سوريا واسترداد الحقّ في المكان العام/ مصطفى حايد

22.03.2025
أهمية المساحات العامّة بخاصّة الساحات، تكمن في حقيقة أنها تمثل “الوجه العام” للدولة، وهو بالضبط ما حاول الناشطون والمعتصمون استعادته لنزع تلك الصفة العامّة عن الدولة، وبذلك يكون احتلال هذه الأمكنة تحدّياً للسلطات التي لم تُنكر فقط حقّ الناس في هذه الأماكن، إنما اعتمدتها كامتداد للرقابة والهيمنة على الناس.
خلال زيارتي مدينة الرقّة في عام ٢٠١٣، لفتني مشهد مسرحي وسوريالي لإحدى الساحات العامة هناك. كان الوقت مساء، وهناك نافورة مياه في منتصف الساحة، تتوزّع عليها إضاءة ملوّنة ومتقطّعة وكأنك في صالة رقص، وعلى حواف النافورة كانت تجلس ثنائيات من العشّاق، وفي إحدى الزوايا “سبيكر” بصوت عالٍ جداً يتحدّث من خلاله دَعَوي من “داعش” عن حُرمة ذهاب المرأة إلى طبيب ذكر، ومحرّمات أخرى يذكرها بنبرة غاضبة وآمرة.
لا أجد مثالاً أفضل من هذا المشهد لوصف رمزية هذه الساحة الصغيرة، وما مثّلته من مؤشّرات لما قد يحدث لاحقاً. وبالفعل، بعد أشهر قليلة اختفت الأضواء والثنائيات من هذه الساحة، عندما سيطرت “داعش” على المدينة وبقي “السبيكر”، إضافة إلى رجال الحسبة والأمر بالمعروف ونسائهما، الذين هيمنوا على تلك المساحة وأصبحت مساحتهم الدَعَوية والعقابية.
في مساحات أخرى من سوريا خلال العام ٢٠١٤، في حلب وريفها وفي دير الزور وإدلب، بات بعض تلك المساحات العامّة أماكن لجلد الناس وقطع الأيدي والرؤوس، إضافة إلى لافتات دينية كبيرة، في رمزية تُشبه تعبئة نظام الأسد لأماكن مشابهة في مناطق نفوذه.
في مناطق أخرى من إدلب، خلال السنوات القليلة الماضية، حاول معتصمون نصب خيمة كبيرة في إحدى الساحات للاعتصام ضد ممارسات “هيئة تحرير الشام”، وقام عناصر الهيئة (أو من أصبحوا اليوم عناصر في الأمن العام) بمشاهد شبيهة لمشاهد “شبّيحة” الأسد وعناصر أمنه، بالهجوم على المعتصمين وتدمير خيمتهم وضربهم والدوس على أعلامهم (التي أصبحت الآن أعلام الدولة الرسمية).
دفع ذلك المتظاهرين في الأماكن التي تُسيطر عليها قوى أمر واقع مختلفة من إدلب إلى عفرين إلى درعا والأتارب وسواها، إلى التظاهر وشغل ساحات أصغر ضمن شوارع يعرفونها وتشبههم، ويستطيعون التظاهر فيها والهرب منها سريعاً إذا اضطرّوا، في تكتيك مشابه لما كان متظاهرو دمشق يفعلونه، خلال التظاهر ضمن أحياء دمشق القديمة في السنوات الأولى للانتفاضة.
المساحات العامّة بعد الأسد
اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد، تتباين حالة المساحات العامّة في سوريا، لكنها ما زالت “غير عامّة” وغير “آمنة” (safe space) إلى الآن، تتبدّل، في بعض الأماكن، اللافتات القماشية الكبيرة المعلّقة، التي ما زالت قبيحة في تقرّبها من أي سلطة، وتشغل مساحات من المُفترض أنها أوجه عامّة مهمّة من هويّات تلك الأمكنة، مثل سوق الحميدية وقلعة حلب ودمشق وسواها. تدور الأحاديث اليوم عن هويّة هذه الأماكن، من تمثّل؟ ومن يملك الحقّ فيها؟ وضرورة استردادها.
