع الحربي.

– توقيت عملية توقيف عملاء إيران قبل أيام والذي لا يمكن فصله عن انفجار الأحداث الأخيرة في الساحل السوري حيث الكثافة السكانية العلوية وردة الفعل في الداخل التركي من قبل بعض قيادات المعارضة التي تريد لعب هذه الورقة لكسب دعم الجناح العلوي في المدن التركية، والذي حذر بعضهم من أنه يخدم أهداف إيران لزعزعة الاستقرار في تركيا وسوريا. وهكذا تكون إيران قد أضافت البعد السوري الجديد إلى أسباب تفعيل تحرك أجهزة استخباراتها في الداخل التركي منذ سنوات والذي كان يركز على:

 – جمع المعلومات حول النشاطات العسكرية والاقتصادية والأمنية في تركيا.

– مطاردة النشاطات الإسرائيلية وجمع المعلومات حول الأقلية اليهودية في المدن التركية ومحاولة اغتيال رجال الأعمال الأتراك من أصل يهودي كما حدث في شباط 2022 بعد عملية فاشلة خطط لها ضد يائير غللر الصناعي المتخصص في قطاع التكنولوجيا المتطورة وأجهزة التصنيع العسكري انتقاما لمقتل أحد أبرز المشاركين في برامج إيران النووية محسن فخري زاده.

– رصد تحركات مجموعات المعارضة الإيرانية وكوادرها التي طلبت اللجوء إلى تركيا ومحاولة اختطافهم وإعادتهم إلى طهران كما حدث في منتصف كانون الأول 2020 عندما كشف جهاز الاستخبارات التركية عن خلية تجسس تعمل لصالح إيران نجحت في اختطاف أحد رموز المعارضة الإيرانية خلال زيارة له إلى تركيا.

– متابعة نشاطات المجموعات الكردية الإيرانية الهاربة إلى تركيا.

حاولت أجهزة الاستخبارات الإيرانية والإسرائيلية أكثر من مرة نقل المواجهة إلى الساحة التركية رغم جهود جهاز الميت التركي قطع الطريق على عمليات من هذا النوع. لكن هدف إيران هذه المرة وكما يبدو هو محاولة اختراق الداخل التركي نفسه وحيث تكثر الأنباء التي تتحدث عن احتمال اتساع المواجهة التركية الإيرانية.

قناعة كثير من الأتراك اليوم أنه لا يمكن الفصل بين نشاط جهاز الاستخبارات الإيراني المكثف في الآونة الأخيرة فوق الأراضي التركية وبين العديد من التطورات السياسية والاستراتيجية الإقليمية:

– إيران منزعجة من التحول الحاصل في سياسة تركيا الإقليمية وانفتاحها الجديد على العواصم العربية وتدرك أن ذلك سيضر بمصالحها وحساباتها الإقليمية في المنطقة، ويعرقل أكثر من مشروع استراتيجي إيراني في مسائل خطوط التجارة وحركة البضائع.

– وهي تعتبر أنّ سياسة تركيا الجديدة في ملفّات الطاقة عبر مناطق البحر الأسود وشرق المتوسط والقوقاز، تتجاهل النفوذ والمصالح الإيرانية الاستراتيجية على أكثر من خطّ في تلك المناطق بينها قطع الطريق على حلم الوصول إلى السواحل السورية.

– وإيران أيضا تريد عرقلة خطط ومشاريع أنقرة في تفعيل برامج البحث عن مصادر طاقة جديدة بينها اكتشافات حوض البحر الأسود والجهود التركية لصناعة تفاهمات ترسيم الحدود المائية في شرق المتوسط، وكلها ستنعكس سلبا على إيران وحساباتها ومصالحها في المنطقة.

هناك جهود إيرانية تبذل بشكل مكثف لتصفية الحسابات مع أنقرة التي نجحت في إضعاف وتراجع النفوذ الإيراني في الإقليم وعلى أكثر من خط مواجهة تركية إيرانية بطابع سياسي وأمني واقتصادي. وهناك تحسب تركي واستعدادات لسيناريوهات الرد الإيراني ضد المصالح التركية في الداخل والخارج

تلفزيون سوريا

——————————–

تدريبات عسكرية مكثفة لقوات التحالف الدولي في شرق سورية

محمد كركص

22 مارس 2025

نفّذت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، مساء الجمعة وفجر السبت، تدريبات عسكرية مكثفة باستخدام أسلحة ثقيلة ضمن إحدى قواعدها العسكرية في ريف دير الزور الشرقي، تزامناً مع تحليق مكثف للطائرات الحربية الأميركية وطائرات الاستطلاع في أجواء المنطقة.

وأكد الناشط الإعلامي وسام العكيدي، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن التدريبات العسكرية جرت في قاعدة حقل العمر النفطي، أكبر قواعد التحالف في سورية، حيث استخدمت فيها قوات التحالف أسلحة متطورة وقذائف مدفعية. وأضاف أن تلك التدريبات ترافقت مع تحليق طائرات مسيّرة وحربية أميركية في سماء المنطقة الشرقية.

وفي سياق متصل، سيرت قوات التحالف الدولي دوريات عسكرية في القرى السبع الواقعة على سرير نهر الفرات من الطرف الشرقي (بادية الجزيرة)، انطلاقاً من قاعدتها العسكرية في حقل كونيكو للغاز، ومروراً ببلدة خشام. كما جالت أمس الجمعة دورية عسكرية مؤلفة من ست عربات مصفحة وسيارة في بلدة الشحيل بريف دير الزور الشرقي.

وتأتي هذه التحركات في ظل تكثيف قوات التحالف تدريباتها العسكرية في دير الزور خلال الأشهر الماضية، تزامناً مع استمرار وصول تعزيزات عسكرية ولوجستية كبيرة إلى قواعدها. وفي وقت سابق من الأسبوع الماضي، أجرت قوات التحالف تدريبات بالذخيرة الحية بالتزامن مع تحليق طائرات حربية وإطلاق قنابل مضيئة في سماء قاعدة حقل العمر.

وكانت قاعدة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشدادي بريف الحسكة الجنوبي، شمال شرق سورية، قد شهدت يوم الاثنين الفائت، استنفاراً عسكرياً تزامن مع هبوط أربع طائرات مروحية عسكرية وطائرة شحن محملة بأسلحة وذخائر ومعدات لوجستية، قادمة من قواعد التحالف في إقليم كردستان العراق.

وكانت قوات التحالف الدولي شنت بمساعدة من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) عدة عمليات ضد خلايا وأفراد من تنظيم “داعش” الإرهابي منذ بداية العام الحالي، أسفرت عن مقتل ثمانية أشخاص، بينهم مدنيون، فيما تواجه “قسد” اتهامات بشن اعتقالات تستهدف المدنيين بحجة الانتماء لتنظيم “داعش”، إذ أدانت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” في 22 من الشهر الماضي، استمرار احتجازها مدنيين منذ مطلع العام الحالي بسبب التعبير عن الرأي.

—————

سوريا في شهر الثورة.. التحديات كبيرة/ أحمد مظهر سعدو

2025.03.23

تتشابك التحديات وتتعقد، بعد نحو 4 شهور من انتصار ثورة الشعب السوري، وإزالة نظام الأسد، وفرار رأس النظام إلى موسكو. إذ يحاول السوريون الاحتفاء بتاريخ ثورتهم العظيمة، ثورة الحرية والكرامة في ذكراها، أمام تحديات كبيرة وكثيرة ومتعددة، بل وأكثر تعقيدا، طالت مجمل الواقع المتغير في المشهد السوري. حيث لم تُترك سوريا بشعبها المكافح لفرحة النصر، كما لم  يُترك الإنسان السوري ليعيش زمنا جديا خاليا من القتل والموت والعبث بأوضاعه، حتى بدأت المشكلات والإشكاليات تنبثق في طريقه الشاق نحو بناء الدولة السورية الجديدة، الخالية من خراب عصابة الأسد، فسادها وإفسادها وحالة الدولة السورية التي عاشها السوريون على مدى ٥٤ عاما من حكم آل الأسد ومساراتهم المليئة بالدم والنهب والخراب على كل المستويات، حتى أضحت سوريا في الدرك الأسفل من الفوات والعفن على جميع الأحوال والمتغيرات.

تتمظهر اليوم حالات كثيرة من تلك التحديات التي تعوِّق حركة العمل المطلوب من أجل سوريا الحرة، التي لا بد من أن تبنى على أسس جديدة وقيم وطنية أخرى، وسيادة جدية للدستور والقانون المغيبين قسرا زمن الأسد الابن وقبله الأب.

ولعل التحدي الأكبر هو ماتفعله إيران وأدواتها من الفلول التشبيحية، في محاولاتهم المستمرة ضمن الساحل السوري، وكذلك على الحدود اللبنانية السورية، من أجل زعزعة الأمن والاستقرار الضروريين جداً من أجل قيامة جديدة للدولة السورية. وإذا كانت غايات إيران في ذلك ومعها زبانية نظام الأسد واضحة المعالم، وهي التي انهزمت على يد الشعب السوري صبيحة 8 كانون أول/ ديسمبر 2024 هزيمة نكراء، أسهمت في هدم صرح المشروع الإيراني الفارسي الطائفي في المنطقة، وتم قطع  الطريق كليا على امتدادات وأطماع إيران في المنطقة، فأصبح طريق طهران بغداد دمشق بيروت غير سالك، بل مقطوع نهائيا في أوسطه، أي داخل الجغرافيا السورية تحديدا، وهو ما جعل إيران/ الملالي تتجرع كأس السم الزعاف في سوريا هذه المرة، بعد أن تجرعه (آية الله الخميني) في العراق أواخر ثمانينيات القرن الفائت. من هنا فإنها لن تألو جهدا من أجل العمل وبشتى السبل، لزعزعة الأوضاع الأمنية في سوريا، ضمن محاولاتها البائسة للعودة من جديد إلى الساحة السورية المطرودة منها، رغم كل إمكانياتها وثقلها العسكري.

أما التحدي الآخر الذي يقف في طريق الدولة الجديدة في سوريا، فهو تحدي القوة المتصاعدة الإسرائيلية  حيث  خرجت إسرائيل منتصرة في حربها على قطاع غزة وجنوبي لبنان، وهي اليوم تريد أن تستثمر وتستغل هذه الفرصة عبر سوريا، في ظل وجود عسكري لجيش سوري ناشئ ومتواضع، وضمن اللاإمكانات الجدية للمواجهة، كي تنجز وضعا جديدا عبر قضم المزيد من الأراضي السورية  في الجولان والهيمنة على كامل المنطقة العازلة، وتدمير ما تبقى من عتاد عسكري سوري، واللعب على الوتر الطائفي، بدعوى حماية الأقليات، وخاصة في الجنوب السوري . كل ذلك يجري في ظل غياب كامل لأي مشروع عربي قادر على لجم التمدد الإسرائيلي، أو إيقاف التهديدات الصهيونية المستمرة للوضع الجديد في سوريا، وضمن أجواء هيمنة الرئيس الأميركي (دونالد ترمب) على العالم، وانحيازه المطلق إلى جانب إسرائيل، على حساب العرب كل العرب، من دون الاهتمام بمواقف النظام العربي الرسمي الضعيف، هذه المواقف التي لا تتعدى شكلية إصدار بيانات لا تسمن ولا تغني من جوع.

كما لا يمكننا إلا التوقف أمام التحدي الآخر الذي لايقل خطورة، وهو موضوع شمال شرقي سوريا، حتى بعد أن تم توقيع اتفاق مهم بين الإدارة السورية الجديدة وتنظيم (قسد)  حيث ما تزال هناك الكثير والكثير جدا من من العقبات، التي تعترض طريق تنفيذه خلال تسعة أشهر قادمة، وهي المدة الزمنية المعطاة له من أجل الإنجاز، حيث ما برحت هناك كثير من العقبات بل والخلافات بين الطرفين، وصولًا إلى حالة اندماج ما، قد تحصل وقد لا تحصل في المؤسسة العسكرية السورية الجديدة، وهذا يرتبط بالضرورة وبشكل مباشر وواضح بمدى رضى أو عدم رضى الإدارة الأميركية عن أداء الحكم الجديد في سوريا.

كذلك فإن إشكالية الجنوب السوري ماتزال قائمة، واللعب بورقة (الدروز) من قبل الإسرائيليين ما تزال جدية، رغم الوقوف المعلن لمعظم الفعاليات الوطنية السورية في جبل العرب، انحيازا حقيقيا وواضحا إلى جانب وحدة سوريا، والاندماج بالحالة السورية الجديدة، وعدم الالتفات إلى ما تحاول أن تفعله إسرائيل من تحريك لبعض أدواتها في السويداء من أجل الهيمنة على الجنوب السوري والتهيئة لحالة جديدة من تفسخ الوحدة الوطنية السورية.

وقد لا يقل أهمية عن كل ذلك تحدي بناء الدولة الوطنية، على أسس تشاركية وحدوية لا تتكئ على اللون الواحد، ولا تسمح بالانفراد بالسلطة، من قبل لون سياسي واحد بحد ذاته، فمطالبات الداخل والخارج تفترض مشاركة الجميع، وفق معايير وطنية ديمقراطية تتمكن من تخطي زلات وهنات الإعلان الدستوري، وصولًا إلى تشكيل حكومة وطنية جديدة، متعددة المشارب، وقادرة على الوصول إلى بناء وطني للدولة ديمقراطي وعصري. بالإضافة إلى ضرورة الإسراع في تشكيل هيئة عليا للعدالة الانتقالية، التي باتت ضرورية وملحة، لتقطع الطريق على كل العابثين بأمن الوطن السوري. وكذلك العمل بدأب من أجل تأمين الخدمات الضرورية للعيش، وتحسين الأداء الاقتصادي الأفضل، كي يجذب ذلك السوريين المهجرين قسرا إلى الخارج، كي يعودوا جميعا ويسهموا في بناء الوطن السوري القادم والجديد.

ولن ننسى التحدي الآخر الكبير وهو تحدي كيفية إقناع الغرب وخاصة الأميركان بإزالة كل أنواع العقوبات المفروضة على سوريا، والتي لم يعد هناك من مبرر لوجودها، بعد إزاحة السبب، الذي أدى إليها، وهو “نظام الفاشيست” الأسدي، وهو مايجب الاشتغال عليه وبشتى الطرق، وعبر كل أصدقاء سوريا، حتى لا تبقى هناك معوقات حقيقية على طريق بناء اقتصاد سوري وطني قوي وقادر على الإيفاء بالمتطالبات الوطنية السورية المعيشية للناس.

إذا فالتحديات كبيرة وكثيرة، لكن الأمل ما يزال موجودا لتخطيها جميعا، وعبر جهد حقيقي، يشارك فيه كل السوريين، مع أصدقاء الشعب السوري، الذين وقفوا إلى جانب سوريا، لكن المسألة شاقة ومتعبة، وتحتاج إلى كثير من الانفتاح والتشاركية، والعمل الدؤوب من أجل سوريا التي نحب ونرغب جميعا.

————————–

استعادة ثروات الفرات… بوابة تعافي الاقتصاد/ مناف قومان

22 مارس 2025

قليلٌ من السوريين من توقعوا حدوث انفراجة سياسية في ملف “قسد” مع الحكومة السورية الانتقالية، لا شك أن الاتفاق توّج بعد سلسلة من اللقاءات والمحادثات بين الطرفين، لكن في النهاية وقصارى القول إنه أنهى أي حديث عن تقسيم سورية ورسم الخرائط وتلوينها، لتعود سورية كلها خضراء كما يراها أهلها منذ خرجوا في العام 2011 وهتفوا في الشوارع ضد التقسيم مؤكدين على وحدة سورية أرضاً وشعباً.

تلوح في الأفق اليوم فرصة قد تعيد ملامح الاقتصاد السوري المنهك في خضم الدمار الذي خلَّفه أكثر من عقد من الحرب والعقوبات الدوليّة، إذ يشكل الاتفاق المُبرَم بين الطرفين لاستعادة السيطرة على حقول النفط والغاز والمناطق الزراعية في شمال شرقي سورية، منعطفاً جيوسياسياً واقتصادياً قد يُعيد توجيه بوصلة البلاد نحو التعافي خلال العامين القادمين على أقل تقدير، أو على الأقل يُخفف من حِدّة الأزمات.

لكن إلى أي مدى يمكن لهذه الثروات أن تملأ الهوّة العميقة في أزمات الاقتصاد السوري؟

الاقتصاد السوري… محاولة النهوض

قبل الخوض في تأثيرات الاتفاق، لا بد من فهم حجم الكارثة التي يعيشها الاقتصاد السوري اليوم. وفقاً لتقديرات البنك الدولي، انكمش الناتج المحلي الإجمالي لأكثر من 60% منذ عام 2011، وفقدت الليرة السورية 98% من قيمتها، بينما يعيش 90% من السكان تحت خط الفقر. ولا تزال العقوبات الغربية، وعلى رأسها “قانون قيصر”، تحاصر النظام المالي وتحجب سورية عن الدخول إلى المنظومة المالية الدولية، وتعيق أي محاولة لإعادة الإعمار.

ولمّا كانت سورية بحاجة للاعتماد على مواردها لتقليل الاعتماد على الخارج وتخفيف حدة الأزمات، تُمثِّل المناطق الشمالية الشرقية (محافظات دير الزور والحسكة والرقة)، خزاناً استراتيجيّاً لسورية، كان خارج سيطرة الحكومة السورية المؤقتة منذ سقوط النظام في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، ودخل إلى حساباتها مع توقيع الاتفاق مع “قسد” في العاشر من مارس/ آذار 2025. تُنتج هذه المنطقة ما يصل إلى 80% من احتياطيات سورية النفطية، التي تُقدر بـ2.5 مليار برميل، بالإضافة إلى حقول غاز مهمة.

وكان الإنتاج النفطي قد انخفض من 380 ألف برميل يومياً عام 2010 إلى أقل من 80 ألف برميل في اليوم، بحسب تقديرات عام 2023، معظمه يُهرب عبر وسطاء إلى دول مجاورة أو يُستخدم محليّاً.

وتمثل المنطقة أيضاً، وخاصة محافظتي دير الزور والحسكة، خزاناً استراتيجياً للغاز الطبيعي في سورية، حيث تقدّر احتياطياتها بنحو 240 مليار متر مكعب من الغاز، حيث تنتج حقول مثل “كونوكو” و”الطابية” و”العُمر” في منطقة دير الزور، قرابة 21 مليون متر مكعب يوميّاً، مُغطيةً نحو 40% من احتياجات سورية المحلية من الغاز، والتي تُستخدم أساساً في توليد الكهرباء وتشغيل المصانع، في حين انخفض الإنتاج إلى أقل من خمسة ملايين متر مكعب يومياً بحلول عام 2023.

ويبلغ إجمالي إنتاج سورية من الغاز الطبيعي ما بين 30 – 35 مليون متر مكعب يومياً يغطي الاستهلاك المحلي، والفائض يذهب للتصدير، في حين بالكاد يصل الإنتاج اليوم إلى نحو عشرة ملايين متر مكعب يومياً من جميع الحقول. أما في قطاع الزراعة، فتحتضن المنطقة 70% من أراضي سورية الزراعية، وتعتبر القلب النابض للزراعة السورية، بما في ذلك حوض الفرات الذي كان يُنتج قرابة 50% من القمح السوري قبل النزاع، و60% من الشعير، وهي محاصيل أساسية لتوفير رغيف الخبز الذي يمثل المادة الأساسية على المائدة السورية.

وتبلغ مساحة الأراضي القابلة للزراعة في المنطقة نحو 1.2 مليون هكتار، أي نحو 40% من إجمالي الأراضي الزراعية السورية، وإضافة إلى زراعة القمح يزرع فيها القطن والشعير والخضروات، وتعتمد نسبة كبيرة من سكان المنطقة على الزراعة مصدرَ دخل رئيسياً، وتشكل الزراعة 25% من الناتج المحلي الإجمالي السوري.

الاتفاق… أرقامٌ مُتفائلة

وسط تحديات كبيرة من نافلة القول إن الاستعادة الرسمية لهذه المناطق قد لا تعني بالضرورة عودة فورية لكامل الإنتاج، في ظل العقبات اللوجستية والسياسية التي تظلّ كابحاً رئيسيّاً، إذ تعرّضت منشآت النفط في دير الزور والحسكة لتخريب واسع من قبل تنظيم داعش، ثم القصف الروسي والأميركي والتركي لاحقاً والعمليات العسكرية التي استمرّت لسنوات، إضافة إلى حجم الفساد المستشري في التعاطي مع ملف النفط في المنطقة.

وتتطلب إعادة تأهيلها استثمارات ضخمة قد تصل إلى مليارات الدولارات وخبرات تقنية غائبة حالياً، وبحاجة لرفع العقوبات عنها لتمكين الشركات من الدخول وإعادة الترميم وتأهيل الآبار لعودة الإنتاج لطبيعته.

وفيما لو نجحت سورية في استعادة إنتاجها النفطي إلى 200 ألف برميل يوميّاً، أي حوالي نصف مستويات ما قبل العام 2011، فقد تساهم في سد 80% من الاحتياجات المحلية للنفط والتي تقدر بحوالي 250 ألف برميل يومياً، وتبلغ قيمتها بالسوق بالعالمية حوالي ملياري دولار (على افتراض سعر 60 دولاراً للبرميل) ستشكل وفراً للخزينة العامة، إضافة إلى عودة التيار الكهربائي لسابق عهده وانخفاض تكاليف الإنتاج وانعكاسها على القوة الشرائية للسكان.

كما أن عودة المنطقة الشمالية الشرقية والتي تلقب بـ”سلة غذاء سورية” ستساهم في انتعاشة الاقتصاد الزراعي أكثر بعد سلسلة من الخسائر منيت بها الدولة خلال السنوات الماضية، حيث شهد إنتاج القمح انخفاضاً من أربعة ملايين طن سنويّاً إلى أقل من مليون طن، ومن شأن استعادة الزراعة تُقلّص فاتورة استيراد الغذاء، وقد تسمح بالتصدير مجدداً. وقد يدفع الاتفاق الجديد دولاً مثل الصين وتركيا والسعودية للاستثمار في سورية، مستفيدة من تراجع الوجود الأميركي وحاجة الدولة الماسّة للاستثمار في قطاع الطاقة والزراعة.

الاتفاق ليس مجرد صفقة اقتصادية عابرة، بل خطوة نحو إعادة دمج المكون الكردي مع بقية المكونات السورية، بعد سنوات من “الإدارة الذاتية”. وقد يُشكّل سابقة لتفكيك الانقسامات الجغرافية – الاقتصادية التي غذَّتها النزاعات طوال السنوات الماضية. وعلى الرغم من الجانب المشرق لتوقيع الاتفاق، لكن يجدر الانتباه لجملة من التحديات التي قد تواجه الطرفين، ولعلّ أهمها الانقسام الأيديولوجي بين “هيئة تحرير الشام” و”قوات سوريا الديمقراطية”، وإرث العنف، إذ لطالما حاربت فصائل المعارضة “قسد” بدعم من تركيا، واشتركت الأخيرة في معارك مع النظام ضد فصائل المعارضة أيضاً.

لذا سيتوقف نجاح الاتفاق على حجم الانفتاح السياسي من قبل الطرفين والاتفاق على عقد اجتماعي يضمن حقوق الجميع ويعيد بناء الثقة. والتحدي الآخر مرتبط بالتدخل الخارجي، إذ لا تزال واشنطن تدعم “قسد” وسط معارضة تركيا لهذا الدعم، وثالث تلك التحديات مرتبط بإدارة الثروات؛ إذ تطالب الحكومة السورية بالسيادة الكاملة على الحقول، فهل تنجح في إقرار آلية توزيع عادلة للثروة وتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة لجميع المحافظات انطلاقاً من منطقة شرق الفرات؟

رابع التحديات، هو العقوبات الغربية، فعلى الرغم من تجميد بعضها لمدة عام، إلا أن هذا الملف يحتاج لوقت طويل لحين الانفكاك من هذه العقوبات. أخيراً، لا شك أن استعادة السيطرة على النفط والغاز والزراعة في الشمال الشرقي خطوة ضرورية، لكنها ليست كافية لإنقاذ الاقتصاد السوري. التعافي الحقيقي يتطلب حلّاً سياسيّاً شاملاً يفتح الباب أمام رفع العقوبات. وإصلاحات مؤسسية لمحاربة الفساد وضمان توزيع عادل للثروة، وتنمية اقتصادية لكافة المحافظات وسكانها، واستثمارات دولية غير مشروطة بأجندات إقليمية.

العربي الجديد

—————————

فرص شراكة أميركية-تركية في سوريا/  فادي حيلاني

23/3/2025

منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، تميزت السياسة التركية تجاه هذا الحراك الشعبي بتعدد أوجهها وتغير مساراتها، إذ انتقلت من دعم الإصلاحات السياسية والسعي إلى تغيير النظام في بداية الثورة، إلى التدخلات العسكرية المباشرة لاحقًا، لا سيما ضد القوى الكردية في شمال سوريا.

وقد أفضى هذا التدخل إلى تداعيات عميقة على العلاقات التركية- الأميركية، حيث وجدت أنقرة نفسها في معادلة معقدة بين تحالفها الإستراتيجي مع واشنطن ضمن إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبين موقفها المناهض لقوات سوريا الديمقراطية، التي حظيت بدعم الولايات المتحدة في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

التدخلات العسكرية التركية في سوريا: دوافعها وتبعاتها

مع تصاعد الصراع في سوريا، نفذت تركيا سلسلة من العمليات العسكرية شمال البلاد، مدفوعة بمزيج من الهواجس الأمنية الطارئة، والطموحات الإستراتيجية طويلة الأمد.

ففي بادئ الأمر، تبنّت أنقرة موقفًا داعمًا للمعارضة السورية الساعية إلى إسقاط نظام بشار الأسد، انسجامًا مع موجة الربيع العربي التي رفعت لواء التغيير والإصلاح.

غير أن تعقّد المشهد السوري وظهور فاعلين جدد على الساحة دفع تركيا إلى إعادة ترتيب أولوياتها، حيث انحسر تركيزها تدريجيًا من إسقاط النظام إلى مواجهة النفوذ المتنامي للقوى الكردية المسلحة على حدودها الجنوبية.

وقد تأجّج هذا التحوّل الإستراتيجي مع صعود وحدات حماية الشعب الكردية، التي أصبحت العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية، وهو الكيان الذي تنظر إليه أنقرة بعين الريبة باعتباره امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، والذي تصنّفه تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمةً إرهابيةً نظرًا لنشاطه العسكري داخل الأراضي التركية.

وبما أن توسع السيطرة الإقليمية لوحدات حماية الشعب كان يُعدّ تهديدًا وجوديًا للأمن القومي التركي، فقد عمدت أنقرة إلى شنّ حملات عسكرية متتالية للحيلولة دون قيام كيان كردي متصل على طول حدودها الجنوبية، وهو ما كانت ترى فيه مقدمةً لإقامة حكم ذاتي كردي قد يُحفّز الطموحات الانفصالية داخل تركيا ذاتها.

المحطات المفصلية في التدخل العسكري التركي

كانت عملية “درع الفرات” (2016) أولى الحملات العسكرية التركية الكبرى، وقد استهدفت في آنٍ واحد تنظيم الدولة الإسلامية والقوات الكردية في الشمال السوري، وأسفرت عن إنشاء منطقة أمنية عازلة تمتد بين مدينتي جرابلس والباب، خاضعة للنفوذ التركي.

وفي عام 2018، أطلقت أنقرة عملية “غصن الزيتون”، التي ركّزت على عفرين، المعقل الكردي الإستراتيجي، وانتهت بسيطرة القوات المدعومة من تركيا على المدينة، مما أدى إلى نزوحٍ واسع النطاق للسكان الأكراد، في تطور أثار انتقادات دولية حادة.

ثم جاءت عملية “نبع السلام” عام 2019، التي استهدفت شمال شرق سوريا، في محاولةٍ لتوسيع نطاق السيطرة التركية وتقليص النفوذ الكردي في المنطقة.

وخلال هذه العمليات، رأت أنقرة في تدخلاتها ضرورةً أمنية لا تحتمل التأجيل، فيما وُجهت لها انتقادات حادة؛ بسبب تداعياتها الإنسانية، لا سيما فيما يتعلق بعمليات التهجير القسري للسكان الأكراد، فضلًا عن اعتمادها على الجيش الوطني السوري، وهو تحالف من الفصائل السورية المعارضة المدعومة تركيًا، في تنفيذ عملياتها العسكرية.

العلاقات التركية- الأميركية: التوتر المتصاعد بين الحلفاء

لم تكن هذه الحملات العسكرية بمعزلٍ عن تداعياتها على العلاقات التركية- الأميركية، إذ تزامن توسع النفوذ التركي في شمال سوريا مع تعمق الشراكة بين واشنطن وقوات سوريا الديمقراطية، التي اعتبرتها الولايات المتحدة ركيزةً أساسية في إستراتيجيتها لمكافحة الإرهاب.

فقد قامت واشنطن بتزويد القوات الكردية بالأسلحة والدعم الجوي والمعلومات الاستخباراتية، نظرًا لفاعليتها في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية.

غير أن هذا الدعم أثار حفيظة أنقرة، التي رأت في تسليح الأكراد تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، متهمةً الولايات المتحدة بأن الأسلحة التي تقدمها لمحاربة تنظيم الدولة يتم تسريبها إلى المجموعات المسلحة الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني.

ورغم الاحتجاجات التركية المتكررة، تمسّكت واشنطن بموقفها، معتبرةً الأكراد شركاء لا غنى عنهم في الحرب ضد الإرهاب، مما أدى إلى مواجهات دبلوماسية متكررة بين الجانبين، وجعل الحليفين في الناتو في وضع غير مسبوق، حيث تدعم كلٌّ منهما أطرافًا متصارعة على الأرض السورية.

وقد أسهم هذا التباين في وجهات النظر في تعكير صفو العلاقات الثنائية، حيث باتت الخلافات حول سوريا جزءًا من التوتر الأوسع بين البلدين، انعكس سلبًا على التنسيق الإستراتيجي بينهما، سواء في القضايا الإقليمية أو في حلف الناتو.

الإطاحة بالأسد والقيادة الجديدة في سوريا

أرسى سقوط نظام الأسد في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2024 متغيرًا جديدًا في المشهد السياسي السوري، إذ أثار الفراغ في السلطة مخاوف جمّة من عودة تنظيم الدولة الإسلامية إلى لملمة شتاته، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى النظر في زيادة دعمها لقوات سوريا الديمقراطية، حفاظًا على الاستقرار، واستمرارًا في جهود مكافحة الإرهاب.

في المقابل، شدّدت تركيا من حملاتها العسكرية ضد القوات الكردية، ساعية إلى تفكيك سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على المناطق التي تحكم قبضتها عليها.

وقد أفضى هذا التصعيد إلى مواجهات مباشرة بين الفصائل المدعومة من تركيا وقوات سوريا الديمقراطية، مما زاد من تعقيد المشهد وألقى بظلاله على العلاقات الأميركية- التركية.

وكان لهجوم موالين لنظام الأسد على قوات الأمن التابعة للحكومة الجديدة في مارس/ آذار عام 2025 في محاولة لاستعادة نفوذهم المفقود الذي سرعان ما تحوّل إلى موجة من الاقتتال الطائفي، العامل الأهم في دعم وتسريع الاتفاق بين قوات سوريا الديمقراطية والإدارة السورية في دمشق؛ بهدف رأب الصدع الداخلي والحفاظ على وحدة البلاد في مواجهة شبح التقسيم والصراع المفتوح.

فقد نص هذا الاتفاق على إدماج قوات سوريا الديمقراطية في مؤسسات الدولة السورية، مما يشكل نقطة تحول مفصلية في الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، وعلى موازين القوى بين الولايات المتحدة وتركيا في المشهد السوري المتأزم.

وقد لعبت الولايات المتحدة، بوصفها الحليف الوثيق لقوات سوريا الديمقراطية في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية، دورًا رئيسًا في توجيه تلك القوات نحو الاتفاق مع دمشق.

ويأتي هذا التحرك الإستراتيجي متوافقًا مع رؤية واشنطن الأوسع الهادفة إلى ترسيخ وحدة سوريا واستقرارها، تمهيدًا لخفض منظّم لوجودها العسكري في المنطقة.

ومن خلال دمج قوات سوريا الديمقراطية في البنية الوطنية السورية، تسعى واشنطن إلى درء مخاطر الصراع السياسي والعسكري الذي قد يكون سببًا للجماعات المتطرفة لتعيد لملمة شتاتها.

أما تركيا، فقد جاء موقفها إزاء هذا التطور مشوبًا بالتفاؤل الحذر. إذ لطالما نظرت أنقرة إلى قوات سوريا الديمقراطية، ولا سيّما وحدات حماية الشعب التي تشكل ركيزتها الأساسية، على أنّها امتداد لحزب العمال الكردستاني، الذي تدرجه ضمن التنظيمات الإرهابية.

وإن كان إدماج هذه القوّات في المنظومة العسكرية والإدارية للدولة السورية قد يخفّف من المخاوف الأمنية لأنقرة عبر إنهاء الوجود العسكري الكردي المستقل على حدودها الجنوبية، فإنها مع ذلك تبقى على أُهْبة الاستعداد واليقظة، مشددة على ضرورة نزع سلاح وحدات حماية الشعب واندماجها الكامل في الجيش السوري، دون أن تظل لها أي قدرات عسكرية مستقلة.

وفي ظل هذه المستجدات، باتت العلاقات الأميركية- التركية في سوريا ماضية نحو مرحلة جديدة من التعاون المشوب بالحذر، وإعادة ضبط الحسابات الإستراتيجية. إذ يشترك الطرفان في مصلحة كبرى تتمثل في ضمان استقرار سوريا والحيلولة دون عودة الجماعات المتطرفة إلى الواجهة.

وقد يفضي دعم الولايات المتحدة لاتفاق قوات سوريا الديمقراطية مع دمشق إلى تهدئة بعض المخاوف التركية بشأن النزعات الانفصالية الكردية، مما قد يفضي إلى تنسيق مستدام بين واشنطن وأنقرة.

بيد أنّ مدى استدامة هذا التعاون سيظل رهينة بمدى تنفيذ الاتفاق، لا سيّما فيما يخص تفكيك القدرات العسكرية لوحدات حماية الشعب وضم مقاتليها إلى جيش الدولة السورية.

وعلاوة على ذلك، فإن الانفتاح الدبلوماسي الأخير لتركيا تجاه دمشق، والذي تجلّى في زيارات رفيعة المستوى تزامن مع تصاعد العنف الطائفي، يؤكد سعي أنقرة للعب دور بناء في إعادة إعمار سوريا، وتفعيل مسار العملية السياسية.

وقد يمهد هذا التقارب لآفاق أرحب من التعاون الأميركي- التركي في سوريا، بشرط أن يتمكن الطرفان من مواءمة أهدافهما الإستراتيجية، ومعالجة هواجسهما الأمنية المشتركة بروح من الشفافية والتفاهم المتبادل.

الطريق إلى الأمام

قد يُتيح هذا المشهد الجيوسياسي المتغير في سوريا فرصة مهمة للولايات المتحدة وتركيا للتعاون على الصعيدين؛ الاقتصادي والعسكري، مما يعزز الاستقرار الإقليمي ويعالج الهواجس الأمنية المشتركة.

فعلى الرغم من تباين رؤى البلدين حيال بعض جوانب الصراع السوري في السابق، فإن التحولات المتسارعة على أرض الواقع تهيئ إطارًا للتعاون على أساس المصالح المشتركة.

ومع الاتفاق الأخير الذي يقضي بإدماج قوات سوريا الديمقراطية ضمن كيان الدولة السورية، تبرز إمكانية لأنقرة وواشنطن للتنسيق على إعادة الإعمار الاقتصادي والتدريب العسكري، حيث بوسعهما الإسهام في استقرار سوريا، وكبح عودة التنظيمات المتطرفة، والتصدي لنفوذ القوى الخارجية، مثل إيران وروسيا.

فإعادة إعمار سوريا بعد الحرب تستلزم استثمارات اقتصادية ضخمة، والولايات المتحدة وتركيا في موقع يؤهلهما لقيادة هذه الجهود. فقد خلفت الحرب دمارًا واسعًا في البنية التحتية الحيوية، من طرق ومستشفيات ومدارس وشبكات الطاقة، مما أفضى إلى أزمة إنسانية تُذكي نيران الاضطراب.

ومن شأن إنعاش الاقتصاد أن يخفف من وطأة الفقر، ويحدّ من الظروف التي تسهم في تفشي الأيديولوجيات المتشددة. وهنا تستطيع الولايات المتحدة توظيف نفوذها السياسي والدبلوماسي وتحالفاتها الدولية لتنسيق الاستثمارات في مشاريع إعادة الإعمار، فيما يمكن لتركيا، بفضل قربها الجغرافي وشبكاتها التجارية الممتدة في الشمال السوري، أن تضطلع بدور محوري في إعادة بناء القطاعات الصناعية والزراعية.

وقد انخرطت الشركات التركية بالفعل في مشاريع البنية التحتية في المناطق الواقعة تحت نفوذها، مثل أجزاء من محافظتي حلب وإدلب، وتوسيع نطاق هذه المبادرات إلى مناطق سورية أوسع، تحت إشراف دولي، قد يوفر فرص عمل ويمهد الطريق أمام استقرار اقتصادي طويل الأمد.

علاوة على ذلك، فإن برامج الإغاثة المستهدفة، المدعومة من واشنطن وأنقرة، من شأنها معالجة الاحتياجات الإنسانية العاجلة، وفي الوقت ذاته، تمهيد السبيل لتنمية مستدامة..

أما العقوبات، فهي تمثل حجر الزاوية في مسار التعافي الاقتصادي السوري، لا سيما في ظل الإدارة الجديدة في دمشق، التي تسعى إلى إعادة بناء الدولة عقب الإطاحة بنظام الأسد. فالعقوبات الأميركية المشددة، المفروضة بموجب قانون قيصر، والتي صُممت لإضعاف قبضة النظام السابق على السلطة، باتت اليوم تهدد بإعاقة مساعي الاستقرار وإعادة الإعمار.

وبينما التزمت تركيا في معظم الأحيان بهذه العقوبات، فإنها حافظت على انخراط اقتصادي في المناطق الخاضعة للمعارضة، ما يشي بإمكانية تبني نهج أكثر شمولية في المستقبل.

ومن هنا فإن تعاونًا أميركيًا- تركيًا مشتركًا لإعادة النظر في القيود الاقتصادية، بما يتلاءم مع الإصلاحات التي تجريها الحكومة الجديدة، قد يسهم في تحقيق انتقال سياسي أكثر شمولًا.

ويمكن لواشنطن وأنقرة، من خلال تخفيف العقوبات تدريجيًا مقابل خطوات إصلاحية ملموسة في مجالي الإدماج السياسي وإصلاح القطاع الأمني، أن تهيِّئا الظروف لانطلاقة اقتصادية متجددة.

كما أن هذا التحول من شأنه أن يشجع الدول الخليجية، التي أبدت اهتمامًا بالاستثمار في سوريا، لكنها لا تزال مترددة بسبب الإطار العقابي الحالي، على الانخراط بفاعلية أكبر ضمن إستراتيجية اقتصادية تؤدي لدمج سوريا ضمن المنظومة الاقتصادية الإقليمية، وهذا لن يسهم في إعادة إعمار البلاد فحسب، بل سيحدّ أيضًا من قدرة الخصوم، كروسيا وإيران، على الهيمنة على مستقبلها الاقتصادي.

وفي الجانب العسكري، فإن التعاون الأميركي- التركي ضرورة ملحة لمنع عودة الجماعات الإرهابية وضمان استقرار المناطق المحررة من قبضة تنظيم الدولة. فاستمرار وجود الخلايا المتطرفة في مناطق عدة، ولا سيما في الصحاري الممتدة بين دير الزور وحمص، يشكل تهديدًا دائمًا للأمن.

ولذا فإن تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الجانبين قد يعزز من كفاءة العمليات المضادة للإرهاب، مما يتيح تنفيذ ضربات دقيقة ضد معاقل المتشددين ومعسكرات تدريبهم.

ولطالما اعتمدت الولايات المتحدة على قوات سوريا الديمقراطية كقوة برية في حملتها ضد تنظيم الدولة، بينما نفذت تركيا عمليات عسكرية عابرة للحدود للقضاء على العناصر الإرهابية على طول حدودها الجنوبية.

وبإرساء إطار يسمح بتبادل المعلومات الاستخباراتية حول التهديدات الناشئة وتنسيق العمليات العسكرية، يمكن تحسين فاعلية الجهود الأمنية وتقليل احتمالات التصادم غير المقصود بين الطرفين.

كما أن إدماج قوات سوريا الديمقراطية ضمن الدولة السورية يمثل فرصة لإعادة صياغة الترتيبات الأمنية بما يراعي الهواجس التركية. فلقد عارضت أنقرة على الدوام الإدارة الذاتية للقوات الكردية المحاذية لحدودها، خشية أن تغذي هذه الصيغة النزعات الانفصالية داخل تركيا.

فإذا تمكّنت الولايات المتحدة من الإسهام في إعادة هيكلة الفصائل التابعة لقوات سوريا الديمقراطية ضمن إطار عسكري وطني أوسع، فقد تصبح تركيا أكثر استعدادًا للانخراط في تعاون عسكري يركز على مكافحة الإرهاب بدلًا من النزاعات الإقليمية.

بيدَ أن هذا المسار يتطلب مفاوضات دقيقة، لضمان ألا تنظر الفصائل السورية المدعومة من تركيا إلى هذا الإدماج باعتباره تهديدًا لأمنها.

وقد يكون إنشاء برامج تدريبية مشتركة للقوات الأمنية المحلية، بدعم من الولايات المتحدة وتركيا، وسيلة لتعزيز احترافية المؤسسات العسكرية السورية، وتقليل الاعتماد على التشكيلات المسلحة غير النظامية، التي تؤجّج حالة عدم الاستقرار.

ومع بروز ملامح دولة سورية جديدة، عقب زوال نظام الأسد وإدماج قوات سوريا الديمقراطية في مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية، سيغدو التعاون الأميركي- التركي حجر الأساس في إرساء الاستقرار الإقليمي.

ومن أبرز التحديات الأمنية التي ستواجهها سوريا، تأمين حدودها، التي طالما مثلت معبرًا لتسلل المسلحين وتجارة الأسلحة والسلع غير المشروعة، مما أسهم في تأجيج الاضطراب.

ومن هنا فإن تبني مقاربة مشتركة بين الولايات المتحدة وتركيا في ضبط الحدود، عبر استغلال التكنولوجيا المتقدمة، مثل أنظمة المراقبة الجوية والطائرات المسيرة وآليات تبادل المعلومات الاستخباراتية، قد يعزز الأمن، ويمنع تسلل العناصر المتطرفة.

ويمكن تعزيز عمليات مكافحة التهريب التركية عبر تنسيق مباشر مع القدرات التقنية والاستخباراتية الأميركية، مما يوفر منظومة أمنية أكثر شمولًا وفاعلية.

أما في السياق الإستراتيجي الأوسع، فإن التوافق الأميركي- التركي في سوريا بات ضرورة ملحة. فروسيا وإيران لا تزالان تسعيان للتمسك بحضورهما في البلاد.

غير أن تعزيز التعاون بين واشنطن وأنقرة من شأنه أن يحدّ من توسع الهيمنة الروسية في الغرب السوري ويسهم في تقليص نفوذ المليشيات المدعومة من إيران قرب الحدود مع العراق. وهذا التنسيق لا يفترض بالضرورة تطابق المصالح، بل يكفي إدراك أن العمل المشترك يمنح الطرفين نفوذًا أكبر مقارنة بالتحركات المنفردة أو المتعارضة.

وختامًا، فإن تقارب المساعي الأميركية- التركية في سوريا، ولا سيما في مجالي الإعمار والعمليات العسكرية، قد يكون رافدًا رئيسيًا لاستقرار البلاد.

وبرغم الخلافات السياسية القائمة، فإن واقع الأرض يفرض ضرورة التعاون بما يخدم المصالح الأمنية المشتركة. ومن خلال حوار مستمر، وتعاون اقتصادي، وتنسيق عسكري مستدام، يمكن لواشنطن وأنقرة المساهمة في رسم مسار جديد لسوريا، يحول دون عودة القوى المتطرفة، ويحدّ من هيمنة الخصوم، ويؤسس لنظام إقليمي أكثر توازنًا واستقرارًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

أكاديمي وباحث رئيسي في المجلس الوطني للعلاقات العربية الأمريكية

          الجزيرة

——————————–

مركز مشترك لمحاربة تنظيم “الدولة”.. إدراك إقليمي لخطر قائم

عنب بلدي – حسام المحمود

تحديث 23 أذار 2025

لا تزال مخاطر تنظيم “الدولة الإسلامية” حاضرة في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، قبل أكثر من ثلاثة أشهر، وهي مسألة استشعرتها دول جوار سوريا التي قررت خلال اجتماع جرى في العاصمة الأردنية، عمان، في 9 من آذار الحالي، بذل مجهود جماعي في سبيل محاربة التنظيم.

وخلال البيان الختامي للاجتماع الذي جرى بمشاركة وزراء خارجية الأردن وسوريا والعراق ولبنان وتركيا، بالإضافة إلى وزراء الدفاع ورؤساء هيئات الأركان، ومديري أجهزة المخابرات، جرى الاتفاق على إدانة الإرهاب بكل أشكاله، والتعاون في مكافحته عسكريًا وأمنيًا وفكريًا، وإطلاق مركز عمليات مشترك للتنسيق والتعاون في مكافحة تنظيم “الدولة الإسلامية”، ودعم الجهود ومنابر العمل الإقليمية والدولية القائمة، للقضاء على التنظيم وما يمثله من خطر على أمن سوريا والمنطقة والعالم، والتعامل مع سجون عناصره.

وقد سبقت البيان الختامي كلمات ومداخلات لوزراء الخارجية المشاركين، تمحورت حول ضرورة التوصل لجهد مشترك في هذا السياق، إذ قال وزير الخارجية الأردني، إن الاجتماع بحث التحديات التي تواجه سوريا، والاتفاق على جهد مشترك لمحاربة التنظيم، بينما قال نظيره العراقي، إن الاجتماع ركز على تهديدات “الدولة الإسلامية” في المنطقة، ونمو أعداد قواته في الإقليم.

الوزير العراقي اعتبر أن الدول بحاجة للمبادرة وتبادل المعلومات الاستخباراتية بشأن نمو التنظيم، بما يؤثر سلبًا على أمن المنطقة، مشيرًا إلى أن استقرار العراق ينبع من استقرار سوريا.

وجاء في الاجتماع الذي ستُعقد جولة ثانية منه في تركيا، في نيسان المقبل، تأكيد تركي على توحيد دول جوار سوريا قدراتها لمحاربة التنظيم.

الحديث عن إطلاق هذا المركز لم يتوقف عند هذا الحد، وسلك منحى جديًا عبّرت عنه تصريحات وزير الخارجية العراقي خلال لقائه في بغداد نظيره السوري، حين شدد على ضرورة التعاون دوليًا من أجل القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية”، مؤكدًا أن غرفة العمليات لمحاربته ستبصر النور قريبًا.

خطوة مبررة

رغم الإصرار الدولي على محاربة التنظيمات الإرهابية في سوريا، قبل وبعد رحيل الأسد، والذي تجلى بمواصلة الضربات الأمريكية واستهدافات طيران التحالف الدولي شخصيات من تنظيم “حراس الدين” (فرع القاعدة)، قبل وبعد حل نفسه، بداية العام، فإن تنظيم “الدولة الإسلامية” اقتحم بعد هدوء نسبي، المشهد السوري من بوابة عريضة بعد وقت قصير من سقوط الأسد، ما يبرر السعي الإقليمي لموقف مشترك في محاربته.

اعتبر تنظيم “الدولة”، في كانون الثاني الماضي، أن الفصائل العسكرية المشاركة في عملية “ردع العدوان” (استمرت 11 يومًا وانتهت بإسقاط حكم بشار الأسد)، “بيادق” بيد تركيا والدول الأخرى، وأنها “تنفذ حربًا بالوكالة” بين “البيادق التركية والأذرع الإيرانية”، وقال إن “من يدعو لدولة مدنية في سوريا هو شريك وعميل لليهود والصليبيين وطاغية جديد”.

كما وصف الثورة السورية بأنها “ثورة جاهلية” لأنها تسعى لترسيخ مفهوم الدولة المدنية، وأنها “ثورة وليست جهادًا في سبيل الله”، وأنها ثورة تحرر من نظام قمعي يستأثر بالسلطة بغية الوصول إلى نظام آخر ديمقراطي يتقاسم السلطة.

تهديدات التنظيم لم تقف عند حدود الكلمة والبيانات، وصولًا إلى محاولة تفجير داخل مقام السيدة زينب بريف دمشق، أعلن جهاز الاستخبارات العامة السوري إحباطها، في 11 من كانون الثاني الماضي.

مصدر بجهاز الاستخبارات العامة اتهم تنظيم “الدولة الإسلامية” بالوقوف خلف التخطيط للتفجير، ثم أعلنت وزارة الداخلية اعتقال عدة أشخاص متورطين، ونشرت صورًا تظهر أربعة أفراد قالت إنهم يتبعون للتنظيم.

وفي 18 من آذار، أصدرت وزارة الداخلية السورية تسجيلًا مصورًا تضمن اعترافات لأفراد في خلية قالت إنها تابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” متهمة بمحاولة تفجير عدد من المواقع في سوريا منها في مدينة معلولا، ومنطقة السيدة زينب بريف دمشق، ومتورطة بمقتل “أبو ماريا القحطاني”.

وبحسب الإصدار، فإن هذه الخلية هدفت إلى تنفيذ عمليات تحمل طابع الحساسية القصوى في سوريا سعيًا منها لزعزعة الأمن والاستقرار وزرع الفوضى في البلاد.

وأكدت الوزارة مسؤولية هذه الخلية عن مقتل القيادي السابق في “هيئة تحرير الشام”، ميسر الجبوري، الملقب بـ”أبو ماريا القحطاني”، الذي قتل بانفجار عبوة ناسفة استهدفته في منطقة سرمدا بريف إدلب الشمالي، في نيسان 2024.

الخلية خططت لتنفيذ عدد من الهجمات عقب سقوط النظام السوري في كانون الأول 2024، مستغلة الحالة الأمنية التي كانت تعيشها سوريا، بحسب الإصدار الذي نشرته الداخلية.

ووفق اعترافات الخلية، فإنه كان مخططًا أن تتركز الهجمات على “الأقليات” من مختلف الطوائف في سوريا “لتأجيج الرأي العام والدولي بهذه القضية”.

كما اعترفت الخلية بتخطيطها للهجوم على كنيسة في مدينة معلولا بسيارة مفخخة تزامنًا مع عيد رأس السنة الميلادية، لكن التشديد الأمني حال دون تنفيذ الخطة.

“الهيئة” إلى جانب “قسد” ضد “التنظيم”

الباحث في الشأن السياسي وجماعات ما دون الدولة عمار فرهود، أوضح لعنب بلدي أن هذه الخطوة مهمة وتفيد الإدارة السورية في كسب الشرعية التي تبحث عنها، من خلال المجتمع الدولي، وليس المجتمع السوري فقط.

ويرى فرهود أن مكافحة التنظيم بالتعاون مع المجتمع الدولي خطوة متقدمة جدًا في الحصول على الشرعية والاعتراف المطلوب، لا سيما أن التنظيم لا يشكل تهديدًا محليًا سوريًا فقط، بل هو تهديد عابر للحدود، ومصنف على لوائح الإرهاب الدولية، وكان السبب المعلن للوجود الأمريكي في سوريا، وإدخال الإدارة السورية الجديدة واعتبارها شريكًا في مكافحة التنظيم خطوة مهمة في السياق السياسي.

ومن المستبعد أن تعول الإدارة السورية على هذه الخطوة للحصول على الاعتراف الكامل، في ظل وجود مطالب للمجتمع الدولي قبل الوصول إلى هذه النقطة، مع الإشارة إلى وجود منافس قوي لدمشق في ملف مكافحة التنظيم، وهو “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تمتلك الخبرة وتدير السجون والمخيمات، بالإضافة إلى قتالها للتنظيم إلى جانب الولايات المتحدة منذ سنوات.

“التنظيم يتأقلم بسرعة مع المتغيرات التي تجري على الأرض، ولذلك من المستبعد أن تحقق الأدوات القديمة في مكافحة التنظيم نفعًا، بسبب تغيرات التنظيم ووجود قبضة أمنية رخوة مع انفتاح الجغرافيا السورية على بعضها وإمكانية التحرك ونقل السلاح وانتشاره في سوريا”، أضاف الباحث.

ومن العوامل التي يمكن أن تضعف قدرات التنظيم، إلى جانب مكافحته من قبل “قسد”، إضافة “تحرير الشام” إلى هذه الملف، لا سيما أن “الهيئة” من خلفية مشابهة وذات خبرة، وينتمي الفريقان لنفس المدرسة الأمنية والعسكرية والدينية، ما يجعل مكافحة “الهيئة” للتنظيم إضافة مهمة، فيمكن أن تطور خطابًا شرعيًا قادرًا على فض عناصر “التنظيم” عنه، بالإضافة إلى خبرة أمنية وقدرة على فهم آلية عمل التنظيم، لا سيما أنه لم ينفذ عمليات حقيقية في المناطق التي كانت تسيطر عليها “تحرير الشام”.

والقدرة على الحكم على هذا التحالف بحاجة لوقت واختبار في الميدان، مع إمكانية أن تمنع هذه الخطوة بشكل كبير من الاستفادة من الأراضي السورية لشن عمليات داخلها، أو استخدام سوريا لعمليات خارجية، وفق الباحث عمار فرهود.

وكان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، دعا، في 13 من شباط الماضي، السلطات الجديدة في سوريا إلى دراسة الشراكة مع التحالف الدولي المتمركز في العراق لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” لمنع زعزعة استقرار سوريا في فترتها الانتقالية.

وفي كلمته الختامية لفعاليات المؤتمر الدولي حول سوريا الذي انعقد في باريس، أكد ماكرون أن الهدف الأول هو الأمن وضمان عدم تحول سوريا مرة أخرى إلى منصة لوجستية للميليشيات المرتبطة بإيران والتي تشارك عبر أجندتها في زعزعة الاستقرار الإقليمي.

وأضاف، “إذا وافقت سوريا على مقترح للتعاون، فإن فرنسا ستنظر إليه ليس فقط بإحسان، بل أيضًا بالتزام”، مبديًا استعداد فرنسا للقيام بأعمال مشتركة تحترم السيادة السورية، لمحاربة المجموعات الإرهابية، كما شدد على وجوب الاستمرار في محاربة “المنظمات الإرهابية” التي تنشر الفوضى في سوريا وتريد تصديرها، مؤكدًا أن محاربة “التنظيم” وجميع الجماعات الإرهابية “أولوية مطلقة”.

كما دعت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، الحكومة السورية للانضمام إلى التحالف المناهض لتنظيم “الدولة”، وذلك في مؤتمر صحفي بدمشق، حضرته عنب بلدي.

ويمتلك التنظيم خلايا نائمة داخل سوريا، وهي مسألة لم ينفِها وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، في مقابلة مصورة مع التلفزيون “العربي”، في 21 من كانون الثاني الماضي، حين تحدث عن خطر موجود لتنظيم “الدولة الإسلامية”، والعمل على مكافحته من قبل وزارة الدفاع وجهاز الأمن السوري.

وفي وقت سابق، كانت “هيئة تحرير الشام” (نواة السلطة السياسية والعسكرية في سوريا الآن) تعلن باستمرار عن القبض على قياديين في مناطق نفوذها، شمال غربي سوريا، حيث تحتوي سجون إدلب التي كانت تحت نفوذ “الهيئة” على العديد من قياديي التنظيم.

———————————-

مظلوم عبدي قائد «قسد»… الذي وقّع اتفاق الدمج في الدولة السورية مع رئيسها أحمد الشرع

قواته تسيطر على مناطق واسعة بشمال شرقي سوريا

دمشق: كمال شيخو

22 مارس 2025 م

تصدّر اسم مظلوم عبدي، القائد العام لميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) على صعيد الساحة السورية، بعد توقيعه اتفاق الدمج ضمن مؤسسات الدولة السورية مع رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، ليس كفصيل عسكري، كما سبقه باقي الفصائل المسلحة، ولكن ككتلة عسكرية واحدة. جاء هذا مع تأكيده على وحدة الأراضي ورفض التقسيم، ولقد نشر تغريدة له على حسابه في منصة «إكس»، أكد فيها المضي قدماً في هذه الفترة الحساسة، للعمل من أجل ضمان مرحلة انتقالية تعكس تطلعات كل السوريين في العدالة والاستقرار؛ إذ قال: «نحن ملتزمون ببناء مستقبل أفضل، يضمن حقوق جميع السوريين، ويحقق تطلعاتهم في السلام والكرامة». واعتبر عبدي الاتفاق فرصة حقيقية وتاريخية لبناء سوريا جديدة تحتضن جميع مكوّناتها، وتضمن حسن الجوار، في إشارة إلى «الجارة» الإقليمية تركيا.

وُلد مظلوم عبدي عام 1967 في قرية حلنج بريف مدينة عين العرب (كوباني) لعائلة سورية كردية، وتلقى تعليمه الجامعي في قسم الهندسة المدنية بجامعة حلب خلال ثمانينات القرن الماضي، ونشط هناك سياسياً في الجامعة. ولم يلبث أن اعتقله النظام السوري السابق غير مرة بسبب نشاطه المعارض. ومن ثم غادر سوريا قبل أن يعود إليها مع بداية الثورة في ربيع 2011، ويغدو من أبرز الشخصيات العسكرية.

«وحدات حماية الشعب»

برز عبدي بوصفه قائداً عسكرياً منذ بداية الحرب السورية في أعقاب تأسيسه ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية بنهاية 2012، ثم شكّلت «الوحدات» فيما بعد ميليشيا أوسع قاعدة هي ميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد).

«قسد» أسسها عبدي عام 2015، بالتحالف مع فصائل عربية ومسيحية بدعم من «قوات التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة. وذكر في البيان التعريفي الأول بـ«قسد» أنها تكتل عسكري وطني يضم الأكراد والعرب والتركمان والسريان، وأنها تهدف إلى القضاء على تنظيم «داعش».

غير أنه بعد انسحاب قوات نظام الأسد من المناطق ذات الكثافة الكردية، فُتح المجال أمام عبدي وأكراد سوريا لتوطيد نفوذهم، وتأسيس إدارة شبه ذاتية في ظل استمرار الدعم الأميركي. وحالياً يقدّم مظلوم عبدي نفسه على أنه شخصية قيادية كردية تسعى إلى الدفاع عن قضية الأكراد السوريين واستعادة حقوقهم التي سلبتها الحكومات المتعاقبة، بينما تصنفه تركيا على قوائم الإرهاب ووضعته على لوائحها الحمراء، ولقد طالبت الولايات المتحدة بتسليمه أكثر من مرة.

أسس تفاهمه مع نظام دمشق الجديد

تنظيمياً، نجح عبدي في المحافظة على هيكلية «قسد» بوصفها كتلة عسكرية واحدة في الجيش الجديد لسوريا، وإبقاء هياكل الإدارة الذاتية المدنية وإلحاقها – كما هي – بوزارات الحكومة، على أن يخدم مقاتلو «قسد» في مدنهم وبلداتهم بشمال شرقي سوريا، والحصول على حصة ثابتة من الثروات النفطية والاستراتيجية، مع الاحتفاظ بسيطرتها على المعابر الحدودية وإدارتها، ونصوص في الدستور تضمن حقوق الأكراد القومية والاعتراف بلغتهم الأم.

يرى عبدي أن سوريا الجديدة لا يمكن أن تنعم بالسلام من دون حل القضية الكردية سلمياً. وهو يطالب علناً بتأسيس سلطة لا مركزية، والاعتراف بحقوق الشعب الكردي القومية والثقافية والسياسية في الدستور الجديد، وفي المقابل تعهد بأنَّ الجانب الكردي سيسعى لأن يكون جزءاً من الحكم الجديد في دمشق.

واقعياً، يراهن عبدي على وجود القوات الأميركية وتحالفه معها تحت عباءة «قوات التحالف الدولي» في حربها ضد تنظيم «داعش» الإرهابي، إلى جانب التعداد العسكري لقواته وانتشارها وتوزّعها في 3 محافظات متصلة جغرافياً، وتشكل مناطق سيطرته الحالية نحو 20 في المائة من مساحة البلاد، وإلى القدرات القتالية والآيديولوجية لغالبية المقاتلين، بالذات الأكراد منهم الذين يتولون قيادة «قسد»، والذين خضعوا لتدريب الجيوش النظامية من قبل قوات التحالف، وتحديداً الولايات المتحدة.

شريك رئيس لواشنطن

يقود عبدي قوات تمتلك أسلحة متطورة ثقيلة حصلت عليها من قوات التحالف، وكان لافتاً إعلان «قسد» أخيراً امتلاكها طائرات مسيّرة، ومضادات للطيران المسير وأسلحة نوعية غربية، في مواجهة التهديدات التركية وأي تهديدات قد تأتي من أي فصيل عسكري منافس.

وحقاً، أصبح عبدي شريكاً محلياً رئيسياً للتحالف الدولي وواشنطن، وقاد حروباً ومعارك ضد التنظيم؛ أبرزها معركة عين العرب (كوباني) مسقط رأسه حيث دافع عن مدينته باستماتة، ودحر فلول «داعش» ملحقاً به أكبر انتكاساته في أوج تقدمه العسكري. وفي عامي 2016 و2017 سيطر عبدي على محافظة الرقة ومدينتي الطبقة (جنوبي نهر الفرات) ومنبج (في ريف حلب الشرقي)، وقاد معركة الباغوز والقضاء على خلافة «داعش» المزعومة، وسيطر على مناطقها الجغرافية والعسكرية عام 2019.

غير أن اتهام تركيا «قسد» وقائدها مظلوم عبدي بالإرهاب، واعتبارها امتداداً لحزب «العمال الكردستاني» المحظور لديها، شكّلا تحدياً كبيراً في تقدم العلاقة مع رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع؛ إذ يخوض حزب «العمال الكردستاني» التركي تمرداً عسكرياً منذ 45 سنة راح ضحيته عشرات الآلاف. وفي المقابل، تهدد أنقرة بشن هجوم بري عسكري جديد على غرار العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا، ضد «قسد» في المناطق الخاضعة لنفوذها. وبالفعل، سيطرت تركيا خلال السنوات الماضية عبر عملية «غصن الزيتون» على مدينة عفرين، مارس (آذار) 2018، وفي عملية «نبع السلام» سيطرت مع حلفائها على مدينتي رأس العين (بمحافظة الحسكة)، وتل أبيض (بمحافظة الرقة).

عبدي أعرب أخيراً عن اعتقاده بأنَّ سلطة دمشق بقيادة الشرع «تتعرّض لضغوط من جانب تركيا» بهدف اتخاذ خطوات ضد المناطق التي تسيطر عليها «قسد». وأشار إلى أنَّ قواته في واقع الأمر في «حالة حرب» مع تركيا، داعياً إلى وقف إطلاق النار بين الجانبين، وهو ما ترفضه أنقرة.

ترتيب علاقة

من جهة ثانية، يرى مراقبون أن أولويات الشرع وعبدي تبقى عند حدود ترتيب العلاقة بين العاصمة دمشق ومناطق الإدارة الذاتية في القامشلي والرقة، تفاوضياً عبر الحوارات المباشرة. ويعتبرون أن طريق الحوارات السياسية والتوافقات سيظل أقل كلفة من مواجهة عسكرية محتملة مع تركيا، نظراً لأهمية مناطق سيطرة «قسد» وعديدها وتحالفاتها المحلية والدولية.

عبدي قال بعد عقده أول لقائه مع الشرع في «قصر الشعب» بدمشق خلال يناير (كانون الثاني) الماضي، إن اللقاء كان إيجابياً، وأعلن عن اتفاقه مع السلطة الجديدة على وحدة وسلامة الأراضي السورية، ورفض أي مشاريع تقسيم تهدد وحدة البلاد.

ولكن هذا، في حين تدور معارك في الشمال السوري بين المقاتلين الأكراد وفصائل مسلحة مدعومة من تركيا، وهذه الأخيرة تحاصر مدينة عين العرب (ريف حلب الشمالي الشرقي)، كما انتزعت مدينة منبج القريبة بعدما سيطرت على بلدة تل رفعت الاستراتيجية بريف حلب الشمالي، وباتت هذه المدن السورية خاضعة للنفوذ التركي.

قوات منضبطة وإدارة مدنية… ودعم أميركي

لقد نجح مظلوم عبدي في جعل «قسد» قوة عسكرية منضبطة وفق قواعد الجيوش النظامية، مهمتها حماية الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وبناء نظام إداري محلي يغطي مناطق سيطرتها. وأيضاً نجح عبر هذه الإدارة في توفير الخدمات بشكل أفضل من نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، ودفع رواتب أعلى (مليون ومائتي ألف) تعادل 120 دولاراً أميركياً، ولدى هذه الإدارة اليوم نحو 250 ألف موظف بينهم 100 ألف عسكري وعنصر أمن، وفق تقرير للمجلس الأوروبي للشؤون الخارجية.

هذا، ويرى البعض أن ما يميّز النموذج السياسي لـ«قسد» والإدارة الذاتية بقيادة عبدي هو ابتعاده عن السعي لتأسيس دولة قومية كردية منفصلة، وهو خيار استراتيجي واقعي يعكس حقائق الجغرافيا والديموغرافيا. وتقوم رؤيته على مفهوم ديمقراطية

الشعب و«إدارة لا مركزية» تعطي أولوية للمجالس المحلية والتشاركية المجتمعية، ومبادئ المساواة بين الجنسين ورئاسة مشتركة بين الرجل والمرأة، والتعددية العرقية والدينية بوصفها ركائز أساسية للحكم.

وعموماً، حافظ هذا الزعيم الكردي على الأمن والأمان في معظم المناطق الخاضعة لنفوذه، رغم بقاء الوضع في بعض المناطق متقلباً وسط استمرار نشاط خلايا «داعش»، والتهديدات التركية بشن عملية عسكرية واسعة ضد تلك المناطق، ما دفع واشنطن، شريكته الأساسية، إلى تكثيف جهودها الدبلوماسية لتجنب مواجهة عسكرية كبرى في هذه الفترة الحساسة بتاريخ سوريا.

بالفعل، يتمتع عبدي بدعم كبير من الولايات المتحدة ودول التحالف الدولي إلى جانب علاقاته المتوازنة مع روسيا. وعلى الرغم من الانسحاب الجزئي للقوات الأميركية من سوريا في 2019، استمرت العلاقة بين عبدي وواشنطن، خصوصاً في مجال مكافحة الإرهاب وضمان استقرار مناطق سيطرة «قسد»، ولديه اليوم علاقات وثيقة مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي أثني على دوره في محاربة «داعش»، ما أثار غضب أنقرة.

ولكن، المؤكد أن توقيت توقيع الاتفاق بين الشرع وعبدي مثّل لحظة فارقة للدولة السورية الجديدة، ورفع معنويات السوريين، ووفّر دفعة لسلطة الحكم الانتقالي، معزّزاً فرصها في العبور بسلام من المرحلة الانتقالية.

الشرق الأوسط

——————————

 نورث برس تنشر مسودة الوثيقة السياسية المعدة “للمؤتمر الكردي” في سوريا

22-03-2025

حصلت نورث برس على بنود مسودة الوثيقة السياسية المعدة من قبل اللجنة التحضيرية “للمؤتمر الكردي” في سوريا، وهي رؤية تشمل المجال الوطني السوري والمجال القومي الكردي.

وتتألف اللجنة التحضيرية “للمؤتمر الكردي” من أحزاب “الوحدة الوطنية” وأحزاب كردية من خارج الإطارين في سوريا، ما عدا أحزاب المجلس الوطني الكردي التي تلقت دعوة للمشاركة في تحضير المؤتمر وحضوره، لكنها لم تحسم موقفها بعد، وفقاً للجنة.

المجال الوطني السوري

تتضمن المسودة أن الجمهورية السورية هي دولة ديمقراطية متعددة القوميات والأثنيات والثقافات والأديان والطوائف، يضمن دستورها حقوق كافة المكونات السورية من عرب وكرد وسريان وآشوريين وشركس وتركمان وعلويين ودروز وإيزيديين ومسيحيين، وبمبادئ فوق دستورية.

في البند الثاني من المسودة، جاء أن تلتزم الدولة السورية بالعهود والمواثيق الدولية وحقوق الإنسان ومبدأ المواطنة المتساوية، وأن يكون نظام الحكم في سوريا برلمانيًا يعتمد التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة وفصل السلطات، وبأن تكون سوريا دولة لا مركزية سياسية تضمن التوزيع العادل للسلطة والثروة بين المركز والأطراف.

المجال القومي الكردي

الوثيقة السياسية تدعو للإقرار الدستوري بالوحدة الإدارية والسياسية للمناطق الكردية، وأن يضمن الدستور السوري حقوق الشعب الكردي السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ويحافظ على الخصائص التاريخية والبنى الديموغرافية الأصيلة للمناطق الكردية.

وتقر الوثيقة بالوجود القومي للشعب الكردي في سوريا كشعب أصيل على أرضه التاريخية، وضمان حقوقه القومية دستوريًا وفق العهود والمواثيق الدولية.

كما تدعو الوثيقة إلى الاعتراف الدستوري باللغة الكردية كلغة رسمية إلى جانب اللغة العربية في البلاد، وضمان التعليم والتعلم بها، والاعتراف الدستوري بالإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا ومؤسساتها الإدارية والأمنية كنموذج للامركزية وحل لقضايا التنوع القومي والعرقي والديني والطائفي في سوريا.

مناهج الإدارة الذاتية

تؤكد الوثيقة على حق التعليم باللغة الكردية للمواطنين الكرد في المناطق السورية، والاعتراف بالمؤسسات التربوية والتعليمية والمناهج الخاصة بالإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا.

وترى الوثيقة أن قوات سوريا الديمقراطية “قسد” هي جزء من الجيش الوطني السوري، تدافع عن الأراضي السورية وتحميها تجاه أي هجوم أو خطر خارجي محتمل، في حين أن وحدات حماية المرأة هي قوات الدفاع المشروع عن المرأة والمجتمع، وتنظم نفسها بشكل خاص ضمن “قسد”.

كما تدعو الوثيقة إلى تقدير تضحيات جرحى الحرب “وشهداء روج آفا كردستان” – شمال وشرق سوريا، باعتبارهم شهداء الثورة السورية، ومساندة عوائلهم وتضمين حقوق ذويهم في الدستور الجديد.

وتتضمن الوثيقة أيضًا اعتبار الشباب القوة الفاعلة في المجتمع، وأن له الدور الأساسي في حماية المكتسبات، ويجب ضمان مشاركته وتمثيله بشكل عادل في كافة مؤسسات الدولة.

علم ونشيد الدولة

وجاء في المسودة أن اسم الدولة وعلمها ونشيدها الوطني يجب أن يعبر عن التعدد القومي والثقافي للمجتمع السوري، مع التأكيد على حيادية الدولة تجاه الأديان والمعتقدات، وحق ممارسة الشعائر الدينية، والاعتراف بالديانة الإيزيدية كديانة رسمية في الدولة. كما يجب اعتماد هوية وطنية جامعة تراعي خصوصيات المكونات المختلفة، وضمان المساواة الدستورية بين الرجل والمرأة وتمثيلها في كافة المؤسسات.

كما تشير الوثيقة إلى حماية حقوق الأطفال المعلنة في الاتفاقية الصادرة عن الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية، ورعايتهم ومساعدتهم في تلبية احتياجاتهم الأساسية، وتوسيع الفرص المتاحة لتنمية طاقاتهم وقدراتهم مع الأخذ بعين الاعتبار احتياجاتهم الخاصة التي تتناسب مع طبيعتهم وأعمارهم.

كما تضمن الوثيقة إعادة النظر بالتقسيمات الإدارية الحالية بما يراعي الكثافة السكانية والمساحة الجغرافية، واسترجاع الآثار والأوابد السورية المنهوبة التي نُقلت إلى داخل وخارج البلاد.

“الاحتلال التركي”

جاء في الوثيقة السياسية أيضًا إنهاء الاحتلال التركي بكل مرتكزاته ومؤسساته للمناطق الشمالية من الوطن، وخاصة عفرين وسري كانييه/رأس العين وتل أبيض، وإخراج جميع الفصائل المسلحة الموالية لتركيا منها، وإزالة كافة الآثار الناجمة عن الانتهاكات والتجاوزات التي حصلت فيها.

بالإضافة إلى وقف إطلاق نار شامل ودائم في جميع الأراضي السورية كخطوة أساسية نحو عقد مؤتمر للحوار الوطني السوري.

كما تدعو الوثيقة إلى تشكيل لجنة تحضيرية برعاية ودعم دولي تضمن مشاركة ممثلي جميع الأطراف السورية فيه، وبتمثيل وازن وعادل للكرد، لتنبثق عنه جمعية تأسيسية وإعلان دستوري وحكومة انتقالية من كافة ألوان الطيف السوري بصلاحيات تنفيذية كاملة ولفترة زمنية محدودة.

الثقافة الكردية

كما جاء في الوثيقة ضرورة الاهتمام باللغة والتراث والتاريخ والثقافة الكردية، وفتح مراكز إعلامية من قنوات إذاعية وتلفزيونية باللغة الكردية، وإصدار الكتب والمجلات والمطبوعات، وفتح مراكز للدراسات والبحوث، وإنشاء معاهد وجامعات في المناطق الكردية.

وتدعو الوثيقة إلى ضمان تمثيل الكرد في مؤسسات الدولة التشريعية والقضائية والتنفيذية والأمنية، واعتماد الحادي والعشرين من آذار عيد نوروز عيداً رسمياً في البلاد.

اتفاقية أضنة

دعت الوثيقة أيضًا إلى إلغاء كافة السياسات والإجراءات والقوانين الاستثنائية التي طبقت بحق الكرد مثل مشروع الحزام العربي وعمليات التعريب في المناطق الكردية، وتعويض المتضررين من تلك السياسات التمييزية، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل صدورها.

كما دعت إلى إلغاء كافة الاتفاقيات السرية والعلنية التي تمس الأمن الوطني والسيادة الوطنية السورية، مثل “اتفاقية أضنة 1998”.

كما دعت إلى إعادة الجنسية السورية للمواطنين الكرد المجردين منها بموجب إحصاء 1962 الاستثنائي، للمواطنين المتبقين منهم ومكتومي القيد، وإيقاف التغيير الديمغرافي في المناطق الكردية وكافة المناطق السورية، وتأمين عودة آمنة للنازحين واللاجئين إلى ديارهم، وتطوير البنية التحتية للمناطق الكردية وتخصيص نسبة من عائدات ثرواتها في التنمية والإعمار، بسبب تهميشها الممنهج وإهمالها المتعمد في المراحل السابقة.

“كافة بنود الوثيقة قابلة للنقاش وسيتم البحث فيها خلال المؤتمر”، وفقاً لما قاله عضو في اللجنة التحضيرية لنورث برس.

إعداد وتحرير: عبدالسلام خوجة

———————————–

===================

=====================

عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 23 أذار 2025

تحديث 22 أذار 2025

————————

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة

—————————–

لعبة حافة الهاوية/ عالية منصور

22 مارس 2025

يوما بعد يوم يبدو واضحا عدم تقبل إيران حجم خسائرها في المنطقة، فلا هي تتقبل خسارة النظام السوري، نقطة الارتكاز الأهم في مشروعها التوسعي، ولا الخسائر التي شلت ذراعها اليمنى في لبنان “حزب الله”. كل من راهنت عليهم طهران في مشروعها التدميري لمنطقة المشرق العربي انتهوا أو ضعفوا إلى أقصى الحدود، حتى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لم تخسر فقط عسكريا بعد كل ما حل بغزة والفلسطينيين، بل حتى على المستوى السياسي لا يبدو أن أحدا سيقبل أن تحكم “حماس” غزة مجددا أو حتى أن تكون شريكا في الحكم، وها هم “الحوثيون” ذراع إيران في اليمن يتعرضون لضربات موجعة وقد تكون قاضية، بعد أعوام من إعطائهم الفرصة تلو الأخرى ليصنعوا سلاما في اليمن.

كان الدور الإيراني واضحا في التمرد الفاشل الذي حصل في جبال ومدن الساحل السوري، كما دورها في الاشتباكات التي حصلت وتحصل على الحدود السورية اللبنانية، تدرك طهران أن عقارب الساعة لن تعود للوراء وأن ما حصل قد حصل، ومع ذلك تراهن أن بإمكانها من خلال نشر الفوضى وعدم الاستقرار على صنع موطئ قدم لها، وأن تحجز لها مكانا على أي طاولة مستديرة تناقش أوضاع هذه الدول وتساهم في إعادة إعمارها، أو عرقلة أي حوار أو مشروع من خلال التخريب.

في لبنان، إيران قادرة على تدمير ما بقي من الجنوب وما هو أبعد من الجنوب، من خلال بقايا ميليشيا “حزب الله” التي اختارت الرد على تصريحات رئيس مجلس الوزراء اللبناني نواف سلام الذي نعى ثلاثية “جيش- شعب- مقاومة” بإطلاق الصواريخ على مستوطنة المطلة، أو على أقل تقدير سهلت لأطراف أو أفراد عملية إطلاق الصواريخ.

قامت إسرائيل بالرد ولكنها هددت أيضا باستئناف حربها على لبنان.

اللافت جدا هو تقاطع مصالح إيران وإسرائيل في سوريا. فمنذ لحظة سقوط النظام السوري وهروب رئيسه بشار الأسد، لم تتوانَ أي من الدولتين في العمل على زعزعة الاستقرار ونشر الفوضى، كلتاهما تستعملان “الأقليات” ذريعة لتدخلهما السافر، وإسرائيل تستمر بتعديها على الأراضي السورية والتوغل والقصف، وتستخدم إيران بقايا نظام الأسد لنشر الفوضى، والتخوف الحقيقي أن تلجأ لتسهيل عمليات “داعش” في الداخل السوري.

المنطقة تعيش حالة غير مسبوقة من سياسة “حافة الهاوية”، ويستمر رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بجرها إلى مزيد من الحروب والصراعات، فهو أيضا لا زال يهرب من أزماته الداخلية بفتح جبهات واستئناف حروب.

سوريا تحتاج إلى الحد الأدنى من الاستقرار لتبدأ مسيرة الانتقال السياسي وإعادة الإعمار، وتتفق كل من تل أبيب وطهران على عرقلة هذا المسار، وإن كان لكل منهما أهدافه المختلفة فإن النتيجة واحدة، فكلتاهما تخدم مصالح الأخرى هناك.

الإدارة الأميركية حتى الآن لم يظهر لها موقف حاسم بما يتعلق بسوريا، ولكن تصريح المبعوث الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف يبدو متقدما، حيث اعتبر أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يعمل على وقف الفوضى والحروب في العالم، ويدفع باتجاه السلام وتوفير فرص لشعوب المنطقة للازدهار. يقول ستيف في مقابلة تلفزيونية إن الدلائل تشير إلى أن الجولاني (الرئيس السوري أحمد الشرع) شخص مختلف عما يعتقده الناس، والناس يتغيرون. ربما يكون الجولاني في سوريا شخصا مختلفا. لقد طرد إيران من سوريا. ويضيف: “تخيل لو وقّع لبنان معاهدة سلام، ووقّعت سوريا، ووقّعت السعودية معاهدة مع إسرائيل، بعد السلام في غزة، لأن حل معضلة غزة شرط أساسي لأي توقيع سعودي. سيكون ذلك إنجازا رائعا”.

