أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

سوريا من الداخل والخارج/ بشير البكر

الإثنين 2025/03/24

لا يشبه الوضع في سوريا، ما يكتبه أغلبية الكتاب والناشطين والصحافيين من الخارج. وهناك إجماع لدى زوار دمشق، على هشاشة الأفكار والتصورات التي تتشكل من الخارج. تختلف زاوية النظر بعد الزيارة، ولا يتأخر الزائر، حتى يتخلص عن محرضات التشاؤم، والأفكار السطحية، والنظريات التبسيطية، حيال ما تمر به البلاد. أول ما يلفت الانتباه هو، أن المجموعات التي تبث من وراء البحار، لا تحظى بمتابعة واسعة، ولا يتأثر أحد بما يصدر عنها، بل لا تكاد معروفة عند الناس، الذين شغلتهم في الأعوام الأخيرة مصاعب الحياة اليومية، وابتكار وسائل وأساليب وحلول لحال الانهيار الشامل، الناجم عن توحش نظام بشار الأسد.

البلد منهك جدا، ومن يتأمل حاله، يلاحظ أنه تعرض لنمط من التعذيب القاسي، على يد جلادين منفلتي الغرائز الحيوانية، تركوه ينزف، مثل ضحية سمك القرش، التي نجت في اللحظة الأخيرة من الفك المفترس بعد أن علكها. ولا يخفى على من يتجول في شوارع دمشق أن سوريا في الرمق الأخير اقتصاديا، ولمن أراد أن يعرف أكثر فإن مدينة دمشق تعيش في الظلام بلا كهرباء، محاطة بالدمار من الجهات كافة، ولا توجد سوى عدة أحياء ناجيه من الكارثة، وما تبقى ركام على الأرض، يشهد على وحشية النظام وحلفائه الإيرانيين والروس، والأمكنة التي لم تصلها القذائف والبراميل وقصف الطيران الحربي، أصابها الإهمال الشديد، وعدم الاهتمام، وتسرب إليها الوهن، وهذه الصورة، غير الزاهية، تستقبل الزائر في المطار، وترافقه في كل مكان يقصده داخل المدينة.

من يراهن على خراب سوريا، لا يقرأ تاريخ هذا البلد جيدا، ولا يعرف معدن السوريين الفعلي. ويكفي له أن يزور البلد، حتى يبدل نظرته السوداوية بأخرى متفهمة، ويراجع قناعاته الاستشراقية، التي تشكلت من وحي أحكام عبثية، تصدر عن ناشطين وصحافيين وكتاب عاطلين عن التفكير، بما آل إليه حال هذا البلد. هؤلاء على درجة عالية من البلادة، التي تحول دون تلمسهم نبض الشارع السوري. والأمر الخطير هو أن نسبة من منشورات وسائل التواصل تنحدر إلى قاع النظام السابق، الذي فشل بتقسيم سوريا إلى طوائف ومناطق وقوميات، رغم أنه لم يوفر وسيله من أجل زرع بذور حروب أهلية، تؤدي إلى تشظي البلد الذي، حكمته عائلة الأسد باسم خرافة حماية الأقليات.

حتى لا يفهم أحد كلامي من منظور الدفاع عن السلطة الجديدة، أريد أن أوضح بأن ما أتحدث عنه هنا، لا صلة له بخطواتها، التي بينها ما يستحق الدفاع عنه، وما يتوجب النقد والرفض. تقتضي الأمانة التحلي بشجاعة الوقوف في هذا المكان، مهما كلف ذلك. وليس لدي أي اعتبار سوى ما يفيد هذا البلد، الذي تركته لمدة 45 عاما بسبب الدكتاتورية، وعدت إليه مؤخرا كزائر، لكن حاله الصعب أشعرني بمسؤولية إلى حد الخجل، وتأنيب الضمير حيال الدمار الذي تعرض له، وقد تساءلت وأنا أصعد الطائرة عائداً إلى لندن، هل أترك هذا البلد لفترة طويلة مرة أخرى، وهو في أمس الحاجة لكل أبنائه، كي يساهموا في مداواة جراحه التي لا حصر لها.

من غاب، طويلا، عن سوريا، يشعر بالألم، ويصيبه الحزن الشديد، كلما انتقل من حي إلى آخر داخل دمشق، وهو يعاين البؤس والفقر والإهمال والفوضى، ولن يغمض له جفن لو أمضى يوما كاملا، وهو يتنقل في محيط العاصمة بين الأحياء الملاصقة لها، والمدن التي تشكل حزاما له، جوبر، زملّكا، داريا، دوما، وحرستا، لأن الدمار على درجة يعجز عنها الوصف. دمرها النظام قبل تهجير أهلها عام 2018، وتركها كما هي، لم يرفع حتى جبال الركام، الذي بات يطوق المدينة من الشرق والجنوب.

ثمة ما يبعث على التفاؤل، وهو أن التعميم لا يصلح في الوضع السوري، الذي بلغ مستوى متقدما جدا من النضج، والعقلانية. ليس هناك طائفة للنظام، وأخرى للثورة، حتى لو كانت الغالبية السنية تقف إلى جانب الثورة، والعلوية في صف النظام السابق، وهذا غير صحيح في الحالين، فإن القياس على أساس طائفي لا يستقيم، ولن يفلح كوسيلة للتجييش، لا من قبل السلطة الحالية، ولا من طرف خصومها، سيخسر الجميع إذا لم يتجاوزا هذه المقاربة الضارة. لن ينجح الفلول في جر الطائفة العلوية، وسيسيئون لها أكثر مما حصل في السابق، حينما استخدموها لقهر الآخرين، وحاولوا نزعها من النسيج الوطني، كي يستمر لهم الحكم. وإذا تعاملت السلطة بدافع وحدة البلد، تستطيع أن تنزع هذه الورقة من مزاد الاستثمار الطائفي. وفي كل مناسبة تلوح أمامها فرصة ثمينة، كي تتجاوز تركة آل الأسد الثقيلة.

هناك تيار سوري قيد التشكل في الداخل والخارج، يدعو لمقاطعة السلطة الحالية، والوقوف ضدها، وذلك بحجة أنها منغلقة على نفسها، وتعمل على تشكيل البلد، ليصبح من لونها. وقد يكون في هذا الرأي الكثير من الوجاهة، من خلال بعض التعيينات التي تقوم بها في المناصب. غير أن هذا المنطق لا يصمد إذا تم قياس الموقف من زاوية مصلحة البلد. وهنا تبرز نقطتان مهمتان. الأولى هي أن سوريا اليوم منهكة، وكل مساعدة تصب لمصلحة تمكينها، لتسترد عافيتها، وكل ضعف سوف ينعكس على مستقبل البلد. والثانية هي، إن الإمكانية متوافرة للمشاركة في البناء من خارج السلطة، هناك مساحات للتعبير، مفتوحة أمام السياسة والثقافة والإعلام.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى