د. برهان غليون: يجب الفصل التام بين الفصائل المسلّحة والأمن العام السوري

“أغلب المجموعات التي قادت معركة إسقاط النظام هي فصائل متعددة، وفي الأصل متنافسة، وهم جميعاً أصحاب عقائد سياسيّة إسلامويّة لا يرون السياسة إلا من منظور العقيدة الدينية…”
ديانا سكيني
تحديث 24 أذار 2025
لا يستسيغ رئيس المجلس الوطني الانتقالي السوري السابق الدكتور برهان غليون إبعاد الشخصيات المعارضة، التي صبغت المشهد السياسي لانطلاقة الثورة السورية، عن مشهد الحقبة الانتقالية للسلطة اليوم.
أستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون يُعدّ من أبرز تلك الوجوه المتمسّكة في خطابها بمبدأ العدالة الانتقالية، والنأي بأيّ صبغة تطرّف عن سوريا الجديدة، عبر الدعوة إلى إبعاد الفصائل المتطرّفة عن الأمن السوري، ومحاسبة مرتكبي جرائم الساحل.
ويرى غليون أنّ ما جرى بعد سقوط النظام لم يكن حواراً وطنيّاً حقيقيّاً بل مجرّد لقاءات محدودة بهدف إنتاج إعلان دستوريّ موقّت لسدّ الفراغ القانونيّ. ويجد وجوب شمول الحوار الوطنيّ مختلف الفاعلين.
في الآتي، نص حوار “النهار” الشامل مع غليون:
– لاحظنا تعبير السلطات الانتقالية عن رغبة في الحوار مع فئات مختلفة في المشهد السياسي السوري. بين ما أعلن ومسار ما انطلق، هل رأيتم ما يؤسّس فعلاً لحوار حول مرحلة انتقالية سليمة؟
للأسف، لم يكن هناك حوار وطنيّ كما كان ينبغي. والحوار الوطني لا يمكن أن يجري في يوم أو يومين، وإنما يحتاج إلى مشاركة الكثير من الفاعلين الاجتماعيين، سواء في ميدان الفكر أم الثقافة أم السياسة أم المجتمع أم الاقتصاد والأمن والأمور الاستراتيجية، وبلورة رؤية مشتركة للتحالفات والعلاقات الإقليمية والدولية.
ما حصل بنظري من لقاءات محدودة لم يكن سوى وسيلة لإنتاج وثيقة دستورية موقتة لملء الفراغ القانوني والسياسي في إدارة الشأن العام بعد انهيار المؤسسات السياسية القديمة أو حلّها.
هذا يعني أن مسألة الحوار الوطني لا تزال في بدايتها، وأن الحوار ينبغي أن يستمرّ ولو كان ذلك من خلال أطر مختلفة تُتيح مشاركة جميع المعنيين بتحديد رؤية واضحة ومتفاهم عليها للانتقال السياسي، بسبله وغاياته، مع ورقة طريق لسورية المستقبل أيضاً.
وليست السلطة القائمة هي المعنية الوحيدة بهذا الحوار والمسؤولة عن إطلاقه وإدارته بل النخب السورية جميعاً، وعلى رأسها المثقفون والسياسيون والحقوقيون ورجال الدين والنقابات والجمعيات المدنية، وبشكل خاص رجال الأعمال الذين يقع عليهم قسط كبير من المسؤولية في إعادة الإعمار وإخراج البلاد من الانهيار الاقتصادي وخلق فرص العمل التي نحتاجها لإعادة إحياء المجتمع بأكمله.
– كيف وجدتم المسار الذي أدّى إلى ولادة الإعلان الدستوريّ، وما هي ملاحظاتكم عليه؟
للأسف، أعطي الإعلان الدستوري أهمية أكبر بكثير مما كان يستحقّه، وعومل من قبل السلطة القائمة وناقديها أيضاً كما لو كان دستوراً دائماً للبلاد. لذلك أثار نقاشات ونزاعات كثيرة كان من الممكن تجنّبها. فقد كان بإمكان السلطة القائمة، بمبادرة خاصة منها، تعيين لجنة من القانونيين لإنتاج إعلان دستوريّ مختصر مناسب لهذه المرحلة التي تفتقر إلى الاستقرار والمؤسسات الثابتة، يحدّد المبادئ الأساسية التي سوف تضبط ممارستها للسلطة الاستثنائية المخوّلة لها وكيفية تطبيقها في الواقع. وفي مقدمة ذلك مبدأ فصل السلطات وسيادة القانون وتوزيع الصلاحيات، بانتظار أن تنتقل السلطة في مرحلة لاحقة إلى الشعب، وأن يقوم ممثلوه الشرعيون بصياغة الدستور الدائم. ووضع هذا الإعلان مسؤوليتها بوصفها سلطة استثنائية لديها عملياً وبالواقع كل السلطات والصلاحيات، وليست بحاجة إلى إضفاء أي شرعية شكليّة عليها.