فهل ستلجم إدارة ترمب شهية نتنياهو المفتوحة دوما للحروب؟ وهل سيدرك جميع المعنيين أن استقرار سوريا وسلاسة عملية الانتقال السياسي في دمشق ستكون من مصلحة كل من يسعى للسلام والاستقرار في المنطقة؟ أم سيتركون تل أبيب وطهران تستمران كل لأهدافها الخاصة بنشر الفوضى؟ ولكن حذاري من لعبة “حافة الهاوية” تلك كي لا تصل الأمور إلى نقطة اللاعودة.

المجلة

———–

سوريا «الهشة» تحت ضغط العقوبات والاعتداءات الإسرائيلية

واشنطن ترى تغيراً في الشرع وتتحدث عن إمكان التطبيع بين دمشق وتل أبيب

دمشق: سعاد جروس

22 مارس 2025 م

منذ سقوط نظام الأسد، عمدت إسرائيل إلى تسخين الجنوب السوري، سواء بتوجيه ضربات عسكرية داخل الأراضي السورية، أو في توغلات متواصلة، أو في استغلال الانقسامات الداخلية في السويداء. في وقت بدأت فيه الإدارة الأميركية ترسل إشارات تتعلق بتظهير موقفها من السلطة الجديدة «الهشة» نوعاً ما في دمشق، والتلويح بتخفيف العقوبات عن سوريا، بالتوازي مع طروحات حول إمكانية «التطبيع مع إسرائيل».

وشهد حوض اليرموك، جنوب سوريا، فجر السبت، توغلاً لآليات وعربات تتبع القوات الإسرائيلية في الأطراف الشمالية لقرية معرية في ريف درعا الغربي، وذلك بعد إطلاق القوات الإسرائيلية المتمركزة في ثكنة الجزيرة العسـكرية على أطراف القرية قنابل مضيئة في سماء المنطقة، في محيط قريتي معرية وعابدين، وفق ما أفاد به موقع «درعا 24»، الذي رصد تحليقاً لطيـران الاستطلاع الإسـرائيـلي يحلق في سماء الجنوب السوري. فيما أفادت تقارير أخرى بتوغل القوات الإسرائيلية في بلدة الرفيد وقرية العشة بريف القنيطرة، ووصل رتل عسكري إلى تل الأحمر الغربي في محافظة القنيطرة.

استهدفت إسرائيل، فجر السبت، مطار تدمر العسكري وسط البادية السورية، بغارات جوية، وفق ما أفادت به «الإخبارية» السورية الرسمية، وأسفرت الغارة عن إصابة عنصرين من «الفرقة 42» من جراء هذه الغارات، كما تم استهداف برج المراقبة وكتيبة صواريخ ومستودع أسلحة داخل مطار «تي فور» ونقاط كانت تتبع للميليشيات الإيرانية في عهد النظام السابق. وأكد الجيش الإسرائيلي، استهداف «قدرات عسكرية استراتيجية» في قاعدتين بريف حمص وسط سوريا.

إشارات أميركية

رأى المبعوث الخاص للرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، في مقابلة مع الصحافي الأميركي، تاكر كارلسون، أن الرئيس السوري أحمد الشرع تغير. وقال إن هناك مؤشرات تفيد بأن الرئيس الشرع «لم يعد كما كان في السابق»، مضيفاً أن «الناس يتغيرون، وأنا شخصياً لست كما كنت قبل 30 عاماً، وربما الشرع كذلك».

وقال ويتكوف إن تطبيع العلاقات بين لبنان وإسرائيل، ثم بين سوريا وإسرائيل «يمكن أن يكون جزءاً من عملية أوسع نطاقاً لإحلال السلام في المنطقة»، موضحاً أن إسرائيل تتحرك داخل لبنان وسوريا، وأنها «تسيطر عليهما ميدانياً». معتبراً أن هذه السيطرة تفتح الباب أمام تطبيع شامل في حال تم القضاء على الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران.

الباحث السياسي السوري، علي العبد لله، رأى في تصريح ويتكوف المتعلق بأن التطبيع بات «احتمالاً حقيقياً» بأنه «إعلان موقف» أكثر منه «تقديراً للموقف»، وهذا «تعبير عن توجه أميركي لصياغة الشرق الأوسط من ضمن تصور شامل لصياغة التوازنات في أكثر من إقليم»، وذلك للتفرغ لمواجهة الصين في مجالات السياسة والاقتصاد، خاصة التقنيات الدقيقة، من خلال السيطرة على المواد الخامة النادرة المهمة في هذا المجال، وعلى الممرات المائية لتطويق الصين والحد من تمددها الجيوسياسي والاقتصادي.

وأكد العبد الله أنه «في هذا السياق يأتي الحديث عن تطبيع سوريا ولبنان مع إسرائيل كدعوة واستثمار للظروف القائمة، خاصة حاجة سوريا لرفع العقوبات الأميركية؛ لأن بقاءها يمنع الدول الأخرى من التعامل مع سوريا والاستثمار فيها، ما يبقيها مدمرة وعاجزة عن تلبية متطلبات الحياة والاستمرار».

وعن قراءته لموقف السلطة السورية الجديدة، قال العبد لله: «إنها محشورة بين حاجتها لرفع العقوبات ووقف التغول الإسرائيلي في الجنوب واسترضاء قاعدتها السياسية، ناهيك عن حساب الموقف الشعبي الذي لا يزال يعتبر إسرائيل عدواً قومياً»، مرجحاً «بحثها عن مخرج يتقاطع مع هذه العوامل، ويخفف من ثقلها في الوقت نفسه».

وحتى الآن تلتزم سلطة الشرع بتعهدها بألا تمثل تهديداً لدول الجوار، من دون إبداء موقف بشأن التطبيع مع إسرائيل، حيث لا تزال تتجنب الاستفزازات الإسرائيلية، وتأكيد تمسكها باتفاق 1974 لفض الاشتباك، وإبلاغ الأمم المتحدة بالتجاوزات الإسرائيلية والمطالبة بردعها. فيما تطالب برفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا التي لا تزال تشكل عائقاً كبيرا أمام عملية إعادة الاستقرار في ظل واقع داخلي شديد الهشاشة.

وكانت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، تامي بروس، قالت، الجمعة، إن من المتوقع تخفيف العقوبات بما يخص التحويلات المالية، مؤكدة أن بلادها لا تنوي حالياً إلغاء العقوبات، وأنها ستراقب تصرفات الإدارة السورية الجديدة في الوقت الذي تحدد فيه سياساتها تجاه الحكومة بدمشق.

وتفرض أميركا والدول الأوروبية عقوبات على سوريا، منذ عام 2011، على خلفية استخدام النظام السابق العنف المفرط في قمع الاحتجاجات ضده، وبعد سقوط النظام ربط الجانبان الأميركي والأوروبي رفع العقوبات بسلوك السلطة الجديدة.

وجددت واشنطن دعوتها لدمشق بتشكيل حكومة شاملة بقيادة مدنية في سوريا، وفق ما أشارت إليه بروس، التي دعت إلى تشكيل حكومة شاملة يقودها مدنيون يمكنها ضمان أن تكون المؤسسات الوطنية فعالة وسريعة الاستجابة وتمثيلية.

توتر في السويداء

في محافظة السويداء، اندلعت اشتباكات مسلحة ليل الجمعة – السبت قريباً من حي العشائر في مدينة «شهبا»، وقالت مصادر محلية في السويداء لـ«الشرق الأوسط» إن التوترات لم تهدأ في المحافظة، وأشارت المصادر إلى أن التباين في المواقف من الحكومة بدمشق، المتعقلة بالإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية، ومسألة تسليم السلاح، «ما زال يولد الاحتقان الذي ينذر بمزيد من التصادمات والانقسام». وأكدت المصادر أن جهوداً أهلية تبذل لمنع انفجار التوتر، رغم محاولات بعض الأطراف تفجيرها مع مواصلة الضغط وتأجيج الخلافات.

وكان مركز إعلام السويداء ذكر، في وقت سابق، أن الأمن العام قام، الجمعة، بتأمين طريق دمشق – السويداء بشكل كامل، وذلك عقب إغلاقه من قبل مجموعة من أهالي المنطقة؛ احتجاجاً على حادثة وقعت، الثلاثاء الماضي، في السويداء. وتحرك عدة جهات في السويداء لتهدئة الأوضاع وضمان استقرار المنطقة.

———————————————

شرطة السويداء تقبض باليد وبالدولار

بعد تأخر الرواتب شهرين وبزيادة كبيرة عن السابق

دمشق: «الشرق الأوسط»

22 مارس 2025 م

بعد تأخر شهرين، بدأت قيادة شرطة محافظة السويداء، السبت، تسليم الرواتب للمعادين إلى الخدمة، والذين بلغ عددهم ستمائة عنصر شرطة وأربعين ضابطاً، بينهم منشقون عن النظام السابق.

وأفادت وسائل إعلام محلية في السويداء بأنها المرة الأولى منذ سقوط النظام التي يتم فيها تسليم رواتب لعناصر الشرطة في المحافظة، وأوضح مصدر في قيادة الشرطة بأن الراتب الذي تم تسليمه بلغ 120 دولاراً، بارتفاع أربعة أضعاف (400%) عن الراتب الذي كان يتلقاه عنصر الشرطة قبل سقوط نظام الأسد، بحسب موقع «السويداء 24».

وأظهرت صور محافظة السويداء على حسابها في «فيسبوك» تسليم الرواتب باليد وبالدولار، وهي المرة الأولى التي يجري فيها تسليم رواتب للعاملين في القطاع العام بهذه الطريقة، حيث يتقاضى العاملون رواتبهم عبر صرافات المصارف الحكومية. كما كان محظوراً في سوريا خلال عهد النظام السابق التعامل بالدولار، ويقع تحت طائلة الملاحقة وعقوبة السجن.

مصادر في دمشق قالت لـ«الشرق الأوسط» إنها تستغرب هذه الخطوة، مضيفة: «إن مشهد تسديد الراتب بالعملة الأجنبية يتم للمرة الأولى في القطاع الحكومي السوري، وهو غير مألوف ما يجعلنا نرسم العديد من إشارات الاستفهام ريثما تتضح الأمور، عما إذا يكون هذا توجهاً حكومياً أم أنه يتم لمرة واحدة تحت ضغط الأوضاع الاقتصادية المرتبكة حالياً». كما أشارت المصادر إلى أن هذه الخطوة من دمشق تصب في إطار «احتواء أزمة الانقسامات في السويداء، وضرورات ضبط الأمن، وتعزيز جهاز الشرطة التابع للحكومة».

وكانت الرئاسة السورية منحت موظفي الدولة راتباً إضافياً بمناسبة عيد الفطر، وتشمل المنحة المالية العاملين الدائمين والمؤقتين، وكذلك الأفراد الذين يتقاضون أجراً يومياً في سوريا، وفق ما أعلنت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا)، ويشمل القرار أيضاً إعفاء هذه المنح المالية من كافة الضرائب والاقتطاعات.

وجاءت المنحة بهدف امتصاص التوتر الحاصل جراء اشتداد الأزمات المعيشية بعد أكثر من ثلاثة أشهر على تسلم السلطة الجديدة إدارة البلاد، وتصاعد حالة الاحتقان على خلفية الأحداث التي شهدتها منطقة الساحل، والتي ساهم في تفجرها تسريح آلاف العاملين في القطاع العام من عسكريين ومدنيين ضمن خطة حكومية لتقليص أعداد العاملين في القطاع الخاص إلى نحو الثلث، ورفع الرواتب بمعدل 400 في المائة، بعدما تبين وجود أكثر من مليون وثلاثمائة ألف موظف قطاع عام، منهم نحو تسعمائة ألف يأتون إلى مكان العمل، ونسبة كبيرة من هؤلاء لا يقومون بعمل فعلي، ما دفع الحكومة لإعطاء مئات آلاف من العاملين إجازة ثلاثة أشهر مأجورة إلى حين تقييم وضعهم، حيث يجري العمل على بناء قاعدة بيانات جديدة لموظفي القطاع العام، لتقييم وظائف القطاع العام، كما تم فصل العسكريين السابقين في النظام السابق، ومع ذلك لم تتمكن الحكومة من دفع الرواتب لكل العاملين، علماً بأن رواتب القطاع العام في السنة الأخيرة من حكم الأسد تدنت إلى ما قيمته 30 دولاراً، بسبب فراغ الخزينة العامة، ودمار أكثر من ثلث البلاد، وتهتك البنى التحتية في كل القطاعات، في ظل استمرار العقوبات الاقتصادية الدولية التي لا تزال تعيق الاستفادة من المنح والمساعدات المالية التي تقدمها الدول الحليفة والشقيقة.

ولا يزال إنعاش الاقتصاد يشكل أولوية قصوى لدمشق في المرحلة الانتقالية؛ لارتباطه بشكل وثيق بالاستقرار والسلم الأهلي، حيث تقول الأمم المتحدة إن تسعة من كل عشرة سوريين يعيشون في فقر.

——————————

سوريا في شهر الثورة.. التحديات كبيرة/ أحمد مظهر سعدو

2025.03.23

تتشابك التحديات وتتعقد، بعد نحو 4 شهور من انتصار ثورة الشعب السوري، وإزالة نظام الأسد، وفرار رأس النظام إلى موسكو. إذ يحاول السوريون الاحتفاء بتاريخ ثورتهم العظيمة، ثورة الحرية والكرامة في ذكراها، أمام تحديات كبيرة وكثيرة ومتعددة، بل وأكثر تعقيدا، طالت مجمل الواقع المتغير في المشهد السوري. حيث لم تُترك سوريا بشعبها المكافح لفرحة النصر، كما لم  يُترك الإنسان السوري ليعيش زمنا جديا خاليا من القتل والموت والعبث بأوضاعه، حتى بدأت المشكلات والإشكاليات تنبثق في طريقه الشاق نحو بناء الدولة السورية الجديدة، الخالية من خراب عصابة الأسد، فسادها وإفسادها وحالة الدولة السورية التي عاشها السوريون على مدى ٥٤ عاما من حكم آل الأسد ومساراتهم المليئة بالدم والنهب والخراب على كل المستويات، حتى أضحت سوريا في الدرك الأسفل من الفوات والعفن على جميع الأحوال والمتغيرات.

تتمظهر اليوم حالات كثيرة من تلك التحديات التي تعوِّق حركة العمل المطلوب من أجل سوريا الحرة، التي لا بد من أن تبنى على أسس جديدة وقيم وطنية أخرى، وسيادة جدية للدستور والقانون المغيبين قسرا زمن الأسد الابن وقبله الأب.

ولعل التحدي الأكبر هو ماتفعله إيران وأدواتها من الفلول التشبيحية، في محاولاتهم المستمرة ضمن الساحل السوري، وكذلك على الحدود اللبنانية السورية، من أجل زعزعة الأمن والاستقرار الضروريين جداً من أجل قيامة جديدة للدولة السورية. وإذا كانت غايات إيران في ذلك ومعها زبانية نظام الأسد واضحة المعالم، وهي التي انهزمت على يد الشعب السوري صبيحة 8 كانون أول/ ديسمبر 2024 هزيمة نكراء، أسهمت في هدم صرح المشروع الإيراني الفارسي الطائفي في المنطقة، وتم قطع  الطريق كليا على امتدادات وأطماع إيران في المنطقة، فأصبح طريق طهران بغداد دمشق بيروت غير سالك، بل مقطوع نهائيا في أوسطه، أي داخل الجغرافيا السورية تحديدا، وهو ما جعل إيران/ الملالي تتجرع كأس السم الزعاف في سوريا هذه المرة، بعد أن تجرعه (آية الله الخميني) في العراق أواخر ثمانينيات القرن الفائت. من هنا فإنها لن تألو جهدا من أجل العمل وبشتى السبل، لزعزعة الأوضاع الأمنية في سوريا، ضمن محاولاتها البائسة للعودة من جديد إلى الساحة السورية المطرودة منها، رغم كل إمكانياتها وثقلها العسكري.

أما التحدي الآخر الذي يقف في طريق الدولة الجديدة في سوريا، فهو تحدي القوة المتصاعدة الإسرائيلية  حيث  خرجت إسرائيل منتصرة في حربها على قطاع غزة وجنوبي لبنان، وهي اليوم تريد أن تستثمر وتستغل هذه الفرصة عبر سوريا، في ظل وجود عسكري لجيش سوري ناشئ ومتواضع، وضمن اللاإمكانات الجدية للمواجهة، كي تنجز وضعا جديدا عبر قضم المزيد من الأراضي السورية  في الجولان والهيمنة على كامل المنطقة العازلة، وتدمير ما تبقى من عتاد عسكري سوري، واللعب على الوتر الطائفي، بدعوى حماية الأقليات، وخاصة في الجنوب السوري . كل ذلك يجري في ظل غياب كامل لأي مشروع عربي قادر على لجم التمدد الإسرائيلي، أو إيقاف التهديدات الصهيونية المستمرة للوضع الجديد في سوريا، وضمن أجواء هيمنة الرئيس الأميركي (دونالد ترمب) على العالم، وانحيازه المطلق إلى جانب إسرائيل، على حساب العرب كل العرب، من دون الاهتمام بمواقف النظام العربي الرسمي الضعيف، هذه المواقف التي لا تتعدى شكلية إصدار بيانات لا تسمن ولا تغني من جوع.

كما لا يمكننا إلا التوقف أمام التحدي الآخر الذي لايقل خطورة، وهو موضوع شمال شرقي سوريا، حتى بعد أن تم توقيع اتفاق مهم بين الإدارة السورية الجديدة وتنظيم (قسد)  حيث ما تزال هناك الكثير والكثير جدا من من العقبات، التي تعترض طريق تنفيذه خلال تسعة أشهر قادمة، وهي المدة الزمنية المعطاة له من أجل الإنجاز، حيث ما برحت هناك كثير من العقبات بل والخلافات بين الطرفين، وصولًا إلى حالة اندماج ما، قد تحصل وقد لا تحصل في المؤسسة العسكرية السورية الجديدة، وهذا يرتبط بالضرورة وبشكل مباشر وواضح بمدى رضى أو عدم رضى الإدارة الأميركية عن أداء الحكم الجديد في سوريا.

كذلك فإن إشكالية الجنوب السوري ماتزال قائمة، واللعب بورقة (الدروز) من قبل الإسرائيليين ما تزال جدية، رغم الوقوف المعلن لمعظم الفعاليات الوطنية السورية في جبل العرب، انحيازا حقيقيا وواضحا إلى جانب وحدة سوريا، والاندماج بالحالة السورية الجديدة، وعدم الالتفات إلى ما تحاول أن تفعله إسرائيل من تحريك لبعض أدواتها في السويداء من أجل الهيمنة على الجنوب السوري والتهيئة لحالة جديدة من تفسخ الوحدة الوطنية السورية.

وقد لا يقل أهمية عن كل ذلك تحدي بناء الدولة الوطنية، على أسس تشاركية وحدوية لا تتكئ على اللون الواحد، ولا تسمح بالانفراد بالسلطة، من قبل لون سياسي واحد بحد ذاته، فمطالبات الداخل والخارج تفترض مشاركة الجميع، وفق معايير وطنية ديمقراطية تتمكن من تخطي زلات وهنات الإعلان الدستوري، وصولًا إلى تشكيل حكومة وطنية جديدة، متعددة المشارب، وقادرة على الوصول إلى بناء وطني للدولة ديمقراطي وعصري. بالإضافة إلى ضرورة الإسراع في تشكيل هيئة عليا للعدالة الانتقالية، التي باتت ضرورية وملحة، لتقطع الطريق على كل العابثين بأمن الوطن السوري. وكذلك العمل بدأب من أجل تأمين الخدمات الضرورية للعيش، وتحسين الأداء الاقتصادي الأفضل، كي يجذب ذلك السوريين المهجرين قسرا إلى الخارج، كي يعودوا جميعا ويسهموا في بناء الوطن السوري القادم والجديد.

ولن ننسى التحدي الآخر الكبير وهو تحدي كيفية إقناع الغرب وخاصة الأميركان بإزالة كل أنواع العقوبات المفروضة على سوريا، والتي لم يعد هناك من مبرر لوجودها، بعد إزاحة السبب، الذي أدى إليها، وهو “نظام الفاشيست” الأسدي، وهو مايجب الاشتغال عليه وبشتى الطرق، وعبر كل أصدقاء سوريا، حتى لا تبقى هناك معوقات حقيقية على طريق بناء اقتصاد سوري وطني قوي وقادر على الإيفاء بالمتطالبات الوطنية السورية المعيشية للناس.

إذا فالتحديات كبيرة وكثيرة، لكن الأمل ما يزال موجودا لتخطيها جميعا، وعبر جهد حقيقي، يشارك فيه كل السوريين، مع أصدقاء الشعب السوري، الذين وقفوا إلى جانب سوريا، لكن المسألة شاقة ومتعبة، وتحتاج إلى كثير من الانفتاح والتشاركية، والعمل الدؤوب من أجل سوريا التي نحب ونرغب جميعا.

————————–

المجموعة العربية تدين التوغل الإسرائيلي في سوريا وتطالب بتحرك دولي

2025.03.23

دانت المجموعة العربية في مجلس الأمن توغل إسرائيل داخل الأراضي السورية، وطالبت المجتمع الدولي باتخاذ إجراءات فورية لوقف هذه الاعتداءات والضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي السورية المحتلة.

وأكدت المجموعة العربية أن التوغل الإسرائيلي يُعد انتهاكاً فاضحاً للقانون الدولي واعتداءً سافراً على سيادة سوريا، محذّرةً من أن هذه التصرفات من شأنها تصعيد التوتر وزيادة حدة الصراع في المنطقة، بحسب ما ذكرت قناة “المملكة” اليوم الأحد.

وخلال جلسة خاصة لمتابعة تنفيذ القرار 2334 المتعلق بالاستيطان الإسرائيلي، ألقى السفير محمود الحمود، المندوب الدائم للأردن لدى الأمم المتحدة، بياناً باسم المجموعة، دعا فيه مجلس الأمن والمجتمع الدولي إلى التحرك العاجل لوقف الانتهاكات الإسرائيلية، وممارسة الضغط على إسرائيل لوقف عدوانها والانسحاب من الأراضي السورية المحتلة، في خرق واضح لاتفاق الهدنة الموقّع عام 1974.

وجدد البيان تأكيد الموقف العربي الثابت أن الجولان أرضٌ سوريةٌ محتلة، ورفض أي إجراءات إسرائيلية تهدف إلى ضمّها أو فرض السيادة عليها، باعتبارها لاغية وغير شرعية.

يُذكر أن الأردن يتولى رئاسة المجموعة العربية خلال شهر آذار الحالي.

الانتهاكات الإسرائيلية في سوريا

وخلال الأسابيع الماضية، تصاعدت وتيرة الهجمات الإسرائيلية في سوريا، حيث شنت طائرات الاحتلال غارات على عدة مواقع، بالتزامن مع استمرار التوغلات البرية في ريفي درعا والقنيطرة.

وكان من أبرز هذه الانتهاكات القصف الذي طال محافظة درعا قبل أيام، وأوقع 22 ضحية في صفوف المدنيين، حيث دانت دول عربية، منها الكويت والإمارات ومصر، هذه الاعتداءات وأكدت على ضرورة وقف الانتهاكات الإسرائيلية.

وعقب سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، عمد الاحتلال الإسرائيلي إلى السيطرة على المنطقة العازلة في القنيطرة، واستكمل سيطرته على قمة جبل الشيخ، كما وسّع نطاق توغلاته في المحافظة، مكثّفاً قصفه لمئات المواقع العسكرية بهدف تدمير البنية التحتية للجيش السوري.

وبالتوازي مع ذلك، تعمل قوات الاحتلال الإسرائيلي على إنشاء قواعد عسكرية جديدة تمتد من جبل الشيخ إلى حوض اليرموك، حيث يتم تجهيز هذه المواقع بالبنية التحتية، بما في ذلك الكهرباء والمرافق السكنية لعناصرها، إلى جانب شق طرق تصل إلى الحدود السورية.

وسبق أن دعا الرئيس السوري، أحمد الشرع، الدول العربية إلى تحمّل مسؤولياتها في مساعدة سوريا على وقف انتهاكات إسرائيل لأراضيها، مؤكداً تمسّك سوريا باتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974، ورفضها استمرار إسرائيل في تجاهل هذا الاتفاق.

وقال في كلمة له أمام القمة العربية الطارئة في القاهرة مطلع الشهر الجاري، إن “الهجمات العسكرية الإسرائيلية المتواصلة على سوريا تتطلب وقوف الدول العربية صفاً واحداً ضد التصعيد”، مشدداً على ضرورة أن “تتحمل الدول العربية مسؤوليتها في دعم سوريا لتحقيق الأمن والاستقرار”.

————————–

سوريا: بعد اختبار الساحل… توترات على الحدود مع لبنان والقنيطرة/ منهل باريش

تحديث 23 أذار 2025

هشاشة الوضع في جنوب سوريا ستنعكس على السلطة في حال استمرار الوضع على ما هو عليه، وتضعف من قوة المفاوضات الجارية مع قوات سوريا الديمقراطية.

عاد الهدوء إلى منطقة الحدود اللبنانية-السورية بعد اشتباكات عنيفة اندلعت بين الجيش السوري والجيش اللبناني، وجاء الاتفاق عقب اتصال بين وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة، ونظيره اللبناني ميشال منسى الإثنين الفائت.

وأفادت وكالة الأنباء السورية «سانا» نقلاً عن المكتب الإعلامي لوزارة الدفاع بأنه تم الاتفاق بين وزارتي الدفاع السورية واللبنانية على وقف إطلاق النار، وإنهاء الاشتباكات المندلعة بين الجانبين على الحدود، وتعزيز التعاون والتنسيق بين الجانبين.

من جانبها، قالت الوكالة الوطنية للإعلام في لبنان، أن اتصالا بين وزير الدفاع اللبناني ونظيره السوري بحث الأوضاع المتوترة على حدود البلدين، وتم الاتفاق على وقف إطلاق النار، على أن تنسق مديرية المخابرات اللبنانية وجهاز الاستخبارات السوري لتفادي تطور الأحداث وسقوط ضحايا مدنيين من البلدين. وعلمت «القدس العربي» أن الوزارتين عينتا ضابط تنسيق في كل منهما لمتابعة شؤون الحدود المتداخلة وفرض الأمن على الجانبين.

