سورية أمام استحقاق العدالة وبناء الثقة/ طارق عزيزة

22 مارس 2025
مضت مائة يوم على هروب بشّار الأسد وانهيار نظامه، تسارعت فيها الأحداث في سورية، سياسياً ودبلوماسياً وأمنياً، واتخذت الإدارة الجديدة إجراءاتٍ، غلب على بعضها التسرّع والارتجال. من ذلك، تشكيل حكومة مؤقّتة عنوانها حكومة الإنقاذ، التي كانت تعمل في إدلب، وانعقاد “مؤتمر النصر”، الذي ضمّ ممثّلين عن معظم الفصائل المسلّحة، وأُعلن فيه تكليف أحمد الشرع رئاسة الجمهورية للمرحلة الانتقالية، ثمّ مؤتمر الحوار الوطني، وتوقيع اتفاق يقضي بدمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في مؤسّسات الدولة، وصولاً إلى إصدار الإعلان الدستوري، وما أثاره من جدل سياسي وحقوقي، بين مؤيّدٍ ومعارض. وفي الوقت نفسه، حظيت الإدارة الجديدة بقبول واسع، عربياً ودولياً، فاستقبلت وفود دول عديدة على أعلى مستوى، وقامت بزيارات رسمية إلى عواصم مهمّة في المنطقة والعالم.
ولكن التطوّر الأشد خطراً كان على الصعيد الأمني، عندما نفّذ مسلّحون موالون للنظام البائد هجمات منسّقةً ضدّ عناصر الأمن العام في مناطق الساحل السوري، أودت بحياة مئات، تلتها جرائم وانتهاكات واسعة النطاق على أساس طائفي، راح ضحيّتها مئات المدنيين السوريين العلويين بأيدي “فصائل غير منضبطة”، وفق وصف السلطات، لم يتورّع عناصرها عن تصوير الفظائع التي ارتكبوها، في مناطق وأحياء متفرّقة من مدن اللاذقية وجبلة وبانياس وطرطوس وأريافها. أدّى ذلك إلى إعلان الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، تشكيل لجنتَين مستقلّتَين، الأولى لتقصّي الحقائق ومعرفة المتورّطين لمحاسبتهم، والثانية مهمّتها الحفاظ على السلم الأهلي وتعزيزه.
أكّدت الأحداث الماضية خطورة تراخي السلطة الجديدة في موضوع العدالة الانتقالية، على الرغم من المطالبات والدعوات المستمرّة، على المستوى الشعبي، ومن جهات حقوقية سورية ودولية مختلفة، فمنذ الأيّام الأولى لسقوط النظام، طغت العشوائية والفوضى على كيفية التعامل مع السجون وفروع المخابرات والمقابر الجماعية، ومن ثمّ ملفّ المعتقلين والمخفيين قسراً. وسواء كان ذلك ناجماً عن قلّة خبرة وسوء تدبير، أم نتيجة ترتيباتٍ جرت مع قادة الأجهزة الأمنية لدخول دمشق من دون قتال، فجر 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، أدّى ذلك إلى عبث بمسارح جرائم مرتكبة بحقّ المعتقلين، وفقدان وثائق وأدلّة ربّما تساعد في كشف مصير آلاف المفقودين، فضلاً عن إدانة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات، حتى بدا وكأنّ المسألة برمّتها ليست من أولويات الحكومة. وهي لم تتعاون مع المراكز والمنظّمات الحقوقية السورية والدولية، التي عملت سنوات في إعداد ملفّات قضائية بحقّ ضبّاط متورّطين في جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية في سورية، فتُلقي القبض على من تشملهم ملفّات الاتهام الموثقة بالأدلّة، وتحتجزهم على ذمّة التحقيق، أو في الحدّ الأدنى تضعهم تحت الإقامة الجبرية، للحيلولة دون فرارهم كما فعل سيّدهم المجرم. لذا استطاع كثيرون منهم الفرار، وأجرى آخرون “تسوية” مثل أيّ جندي بسيط كان يؤدّي خدمته الإلزامية أو الاحتياطية في جيش النظام السابق.
يُرجّح أنه كان من شأن اتخاذ خطوات عملية جدّية في ملفّ العدالة الانتقالية خفض حدّة الاحتقان وشعور المظلومية لدى فئات عريضة من الشعب السوري، نالها ما نالها من جرائم نظام الأسد، لكنّها لم تجد بعد “التحرير” أدنى اهتمام بملاحقة كبار ضبّاطه في الجيش والأجهزة الأمنية والمليشيات الرديفة، لمحاسبتهم. وهكذا، جاءت حالة الفوضى الأمنية التي تسبّبت بها المجموعات المسلّحة الموالية للرئيس المخلوع، التي ينتمي أفرادها إلى الطائفة العلوية، ليجدها كثيرون فرصةً لتفريغ الأحقاد، وإرضاء نوازع الثأر والانتقام.
أضرّت تلك التطوّرات، إلى حدّ كبير، بالصورة التي حاولت الإدارة الجديدة تقديمها، في الخارج والداخل، طوال الأشهر الماضية، من خلال خطاب التسامح، والحديث عن “عقلية الدولة”، والسلم الأهلي، وما إلى ذلك من مقولات لا تنسجم مطلقاً مع الوقائع التي استجدت أخيراً. فأيّ معنىً لحلّ الفصائل وضمها إلى وزارة الدفاع، ما دام بعضها يواصل التصرّف عصاباتٍ إجراميةً، تقتل وتنهب مواطنين مدنيين، على أسس طائفية؟ وهل تملك السلطة ما يكفي من القوة والإرادة، لفرض هيبتها على هذه الفصائل، ومحاسبة المتورّطين في الجرائم الطائفية، وبينهم من وثّق أفعاله الشنيعة بنفسه؟… هذا ما ستكشف عنه الأسابيع المقبلة.
كانت الإدارة الجديدة مطالبةً بمسار عدالة انتقالية، ينصف الضحايا ويقتصّ من مجرمي النظام المخلوع، فإذا بها اليوم أمام تحدٍّ إضافي، فرضته فصائلُ محسوبةٌ عليها، لإثبات التزامها بالعدالة وسيادة القانون، وتأكيد قدرتها على حماية مواطنيها من دون تمييز. وضمن هذه المعطيات، لن يكون من السهل عليها الحفاظ على ثقة الداخل والخارج على السواء، ما لم تنجح في بسط الأمن وتحقيق الاستقرار، وهو ما لن يكون التوصّل إليه يسيراً في غياب العدالة والمحاسبة الجادّة.
العربي الجديد