أما كل ما يتعلق بالمسائل الكبرى مثل تحديد هوية الدولة ومصادر الشرعية وقضايا السيادة، بما فيها الطابع المركزي واللامركزي في البلاد، فيترك للدستور الدائم، حين تستقرّ الأوضاع، وتنضج الآراء والمواقف، على إثر الحوار الوطني الجدي والطويل. فهي مسائل لا يمكن البتّ فيها إلا من قبل سلطة منبثقة عن انتخابات عمومية تمثل الشعب، سواء تجسدت بجمعية تأسيسية أم مجلس نيابي تمثيلي.
– كيف تجد تفاعل السلطات الانتقالية مع الكيانات والشخصيات السياسية الأساسية وأنتم من أبرزها بما لعبتم من أدوار ومسؤوليات سياسية في المعارضة؟
لا يمكن إنكار أن هناك تجاهلاً لوجود شخصيات المعارضة وكياناتها بينما كان من المفيد للسلطة القائمة أن تبادر، ولم يفت الوقت بعد، إلى تنظيم سلسلة من المشاورات مع النخب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية أو مع بعض ممثليها، للتعرف بشكل أفضل على المشاكل المطروحة على البلاد والحكم الجديد، والاستفادة من خبراتها وتعاونها لمواجهة التحديات وحل التناقضات القائمة. لم يكن في ذلك أي خطر عليها أو أي تهديد لمركزها القوي في السلطة، بل –على العكس- كان سيظهر أسلوباً مختلفاً في ممارسة الحكم، ويفتح المجال أمام بناء الثقة العمومية والتأسيس لأسلوب جديد في التفاعل مع الشعب، يقطع مع ما عرفه السوريون من احتكار للسلطة والانفراد بالقرار، وينمّي روح التشاورية إن لم يكن التشاركية في العمل على رسم مستقبل البلاد.
وفي اعتقادي أن السبب في هذا التجاهل، الذي لا يفيد السلطة بتاتاً، بل يسيء إليها، يعكس عدم التوافق في داخل الفصائل الحاكمة على مشروع الحكم وغايته. والانسجام الذي جرى الحديث عنه في البداية لتبرير هذا الإقصاء للآخرين لم يكن بهاجس الحفاظ على الاتساق في داخل قرارات السلطة الجديدة بمقدار ما كان ينبع من الخوف على تماسك النواة الحاكمة نفسها، ومن تفجير تناقضاتها الداخلية.
فليس سراً أن هؤلاء، أعني أغلب المجموعات التي قادت معركة إسقاط النظام، هم فصائل متعددة، وفي الأصل متنافسة، وهم جميعاً أصحاب عقائد سياسية إسلاموية لا يرون السياسة إلا من منظور العقيدة الدينية. وقد اعتادوا خلال العقد الماضي على أسلوب بسيط في الحكم، قائم على الولاءات الشخصية والتحالفات الوقتيّة. وهو يمكن أن يصمد في حكومة محليّة لا يترتب عليها حسابات وطنية استراتيجية وإقليمية ودولية، لكنّه من المستحيل أن ينجح في إدارة دولة مركزية لا تقوم وتحقق وظائفها الداخلية والخارجية إلا بإنشاء مؤسّسات تستند في تحقيق وظائفها إلى قواعد ونظم إجرائيّة وقوانين ثابتة ومجرّدة عن الولاءات الشخصية. فما بالك والأمر يتعلّق بدولة مفكّكة تتنازعها القوى الانقسامية الداخلية إلى جانب كثير من القوى الأجنبية التي تحتل أجزاء واسعة من أراضيها، وهي مهددة بوجودها نفسه.
– كيف تقيّم المشهد السوري منذ سقوط بشار الأسد إلى اليوم؟
لا يزال السوريون يعيشون بعد ثلاثة أشهر من الحدث أجواء الاحتفاء الدائم بسقوط الأسد، الذي بدا كأنه إزاحة لجبلٍ عن صدورهم. ويكاد هذا الاحتفاء يتحوّل إلى طقس يؤكّد من خلاله السوريون انتصارهم على ضعفهم وهوانهم، الذي عانوه لنصف قرن، واستعادتهم ملكيّة وطن شكوا في قدرتهم على انتزاعها من مضطهديهم.
وفي اعتقادي، سوف تبقى هذه اللحظة الاستثنائية، لحظة الانعتاق من الأسر، والتحرر مما تجرعوه من ذل واستهتار بمصيرهم، وما حفر في جسدهم من عنف، محور التجربة السياسية السوريا الجديدة لزمن طويل. وهذا ما يضمن للقيادة التي تحقق على يديها هذا الانعتاق شعبية لا جدال فيها، ربما اعتقدت أنها تغنيها عن الانفتاح على النخب السياسية والاجتماعية الأخرى.
لكنه ليس من المؤكد لتأثير هذه اللحظة أن يستمر طويلاً ما لم تثبت الأشهر المقبلة صحته، أي عدم المساس بحريات الناس وحقهم في الكرامة واختيار أسلوب حياتهم ومستقبلهم؛ وما لم يتحوّل أيضاً بالنسبة لعموم الجمهور إلى مكتسبات تتعلق بظروف معاشهم وانتشالهم من هوة الفقر والبطالة والبؤس. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون النجاح في تعبئة جميع الطاقات والاستفادة من الكفاءات وتعزيز الثقة الداخلية والتعاون وتوسيع دائرة المشاركة والوحدة الوطنية في مواجهة القوى الدولية التي لا تزال مترددة في رفع العقوبات المعطلة لأيّ تقدّم في ميدان التنمية البشرية.
– هل فاجأتك أحداث الساحل والخطاب الطائفي الذي أظهرته والمشاهد الدموية التي أجّجت المشاعر؟ وكيف ترجم وسيترجم هذا المشهد في السياسة برأيك؟
نعم ولا. لم يفاجئني تمرد بعض الخاسرين من سقوط النظام القديم وسعيهم إلى إثارة الاضطراب وزعزعة الاستقرار ضد النظام الجديد. ما فاجأني هو المنحى الطائفي الذي اتخذته الأحداث، والذي كنت أعتقد أننا تجاوزناه بعد أن مرت الأمور بسلام ومضى ما يقرب من ثلاثة أشهر على انتقال السلطة. لقد ارتكبت مذابح مرعبة تذكر السوريين بجرائم النظام البائد، أدانها الوطنيون جميعاً، وطالبوا بإنزال أشد العقاب بمرتكبيها.
وليس هناك شكّ في أن جزءاً كبيراً من المسؤولية في انقلاب هذا الصراع مع الفلول إلى مذابح طائفية يقع على عاتق السلطة التي استعانت بفصائل غير منضبطة، سواء أكانت هي التي دعتهم إلى المشاركة أم هي التي عجزت ولم تستطع التحكم بسلوكهم ومنعهم من ارتكاب هذه المجازر.
وآمل أن تعلن لجنة التحقيق التي شكّلتها الحكومة تقريرها قريباً وينال المجرمون جزاءهم العادل. ولا يمكن لما حصل إلا أن يطرح جدّية دمج الفصائل في الجيش الوطني، وراهناً تشريع قوانين جديدة لتجريم الطائفية ونشر الكراهية.
– نرى خطاباً غربياً يتعزّز حول ضرورة حماية الأقليات، لا بل ثمة نقاش بدأ حول كيفية حصول الأمر. هل تستطيع السلطات الجديدة استيعاب هذه المخاوف والهواجس بعد الانتهاكات التي حصلت؟
لا يتعلق الأمر باستيعاب الهواجس وإنما بمعالجة جادّة وفعّالة لأسباب حدوث هذه الانتهاكات مع قطع الطريق على احتمال تكرارها. وطرح الأمر على أنه متعلق بحماية الأقليات لا يساعد على هذه المعالجة بل يُفاقم من التغطية على أسبابها. فالأقليات ليست مهدّدة بالطبيعة لأنها أقليات، والأكثريات ليست معادية للأقليات لأنها أكثريات. والدليل على ذلك أن هذه الأحداث لم تحصل بعد سقوط الأسد مباشرة، حيث لم تكن هناك حتى شرطة تضبط الشارع، لا في المدن ولا في الأرياف، بل إن جزءاً كبيراً من الأقليات كان سعيداً بسقوط الأسد، وقد عبّر عن ذلك بمواقف واضحة.