وفي الإطار، قال القيادي في الفرقة 52 في الجيش السوري العقيد باسل ادريس في اتصال مع «القدس العربي» إن الاتفاق ينص على «انتشار الجيش اللبناني على طول الحدود اللبنانية واخذ دوره بمنع مسلحي حزب الله والعشائر بنقل وتهريب المخدرات والأسلحة وغيرها من الممنوعات عبر الحدود». ومن مهام الجيش اللبناني أيضا حسب الاتفاق «منع مسلحي العشائر ومقاتلي حزب الله إطلاق النيران ومنع استهداف عناصر الجيس السوري من داخل الأراضي اللبنانية».

وحول الواقع الأمني والعسكري الحالي بالنسبة لحوش السيد علي بعد سيطرة الجيش السوري الجديد عليها،  أشار ادريس إلى أنه جرى الاتفاق على الانتشار على أطراف القرية والسماح لأهلها بالعودة إليها.

ولفت ادريس وهو ضابط منشق عن جيش النظام السوري البائد منذ العام 2012 وينحدر من مدينة القصير إلى أن المنطقة كانت تحت حماية جيش الأسد اسميا لكن كانت اليد العليا فيها لحزب الله اللبناني كما كان من المتعذر على الجيش اللبناني دخولها أو تفتيشها أو ملاحقة المطلوبين اللبنانيين فيها باعتبارها داخل الأراضي السورية وهو ما خلق منها بيئة نشطة لصناعة المخدرات وتهريب وتجارة السلاح.

وعن التهديدات المستقبلية نوه إلى أن انتشار الجيش السوري على الأطراف سيساهم بالتدخل السريع لفرض الأمن ومنع أي نشاط إجرامي في البلدة.

وكانت الاشتباكات اندلعت الأحد الماضي في منطقة ريف القصير بريف حمص الغربي الجنوبي بعد وصول تعزيزات عسكرية للجيش السوري إلى المنطقة، وعقب مقتل ثلاثة عناصر تابعين لوزارة الدفاع السورية داخل الأراضي اللبنانية.

ونعى ناشطون وإعلاميون عسكريون ثلاثة مقاتلين في الإدارة الجديدة ينتمون للواء علي ابن ابي طالب والذي انتشر في ريف حمص الغربي لضبط أمن الحدود مع لبنان وملاحقة عناصر جيش النظام السابق المختبئين في المناطق الحدودية المتداخلة.

بموازاة ذلك، أصدرت مديرية التوجيه في الجيش اللبناني، الأحد الفائت، بيانا جاء فيه «بعد مقتل سوريين وإصابة آخر في منطقة القصر- الهرمل، نقل المصاب إلى أحد المستشفيات اللبنانية، إلا أنه فارق الحياة، وعلى إثر ذلك نفذت القوات اللبنانية إجراءات وتدابير أمنية في المنطقة، وأجرت اتصالات مع الجانب السوري، حيث تم تسليم جثامين القتلى للسلطات السورية صباح الإثنين».

وفي هذا السياق، تضاربت الأنباء حول مقتل العناصر الثلاثة، فبحسب وكالة «سانا»، نقلت عن مصدر في وزارة الدفاع السورية أن مقاتلين يتبعون إلى حزب الله اللبناني اختطفوا بكمين على الحدود العناصر إلى داخل الأراضي اللبنانية، وجرت تصفيتهم هناك.

من جهته نفى الحزب علاقته بالأحداث، فيما قال وزير الإعلام اللبناني نقلاً عن وزير الدفاع ميشال منسى أن «القتلى ليسوا من الجيش، ولا يتبعون لوزارة الدفاع، بل من المهربين».

الجيش الإسرائيلي في القنيطرة

وعلى صعيدٍ آخر، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي الخميس، عن إجراء مناورات عسكرية واسعة النطاق في هضبة الجولان السوري المحتل، وحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» فإن هضبة الجولان ستشهد حركة للمركبات والجنود بشكل مكثف، كما ستسمع أصوات انفجارات ضمن مناورات عسكرية سينفذها جيش الاحتلال في الجولان.

وقال متحدث باسم جيش الاحتلال أن المناورات ستتم في المنطقة ولا يوجد أي تخوف أمني خلال تنفيذها. وكان الجيش الإسرائيلي قد قطع ليل الخميس الماضي الطريق الواصل بين قرية الرشيد ومدينة نوى على بعد 10 كم من شريط فض الاشتباك، وهي المرة الأولى التي تقترب فيها قوات الاحتلال بشكل فعلي من مدينة درعا، وفي ريف القنيطرة الجنوبي توغلت وحدات عسكرية تابعة لجيش الاحتلال إلى محيط قريتي الناصرية وغدير البستان.

وقال الناشط في القنيطرة، شادي ابو زيد في اتصال مع «القدس العربي» إن رتل جيش الاحتلال الاسرائيلي ضم معدات هندسية نوع كاتربلر «بلدوزر» وناقلات جند ودبابات ودمر الجيش نقطتين عسكريتين يتبعان جيش النظام السابق هما «سرية ابو درويش» وهي نقطة مراقبة روسية سابقة والنقطة الأخرى هي «سرية الكوبرا» وفجر الجيش الإسرائيلي مستودعا للأسلحة شبه فارع إضافة إلى تحصينات هندسية.

وقالت مصادر محلية من قرية العدنانية لـ «القدس العربي» إن آليات عسكرية ثقيلة تابعة لجيش الاحتلال تتحرك بكثافة خلال اليومين الماضيين داخل الأراضي المحتلة بموازاة قرية العدنانية، وأضافت المصادر أن آليات الجيش الإسرائيلي والفرق الهندسية تعمل بين خطي «برافو» و«ألفا» وتبني نقاط عسكرية في سياق إنشاء ما تطلق عليه إسرائيل بـ «السياج الأمني».

إلى ذلك، شنت طائرات الاحتلال الثلاثاء الماضي عدة غارات جوية على منطقة عسكرية تنتشر داخلها مدافع ثقيلة كان يستخدمها جيش النظام السابق في منطقة خان أرنبة بريف القنيطرة، وقال جيش الاحتلال في بيانٍ له إنه لن يسمح «بأي تهديد عسكري لإسرائيل مصدره جنوب سوريا»، كما استهدفت عدة غارات جوية تحصينات عسكرية سورية في محيط قريتي شمسين وشنشار بريف حمص الجنوبي، على الحدود السورية اللبنانية، فيما قصف سلاح الجو الإسرائيلي ليل الاثنين الماضي مدينة درعا ومحيطها، ما أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة 19 آخرين حسب ما أفاد به الدفاع المدني السوري «الخوذ البيضاء».

وحسب مصادر محلية فإن إدارة الأمن العام في القنيطرة تفضل عدم مواجهة الجنود الإسرائيليين وإثارة غضبهم وتطلب من المدنيين عدم اعتراض دورياتهم بعد أن جرت مواجهتها في وقت سابق ما دفع جيش الاحتلال إلى إطلاق النار على المتظاهرين وجرح نحو سبعة مدنيين إصابة بعضهم كانت بليغة.

وعينت الرئاسة السورية الجديدة القيادي المعروف في حركة أحرار الشام الإسلامية، أحمد الدالاتي محافظا للقنيطرة، في محاولة من الرئاسة استيعاب الضغط الإسرائيلي حيث يعتبر دالاتي واحدا من أكثر الأشخاص قربا من الرئيس الشرع، ويتوقع أن يلعب دورا مهما في مفاوضات غير مستبعدة مع الإسرائيليين.

وزارة الخارجية السورية، دانت من جانبها الغارات الإسرائيلية التي تسببت بمقتل ثلاثة مدنيين، وجاء في بيان الخارجية السورية أن هذا العمل «عدواني وجزء من حملة تشنها إسرائيل ضد الشعب السوري والاستقرار في البلاد».

مشيرة إلى أن هجمات الاحتلال المتعمدة تكشف تجاهل إسرائيل التام للقوانين والأعراف الدولية، ولفت البيان إلى أن استمرار إسرائيل في اعتداءاتها لا يشكل انتهاكا للقانون الدولي فحسب، بل يمثل تهديدا مباشرا للأمن الإقليمي والدولي.

ودعا بيان الخارجية، مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة وكافة الهيئات الدولية ذات الصلة للتحرك بسرعة لوضع حد لممارسات إسرائيل غير القانونية وتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار عام 1974.

كما دانت وزارة خارجية المملكة العربية السعودية في بيانٍ لها انتهاكات إسرائيل المتكررة، ومحاولاتها لزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، واصفة الانتهاكات بأنها مخالفة للاتفاقيات والقوانين الدولية ذات الصلة.

وأكد بيان وزارة الخارجية السعودية على «ضرورة نهوض المجتمع الدولي أمام هذه الاعتداءات، وأهمية اضطلاع الدول الأعضاء في مجلس الأمن بدورهم، والوقوف بشكل جاد وحازم أمام هذه الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة في سوريا ومنع اتساع رقعة الصراع».

ويشكل الواقع الأمني في الجنوب السوري واحدا من أخطر العقد على الإدارة السورية الجديدة،  خصوصا مع استمرار القصف الإسرائيلي في عمق محافظات الجنوب الثلاث. ولم يعد القصف متركزا في السويداء ودرعا والقنيطرة، بل يحاول جيش الاحتلال التركيز مؤخرا على أرياف دمشق الجنوبية كما هو الحال في القصف على الكسوة التي تعتبر بوابة دمشق الجنوبية وشكلت ثقلا عسكريا سابقا في جيش النظام باعتبارها مركزا لقيادة الفرقة الأولى دبابات.

هشاشة الوضع في جنوب سوريا يضعف قوة المفاوضات الجارية مع قوات سوريا الديمقراطية وتؤخر التوصل إلى عمل اللجان التي لم تُؤسس وتأجل تشكيلها للجلسة القادمة من المفاوضات بين وفد الرئاسة السورية ومظلوم عبدي مطلع نيسان (أبريل) المقبل.

القدس العربي

————————————-

===================

=====================

الإعلان الدستوري لسوريا 2025-مقالات وتحليلات- تحديث 23 أذار 2025

تحديث 23 أذار 2025

————————

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

الإعلان الدستوري لسوريا 2025

——————————–

الصراع حول الدستور في سوريا/ رضوان زيادة

الإعلان الدستوري المؤقت لعام 2025

آخر تحديث 22 مارس 2025

تستند سوريا على إرث من التعددية والديمقراطية والتداول السلمي على السلطة. وشهدت الفترة التي أعقبت حصولها على الاستقلال السياسي عام 1946 حياة غنية بالنقاشات الحيوية بين النخب والأحزاب السياسية ذات التوجهات الأيديولوجية المختلفة. فقد حظيت بدستور يعتبر من أوائل الدساتير في المنطقة العربية الذي أتاح الحريات العامة ضمن المساواة بين الجنسين وحفظ الحقوق الأساسية للمواطنين في الكثير من مواده.

كما منح حق التصويت للمرأة في عام 1949 وحق الترشح في عام 1953 أي قبل إقرار هذا الحق بزمن طويل في الكثير من الدول الأوروبية كسويسرامثلا، وفي الوقت نفسه تمتعت سوريا بنظام برلماني تعددي وبصحافة حرة كانت تعبر عن مختلف شرائح وفئات المجتمع السوري على تعددها وتنوعها العرقي والطائفي والإقليمي.

صحيح أن ذلك لم يعمر طويلا مع دخول سوريا في نمط من الانقلابات العسكرية المتتالية منذ الانقلاب الأول في عام 1949 إلا أنه شكل مخزونا وإرثا ديمقراطيا ما زال يفخر به كثير من السوريين ويعد ملهما للكثير من الديمقراطيين والسياسيين المعارضين لاستعادته كدليل على قدرة سوريا دولةً ومجتمعاً على العيش بمنجزات الديمقراطية وميزاتها.

حزب “البعث” ونهاية الشرعية الدستورية

يمكن وصف حركة 8 مارس 1963 بأنها كانت النهاية الطبيعية لتطبيق مفهوم “الشرعية الثورية” واستخفافا مطلقا بمعنى “الشرعية الدستورية”، لدرجة أن حزب “البعث” ومنذ استلامه السلطة في عام 1963 وحتى عام 1971 بعد وصول الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة لم يقم بأي انتخابات محلية كانت أو تشريعية أو رئاسية ولو في مظهرها الشكلي، صحيح أن الانتخابات فيما بعد وخاصة في عهد الرئيس حافظ الأسد الذي حافظ على إجراء الانتخابات “الوهمية” في مواعيدها الدقيقة كانت أشبه باللعبة التي تعرف نتيجتها مسبقا حتى قبل أن تخوضها، ولم يكن المطلوب منها منح الثقة أو الشرعية بقدر ما كان الهدف منها إعطاء معنى للديكور الخارجي بأن هناك عملية ديمقراطية سياسية تجري داخل هرم السلطة الأوتوقراطي الموجود.

لكن النخبة البعثية التي استلمت الحكم بعد 1963 لم تكن تعبأ حتى بهذا الديكور الخارجي طالما أنها لم تكن تشعر بأي حرج شرعي أو دستوري وإنما كانت تهدف إلى إنجاز التنمية المستقلة عبر وسائل ثورية اقتصادية واجتماعية وتحقيق غايات سياسية خارجية.

هذا النموذج من الدولة القائم على الحزب القائد الذي يختصره مجلس قيادة الثورة وهو بدوره يختزل في قائد الثورة، ظل قائما منذ 8 مارس 1963 وحتى الوقت الحالي مع اختلافات شكلية وأحيانا جوهرية لكنها لا تمس بنية أو عصب السلطة الأوتوقراطية القائم على استفراد حزب بالسلطة ثم بناء هيكل هرمي يكون رأسه رئيس الدولة وهذا هو جوهر الجمهورية الثالثة منذ تأسيسها مع تقعيد قواعد صارمة مع الرئيس حافظ الأسد الذي أعاد كتابة الدستور ثم هيكلية المؤسسات الدستورية والتشريعية والقانونية بشكل لا يتيح لها الحركة خارج الإطار المرسوم لها والمحدد والمعين مسبقا، ثم “تأطير” المجتمع المدني عبر النقابات والمنظمات والاتحادات والجمعيات غير الحكومية عبر خندقتها لتصبح تعبيرات “بعثية” ولكن بنكهة شعبية، ويكون لها دور محوري في ضبط الحركة النقابية والمطلبية والشعبية.

ومهما اختلفت التفسيرات في آلية صنع القرار في الجمهورية الثالثة أو تعددت وجهات النظر في ميكانيزمات عملها وسيطرتها فإن استقرارها على مدى يزيد على أربعة عقود يعكس قدراتها التنظيمية الفائقة وفي الوقت نفسه آليات تكيفها السريعة مع تحولات السياسة الخارجية وتغيراتها، ومع إدراكنا التام أن الأسس السياسية والتنظيمية التي استقرت في عهد الرئيس حافظ الأسد كعصر ذهبي للجمهورية الثالثة ما تزال هي ذاتها صالحة لتفسير “التسلطية السورية” في مرحلة هي مجرد امتداد طبيعي لها واستمرار لآلياتها السابقة ذاتها مع اختلافات تفسر بالقياس، أي إنها تختلف بالدرجة وليس بالنوعية. بل إن توالد الأحداث والظروف وقراءتها في سياق التاريخ الطويل وليس السياسي الآني-الحدثي يدرك تماما أن استجابة النظام السوري الحديث في عهد الرئيس بشار الأسد إنما تنبع من صلب وعمق استجابة الرئيس حافظ الأسد للتحديات ذاتها فيما لو خضع لها مع تغيرات طفيفة يمكن تفسيرها بالاختلافات الشخصية الطبيعية والنفسية لكنها لا تتعدى ذلك إلى مفاصل الحياة السياسة الجوهرية ومحدداتها.

مع مجيء الرئيس بشار الأسد إلى السلطة انطلقت الأسئلة دفعة واحدة في البداية متسائلة عن مدى سيطرة بشار الأسد على القرار السياسي في بلده ومدى تأثير “الحرس القديم” على صنع القرار لديه، ولذلك فإن معظم الدراسات التي كتبت عن فترة الرئيس بشار الأسد كان همها التركيز على نظرته للأمور ومدى قدرته على الإمساك بزمام مقاليد السلطة، وبالتالي أعادت قراءة القرار السياسي السوري وفق منطق النظرية السلوكية ذاتها على اعتبار أن هيكلية أو بنية النظام السوري وقواعده بقيت ذاتها رغم اختلاف وجوهها. إذ يقر الدستور السوري الذي صدر عام 1973 في عهد حافظ الأسد وظل معمولا به حتى عام 2012 بأن رئيس الجمهورية يتولى السياسة الخارجية، أما رئيس الوزراء فلا يمارس أي نشاط ملحوظ في مجال السياسة الخارجية رغم مسؤوليته عنها، إذ يحدد الدستور في المادة (94) أن رئيس الجمهورية يقوم بوضع السياسة الهامة للدولة ويشرف على تنفيذها بالتشاور مع مجلس الوزراء، بينما لا تتعدى مهمة السلطة التشريعية حسب (المادة 71) من الدستور مناقشة سياسة الوزراء وإقرار المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تتعلق بسلامة الدولة.

يعطي الدستور السوري صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية الذي هو فضلا عن ذلك الأمين العام لحزب “البعث” الذي يعطيه الدستور السوري في مادته الثامنة الحق في قيادة الدولة والمجتمع، كما أنه يجمع إلى ذلك منصب القائد العام للجيش والقوات المسلحة وفق (المادة 103) من الدستور، وهو رئيس القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية، أما صلاحياته فهي تتجاوز الصلاحيات التنفيذية إلى التشريعية، ذلك أنه يملك حل مجلس الشعب (مادة 107) والتشريع في غير دورات انعقاده (مادة 111)، ورد القوانين (مادة 108 من النظام الداخلي لمجلس الشعب)، وله الحق في تعيين نائب له أو أكثر، ويحدد اختصاصاتهم ويعفيهم من مناصبهم، كما أن له الحق في تعيين رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء وإعفائهم من مناصبهم (مادة 95)، وإعلان حالة الحرب (مادة 100)، وإعلان حالة الطوارئ وإلغائها (مادة 101).

إن صلاحيات رئيس الدولة في الدستور السوري تعكس مدى هيمنته “دستوريا” على مؤسسات الدولة الأخرى، وقد لعب نمط تطور الدولة وهياكلها المؤسسية على أساس النظام الرئاسي الهرمي على تمركز الصلاحيات دستوريا وقانونيا وفعليا بيد رئيس الدولة.

بعد اندلاع الثورة السورية حاول بشار الأسد الالتفاف على المطالب الشعبية عبر إصدار دستور جديد فكلف لجنة بصياغة دستور جديد بتاريخ 15 أكتوبر/تشرين الأول 2011 على أن تنجز عملها خلال أربعة شهور، علما أن رئيس اللجنة مظهر العنبري هو ذاته الذي شارك في صياغة دستور 1973 وأقر الدستور الجديد الذي وسع الصلاحيات التنفيذية لرئيس الدولة في فبراير 2012 حيث تضمن دستور عام 2012 صلاحيات لرئيس الجمهورية شبيهة تماما بدستور عام 1973 مع توسيعها.

لذلك فالعديد من السوريين لا زال يعتقد أن دستور عام 1950 سوف يكون أفضل نموذج اليوم بعودة سوريا إلى الجمهورية والديمقراطية. وهذا ما حدث بالحقيقة مرتين. بعد الانقلاب العسكري الذي قاده اللواء الشيشكلي في عام 1949 علق الشيشكلي دستور عام 1950 حتى صدر دستور جديد في عام 1953. واتسم هذا الدستور بوصفه الدستور الرئاسي الأول. حيث قيد صلاحيات رئيس الوزراء في الحكومة وأعطى صلاحيات تنفيذية واسعة لرئيس الجمهورية مبنية على أساس نظام رئاسي يشبه نظيره في الولايات المتحدة الأميركية. ومع إطاحة الانقلاب في عام 1954 أعيد العمل بدستور 1950.

ومرة أخرى في عام 1958، تم تعليق الدستور عندما صوت السوريون بالأغلبية للوحدة مع جمهورية مصر تحت رئاسة جمال عبد الناصر لتشكيل الجمهورية العربية المتحدة؛ وتم استبدال دستور 1950 بدستور مؤقت صاغه عبد الناصر في تلك الفترة. 

الصراع حول اللجنة الدستورية السورية

نص قرار مجلس الأمن 2254 المتضمن خارطة الطريق الدولية لعملية الانتقال السياسي في سوريا، صراحة على أن بيان جنيف (المؤرخ في 30 يوينو/حزيران 2012) يجب أن يكون أساس أية عملية انتقال سياسي بقيادة سورية وفي ظل عملية يمتلك السوريون زمامها، من أجل إنهاء النزاع. وحدد قرار مجلس الأمن المذكور العملية السياسية بوصفها عبارة عن ثلاث مراحل رئيسة يجب أن تتم في فترة مدتها ستة أشهر حددها كالتالي:

    حكم ذو مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية.

    حدد جدولا زمنيا وعملية لصياغة دستور جديد.

انتخابات حرة ونزيهة تجرى، عملا بالدستور الجديد، في غضون 18 شهرا تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يستجيب لمتطلبات الحوكمة وأعلى المعايير الدولية من حيث الشفافية والمساءلة، وتشمل جميع السوريين الذين تحق لهم المشاركة، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في المهجر، على النحو المنصوص عليه في بيان الفريق الدولي المؤرخ 14 نوفمبر 2015.

فتشكيل اللجنة الدستورية لم ينسجم مع روح قرار مجلس الأمن ونصه الذي عبر بوضوح أن تشكيل هيئة حكم انتقالية يعتبر نقطة البداية لتشكيل دستور جديد ومن ثم إجراء انتخابات انتقالية، لكن استخدام نظام الأسد البائد للبراميل المتفجرة وحصار المدن لم يتوقف حتى خلال إصدار البيان ولم يتوقف بعده، ولذلك بدا السؤال مشروعا في معنى إطلاق هذه اللجنة الدستورية التي لم يكن لها أية مصداقية في عيون السوريين.

في عام 2016 أعلن الأمين العام للأمم المتحدة في بيان له “موافقة حكومة الجمهورية العربية السورية وهيئة المفاوضات السورية على إنشاء لجنة دستورية ذات مصداقية ومتوازنة وشاملة تسهلها الأمم المتحدة في جنيف”. وأضاف: “أعتقد اعتقادا راسخا أن إطلاق اللجنة الدستورية التي يقودها سوريون يمكن ويجب أن تكون بداية المسار السياسي للخروج من المأساة نحو حل يتماشى مع القرار 2254 (2015) الذي يلبي التطلعات المشروعة لجميع السوريين ويستند إلى التزام قوي بسيادة البلد واستقلاله ووحدته وسلامة أراضيه”. وفي النهاية شكر الأمين العام الشعب السوري على دعمه لهذه اللجنة.

لم يكن لهذه اللجنة الدستورية أية قيمة على أرض الواقع، سيما أن الحرب كانت مستمرة على الأرض وكانت سياسات الأسد على الأرض تخالف تماما البيانات المكتوبة وأن الصراع الذي عمره أكثر من أربعة عشر عاما يقوم بشكل رئيس على تدمير مصداقية أية عملية سياسية من قبل النظام السوري السابق وأن المراوغة والكذب هي سمات أصيلة في بشار الأسد ونظامه، فكيف يمكن للشعب السوري المشرد واللاجئ أن يرحب بالكذبة المستمرة حول اللجنة الدستورية التي استمرت لأكثر من 8 سنوات دون أن تفلح في كتابة مادة واحدة من هذا الدستور.

اعتقد المبعوث الأممي الخاص لسوريا في ذلك الوقت، دي ميستورا، أن روسيا ربما تكون جادة في هذه المفاوضات عبر اللجنة الدستورية كي تفرض إيقاعا يقود إلى حل سياسي بالنهاية تطبيقا للقرار 2254.

وكان الأمين العام وقتها مدركا أن روسيا باتت تمتلك الملف السوري كليا وأن فكرة الرئيس الروسي بوتين التي دعا لها سوريين في سوتشي وانبثقت عنها فكرة اللجنة الدستورية، اعتقد حينها أن روسيا ربما ترغب في حل سياسي ولكن بطريقة مختلفة هذه المرة وليس عبر مسار جنيف وقرارات الأمم المتحدة وإنما عبر لجنة غريبة الفكرة والأطوار والتشكيل، فمشى الأمين العام بالفكرة وأعلن استضافة جنيف لاجتماعات هذه اللجنة التي لا شرعية سياسية أو قانونية لها، لكنها الفكرة الوحيدة التي يبدو أن روسيا مستعدة لدعمها في ذلك الوقت سيما وأن تدخلها العسكري في سوريا عام 2015 غير الكثير من المعادلات على الأرض وأعطى نظام الأسد تفوقا عسكريا نوعيا ضد المعارضة التي انحسرت الأراضي التي تسيطر عليها إلى ريفي حلب وإدلب متموضعة في الشمال السوري تحديدا وعلى طول الحدود السورية– التركية.

ثم قرر المبعوث الدولي دي ميستورا الاستقالة في منتصف عام 2018 دون أن يحرز أي تقدم على مستوى تطبيق القرار 2254 حتى جرى تعيين المبعوث الأممي الجديد بيدرسون الذي اعتبر أن اللجنة الدستورية هي الفكرة الوحيدة التي تحظى بالدعم من الأطراف الدولية رغم قناعة المعارضة السورية بأن ذلك يعد خروجا عن قرار مجلس الأمن الذي ينص على تشكيل حكومة انتقالية وانتخابات بإشراف الأمم المتحدة، وهو ما دفع إلى انشقاقات كبيرة داخل المعارضة السورية التي رفضت في مجملها انحراف مسار المفاوضات في جنيف واقتصر تمثيلها على مجموعة أفراد يطلقون على أنفسهم وصف “أعضاء اللجنة الدستورية الممثلين للمعارضة”.

وبعد لقاءات ماراثونية بين كل الأطراف تألفت اللجنة الدستورية من ثلاثة أطراف وهم النظام السوري والمعارضة والمجتمع المدني، بمجموع 150 عضوا، ليقوم مبعوث الأمم المتحدة السابق ستيفان دي ميستورا بتوزيع هذا العدد بالتساوي على ثلاث قوائم.

وخلال سنتين عقدت اللجنة الدستورية 6 جولات من المباحثات، لكن قبل انطلاق مسار الإصلاح الدستوري تم الاتفاق بين الوفود المشاركة على مدونة سلوك ناظمة وأخرى للممارسات الإجرائية الخاصة بالرئيسين المشتركين، وعلى أسماء الهيئة المصغرة أو لجنة الصياغة المؤلفة من 45 عضوا بواقع 15 عضوا لكل وفد.