يُشير “المكان العام” إلى مساحات اجتماعية كالساحات العامّة والميادين والحدائق، تكون الغاية منها عادةً أن تبقى مفتوحة ومتاحة للناس، لغايات الترفيه والاستمتاع بالمدينة وللتجمّع، وكذلك الالتقاء والنقاش الخاص والعام، لكن دور “المكان العام” في سوريا كان مختلفاً خلال عصر الأسدية، الذي كان امتداداً للنظام السوري ووجهه العام، لذلك يندر أن تجد ساحة أو حديقة عامّة من دون تمثال أو لافتة كبيرة، تُمجّد الأسد أو عناصر أمن متخفّين بلباس مدني أو ذلك كله معاً.
على الرغم من ذلك، فإن هذه المساحات لعبت دوراً جوهرياً في الانتفاضة السورية، تحديداً خلال الأعوام الثلاثة الأولى من ٢٠١١-٢٠١٣، وكانت في صلب ثلاثة أدوار جوهرية في الانتفاضة: احتلال المكان العام، واستعادة الحقّ فيه، وتحدّي السلطة القائمة عليه.
حاول الحراك السلمي السوري حينها احتلال الأمكنة العامّة من مبدأ تعبئتها وشغل مساحتها بالناس، باعتبار أن هذه الأمكنة تمّ إنكار صفتها العامّة اجتماعياً وسياسياً عن الناس من قبل النظام، من هذا المنطلق كان احتلالها سلمياً هو مقدّمة لاستردادها من هيمنة السلطة، ومن ثم استعادة الحقّ فيها، لذلك هدفت الخطوة الأولى إلى تحويل هذه الأمكنة من امتداد لكيان السلطة، إلى مساحات تكون في حدّها الأدنى “مساحة اجتماعية محايدة”، وبالتالي إرجاعها إلى فضائها العام.
من المنطقي، وفي الحالات الطبيعية، أن تكون المساحات العامّة هي أمكنة للتجمّع والتظاهر، إلا أن وضعها في سوريا كان مختلفاً، فالاعتبارات الأمنية طغت على المعايير الجمالية في تصميمها وهندستها في سوريا، إضافة إلى ذلك، كانت تلك المساحات معارض مفتوحة لرمزية الحكم الأسدي وهيمنته، من خلال تماثيل الأسد الأب والابن والصور العملاقة لكليهما، التي شغلت مساحات كبيرة حتى من الأماكن الأثرية ومعالم المدن الأساسية أو الجمالية، لذلك، إضافة إلى عوامل أخرى بالطبع، كانت أماكن مثل ساحتي الأمويين والعباسيين في دمشق، عصيّتين على “الاحتلال” من قِبل المتظاهرين.
أهمية المساحات العامّة بخاصّة الساحات، تكمن في حقيقة أنها تمثل “الوجه العام” للدولة، وهو بالضبط ما حاول الناشطون والمعتصمون استعادته لنزع تلك الصفة العامّة عن الدولة، وبذلك يكون احتلال هذه الأمكنة تحدّياً للسلطات التي لم تُنكر فقط حقّ الناس في هذه الأماكن، إنما اعتمدتها كامتداد للرقابة والهيمنة على الناس.
خلال تلك الفترة، وفي كثير من الحالات، تمّ تدمير بعض الدوائر الحكومية في رمزية لإنهاء أماكن لم تكن فقط مراكز لاتّخاذ قرارت تخصّ الناس من دون إشراكهم، لكن أيضاً مراكز لا يُسمح للناس بالوصول إليها، بملء إرادتهم على الأقل.