لا الأقلية العلوية ولا الأكثرية السنية هما من أثار هذه المعركة وقاد إلى ارتكاب المجازر إنما مجموعة المتمرّدين من شبيحة النظام السابق التي سعت إلى توريط العلويين حتى تهرب بجرائمها وتتجنب المساءلة والمحاكمة؛ ومن الطرف الثاني هي بعض الفصائل العسكرية المنفلتة، التي وجدت الفرصة سانحة للانتقام والقتل الذي يسكن قلبها. فلا العلويون (الأقلية) جميعهم متمرّدون وفلول، ولا السنة (الأكثرية) جميعهم جهاديون وتكفيريون.
لكن من وراء ذلك تكمن أخطاء سياسية ارتكبتها، كما ذكرت، السلطة الجديدة بتسريحها الناس وتييئسهم من مستقبلهم، وأهمّ من ذلك تأخّرها في تطبيق مبدأ العدالة الذي كان من المفروض أن يحسم في موضوع المسؤولية عمّن مارس العنف وارتكب الجرائم في النظام السابق فيعاقبه ويحرّر الأكثرية من الطائفة العلوية وغيرها ممن ارتبط اسمهم بموالاة النظام، والذين لم يرتكبوا جرماً، من مخاوفهم وهواجسهم.
وتطبيق العدالة الانتقالية واجبٌ على السلطة السياسية كائنة من تكون. فلا ينبغي أن نتجاهل أن الناس بشر، وأن روح الانتقام والثأر للملايين من ضحايا النظام القديم، الذي امتهن الجريمة في تعامله مع الشعب السوري لإجباره على الاستسلام، موجودة وحيّة عند جمهور كبير من الناس. وعندما تغيب العدالة القانونية وتحتقن الأجواء لا يبقى بديلاً لتفريغها سوى قانون الثأر البدائيّ، أي خرق القانون.
– هل يمكن عملياً الفصل بين الفصائل المسلّحة الموالية للحكم الجديد وبين الأمن العام؟
نعم وهذا هو المطلوب. ليس بين الفصائل والأمن العام فقط، ولكن بين “هيئة تحرير الشام”، التي تملك زمام السلطة والأمن العام أيضاً. فمن المفترض أن يكون هذا الأمن مؤسّسة مستقلّة كلياً عن الفصائل، أو يجب أن تكون كذلك، وأن تحكمها قوانين ومبادئ وسلوكيات لا تمت بصلة إلى الروح الفصائليّة القائمة على العصبية والولاء للقائد لا القانون. ومسؤولية السلطة السياسية أن تؤهّل من يحتلّ موقعاً وظيفياً في مؤسسات الدولة من موظفي الخدمة العامة بالمبادئ والسلوكيات القانونية، وتدرّبهم على ضبط أهوائهم الشخصية، والتجرّد في ممارسة وظائفهم عن المشاعر الشخصية وروح العصبية القبلية أو الطائفية أو الإثنية.
– كيف رصدتم الاتفاق مع “قسد”، والاتفاق “المتعثر” حتى الآن مع المجموعة الدرزية؟
ليس هناك خيار للسوريين، مهما كانت السلطة التي يخضعون لها اليوم، والتي تشكّلت خلال الأزمة الطويلة الماضية، سوى التفاهم فيما بينهم لإعادة بناء الدولة والصراع من خلال مؤسّساتها لتحقيق غاياتهم وأهدافهم ومصالحهم. ولن تستطيع أي طائفة، أعني جماعة، منهم أن تبني أيّ دولة خاصّة بها تضمن لها ما تحلم به من أمن واستقرار وتقدّم، فما بالك بحرية وكرامة وسلام! والإمارة صغيرة أم كبيرة كانت لا تنشئ أمة، ولا تضمن حريّات وكرامة لغير أميرها وحاشيته وحزبه، ولا تبني أيّ مستقبل لأبنائها، سواء أبقيت مستقلّة أم استعانت بحماية دولة أجنبية. من هنا، ليس هناك مصلحة لأيّ جماعة قومية أو دينية أو سياسية في البقاء بعيداً عن عملية الانتقال السياسي وإعادة بناء الدولة السوريا. ولن يكون البديل غير تعميم الحروب الداخلية والتدخّلات الخارجية. وهو ما شهدناه وعشناه خلال السنوات العديدة الماضية.