وبعد خمس سنوات من اجتماعات للجنة الدستورية لم تتمخض الاجتماعات عن أية نتائج تذكر أو أي أثر يذكر على الحياة العامة للسوريين الذين تدهور وضعهم الأمني والسياسي والاقتصادي بل زاد سوءا على يد النظام الذي أصبح مقتنعا بأن لا ضغوط حقيقية عليه وأن لعبة “اللجنة الدستورية” يمكن أن يلعبها باحتراف عبر كسب الوقت وإفراغها من معناها.

وعلى مدى ثلاث سنوات ومنذ الاجتماع الأول في أكتوبر 2019 وحتى الاجتماع الأخير في أكتوبر 2021 لم يتقدم وفد النظام السوري بأية ورقة ذات معنى من أجل الدفع قدما بهذه المفاوضات، ولذلك أعلن المبعوث الأممي بيدرسون فشل المفاوضات التي لم تحرز أي تقدم يذكر بسبب غياب الإرادة السياسية لوفد النظام الذي اعتاد على تبديد الاجتماعات بإثارة تفاصيل جانبية دون أي قرار سياسي بإنجاح نتائج هذه الاجتماعات. حيث تم صرف الاجتماعات التي تمت على مدى ثلاثة أيام لنقاش مواضيع في غاية العمومية، فعلى سبيل المثال قدم النظام السوري ورقته التي عنونت “السيادة والإرهاب” والتي تعيد أحقية نظام الأسد في إعادة السيطرة على كل مناطق المعارضة تحت سيادته ورفض التدخل التركي والأميركي بشكل خاص.

انتصار الثورة السورية والإعلان الدستوري

يكمن التحدي الأساسي من الناحية القانونية والدستورية في المرحلة الانتقالية في سوريا في خلق آلية لنقل السيادة الشعبية ضمن الظروف الراهنة. أي التحول من الشرعية الثورية إلى الشرعية القانونية. ففي حين أنه يبدو من المؤكد أن الإدارة السورية الانتقالية هي المكلفة بإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية، يرى البعض أن ذلك يجب أن يرفق بمراسيم تحدد إطار ذلك دستوريا وقانونيا، ويحدد شكل الكيان الانتقالي أو الحكومة الانتقالية وعمرها وصلاحياتها ويحدد موعدا لانتخابات شعبية تخول الشعب استعادة سلطته وسيادته.

كانت الآراء منقسمة بين العودة فقط لدستور عام 1950 كما جرى ذلك خلال التاريخ السوري ثلاث مرات، إلا أن صلاحية دستور عام 1950 للاستخدام الفعلي في المرحلة الانتقالية هي صلاحية محدودة. وسبب ذلك أن النصوص العملية فيه غير قابلة للتطبيق لأنها ترتبط بمؤسسات البرلمان ومجلس الوزراء المنبثق عنه والرئيس، ناهيك عن انتخاب الرئيس من قبل البرلمان وهذا يعني عدم إمكانية استعمال أي آلية قبل إجراء انتخابات برلمانية. ومن الطبيعي الاتفاق على أن دستور عام 1950 ليس مؤهلا ليكون دستور سوريا الدائم وبأنه لن يستمر لفترة طويلة وأنهيحتاج إلى تعديلات متنوعة ليوائم روح العصر وروح الثورة.

ولكن فتح الباب لإجراء التعديلات عليه سيعرقل بالتأكيد من قابلية استعماله مرجعا دستوريا فوريا في اللحظة التاريخية الدقيقة التي ترافقت مع سقوط النظام، فتعديل دستور عام 1950 المؤقت يحتاج إلى تفويض شعبي، وبالتالي سيدخل البلاد في المشكلة ذاتها التي من المفترض حلها من خلال جمعية تأسيسية منتخبة.

ويعتبر دستور عام 1950 من الدساتير الأكثر قبولا لدى الشارع السوري؛ فمن حيث الشكل قامت جمعية تأسيسية منتخبة بوضع ذلك الدستور، وقد انتخبت الجمعية من قبل الهيئات الناخبة يوم 5 نوفمبر من عام 1950 في اقتراع شاركت فيه المرأة السورية لأول مرة، وقامت الجمعية بدورها بتشكيل لجنة صياغة الدستور تمثلت فيها مختلف القوى السياسية وغير السياسية في سوريا. وقد أوضحت اللجنة في تقريرها للجمعية أنها اطلعت على خمسة عشر دستورا أوروبيا وآسيويا، وبدأت الجمعية مناقشة المسودة وخرج الدستور بصيغته النهائية مؤلفا من 166 مادة بعدما طويت 11 مادة.

وكان أكثر المواضيع التي احتدم عليها النقاش هو إعلان الإسلام دين الدولة أو دين رئيس الدولة، وانتهى الأمر بعد طول نقاش للحفاظ على صيغة دستور 1930 بكون الإسلام دين رئيس الدولة، والقضية الثانية التي احتدم عليها النقاش كانت وضع حد على الملكية الزراعية في الدولة للتخفيف من سطوة العائلات الإقطاعية التي كانت تسيطر على مساحات كبيرة من بعض الأرياف وحسم الأمر حينها لترك سقف الملكية مفتوحا، أما الموضوع الثالث فكان حول إدراج مادة تنص على وقوف الجيش على الحياد دون السماح له بالتدخل في الحياة السياسية السورية وهو الأمر الذي لم يتم إقراره، وقد حافظ دستور عام 1950 على الطبيعة البرلمانية لنظام الحكم وقلص صلاحيات رئيس الجمهورية وسحب حق نقض القوانين والمراسيم منه وأمهله عشرة أيام فقط للتوقيع عليها غير أنه حافظ على اختصاصه بالتصديق على المعاهدات الدولية وتعيين البعثات الدبلوماسية في الخارج وقبول البعثات الأجنبية ومنح العفو الخاص وتمثيل الدولة ودعوة مجلس الوزراء للانعقاد برئاسته.

ومن جانب آخر رفع الدستور من درجة صلاحيات البرلمان ومنعه من التنازل عن صلاحياته التشريعية للحكومة ولو مؤقتا، كما عزز من سلطاته تجاه الحكومة فألزمها بالاستقالة في بداية كل دور تشريعي، وعزز أيضا من سلطة القضاء باستحداث المحكمة الدستورية العليا. أما مواد الحقوق العامة في دستور 1950 فقد وسعت، فبلغت 28 مادة تتناول وحدها الحقوق والحريات العامة، ومنها حصانة المنازل وحرية الرأي والصحافة والاجتماع والتظاهر والمحاكمة العادلة ومنعت الاعتقال التعسفي والتوقيف دون محاكمة لفترة طويلة وحفظ حق الملكية والمشاركة في الحياة الاقتصادية وتأطير الملكية العامة للدولة وحماية حقوق الفلاحين والعمال على وجه الخصوص، وجعل العمل حقا لكل مواطن وجب تأمينه، إضافة إلى رعاية المواطنين المرضى والعجزة والمعوقين. كما تناولت تلك المواد حقوق الطوائف الدينية باتباع شرائعها من جهة وفي التعليم من جهة ثانية. ونص الدستور على كون التعليم حقا لكل مواطن، إلزاميا ومجانيا، وأوجب على الدولة إلغاء الأمية خلال عشر سنوات.

ولكن من جانب آخر فإنه ومع التسليم بأن دستور عام 1950 لا يملك من الأدوات الدستورية ما يكفي لإدارة المرحلة الانتقالية، فإن صلاحية الدستور المذكور هي صلاحية رمزية ضرورية، بمعنى أن مجرد إيقاف العمل بدستور عام 2012 الذي وضعته لجنة مكلفة من قبل بشار الأسد وتم إقراره في خضم الثورة واعتماد الدستور الوحيد الذي وضعته وأقرته جمعية دستورية منتخبة في مناخ ديمقراطي سيعني بالتأكيد قطيعة حقيقية مع الماضي، كما ستعمل النصوص المتعلقة بالحقوق والحريات العامة كضامن مبدئي لحقوق الإنسان خلال الفترة الانتقالية التي من المفترض أن تكون عصيبة. ولذلك جرت الإشارة له في ديباجة الإعلان الدستوري.

يشكل الخوف من الفراغ الدستوري وسلاسة انتقال السلطة عبر آلية دستورية صحيحة ووضع أسس الشرعية الجديدة وتأسيس قطيعتها مع الماضي الاستبدادي دستوريا أهم الاعتبارات التي لا بد من مراعاتها ولذلك انتقل التفكير إلى ضرورة إصدار إعلان دستوري مستقل، فعند لحظة سقوط النظام من المسلم لدى معظم السوريين إنهاء العمل بدستور عام 2012 كما نص على ذلك خطاب النصر والأهم هو الأسلوب الذي خرج به إلى حيز الوجود وكذلك الظروف التي رافقت إنشاءه. ولكن إلغاء العمل بدستور عام 2012 دفع الحكومة الانتقالية لإصدار إعلان دستوري يتضمن إنشاء هذه الحكومة المفوضة بالسلطة التنفيذية. ويحدد السلطات الأساسية والعلاقة بينها وآليات الحكم وصلاحيات الحكومة الانتقالية التي لا تخرج مهمتها عن تسيير الأمور والإعداد الجيد لانتخابات الجمعية الدستورية التأسيسية.

وقد جرى تداول الكثير من الأفكار أيضا حول شكل ومضمون الإعلان الدستوري بين السوريين وأنا كنت أفضل أن يخرج عن مجلس الشعب المعين بما يعطيه فرصة أكبر للنقاش والتداول. لكن مضمون الإعلان الدستوري كان متوافقا ومنسجما مع المواد الحقوقية الأساسية في دستور عام 1950 عبر إعلان بطلان القوانين الاستثنائية في سوريا وبخاصة تلك المناهضة للحريات العامة مثل قانون إحداث محكمة الإرهاب.

الإعلان الدستوري المؤقت وشكل النظام السياسي

في السياسة ما يهم هو الانطباع العام الذي يحصل عليه الرأي العام عن القرار السياسي والقدرة على تسويق هذا القرار بشكل جيد بما يخدم المصلحة السياسية، فالكثير من السوريين لم ولن يقرأوا الإعلان الدستوري المؤقت، ولذلك كان من المهم تحضير الرأي العام للقضية الأهم في الإعلان وهي شكل النظام السياسي الذي سيعكسه الإعلان، وهو ما لم تنجح فيه اللجنة المكلفة بكتابة الإعلان الدستوري لأنها ركزت على أفكار لا يمكن تسويقها لأنها ببساطة تتناقض مع نص الإعلان، من مثل قضية فصل السلطات رغم أن الكل يعلم أنه خلال الفترة الانتقالية لا يمكن الانتخاب، وبالتالي لا بد من اللجوء إلى التعيين فكيف يمكن تحقيق فصل السلطات إذن، ولذلك قوبل الإعلان الدستوري بوابل من الانتقادات التي ركزت محقة على صلاحيات الرئيس ولم تستطع أن تضعها في سياق المرحلة الانتقالية السورية اليوم وآلية بناء المؤسسات للمستقبل

عقب سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024، أعلنت الإدارة السورية في 29 يناير 2025، تعيين أحمد الشرع رئيسا للمرحلة الانتقالية، إلى جانب إلغاء العمل بالدستور، وحل الفصائل المسلحة والأجهزة الأمنية، ومجلس الشعب (البرلمان) وحزب “البعث العربي الاشتراكي”.

وأعلن الشرع في الثاني من مارس 2025، تشكيل لجنة لصياغة الإعلان الدستوري، مكونة من سبعة قانونيين، وسلمت المسودة في 12 مارس، ووقع الرئيس السوري على الإعلان الدستوري في اليوم التالي.

وأوضحت لجنة الخبراء المكلفة بصياغة الإعلان الدستوري، في مؤتمر صحافي عُقد عقب تسليمه للرئيس الشرع، أنها استندت في إعداد الوثيقة إلى مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد في فبراير 2025.

لقد صيغت الوثيقة بالاعتماد على ثلاث وثائق تأسيسية رئيسة وهي دستور عام 1950 ومؤتمر خطاب النصر والبيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني، وهو ما أشارت له ديباجة الإعلان الدستوري عندما تحدثت أنه “واستنادا إلى القيم العريقة والأصيلة التي يتميز بها المجتمع السوري بتنوعه وتراثه الحضاري، وإلى المبادئ الوطنية والإنسانية الراسخة، وحرصا على إرساء قواعد الحكم الدستوري السليم المستوحى من روح الدساتير السورية السابقة، ولا سيما دستور عام 1950- دستور الاستقلال- وإعمالا لما نص عليه إعلان انتصار الثورة السورية الصادر بتاريخ 29 ديسمبر 2025، الذي يُعد أساسا متينا لهذا الإعلان”.

فكيف يمكن قراءة السياقات السياسية التي رافقت هذا الإعلان في ضوء الدساتير السورية والنظام السياسي السابق الذي كان معمولا به في سوريا، لقد ساد الدستور السوري لعام 1973 والدستور الأخير لعام 2012 نظام حكم هجين. فمن جهة كان نظاما أقرب إلى النظام الرئاسي يمنح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة جدا، ومن جهة أخرى يعتمد جهازا حكوميا تنفيذيا قويا نسبيا، ولم يكن نظاما برلمانيا نصف رئاسي كما هو الحال في فرنسا لأنه لا يعتمد نتائج الانتخابات البرلمانية في تشكيل الحكومات المتعاقبة، بل هو بعيد فعلا عن ذلك. وبالتأكيد ليس نظاما برلمانيا صافيا يكون فيه الرئيس أو الملك منصبا فخريا لا صلاحيات حقيقية لديه مقابل صلاحيات الحكم التي تنحصر في الفائز بالانتخابات البرلمانية كالنظام البريطاني أو الهندي، وبالمقابل، فإن النظام الذي احتواه دستور عام 1973 (الذي كان أساسا نظريا للحكم منذ الانقلاب الحزبي العسكري الذي قام به حافظ الأسد والذي سمي بالحركة التصحيحية لعام 1970) كان نظاما قائما على التناقضات.

على الرغم من أن نظام الحكم في سوريا على الصعيد النظري كان نظاما مختلطا حزبيا مدنيا في آن معا،فإنه أعطى لحزب “البعث” صلاحية ومكانة كبيرة جدا حسب دستور عام 1973 مثلا من خلال قيادته للدولة والمجتمع حسب المادة الثامنة من الدستور ومن خلال ترشيح رئيس الجمهورية من قبل القيادة القطرية لذلك الحزب.

ساد التناقض المتعدد الأوجه نظام الحكم الفعلي المنفصل عن الدستور المعمول به في سوريا خلال الفترة المنصرمة، فعلى صعيد الواقع كان النظام السائد في سوريا منذ الثامن من مارس عام 1963 نظاما أمنيا حلت فيه الأجهزة الأمنية محل الجهاز المدني الحكومي في كثير من مفاصل الحياة السياسية والمدنية الخدمية اللصيقة بحياة المواطن.

أما المستوى الثاني لتناقض النظام مع الشكل الدستوري للحكم حتى بشكله غير المتطور في الحالة السورية، فقد تركز في حلول عائلة الرئيس، ونعني بها المجموعة المقربة للرئيس، محل أدوات الحكم المعروفة والمنصوص عليها في الدستور. فبالنتيجة لم يشكل الدستور أي مرتكز حقيقي للحكم في سوريا بل شكل صورة باهتة عن بعض مظاهر الحكم في سوريا مثل اعتماد حزب “البعث” قائدا للدولة والمجتمع. كما أن أهمية الدستور كانت قد اضمحلت خلال فترة حكم حافظ الأسد ومن ثم ابنه بشار، فقد شهدت الساحة السورية تجاذبات عنيفة تمحورت حول الفقرات المتعلقة بدين الدولة ودين رئيسها ومصدر التشريع فيها في الفترات التي سبقت حكم “البعث” إلا أن ذلك الجدل وكل ما مثله من حيوية في النظام السياسي والدستوري في سوريا كان قد اضمحل وحل محله القهر العنفي المستند إلى قوة أجهزة الأمن وقوة الولاء الحزبي في نهاية السبعينات. وحتى الولاء والارتكاز الحزبي كان قد تلاشى مع تركز القوى الأمنية محل كل ما له علاقة بالسياسة في سوريا. وكدليل على اضمحلال دور الدستور إلى حد التلاشي في سوريا إبان حقبة حافظ الأسد يمكن تذكر دور المحكمة الدستورية العليا في سوريا التي وإن احتفظت بدور مراسمي هام في فولكلور الحكم الأسدي في البداية فإن ذلك لم يشفع لها في نهاية حياة الأسد الأب حيث لم يتبق لها أي وجود فعلي في نهاية التسعينات وبقيت سنوات عدة دون مصدر تمويل للإنفاق الشهري الأساسي.

لكل نظام سياسي ديمقراطي ميزاته الخاصة التي تؤدي لنجاحه، كما أن البيئة الاجتماعية والعامل الديموغرافي يلعبان دورا بارزا في نجاح نظام سياسي معين في دولة ما. ويبقى أبرز ثلاثة أشكال للنظام السياسي الديمقراطي هي:

1 ـ النظام الرئاسي

وهو نظام سياسي شائع، يضع السلطات التنفيذية بشكل مطلق بيد رئيس الدولة الذي ينتخب بشكل مباشر من قبل الشعب. ولعل قوة السلطة التنفيذية تمنح قدرة عالية للرئيس على اتخاذ القرارات التي يراها مناسبة لتحقيق برنامجه الذي انتخب على أساسه. ومن أبرز ما يميز الأنظمة الرئاسية الفصل التام بين السلطات، إذ لا يحق للرئيس أن يحل البرلمان بقرار تنفيذي أو أن يتدخل في جلساته أو أن يشارك فيها.

كما أن الرئيس في النظام الرئاسي هو المسؤول الأول أمام الشعب، وهو المخول بتعيين وزرائه الذين تتلخص وظيفتهم في تنفيذ رؤية الرئيس وبرنامجه، في حين يغيب دور المعارضة السياسية والأقليات عن السلطة التنفيذية، مما يمنح استقرارا أكبر في تلك السلطة.

غير أن النظام الديمقراطي الرئاسي لا يمكن أن ينجح إلا في مجتمع تكون فيه الحالة الديمقراطية ناضجة ومستقرة، والوعي السياسي في المجتمع عاليا، كي يتقبل قرارات الرئيس المنتخب. وغياب الاتفاق والتعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية قد يعسر مهمة الرئيس ويصيب الدولة بحالة شلل، كما أن هذا النظام لا يعطي فرصة كبيرة للمساءلة السياسية، ويبقى الحل الوحيد أمام الشعب لمحاسبة الرئيس وحزبه هي الانتخابات المقبلة.

2 ـ النظام البرلماني

يتميز النظام البرلماني بتداخل كبير بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، إذ إن الحكومة عادة في هذا النظام تتشكل من قبل الكتلة الحائزة على أغلبية المقاعد إذ يشترط حصول الحكومة على ثقة هذه الأغلبية لتتمكن من ممارسة عملها، ويكون كذلك الوزراء أعضاء في البرلمان مع أنه يحق للبرلمان الاستعانة بوزراء من خارج البرلمان، كما تعتبر الحكومة مساءلة من قبل البرلمان سواء الحكومة ككل ممثلة برئيسها أو الوزراء بشكل فردي. ويحق للبرلمان سحب الثقة عن الحكومة، كما يحق للحكومة أن تحل البرلمان إلا أن ذلك يعني بشكل تلقائي سقوط الحكومة.

يكون رئيس الدولة في هذا النظام ذا صلاحيات رمزية أو شرفية، وقد تحال له بعض الصلاحيات في ظروف خاصة، إلا أن الرئيس عادة في النظام البرلماني ينتخب من قبل البرلمان كي لا يحظى بتأييد شعبي كبير يعطيه شرعية شعبية تضاهي تلك التي حازها البرلمان ككل وتتعدى بكثير نسبة ما حازه أي عضو في البرلمان من أصوات.

ويمتاز هذا النظام بمنح الوزراء سلطات أعلى من النظام الرئاسي، إذ إن الوزير يدير وزارته بحرية أكبر كونه مساءل بشكل شخصي أمام البرلمان، كم أن القرارات داخل مجلس الوزراء تتم بالتوافق وليس لرئيس الوزراء أن يفرض قراراته ما لم يوافق عليها نسبة محددة من الوزراء.

وتكمن أكبر ميزات النظام البرلماني بأنه يشجع على وجود حوار ونقاش جاد بين كل القوى السياسية حول القضايا الرئيسة التي تواجه البلاد، وبالتالي يرفع من المستوى السياسي في الدولة والمجتمع، ويزيد الثقة والتواصل بين القوى السياسية. كما أن هذا النظام يسمح للقوى السياسية الصغيرة والأقليات بلعب دور هام في السلطة.

وفي المقابل، فإن غياب الفصل بين السلطات الثلات في هذا النظام والانصهار بين السلطات الثلات قد يقود إلى استغلال السلطة والاستبداد بها خصوصا في الدول النامية والتي تفتقد لمؤسسات ديمقراطية قوية، كما أن موعد الانتخابات في هذا النظام غير ثابت ومن حق رئيس الوزراء البقاء في منصبه طالما يملك ثقة أغلبية البرلمان، وهذا يعني أن من حق رئيس الوزراء أن يدعو إلى انتخابات جديدة مبكرة متى رغب في ذلك خصوصا عندما يشعر بأن الشعب يؤيد سياساته. ولعل من عيوب هذا النظام أن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء لا يتم اختيارهما من قبل الشعب وبهذا فسوف يكون من الصعب على الشعب محاسبتهما إلا من خلال ممثليه. كما أنه في كثير من الأحوال قد تلعب أحزاب صغيرة دورا كبيرا يفوق حجمها الشعبي في تقرير كثير من الأمور الحاسمة ومنها تشكيل الحكومة واتخاذ بعض السياسات.

3 ـ النظام شبه الرئاسي أو شبه البرلماني

وهو نظام سياسي يخلط بين كلا النظامين السابقين، إذ يتشارك رئيس الوزراء الحائز على ثقة البرلمان أو المنتخب من قبله ورئيس الدولة المنتخب شعبيا في السلطة التنفيذية، وتتوزع الصلاحيات بين كلا الرئيسين، بيد أنه يحق للبرلمان مساءلة رئيس الوزراء وتغييره إن ارتأى ذلك.

     لكل نظام سياسي ديمقراطي ميزاته الخاصة التي تؤدي لنجاحه، كما أن البيئة الاجتماعية والعامل  الديموغرافي يلعبان دورا بارزا في نجاح نظام سياسي معين في دولة ما

ويتميز هذا النظام بأنه في حالة الانسجام بين رئيسي الدولة والحكومة، تكون عملية سن القوانين واتخاذ القرارات سلسة ومرنة، ويحدث استقرار كبير في إدارة الدولة، كما يحق للرئيس في حالات معينة حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة.

إلا أن أبرز عيوب هذا النظام تتمثل في حالة عدم التوافق والانسجام بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء، مما يحدث حالة من الشلل في الدولة، خصوصا لو انتمى رئيس الوزراء لحزب يعارض سياسات رئيس الدولة، كما قد يلجأ الرئيس في هذا النظام إلى إساءة استخدام سلطته بحل البرلمان، وقد يضطر للجوء إلى استفتاء الشعب كلما تعارضت السلطتان التشريعية والتنفيذية.

ومن العيوب التي ترافقت مع آلية إصدار الإعلان الدستوري المؤقت توكيل مهمة اختيار شكل النظام السياسي للجنة غير منتخبة مؤلفة من سبعة أعضاء وبالتالي لم يتسم عمل هذه اللجنة بالشفافية وفي الوقت نفسه اتسم بالمهمة المستحيلة لإرضاء السوريين الخارجين من الثورة بشكل النظام السياسي الذي يرغبون.

ولذلك ذكرت أنه كان من الأفضل أن يصدر هذا الإعلان عن مجلس الشعب المعين وهذا ما سيعطيه مزيدا من الصدقية والشرعية، سيما أنه تبنى شكل النظام الرئاسي للدولة، وهو بالمناسبة أفضل لسوريا في الوقت الحالي في ظل تزايد النزعات الإقليمية وضعف المؤسسات الوطنية فتحتاج إلى تقوية الحكومة المركزية في دمشق ضمن هذه المرحلة الانتقالية، لكن في الوقت نفسه كان لا بد من فتح المفاوضات مع كل الأطراف السورية التي لها مصلحة في المرحلة الانتقالية، بما في ذلك الأقليات الدينية والإثنية والذين يرغبون في المشاركة في الحكومات المؤقتة والدائمة، هذه المفاوضات عادة ما ترتكز على إطار عملية الانتقال ذاتها، ولكن يمكن أن تتضمن أيضا التفاوض حول الدساتير المؤقتة والدائمة.حيث إن هذه المفاوضات يجب أن تكون شاملة في أغلب الأحيان لجميع الأقليات مما يضمن نجاح المرحلة الانتقالية.

المجلة

————————-

ما حمله الإعلان الدستوري السوري/ عمر كوش

23 مارس 2025

جاء الإعلان الدستوري المؤقت في سورية كي يكون البوصلة الموجّهة لحوكمة الفترة الانتقالية فيها، والتي حدّدها بخمس سنوات، واستجابة لحاجة ملحّة، تتمثل في سد الفراغ القانوني، ووضع تصوّرات لإدارة شؤون الدولة الجديدة، عبر تأطير عمل السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومنح شرعية دستورية للسلطة الجديدة ومؤسّساتها وأجهزتها، وهو أمر تقتضيه طبيعة المرحلة الانتقالية، خاصة أنه يهدف إلى تشييد أسس لعملية انتقال سياسي جامعة، والوصول إلى بناء دولةٍ تحتضن جميع السوريين، ويمتلكون فيها قرارهم. وباعتباره إعلاناً دستورياً مؤقتاً، فإن هدفه ليس الدخول في مختلف التفاصيل في الدولة والمجتمع، إنما تحديد مبادئ عامة أساسية، يمكنها أن تفضي إلى تأمين الانتقال إلى المرحلة اللاحقة، التي يأمل السوريون أن تقطع مع مرحلة الاستبداد والتوحّش، وتنقلهم إلى مرحلةٍ يسود فيها القانون والعدالة والممارسة الديمقراطية، ويشعرون فيها بأنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات.