فاحتلال الدوائر الحكومية، التي من المُفترض أن تكون أماكن تستخدمها الدولة للصالح العام، هو استرداد للحقّ في المشاركة في القرارات التي كانت تُتّخذ فيها بالنيابة عن الناس، وفي الغالب ضدّهم. مشاهد تدمير مراكز البريد (وأيضاً سيريتل، التي تُعتبَر ملكية خاصّة للعائلة الأسدية) في درعا في عام ٢٠١١، وكذلك نهب قصر الشعب وقصر الضيافة في دمشق في نهاية ٢٠٢٤، بعد ساعات قليلة من هروب الأسد، أمثلة بالغة الدلالة على ذلك.
من جانب آخر، حاولت قوّات الأسد إذلال المدنيين وتعذيبهم في الساحات العامّة نفسها التي حاول المتظاهرون احتلالها، في محاولة من هذه القوّات لخلق رمز جديد من تلك الساحات، وهو رمز الإذلال والانصياع (وهي سياسة ستتبنّاها داعش أيضاً فيما بعد).
فعلى سبيل المثال، قفزت قوّات الأسد فوق أجساد المدنيين في قرية البيضا في بانياس في 12 نيسان 2011، الذين تم اعتقالهم في ساحة القرية، حيث كانوا قد خطّطوا للاحتجاج والاعتصام، لكن على النقيض من ذلك، كانت تلك اللقطات، التي تشاركها السوريون على وسائط التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، سبباً إضافياً ليزيد إصرار المحتجّين على استرداد تلك الساحة، وإنهاء انتهاك النظام لكرامة الناس فيها. وظهور أحمد البياسي في الساحة نفسها مُظهراً بطاقته الشخصية مع نظرات من التحدّي، كانت الرسالة الأقوى على فشل النظام في كسر هيبة المحتجّين وإذلالهم.
إضافة إلى الاحتلال، اتّبع الناشطون طريقة أخرى، للطعن في السلطة واستعادة الحقّ في تلك المساحات، وهي إعادة تسميتها: من ساحة الكرامة، إلى ساحة الحرّية، إلى ساحات الشهداء في المدن السورية المختلفة، كما تحدّى المتظاهرون السلطة من خلال وسيلة رمزية أخرى، تتمثّل بإعادة تأهيل هذه الأماكن واستصلاحها وتجميلها، حيث قاموا بتنظيفها وطلاء الأرصفة ورسم الصور و”الغرافيتي” على الجدران، ليضيفوا بعداً جمالياً غلّبت السلطة البعد الأمني عليه، في تعاملها مع تلك الأماكن.
ربما تكون هذه التكتيكات فعّالة اليوم كخطوات أولى نحو استعادة الحقّ بالمكان العام وإعادة احتلاله سلمياً، وقد حدثت بالفعل حملات تنظيف وتأهيل من قبل ناشطين ومتطوّعين خلال الشهرين الماضيين، في مناطق مختلفة من حلب وحمص والسويداء واللاذقية وسواها.
“الفضاء المادي” و”الفضاء الافتراضي”
أعطى الكثير من المحلّلين الفضل لوسائل التواصل الاجتماعي في انتشار الاحتجاجات واستمرارها منذ العام ٢٠١١، ورغم أهمّية دور وسائط التواصل تلك، كان احتلال الأماكن العامة في الحقيقة، إثباتاً ملموساً على أن الفضاء الافتراضي وحده لم يكن كافياً، وأن شغل الحيز المادي كان أساسياً لاستمرارية الانتفاضة.
لا شكّ في أن وسائل الإعلام الجديدة والدعوات الافتراضية للاحتجاج، كان لها دور مهمّ، ولكن انتفاضة على “الإنترنت” فقط، لن تُسقط مجرم حرب كالأسد، كما أن قطع الاتصالات و”الإنترنت” في أماكن عديدة من سوريا، لم يُنقص عدد المتظاهرين، بل على العكس زاد من التظاهر في تلك الأماكن، وامتدّت الاحتجاجات إلى أماكن أخرى تعاطفت معها، فبانياس واللاذقية وحمص تعاطفت مع درعا، ودمشق وحلب وإدلب تعاطفت مع حمص.
بالإضافة إلى ذلك، شكّلت الأماكن العامّة منصّة للناشطين والمتظاهرين لتطوير المهارات والممارسات، من خلال الانتقال من الأنشطة الافتراضية عبر “الإنترنت” إلى اتّخاذ إجراءات ملموسة على أرض الواقع، حيث التقى ناشطو “الفيسبوك” بأسمائهم الوهمية، بعضهم بعضاً وجهاً لوجه في تلك الأماكن، بما فيها المساجد، وتواصلوا ونظّموا وخطّطوا، وتحوّلت “البوسترات” واللوحات الافتراضية إلى مطبوعات ومنشورات ورقية و”غرافيتي” على الجدران في شوارع المدن والقرى، وأصبح أصدقاء “الفيسبوك” الافتراضيين زملاء من لحم ودم في الاحتجاجات والتظاهر.
لكن دور هذه المساحات الافتراضية تباين لاحقاً واختلفت أدواره. هذا الفضاء الذي شكّل في مرحلة “الربيع العربي” وسيلة فعّالة للتواصل والتنظيم والضغط ونشر المعلومات، بات مع الزمن أكثر عنفاً و كراهية وتحريضاً وتضليلاً. اليوم، ومع بوادر الوصول إلى الأرض، ونزول “مؤثري السوشيال ميديا” إلى تلك الساحات، وتداخل الفضاء الافتراضي والمساحات العامّة، علينا التفكير جدّياً بما قد يعنيه هذا النوع من التواصل، وما قد يترتّب عليه من عنف وكراهية قد يشغلان الفضاء العام أيضاً.
خلال الساعات والأيام التي تلت هروب الأسد في ٨ كانون الأول/ ديسمبر ٢٠٢٤، اقتحم سوريون السجون وفروع الأمن ومؤسّسات حكومية مختلفة، وقاموا بتدمير تلك الأماكن ونهبها واستكشافها، بينما خرج الآلاف إلى الساحات العامّة، تحديداً ساحة الأمويين في دمشق، للاحتفال. تلك المشاهد في دمشق وحمص وحماة واللاذقية وسواها، بيّنت أن هذه الساحات غير مؤهّلة هندسياً لتكون مساحات عامّة يجتمع فيها الناس للاحتفال والنقاش العام، ومن المهمّ أن تكون هناك دراسات معمّقة وأبحاث عمرانية تُوضح كيف تم تغليب البعد الأمني في تصميم هذه الساحات، على حساب البعد الجمالي والعمراني، وضرورة إعادة هندستها وتصميمها.
بالعودة إلى ساحة الأمويين في دمشق، فقد كانت المكان الأبرز لاحتفال الناس من أغلب المناطق السورية، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، تباينت فيها الأعلام والأغاني والتكبيرات وإطلاق الرصاص، في تمثيل لاختلاف أساليب الاحتفال، أو استعراض القوّة، أو الأيدلوجيا، أو الرؤية لما يمثّله الحقّ في المكان العام. اليوم، نشاهد في تلك الساحة بائعي الأعلام (علم الهيئة والعلم السوري الجديد) وبائعي الوقود (ضمن قناني بلاستيكية بأحجام متباينة) والصرافين (الدولار والليرة التركية) وبعض عناصر الأمن العام “الملثّمين”، في تمثيل رمزي للمصير المفتوح للأمكنة العامة في سوريا ومن يملك الحقّ فيها وكيف.
تنويه من الكاتب: تم استخدام صيغة المذكر لسهولة الكتابة والقراءة، لذا أود التأكيد أن المحتوى ينـطبق على الإناث والغيريات والغيريين والذكور على حد سواء.
– كاتب وحقوقي سوري
درج