هل هذه مهمة سهلة؟ بالتأكيد لا. هناك شدّ وجذب، لأن سوريا تعيش تحت تأثير عاصفة عاتية مستمرّة منذ أعوام، وتخضع جماعاتها لتدخّلات وضغوطات خارجية وداخلية ووجوديّة متعددة وقوية. ومن الطبيعي أن تكون هناك هواجس ومخاوف وشكوك. ومن الطبيعي أيضاً أن تتطلّع هذه الجماعة أو تلك إلى الهرب من العاصفة بنفسها، والتفكير بمصالحها الخاصة، وترك الآخرين يتخبّطون فيها. لكن هذه التطلّعات ستجد نفسها دائماً أمام طريق مسدودة. ولن تستطيع أيّ جماعة أن تقرّر مصير المجموع لوحدها أو تفرض عليه شروطها. لكن الجميع سوف يحقق أهدافه من الاندماج في الدولة من خلال الحوار والبحث عن الحلول الوسط والتوصل إلى تسويات تسمح للجميع بأن يكونوا رابحين. وإذا سارت المفاوضات بين الحكومة المركزية والجماعات الأخرى على هذه القاعدة فسوف تكتشف الأطراف أن لا شيء أهمّ وأكثر ضماناً لمصالحها من الاتحاد في إطار دولة الحرية والعدالة والقانون.
– ما المطلوب الآن من الرئيس أحمد الشرع برأيكم؟
إعادة توحيد الشعب، ومصالحته مع ذاته وتعدديته، هي الطريق الوحيدة لتذليل العقبات الهائلة والصعبة، التي تقف في سبيل تحقيق غاية السوريين في بناء مجتمع جديد ودولة ديمقراطية وحكومة فاعلة تردّ على تطلّعات الناس وتعكس إرادتهم الحرّة. ولا شيء لا يمكن تعديله أو إعادة التفكير فيه من أجل الوصول إلى هذه الوحدة. وما لا يمكن تحقيقه بالعنف قد يمكن تحقيقه بشكل أفضل عن طريق التفاهم والحوار. وعلى رئيس الدولة إطلاق هذا الحوار ورعايته من أجل التوصل إلى تفاهم أساسي حول غاية الانتقال ومشروع التغيير: ماذا نريد لسوريا أن تكون؟ وما هي طرق الوصول إلى ذلك؟ وما هي المؤسسات والأطر القانونية والسياسية التي تسمح للجميع بأن يكون شريكاً في هذا الانتقال وعنصراً فاعلاً فيه؟ فمن دون مشاركة الشعب وتعاون الجميع لن نستطيع أن نتغلّب على العقبات الهائلة التي وضعها في طريقنا النظام البائد وحلفاؤه القدماء والدائمون.
أعتقد أن مستقبل سوريا يتوقف على نجاحنا جميعاً، مواطنون وحاكمون، في تأسيس هذا التعاون والتفاعل وتطويره؛ فإما أن تكون دولة ديموقراطية تساوي بين جميع مواطنيها بصرف النظر عن أيّ أصل أو اعتقاد، وتقودهم نحو الحرية وتحقيق غاياتهم وحاجاتهم الإنسانية، أو تكون دولة فاشلة تعمل على إحباطهم وتغذية نزاعاتهم وأحقادهم، وتكون جحيماً سياسياً وروحياً ومادياً لهم جميعاً، وإما أن تكون تعدديةً تطوّر نظاماً لا مركزياً يتيح للمحافظات والجماعات المحليّة أن تشارك بشكل أكبر في إدارة شؤونها، بما في ذلك انتخاب المحافظين، بالإضافة إلى المجالس المحليّة المستقلّة أو أن تبقى قيداً على جماعاتها وعبئاً عليها. وهذا ما ينبغي أن يكون محور نقاشات المفكرين والمثقفين والسياسيين ومهمتهم في هذه المرحلة الانتقالية الحسّاسة، التي تتميز بضخامة المهام والتحدّيات من جهة، مع ضعف الرؤية وتشتتها والتردد والخوف، ومن جهة ثانية بمحاربة الإحباط وإحياء الأمل في مستقبل سوريا الوليدة الناهضة.
العلامات الدالة
النهار العربي