ومثل سائر الخطوات والإجراءات التي قامت بها السلطة الجديدة منذ سقوط نظام الأسد البائد، أثار الإعلان الدستوري جدلاً واسعاً بين المهتمين والفاعلين السوريين، حيث اعتبره بعضُهم بمثابة خطوة أخرى، تهدف إلى ترسيخ نظام الفرد الواحد، وإعادة إنتاج الديكتاتورية والاستبداد، وهم الفريق نفسه الذي اعتبر ما جرى في الساحل السوري أخيراً إبادة طائفية، وحمّل مسؤوليتها للسلطة الجديدة، بينما في المقابل، هناك من رأى كل ما ورد فيه مطلوباً للمرحلة الانتقالية، وأنه إعلان مثالي، كله إيجابيات. وبعيداً عن المغالاة، وتحامل المعترضين ومحاباة الموالين، الإعلان الدستوري في حاجة إلى نقاش موضوعي هادئ، لمعرفة ما حمله، بعيداً عن المواقف الأيديولوجية المسبقة، والتساؤل عن مدى قدرته على تأمين عملية الانتقال السياسي، وانتقاد ما غاب عنه من قضايا ومشكلات، تحتاج إلى سند دستوري، وأفضى غياب النظر فيها، وتركها إلى قوانين لاحقة، إلى نشوء حالة من عدم الوضوح.

بدايةً، ركز الإعلان الدستوري على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث المعتمد في النظم الجمهورية في العالم، وهو مبدأ تتبعه النظم الديمقراطية بشكل عام، لكنه يرد أيضاً في بعض دساتير الأنظمة القمعية أيضاً، من دون أن يطبّق فعلياً، فالعبرة في التطبيق والتنفيذ، خاصة أنه يفتقر إلى جهةٍ تراقب ذلك. وتنطبق هذه العبرة على كل المبادئ الأخرى التي وردت في نص الإعلان الدستوري.

ليس مستغرباً أن يضع الإعلان المؤقت السلطة التنفيذية في يد رئيس الجمهورية، ويعطيه صلاحية تعيين الوزراء، وتعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، إضافة إلى إعلان حالة الطوارئ، وتعيين أعضاء مجلس الأمن القومي. لكن المستغرب عدم وضع جهة مراقبة تحاسبه إذ حاد عن أداء مهمّته، حيث منح الإعلان السلطة التشريعية الكاملة لمجلس الشعب في سن القوانين وتشريعها، الذي يعيّن الرئيس ثلث أعضائه فقط، فيما تنتخب ثلثي أعضائه الباقين هيئات ناخبة في مختلف المحافظات السورية، لكن هذه السلطة التشريعية ليس لها الحقّ في مساءلة الرئيس عن قراراته وممارساته، وكذلك الأمر في ما يخص الوزراء، ومن ثم لا يستطيع كل من مجلس الشعب والنظام القضائي الانتقاليين منع رأس السلطة التنفيذية من القيام بتجاوزات تتعارض مع الإعلان الدستوري، أو اعتماد خطط وبرامج حوكمة تتنافى مع تطلعات السوريين ومصالحهم. ولعل مبدأ المساءلة والرقابة الشعبية لم تنل اهتمام واضعي الإعلان، لذلك لم يأتِ نصه على ذكر هذا المبدأ، وأفضى ذلك إلى تغافله عن مبدأ آخر هو السيادة الشعبية، التي تتيح لقوى المجتمع التعبير عن إرادتها عبر الانتخاب والاستفتاء الشعبي، وذلك على الرغم من أن الإعلان الدستوري تحدث عن انتخابات بعد وضع دستور سوري دائم في نهاية المرحلة الانتقالية.

ينبغي لفت النظر إلى تشديد الإعلان الدستوري على حماية حقوق الإنسان، وضمان الحقوق والحريات الأساسية المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق الدولية المصادق عليها من الدولة السورية، وتشمل حرية الرأي والتعبير، وحرية التنقل، وحماية الحياة الخاصة، والمساواة بين المواطنين من دون تمييز. لكنه وضع قيوداً بصياغات عامة وفضفاضة، تتعلق بالسلامة العامة والنظام العام والآداب العامة ومنع الجريمة وسواها. وجمّد عمل الأحزاب والجمعيات، على الرغم من الإقرار بأنها مكفولة، إضافة إلى ضمان حق العمل وتكافؤ الفرص.

من المهم جداً أن يمهد الإعلان لتحقيق العدالة الانتقالية، من خلال “إحداث هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية”، مهمّتها “تحديد سبل المساءلة ومعرفة الحقائق وإنصاف الضحايا والناجين”، واتخاذ جملة من الخطوات منها إلغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية، وإلغاء مفاعيل الأحكام الاستثنائية الصادرة عن محكمة الإرهاب التي أوجدها النظام البائد، إضافة إلى تجريم الإعلان تمجيد نظام الأسد البائد ورموزه، وأيضاً إنكار الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري أو تبريرها أو التهوين من وقعها، وترك الأمر إلى قانون سيصدر بشأنها من طرف مجلس الشعب المقبل، كما أن الإعلان استثنى من مبدأ عدم رجعية القوانين جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبها نظام الأسد البائد بحق الشعب السوري، الأمر الذي يعزز سيادة القانون، ويقوي دور السلطة القضائية.

يُؤخذ على الإعلان أنه لم يشر إلى حقوق المكوّنات السورية، خاصة حقوق السوريين الأكراد، لذلك رفضته معظم القوى الكردية، خاصة مجلس سوريا الديمقراطية التابع لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي اعتبره صادراً عن العقلية السابقة نفسها، ويمثل تراجعاً عن الاتفاق الذي وقع مع قوات سوريا الديمقراطية، ويعيد إنتاج نظام الحكم المركزي الذي كان في عهد نظام الأسد، وكذلك رفضه المجلس الوطني الكردي. كما يُؤخذ على تجميده عمل الأحزاب السياسية في المرحلة الانتقالية، على الرغم من إقراره حق المشاركة السياسية وتشكيل الأحزاب على أسسٍ وطنية. وعليه، فإن الكرة في ملعب السلطات الجديدة، لاستدراك النقص الذي يعتريه، خاصة ضرورة ألا تتعامل السلطة بتسرّع مع الخطوات الأساسية، وأن تنظر إلى السوريين بوصفهم كائنات سياسية أيضاً، ومن حقهم المشاركة سياسياً في جميع مراحل بناء دولتهم، بما فيها المرحلة الانتقالية.

العربي الجديد

—————————

بضع كلمات لو أُضيفت أو عُدِّلت لكان الإعلان الدستوري أكثر شمولاً وتمثيلاً للسوريين/ جمال حمّور    

تحديث 23 أذار 2025

يُعد الإعلان الدستوري وثيقة تأسيسية تمثل خطوة أساسية في صياغة مستقبل سوريا السياسي والاجتماعي، وهو بمثابة إطار قانوني مؤقت يُحدد المبادئ العامة التي تحكم البلاد خلال المرحلة الانتقالية. وبالنظر إلى محتوى هذا الإعلان، يتضح أنه يتضمن العديد من المواد التي تكرس مبادئ المساواة، وحقوق الإنسان، والحريات العامة، وحقوق المرأة، مما يجعله خطوة مهمة نحو بناء دولة القانون والمؤسسات.

ومع ذلك، وكأي وثيقة دستورية، يبقى هناك مجال للتحسين لضمان استيعاب جميع أطياف المجتمع السوري وتمثيل هواجسهم وتطلعاتهم بشكل أكثر وضوحاً. فهناك بعض التعديلات أو الإضافات التي، لو أُدخلت، كان يمكن أن تجعل الإعلان أكثر شمولاً وتعزيزاً للثقة بين مكونات المجتمع السوري.

1- تعزيز الضمانات الدستورية للحريات والحقوق

يتضمن الإعلان الدستوري مواداً واضحة تنص على صون حقوق الإنسان والحريات الأساسية (المادة 12)، وحماية حرية التعبير والإعلام والنشر (المادة 13). كما ينص على ضمان الحريات السياسية وحق المشاركة في الحياة العامة (المادة 14). ومع ذلك، فإن بعض العبارات الإضافية التي تؤكد الالتزام الصارم بهذه المبادئ دون استثناءات فضفاضة كان من شأنها أن تُحصّن هذه الحقوق بشكل أقوى.

على سبيل المثال، يُمكن أن يُضاف نص يؤكد على أن “لا يجوز تقييد أي من الحقوق والحريات الأساسية إلا بقانون، وبما لا يتعارض مع المبادئ الديمقراطية والمعايير الدولية لحقوق الإنسان”، وذلك لضمان عدم إساءة استخدام السلطة التشريعية أو التنفيذية في تقييد الحريات العامة تحت أي ذريعة.

2- توضيح مفهوم المساواة وعدم التمييز

تنص المادة 10 بوضوح على المساواة بين المواطنين أمام القانون دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو النسب، وهو أمر أساسي في أي دستور عصري. لكن كان من الممكن أن يُعزَّز هذا المبدأ بإضافة نص يُلزم الدولة باتخاذ إجراءات فعالة لضمان تكافؤ الفرص بين جميع فئات المجتمع، بما في ذلك تمثيل جميع المكونات في المؤسسات العامة، وتعزيز سياسات العدالة الانتقالية.

3- تأكيد مبدأ الفصل بين السلطات ومساءلة السلطة التنفيذية

يُعد التوازن بين السلطات وضمان استقلاليتها أحد الركائز الأساسية لأي نظام ديمقراطي. ومن النقاط التي يمكن أن تعزز فاعلية النظام السياسي في سوريا هو دور المجلس التشريعي في المساءلة السياسية. ففي الإعلان الدستوري، لم يتم التأكيد بشكل كافٍ على صلاحيات المجلس التشريعي في مساءلة الرئيس والوزراء عن أفعالهم. في الأنظمة الديمقراطية، تُعتبر المساءلة ركيزة أساسية لضمان نزاهة السلطة التنفيذية وحمايتها من الانحرافات أو التجاوزات. كما أن تأكيد الحق في المحاسبة السياسية من قبل المجلس التشريعي يعكس التزاماً حقيقياً بمبادئ الحكم الرشيد.

وبناءً على ذلك، كان من الممكن إضافة نص مثل: “يحق للمجلس التشريعي مساءلة رئيس الجمهورية والوزراء على تصرفاتهم وتطبيق الإجراءات القانونية المناسبة في حال خرقهم للدستور أو القوانين المعمول بها.” إضافة هذا النص كانت ستزيد من المصداقية وتمنح الشعب السوري ضمانات أكبر بخصوص الرقابة على السلطة التنفيذية.

4- تعزيز حقوق المرأة بمزيد من الضمانات العملية

أقر الإعلان الدستوري في المادة 21 بحقوق المرأة في التعليم والعمل وحمايتها من العنف، لكن إضافة نصوص أكثر تفصيلاً حول التزامات الدولة في تمكين المرأة سياسياً واقتصادياً كان سيعزز هذه الحقوق. على سبيل المثال، كان يمكن إدراج مادة تنص على “العمل على تحقيق التوازن بين الجنسين في المناصب القيادية”، أو “اتخاذ التدابير الكفيلة بمنع التمييز ضد المرأة في المجالات كافة”.

5- توضيح آليات تنفيذ المبادئ الدستورية

على الرغم من أن الإعلان يتضمن مبادئ هامة، إلا أنه لا يتناول بشكل كافٍ الآليات التي سيتم من خلالها تنفيذ هذه المبادئ. فمثلاً، كيف سيتم ضمان استقلال القضاء؟ وكيف سيتم تطبيق مواد حقوق الإنسان فعلياً؟ إضافة نصوص تُلزم بوضع قوانين تفصيلية خلال فترة زمنية محددة كان من الممكن أن يعزز من مصداقية هذا الإعلان.

خاتمة

إن الإعلان الدستوري هو خطوة هامة نحو تأسيس دولة القانون في سوريا بعد سنوات من الفوضى والصراع. إلا أن إضافة أو تعديل بعض العبارات المتعلقة بالمساواة، والرقابة السياسية، والحقوق الأساسية، والحقوق الاجتماعية كانت ستساهم في تعزيز القبول الشعبي، وتخلق قاعدة أوسع من الثقة بين الشعب والدولة. إن التعديلات الطفيفة التي تم اقتراحها لا تمثل سوى تفاصيل، لكنها تفاصيل يمكن أن تُحدث فرقاً جوهرياً في المسار السياسي لسوريا المستقبلية، وتؤكد على التزام الدولة بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.

———————————

سوريا في شهر الثورة.. التحديات كبيرة/ أحمد مظهر سعدو

2025.03.23

تتشابك التحديات وتتعقد، بعد نحو 4 شهور من انتصار ثورة الشعب السوري، وإزالة نظام الأسد، وفرار رأس النظام إلى موسكو. إذ يحاول السوريون الاحتفاء بتاريخ ثورتهم العظيمة، ثورة الحرية والكرامة في ذكراها، أمام تحديات كبيرة وكثيرة ومتعددة، بل وأكثر تعقيدا، طالت مجمل الواقع المتغير في المشهد السوري. حيث لم تُترك سوريا بشعبها المكافح لفرحة النصر، كما لم  يُترك الإنسان السوري ليعيش زمنا جديا خاليا من القتل والموت والعبث بأوضاعه، حتى بدأت المشكلات والإشكاليات تنبثق في طريقه الشاق نحو بناء الدولة السورية الجديدة، الخالية من خراب عصابة الأسد، فسادها وإفسادها وحالة الدولة السورية التي عاشها السوريون على مدى ٥٤ عاما من حكم آل الأسد ومساراتهم المليئة بالدم والنهب والخراب على كل المستويات، حتى أضحت سوريا في الدرك الأسفل من الفوات والعفن على جميع الأحوال والمتغيرات.

تتمظهر اليوم حالات كثيرة من تلك التحديات التي تعوِّق حركة العمل المطلوب من أجل سوريا الحرة، التي لا بد من أن تبنى على أسس جديدة وقيم وطنية أخرى، وسيادة جدية للدستور والقانون المغيبين قسرا زمن الأسد الابن وقبله الأب.

ولعل التحدي الأكبر هو ماتفعله إيران وأدواتها من الفلول التشبيحية، في محاولاتهم المستمرة ضمن الساحل السوري، وكذلك على الحدود اللبنانية السورية، من أجل زعزعة الأمن والاستقرار الضروريين جداً من أجل قيامة جديدة للدولة السورية. وإذا كانت غايات إيران في ذلك ومعها زبانية نظام الأسد واضحة المعالم، وهي التي انهزمت على يد الشعب السوري صبيحة 8 كانون أول/ ديسمبر 2024 هزيمة نكراء، أسهمت في هدم صرح المشروع الإيراني الفارسي الطائفي في المنطقة، وتم قطع  الطريق كليا على امتدادات وأطماع إيران في المنطقة، فأصبح طريق طهران بغداد دمشق بيروت غير سالك، بل مقطوع نهائيا في أوسطه، أي داخل الجغرافيا السورية تحديدا، وهو ما جعل إيران/ الملالي تتجرع كأس السم الزعاف في سوريا هذه المرة، بعد أن تجرعه (آية الله الخميني) في العراق أواخر ثمانينيات القرن الفائت. من هنا فإنها لن تألو جهدا من أجل العمل وبشتى السبل، لزعزعة الأوضاع الأمنية في سوريا، ضمن محاولاتها البائسة للعودة من جديد إلى الساحة السورية المطرودة منها، رغم كل إمكانياتها وثقلها العسكري.

أما التحدي الآخر الذي يقف في طريق الدولة الجديدة في سوريا، فهو تحدي القوة المتصاعدة الإسرائيلية  حيث  خرجت إسرائيل منتصرة في حربها على قطاع غزة وجنوبي لبنان، وهي اليوم تريد أن تستثمر وتستغل هذه الفرصة عبر سوريا، في ظل وجود عسكري لجيش سوري ناشئ ومتواضع، وضمن اللاإمكانات الجدية للمواجهة، كي تنجز وضعا جديدا عبر قضم المزيد من الأراضي السورية  في الجولان والهيمنة على كامل المنطقة العازلة، وتدمير ما تبقى من عتاد عسكري سوري، واللعب على الوتر الطائفي، بدعوى حماية الأقليات، وخاصة في الجنوب السوري . كل ذلك يجري في ظل غياب كامل لأي مشروع عربي قادر على لجم التمدد الإسرائيلي، أو إيقاف التهديدات الصهيونية المستمرة للوضع الجديد في سوريا، وضمن أجواء هيمنة الرئيس الأميركي (دونالد ترمب) على العالم، وانحيازه المطلق إلى جانب إسرائيل، على حساب العرب كل العرب، من دون الاهتمام بمواقف النظام العربي الرسمي الضعيف، هذه المواقف التي لا تتعدى شكلية إصدار بيانات لا تسمن ولا تغني من جوع.

كما لا يمكننا إلا التوقف أمام التحدي الآخر الذي لايقل خطورة، وهو موضوع شمال شرقي سوريا، حتى بعد أن تم توقيع اتفاق مهم بين الإدارة السورية الجديدة وتنظيم (قسد)  حيث ما تزال هناك الكثير والكثير جدا من من العقبات، التي تعترض طريق تنفيذه خلال تسعة أشهر قادمة، وهي المدة الزمنية المعطاة له من أجل الإنجاز، حيث ما برحت هناك كثير من العقبات بل والخلافات بين الطرفين، وصولًا إلى حالة اندماج ما، قد تحصل وقد لا تحصل في المؤسسة العسكرية السورية الجديدة، وهذا يرتبط بالضرورة وبشكل مباشر وواضح بمدى رضى أو عدم رضى الإدارة الأميركية عن أداء الحكم الجديد في سوريا.

كذلك فإن إشكالية الجنوب السوري ماتزال قائمة، واللعب بورقة (الدروز) من قبل الإسرائيليين ما تزال جدية، رغم الوقوف المعلن لمعظم الفعاليات الوطنية السورية في جبل العرب، انحيازا حقيقيا وواضحا إلى جانب وحدة سوريا، والاندماج بالحالة السورية الجديدة، وعدم الالتفات إلى ما تحاول أن تفعله إسرائيل من تحريك لبعض أدواتها في السويداء من أجل الهيمنة على الجنوب السوري والتهيئة لحالة جديدة من تفسخ الوحدة الوطنية السورية.

وقد لا يقل أهمية عن كل ذلك تحدي بناء الدولة الوطنية، على أسس تشاركية وحدوية لا تتكئ على اللون الواحد، ولا تسمح بالانفراد بالسلطة، من قبل لون سياسي واحد بحد ذاته، فمطالبات الداخل والخارج تفترض مشاركة الجميع، وفق معايير وطنية ديمقراطية تتمكن من تخطي زلات وهنات الإعلان الدستوري، وصولًا إلى تشكيل حكومة وطنية جديدة، متعددة المشارب، وقادرة على الوصول إلى بناء وطني للدولة ديمقراطي وعصري. بالإضافة إلى ضرورة الإسراع في تشكيل هيئة عليا للعدالة الانتقالية، التي باتت ضرورية وملحة، لتقطع الطريق على كل العابثين بأمن الوطن السوري. وكذلك العمل بدأب من أجل تأمين الخدمات الضرورية للعيش، وتحسين الأداء الاقتصادي الأفضل، كي يجذب ذلك السوريين المهجرين قسرا إلى الخارج، كي يعودوا جميعا ويسهموا في بناء الوطن السوري القادم والجديد.

ولن ننسى التحدي الآخر الكبير وهو تحدي كيفية إقناع الغرب وخاصة الأميركان بإزالة كل أنواع العقوبات المفروضة على سوريا، والتي لم يعد هناك من مبرر لوجودها، بعد إزاحة السبب، الذي أدى إليها، وهو “نظام الفاشيست” الأسدي، وهو مايجب الاشتغال عليه وبشتى الطرق، وعبر كل أصدقاء سوريا، حتى لا تبقى هناك معوقات حقيقية على طريق بناء اقتصاد سوري وطني قوي وقادر على الإيفاء بالمتطالبات الوطنية السورية المعيشية للناس.

إذا فالتحديات كبيرة وكثيرة، لكن الأمل ما يزال موجودا لتخطيها جميعا، وعبر جهد حقيقي، يشارك فيه كل السوريين، مع أصدقاء الشعب السوري، الذين وقفوا إلى جانب سوريا، لكن المسألة شاقة ومتعبة، وتحتاج إلى كثير من الانفتاح والتشاركية، والعمل الدؤوب من أجل سوريا التي نحب ونرغب جميعا.

————————–

أقرّت البلاد مؤخّرًا إعلانًا دستوريًا يزرع بذورًا غير معتادة تستحقّ المتابعة/ ناثان ج براون

قادة سورية يُظهِرون نواياهم

نشرت في 21 مارس 2025

أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع، في 13 آذار/مارس، دستورًا مؤقّتًا أو “إعلانًا دستوريًا” بتعبير تقنيّ أكثر، لحكم سورية خلال مرحلة انتقالية تمتدّ خمس سنوات.

هل البلد الذي عانى من حرب أهلية شهدت تدخّلًا خارجيًا، ولا يزال خاضعًا للاحتلال الأجنبي، والعقوبات الدولية، والاقتتال الداخلي، على وشك الانتقال إلى حكمٍ دستوري؟ ليس بالضرورة. لكن الإعلان يبعث بإشارات حقيقية للغاية حول نوايا القيادة السورية الجديدة تجاه الحكم على المدى القصير، ويغرس بذورًا غير معتادة قد تنمو في نهاية المطاف بطرق غير متوقّعة إذا ما تحسّنت الظروف.

تمنح هذه الوثيقة، التي صاغتها في غضون عشرة أيام لجنة صغيرة من الخبراء، في أعقاب الحوار الوطني في شباط/فبراير، ضمانات للحقوق بلغةٍ دقيقةٍ للغاية توحي بأنها أكثر من مجرّد تطلّعات، لكن الدولة بشكلها الراهن بالكاد تبدو مُهيّأة لتحقيق هذه الضمانات. والتطلّعات التي يجسّدها الإعلان الدستوري واضحة تمامًا بشأن مسائل ثلاث: سورية هي دولة وحدوية؛ والرئاسة ستتولّى قيادة البلاد في الوقت الحالي؛ والبلاد تحتاج إلى مواجهة ماضيها.

أولًا، ذُكِرَت “وحدة” الدولة السورية و”سلامة أراضيها” وطبيعتها التي “لا تتجزّأ” في مقدّمة الإعلان وستٍّ من موادّه. ودفاعًا عن هذه الوحدة، يحظّر الإعلان الجماعات المسلحة، مستخدمًا لغةً تبدو وكأنها توسّع نطاق هذا الحظر ليشمل الأفراد، كما يؤكّد على أن الدولة وحدها هي المخوّلة حمل السلاح.

ثانيًا، تمارس الرئاسة (التي يُفترَض أن يبقى شاغلها الحالي في منصبه) جميع السلطات التنفيذية مباشرةً، أو تعيّن مسؤولين يكونون خاضعين للرئيس وحده (وإن كان يجوز للبرلمان أن يعقد جلسات استماع مع الوزراء). ويتولّى الرئيس أيضًا منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ويقترح القوانين ويصادق عليها. ويكون للبلاد مجلس شعب يُختار ثلثا أعضائه من خلال عملية غير مُحدَّدة بوضوح تتضمّن “هيئات فرعية ناخبة”، على أن يتولّى الرئيس تعيين الثلث المتبقّي. وسيكون بإمكان مجلس الشعب إقرار الموازنة العامة والقوانين التي تُحال إلى الرئيس للموافقة عليها. وفي حال اعترض الرئيس على قانونٍ أقرّه المجلس، فيجوز لهذا الأخير إبطال الاعتراض. ولكن بالنظر إلى العدد الكبير من المُعيَّنين من الرئيس، والمشهد السياسي المتشظّي في سورية، يبدو من المستبعد أن يكون مجلس الشعب قادرًا على صياغة أجندة متماسكة منفصلة عن أجندة الرئيس. وبالفعل، مع حظر حزب البعث واشتراط الدستور إصدار قانون جديد للأحزاب السياسية، ليس واضحًا حتى مَن سيكون مُمثَّلًا وعلى أيّ أساس.

أخيرًا، تتطرّق مقدّمة الإعلان إلى ما طبع ماضي سورية من ظلام وقمع وطغيان وتعذيب. أما في الحقبة الجديدة المتّسمة بالنصر، فستُشكَّل لجنة مُكلَّفة بتطبيق العدالة الانتقالية. وستبقى معظم القوانين والهياكل قائمة إلى حين استبدالها، ولكن ثمّة استثناءات مهمّة: سيُصار إلى صرف قضاة المحكمة الدستورية؛ وستُلغى مفاعيل القوانين والأحكام الاستثنائية الصادرة عن محكمة الإرهاب؛ ولن تكون جرائم النظام السابق محميّةً بمبدأ عدم رجعية القوانين.

وهكذا، يدعو الإعلان الدستوري إلى الحفاظ على وحدة سورية ونأيها عن ماضٍ اتّسم بالوحشية لتتّجه نحو مستقبل مشرق، من خلال عملية انتقالية يقودها رئيسٌ قد يتمكّن مجلس الشعب من استمالته، ولكن لا قيادته. والواقع أن التركيز على وحدة الأراضي والرئاسة القوية موضوعان تكرّرا كثيرًا في التاريخ الدستوري السوري.

أما المسارات السياسية والقانونية المحتملة، فنرى في التفاصيل الدقيقة لأحكام أخرى بعض ما يؤشّر عليها، ربما أبرز هذه الأحكام تلك التي تتعلّق بالدين. فالإعلان الدستوري يتضمّن تلميحات مألوفة جدًّا في المنطقة حول تكريس الإسلام مع حماية الحريات الدينية، غير أن الكلمات المختارة توحي بأن هذه التلميحات قد تكون أكثر من مجرّد صياغة منمّقة.

أولًا، يتضمّن الإعلان الدستوري مادّة شديدة الوضوح بشأن اعتماد “الفقه” الإسلامي مصدرًا رئيسًا للتشريع، في عودةٍ إلى دستور سورية للعام 1950، الذي كان أول دستور في المنطقة يُدرِج مثل هذا البند المتعلّق بالشريعة. والمادّة قد تحمل في طيّاتها تأثيرًا أكبر، إذ تشير تحديدًا إلى “الفقه” بدلًا من الإشارة بشكلٍ مبهم إلى “الشريعة الإسلامية” أو “مبادئها”، كما تفعل دول أخرى في المنطقة، ناهيك عن أنها تُدخِل “ال” التعريف على كلمة فقه. ولكن الأهمّ من ذلك بكثير أن البند يُطبَّق في ظلّ حكم رئيسٍ إسلامي، ويُفسَّر من محكمةٍ دستوريةٍ هو مَن يعيّن أعضاءها، أي أن ما كان عمومًا لغةً رمزيةً في سياقات أخرى قد يكتسي معنًى حقيقيًا في سورية.

نلاحظ أيضًا في التفاصيل الدقيقة للأحكام المتعلّقة بالحريات الدينية بعضَ العناصر التي قد تمنح هذه الأحكام زخمًا أقوى. فالإعلان الدستوري يكفل حرية “الاعتقاد” بدلًا من “العقيدة”، وهذا المصطلح الأخير يميل إلى حصر الحقوق بالأديان الراسخة والمُعترَف بها، في حين أن المصطلح الأول يشير إلى ما هو أقرب إلى حرية الضمير الفردية. ومع ذلك، وحدها الديانات “السماوية” المُعترَف بها تُصان شعائرُها وتكون أحوالُها الشخصية نافذة. والجدير بالذكر أيضًا أن الصراعات في سورية اليوم، حتى تلك التي تحمل بُعدًا طائفيًا كبيرًا، لا تركّز على الشعائر الدينية والأحوال الشخصية، بل من الأفضل النظر إليها على أنها ذات طابع إثنيّ وسياسي.

وفي ما يتعلّق بالحقوق بصورة أعمّ، يبدو أن عملية صياغة الإعلان الدستوري المتسرّعة والمغلقة، إضافةً إلى الطابع المؤقّت للإعلان، حالا دون اعتماد مسارٍ معتادٍ تُعامَل فيه الدساتير كأنها أشجار عيد الميلاد (إن جاز التشبيه)، تُعلّق عليها الجماعات المختلفة بنودَها أو حقوقَها المُفضَّلة. ولكن ذلك قد يحدث مرّة واحدة أو عند صياغة وثيقة أكثر ديمومةً.

مع ذلك، تضمّن الإعلان مادّة قاطعة بشكل مفاجئ مفادها أن “جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان” التي صادقت عليها سورية تشكّل “جزءًا لا يتجزّأ من هذا الإعلان الدستوري”. والحقوق هذه كثيرة جدًّا. على وجه الخصوص، صادقت سورية قبل نصف قرن على كلٍّ من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هاتان الوثيقتان مستفيضتان وتملآن الكثير من الثغرات في الإعلان الدستوري نفسه (أحكام الحريات الدينية مثلًا مُفصَّلة للغاية). وبرفع هذه الوثائق إلى مرتبة دستورية، يبدو أن الحاجة إلى التشريعات التنفيذية تنتفي، لا بل إن العكس هو الصحيح نظريًا: تُعَدّ النصوص القانونية التي تتعارض مع هذه الصكوك الدولية غير دستورية، شرط أن تطعن بها المحكمة الدستورية الجديدة وتلغيها.

كذلك يحمل الإعلان الدستوري، بالرغم من اقتضابه، بعض الإشارات المربكة أحيانًا. فهو يلغي التمييز على أساس الجنس، ويكفل حقّ المرأة في التعليم والعمل من دون قيد أو شرط، ولكنه يصون أيضًا “كرامتها” “ودورها داخل الأسرة والمجتمع”. ومع أن ما من تناقض قانوني بين الأمرَين، يبدو أن ثمّة محاولة للتعبير في آن واحد عن أفكار مُنادية بالمساواة وأخرى مُحافِظة أكثر، من دون تقديم أيّ توجيهٍ بشأن كيفية حلّ أيّ توتّر قد ينتج عن ذلك.

والأمر الأبرز هو ما أغفله الإعلان الدستوري إغفالًا تامًا، إذ إنه لا يتطرّق أبدًا إلى كيفية استبداله. فعملية صياغة دستورٍ أكثر ديمومة ستصطبغ بالصراعات السياسية في السنوات القليلة المقبلة، ومع ذلك لا تتضمّن الوثيقة أيّ بندٍ حول كيفية ترجمة محصّلة هذه الصراعات إلى نصّ دستوري. وبما أن معظم التفاصيل الدقيقة المثيرة للاهتمام في الوثيقة المؤقّتة تشير إلى مساراتٍ قد تتطوّر تدريجيًا مع مرور الوقت، ولا سيما في ما يخصّ حقوق الإنسان، يكتسب هذا الإغفال دلالة ملحوظة.

لكن الدساتير المؤقّتة، حتى تلك التي تتضمّن مواعيد انتهاء واضحة ومتطلّبات أكثر صرامة لاستبدالها، غالبًا ما تحدّد نقطة انطلاق للمفاوضات الدستورية. وإذا ما شرع واضعو الدستور في صياغة دستور دائم، فستكون أمامهم هذه المجموعة المؤقّتة من الأحكام، التي تحدّد التوقّعات، وتؤطّر المسائل الحساسة، وتقدّم صياغة محدّدة. يبدو من المستبعد أن يتمتّع السوريون اليوم بالحريات التي وُعِدوا بها. ولكن إذا انبثق مسارٌ سياسي بالفعل خلال الفترة الانتقالية، يفضي إلى جهاز دولة أكثر شرعية وكفاءة، فقد يعود المواطنون إلى بعض هذه الصياغة، أو سيحاولون ربما التوفيق بين الوعود التي قُطعَت لهم والرئاسة القوية، التي تمكّنت من إعادة ترسيخ نفسها في ثوب إيديولوجي يبدو لكثيرين مختلفًا تمامًا عن هذه الوعود.

مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط

————————–

المطران جاك مراد : الإعلان الدستوري مشكلة للمسلمين

أنيس المهنا

الأحد 2025/03/23

التزمت الكنيسة السورية طوال السنوات الـ14 الماضية الاهتمام بالأمور الإنسانية مجبرة، عندما رأت أمامها الظلم والاعتقالات، لكنها لم تكن يوماً خارج إطار العمل السياسي، وقد دفع مسيحيو سوريا أثماناً باهظة، تهجيراً وقتلاً وتهميشاً في عهد نظام المخلوع بشار الأسد، لأنهم لم يكونوا يوماً مع نظام “البعث”. لكن ذلك لم يمنع بعض مسيحيي سوريا من الحديث عن سياسة إقصاء ممنهج تُمارس ضدهم من قبل إدارة دمشق الجديدة، والتي قد تؤدي إلى نتائج كارثية من وجهة نظرهم، أبرزها زوالهم، معتبرة في المقابل، أن الإعلان الدستوري للرئيس أحمد الشرع قد يشكّل مشكلة للمسلمين، أكثر من المسيحيين.

مقدمة تفتح النقاش واسعاً مع رئيس أساقفة حمص وحماة والنبك وحولها للسريان الكاثوليك المطران جاك مراد، هذا نصّه:

بدايةً ماذا عن موقف الكنيسة بشكل عام أثناء قيام الثورة السورية؟

يجيب مراد أنه في بداية “ربيع سوريا” سنة 2011، كانت الكنيسة في وضع لا تّحسد عليه، لسببين، أولهما أن موضوع الثورة السورية كان مفاجئاً بالنسبة إلى المسيحيين، ولو أنه كان نتيجة طبيعية آنذاك لأن الإنسان السوري بشكل عام وليس المسيحي فحسب، كان يبحث عن حق طبيعي في حرية التعبير ودرء الفساد. لذا عندما بدأت الثورة، كان عدد المشاركين فيها منهم قليل، وقد انضموا إليها، علماً أن طابعها كان واضحاً منذ اليوم الأول، بأنه إسلامياً سنيّاً، خصوصاً أن التظاهرات، كانت تخرج من المساجد كما كان معروفاً آنذاك.

في تلك الأثناء، عاشت الكنيسة بشكل عام في حيرة من أمرها، فهي كانت مع تغيير سياسة الدولة، وتحرير الأسواق، وحرية التعبير، لكن طبيعة الحراك لم تكن واضحة، في ظل غياب أي خطاب رسمي للمعارضة السورية، يظهر خطة واضحة للحراك، من قبل الثوار أنفسهم، أو من قبل الدول الداعمة له في ذلك الوقت. لذلك التزمت الكنيسة الاهتمام بالأمور الإنسانية عندما رأت أمامها الظلم والاعتقالات والقتل، والتعدي الصارخ على المتظاهرين المدنيين بالسلاح والمدفعية من قبل أجهزة نظام الأسد، فيما امتلأت السجون بأشخاص كان ذنبهم الوحيد أنهم تكلّموا أو صرخوا..

عليه، ماذا عن الأثمان التي دفعها المسيحيون، وهل غابت الكنيسة بالفعل عن أداء دورها الحقيقي؟

يقول مراد إنه في حقبة النظام البائد، خرجت أصوات كثيرة من العلمانيين المسيحيين، ورجال الدين كالمطرانيين بولس يازجي، مطران حلب للروم الأورثوذكس، والمطران غريغوريوس يوحنا إبراهيم، مطران حلب للسريان الأورثوذكس، اللذين اختفيا في حلب، وكذلك لن ننسى الأب اليسوعي فرانس فاندرلخت الذي تضامن مع أهالي حمص في الحصار، وبقي معهم وشاركهم الجوع، وكل عذاباتهم، ليدفع في نهاية الأمر حياته ثمناً بسبب هذا الحب المنقطع النظير والتضامن مع الثورة.

كذلك الأب باولو دالوليو، الذي بات رمزاً من رموز الثورة السوريّة، ليس لأنه تضامن فقط مع طرف ضد آخر، بل لأنه حمل بداخله حباً كبيراً لهذا البلد العظيم الذي لا يستحق أن يبقى في هذه الدوامة من العنف والديكتاتورية، والظلم والانتهاكات، فدفع، هو الآخر، حياته ثمناً لكن بقرار منه عندما ذهب إلى الرقة، بكل إرادته للتفاوض مع “داعش”.

ولن ننسى بطبيعة الحال، المعارضين السوريين جورج صبرا، والراحل ميشيل كيلو اللذين لعبا دوراً اساسياً، في بداية الثورة السورية، وفي كل المرحلة السابقة.

ويؤكد المطران مراد، أن هناك الكثير من الأشخاص من الإكليروس، والعلمانيين المسيحيين الذين كانوا ضحايا الحرب التي دارت رحاها في سوريا بسبب ثورة شعبها ضد النظام. ومنهم الأب فرانسوا مراد الذي قتل على يد “جبهة النصرة”، في الغسانية في 2013، والأب الأرثوذكسي فادي حداد في قطنا، إلى جانب كثير من الكهنة والمطارنة الذين تركوا البلد بسبب مواقفهم المعارضة للنظام السوري البائد. ويذكر المطران مراد الكثير من المسيحيين الذين اختفوا في سجون النظام، من دون أن يغيب عن ذهنه الذين قتلوا على يد أجهزة نظام الأسد، ومنهم المخرج السينمائي باسل شحادة، كما أن بعض المسيحيين أسر من قبل “داعش” أو “جبهة النصرة”، ويلفت إلى أن الثمن الأكبر الذي دفعه المسيحيون هو تهجيرهم من مناطقهم بشكل كامل.

يضيف مراد: “الأمر الذي لن ننساه، وعلينا أن نستذكره، ونذكّر به السلطة الحالية التي تتناسى في بعض الأحيان، من جهة، والمجتمع الدولي، من جهة أخرى، أن الكنيسة لم تكن غائبة أبداً عن الساحة في سوريا، لأن المسيحيين يعتبرون أنفسهم هم أصل هذه البلاد وجذورها، فعلى الرغم أن المسلمين اليوم هم أهل هذه الأرض وهي بلدهم، فإن جذور هذا البلد سيريانية، ومسيحية، والأمر ليس خافياً على أحد، ولا يمكن إنكاره”. ويطالب السوريين، من مسيحيين ومسلمين، بالتوقف عن الحديث عن العصبيات والعشائرية والطائفية، قائلاً: “نحن لا نريد أن نعبّر عن حبّنا لوطننا وانتمائنا لهذا الوطن من خلال الطائفية. فهناك من يريد اليوم أن يربط هذا الوطن بفئة واحدة، وهذا الأمر مرفوض رفضاً قاطعاً لأن سوريا للجميع وليست لإحدى الفئات، بل هي تضم الجميع وتحترم الجميع، ومنفتحة على الجميع”.

ماذا عن أحداث الساحل الأخيرة؟

يشير مراد إلى أن “العنف الذي يُمارس اليوم خصوصاً في الساحل السوري، ليس نابعاً من انتماء حقيقي لهذا الوطن، بل هو جريمة بحق انسانيتنا كسوريين، لن تستفيد منها سوى إسرائيل التي تعمل بشكل جدي اليوم على تقسيم سوريا. ومردها عملياً تحقيق المصالح الغربيّة والإسرائيلية، ولن تكون نتيجتها إلا تقسيم البلاد وإضعافها، وتهجير أهلها. وكل هذا يجعل بالطبع إسرائيل، هي الدولة الأقوى عسكرياً في المنطقة، لتتحكم بثروات الشرق الأوسط، سواء في لبنان وسوريا والعراق، والأردن”.

إذاً، هل تتحمل الكنيسة دوراً في تحييد المسيحيين، الأمر الذي وضع المسيحيين الى جانب النظام المجرم في سنوات الثورة، أم أن هذا يعتبر إجحاف بحق الكنيسة ورجالاتها؟

يلفت المطران مراد إلى أن هناك إشكالية كبيرة عن ماهية الكنيسة، ومن تمثل، وهل يتكلم الاكليروس، والكهنة باسم الشعب؟، أم باسم رؤساء الكنيسة؟ وهذه أسئلة يعيد المطران الإجابة عليها إلى بداية الحرب السورية، إذ كان هناك خليط من عدم الوضوح، ولأن الوضع العام لم يكن يسمح بتأسيس تيارات مسيحية، أو نوادٍ أو ملتقيات، تبحث في الشأن السياسي والاجتماعي، حاول بعض الشخصيات الكنسية من كهنة ومطارنة، وبطاركة، نقل صوت الشعب، لكن في حقيقة الأمر أنهم كانوا ينقلون صوتهم كأشخاص. وشخصياً عندما كنت أظن أنني أتكلم باسم المسيحيين من حولي أو الرعية التابعة لي، وحتى لا أخدع نفسي، أعترف أنني كنت أقول رأيي أنا. صحيح أنني كنت أتأثر بما يقال حولي من قبل الشبيبة والعلمانيين، لكنني في آخر المطاف كنت أتحدث عن نفسي. لذلك فإن الدعوات التي تُوجّه بعد سقوط النظام، إلى بعض البطاركة والأساقفة لتقديم اعتذارهم عن التواطؤ وتأييد نظام الأسد والسكوت عن كل الإجرام التي ارتكبها الأسد بحق الناس، والاعتراف بأنهم كانوا يتكلمون باسمهم، وليس باسم الشعب المسيحي، تُوجب عليهم الاعتذار، وهذا رأيي الشخصي، حتى لا يُفهم من كلامي أنني أوجّه اللوم إلى أحد بذاته، وأنا أتحمّل النقد على هذا الرأي.

لكن كيف تعاملت الحكومة الجديدة، مع الكنيسة ومع رؤسائها، وهل عرض عليكم أي دور حقيقي للمشاركة في إدارة البلاد في هذا المنعطف الخطير؟

يشدّد مراد بوضوح على أن الكنيسة ليست هي الإكليروس فقط. يقول: “لا يحق لي كمطران القول إنني أمثّل المسيحيين، وكذلك الأمر بالنسبة لزعماء الكنيسة مع احترامنا للجميع، واحترامنا لأفكارهم وخطاباتهم الرائعة

التي قدموها في المرحلة الأخيرة، لاسيما، الخطابات الجريئة لسيدنا يوحنا العاشر بطريرك الروم الارثوذكس في الشرق. ومن هنا على الكنيسة أن تبقى شاهدة وشهيدة، وأن تنظم ذاتها، وتؤسس منتديات لاجتماع العلمانيين المسيحيين للعمل معاً، من أجل مستقبل هذا الوطن.

وعن تعامل الحكومة المؤقتة، يشير مراد إلى زيارة المسؤولين الجدد للكنيسة، تضمنت التقدير والتأكيد على مشاركة الجميع، لكن عملياً هناك تناقض كبير بين الأقوال والأفعال، فهناك تهميش للقيادات المسيحية، وللمسيحيين على حد سواء، وإغفال لدور الكنيسة. وهذا التهميش ينسحب على كل الأقليات الأخرى، وربما هناك تهميش لكل الشعب السوري، ففي الوقت الذي تأتي فيه السلطة الجديدة، وتشكّل حكومة من لون واحد، من إدلب، فهذا إقصاء لكل الشعب، وكأن الأخير بأكثريته المتبقية، بات خائناً ” شبّيحاً”. وكأن هذا الشعب لم يشارك بالثورة، ولم يدفع ثمنًا باهظاً، هذا هو الضلال بعينه، من قبل الحكومة الجديدة، وهو غير مقبول ابداً، لأن القائمين على هذه الحكومة، يعرفون أن الشعب الذي بقي في الداخل السوري، قد تحمّل من الجوع والموت، والقمع، ودفع الكثير من التضحيات، ومن كل المكونات.

ويضيف مراد: “نعرف جميعاً أن هناك الكثير من إخواننا العلويين، الذين لم يكن لهم لا ناقة ولا جمل في الصراع، ولا ذنب لهم بانتمائهم لنفس طائفة رأس النظام بشار الأسد، فهم دفعوا ثمناً من أرواح أولادهم الذين استشهدوا، وأركز هنا على هذه الكلمة، بلا أي معنىً إلى جانب الذين سُجنوا منهم وأُسروا أيضاً”، معتبراً أن “هذا التبخيس بقيمة الناس وبدمائهم، بعد كل هذه التصرفات التي صدرت من هذه الحكومة، يُفقد الشعب بكل أطيافه، الثقة بها”، مشدداً على “أن كل التصرفات التي صدرت عن الرئيس أحمد الشرع والحكومة المؤقتة خلال الأشهر الثلاثة الماضية غير مقبولة”. فعندما يقول الشرع: “علينا أن نطوي صفحة، ونفتح صفحة جديدة”، وبعد فترة قصيرة تتفلت بعض الفصائل في مناطق العلويين، لتبدأ عمليات التنكيل والقتل، بطريقة بشعة جداً وممنهجة، فكل هذا تبخيس بقيمة هذا الشعب وما تحمّله، وإهانة لدماء هؤلاء الذين غُصبوا على الشهادة ولم يختاروها.

استناداً لما سبق، ماذا عن الدور الحقيقي للكنيسة، في الشرق وفي سوريا خصوصاً بعد سقوط الأسد؟

يؤكد المطران مراد أن دور الكنيسة الاجتماعي والسياسي والثقافي مهم جداً لتميزه أولًا، وثانياً، لأن الكنيسة عصب مهم في كيان الدولة بسبب تاريخها وماضيها وانفتاحها على الغرب غير المسيحي. وأركز هنا على هذه النقطة لأن المسلمين في سوريا يعتبرون أن الغرب، هو مسيحي وكافر وصليبي، وإلى آخره، وهنا أوكد أن الغرب في سياساته وطريقة إدارته، لا يمت إلى الكنيسة وإلى المسيحيين بصلة. إذاً حتى تستطيع الكنيسة أن تكون حاضرة بشكل فاعل ومؤسس وشريك في الخطاب السياسي، وفي العقد الاجتماعي، عليها أن تجمع كل الآراء في سوريا، وأن تُقدّم خطاباً سياسياً موحداً. ويحذّر أنه إذا لم يوجد حراك من أجل خطاب واحد وعمل مشترك، على كل الصعد، فإننا نتحمل مسؤولية فقدان الوجود المسيحي في سوريا، وليس فقط فقدان الدور، بل فقدان المكوّن كله. وعندها ستتحول كنائسنا في الشرق إلى متاحف يأتي الناس لزيارتها، وسنكون كمطارنة وكهنة مجرد حراس عليها. فما يجذب العالم إلى كنائسنا هو دفء الصلاة، الذي سيبقى إلى نهاية العالم، هو صدى الإيمان، الحقيقي والعميق والروحاني لشعبنا المؤمن. وهكذا أنا كإنسان مؤمن لن أفقد الرجاء رغم كل ما حدث في الأيام الأخيرة.

ويتابع المطران مراد أن “الشعب السوري مؤمن، ولولا الإيمان لم يصبر على كل الذل والفقر. لكن إذا استمرت سياسة الإقصاء التي تُمارس بمنهجية مباشرة وواضحة من قبل الحكومة المؤقتة، فليعلم العالم كله أننا سنكون كمسيحيين الشعبَ الذي مات بصمت، الذي لم يفكر به أحد، وليس لنا صوت نصرخ به. والمسؤولية عن ذلك ليست داخلية فحسب، بل هي خارجية أيضاً”.

يبدو أن هناك دوراً مفقوداً اليوم للمسيحيين في بناء سوريا الجديدة، هلّا تحدثنا عن وجه المسيحيين الحقيقي، وحاضرهم والأمل بتفعيل أدوارهم؟

يقرّ المطران مراد بأنه لا دور للمسيحيين اليوم في بناء الدولة، والسبب في ذلك لا يتوقف على تشتت الكنيسة وعدم توحدها، بل تقع المسؤولية أيضاً على الحكومة المؤقتة واستمرارها باتباع سياسة الإقصاء التي كان النظام السابق ينتهجها، ويستدل على ذلك بمؤتمر الحوار الوطني الأخير، الذي تم اختيار الأشخاص الممثلين فيه، من قبل اللجنة المنظمة، وليس من قبل الشعب أو من قبل الكنيسة، ويضيف: “أنا شخصياً أعترض على ذلك بشكل كبير، لأن التنظيمات المجتمعية القائمة هي التي كان عليها أن تختار أعضاء الحوار”، مؤكداً أن المؤتمر كان فاشلاً ليس فقط لأن التمثيل المسيحي لم يكن كما كان مأمولاً، بل لأن كل المكونات الأخرى لم يكن تمثيلها متوازناً أيضاً، وكأن هناك إقصاء لبعض الجهات، وهذا الشيء ليس مقبولاً، خصوصاً أننا نعيش اليوم حلم سوريا الجديدة، لذا فإننا لا نعتبر أن المؤتمر قد حدث، ولا بدّ من التفكير وبشكل جدي بمؤتمر وطني آخر واسع المجال والطيف مع تحضير مسبق وطويل الأمد يعتمد الطريقة الالكترونية، بحيث يكون هناك مشاركة حقيقية من السوريين في الداخل والخارج، لكي نستطيع بناء دولة ديمقراطية، حضارية، نستطيع القول إن مؤسسها هو الشعب السوري وليس فئة حاكمة، بدون تدخل أي قوى خارجية.

صف لنا واقع المسيحيين السوريين اليوم على الصعيد الديمغرافي وأثر الحرب على تلك الخريطة؟ وهل تشعرون بخطر وجودي وأنتم أهل سوريا الأصليين؟

يلفت مراد إلى أن عوامل كثيرة، ساهمت في بطء التزايد الديمغرافي المسيحي، وارتفاع عوامل الهجرة الأمر الذي سبب انهياراً حاداً في اعدادهم في السنوات الأخيرة، مشيراً إلى تغييرات كبيرة وقاسية على الخريطة الديمغرافية السورية إذ إن نسبة المسيحيين السوريين لا تتجاوز اليوم 2.5 في المئة، فأعداد كبيرة منهم اختفت بسبب الهجرة، وعمليات القتل في الشمال السوري وأيضاً تقلصت الأعداد في مناطق أخرى خصوصاً في حلب التي تراجع فيها المسيحيون من 170000 شخصٍ إلى 20000 كذلك اختفاء المسيحيين في مدينة إدلب وفي جسر الشغور وعدة قرى، وكذلك إفراغ قرى مسيحية في حمص كالقريتين وأم شرشوح، وحوران من أبنائها.

ويشرح المطران مراد أن هذا التغيير الديمغرافي ستكون له نتائج سلبية وخطيرة مستقبلاً، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل على الصعيد الاجتماعي، ولا ندرك للأسف، مدى خطورته على مسألة التنوع والديمقراطية.

ويشدّد المطران مراد على أن الكنيسة مؤسسة لها دور مهم جداً على صعيد المساعدة في تنظيم لقاءات حوارية تثقيفية، لبناء فكر سياسي لكل مكونات الشعب، مؤكداً أنها لم تنسحب أبداً من العمل السياسي، لكن دورها في العمل السياسي في عهد “حزب البعث”، كان محدوداً بسبب وجود قمع للحريات ومنع الإعلام، لذلك لم تكن مؤثرة، أو قادرة على التغيير بسبب كل ذلك.

ما تعليقكم على الإعلان الدستوري الأخير، والذي يعتبر أن الإسلام هو دين الرئيس أو دين الدولة وأن الشريعة أو الفقه الإسلامي هو مصدر للتشريع؟

يؤكد مراد أن ذلك الإعلان لا يشكل مشكلة بالنسبة إلى المسيحيين والكنيسة، لأن نسبة المسيحيين لم تعد تشكل كتلة وازنة، ويرى أنه قد يشكّل مشكلة للمسلمين أكثر منها للمسيحيين، لأنه بهذا المنطق، فإن الدولة الجديدة تلغي كل شرعة حقوق الإنسان وقوانين وحرية الفرد، فمجرد أن الفقه الإسلامي هو مصدر التشريع، والرئيس يجب أن يكون مسلماً هذا أمر طبيعي أصلاً، موضحاً في المقابل “لكن عندما يشرّع الدستور، امتلاك رئيس الدولة لصفات معينة، بدون ذكر دينه، من بين هذه الصفات، فذلك هو مصدر حضاري للتشريع، وعندما توضع شرعة حقوق الإنسان والدولة المدنية، والديمقراطية (الكلمة التي لم يتم ذكرها، ولا مرة واحدة في كل مؤتمر الحوار الوطني)، عند ذلك نفهم أن هناك نضجاً ووعياً عند هذا الشعب. أما اليوم فنحن لن نستطيع القول إننا نتكلم عن دولة متحضرة، و لن نقبل بذلك أبداً،  وكل الشعب السوري لن يقبل به، متسائلاً: لماذا لا يكون لدينا مرة واحدة حكومة جريئة وشجاعة، تعطي للشعب صوته بدون قمع للحريات؟ فعندما يقول كل الناس في صناديق الاقتراع، نحن نريد تشريعاً اسلامياً، ودين الدولة الإسلام، فنحن سنكون كمسيحيين متقبلين بشكل كبير ما يريده الشعب السوري. فنحن كمسيحيين نملك قوانيننا الخاصة ومحاكمنا الروحية الخاصة، وهذا لن يغير شيئاً. ويخلص مراد إلى القول: “المعضلة اليوم كيف يمكن للإسلام أن يحلّ مشكلته مع نفسه، والدولة منقسمة على ذاتها وهي هشة ضعيفة، وكل ذلك بسبب التركة الثقيلة للأسد، وهو الذي جرّ هذه البلاد إلى هذا المستنقع الطائفي الخطير”.

المدن

—————————-

===================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى