سورية وقابلية الاحتلال لا التقسيم/ غازي دحمان

24 مارس 2025
يسود توجّس (داخلي وخارجي) من احتمالية تفكّك سورية وظهور كيانات جديدة شبيهة بمخرجات أزمة البلقان، التي أنتجت ستّ دول ومقاطعتين مستقلّتين في داخل صربيا، من منطلق تشابه التركيبة الديمغرافية بين سورية ويوغسلافيا السابقة، فضلاً عن تشابه الظرف الإقليمي والدولي لناحية الانقسامات والتجاذبات الحادّة بين الفاعلين المختلفين. على أهمية هذه المعطيات وتأثيراتها المحتملة في مسار الدولة السورية، وبالتراكب مع التفضيلات الإقليمية والدولية المتضاربة، إلا أن الوضع السوري أعقد بكثير إلى درجة استحالة حصول عملية فكّ وتركيب للقطع السورية. نظراً، هذه المرّة، إلى خبث الجغرافيا، وربّما إلى عبقريتها، وربّما لأن تاريخ التفكيك السوري قد انتهى، بمعنى فُكّك ما هو قابل لذلك، وما بقي لم يعد ممكناً إدراجُه في أيّ سياق تفكيكي، بدليل أن فرنسا حاولت فعل ذلك في بدايات القرن الماضي، لكنّها فشلت فشلاً ذريعاً.
وعلى عكس ما تورده الكتابات التاريخية، التي يغلب عليها الطابع الرومانسي والإنشائي، أن الوطنية السورية قالت كلمتها وأفشلت مخطّطات فرنسا، فإن الوطنية السورية أضعف من أن تُشكّل اللاصق الذي يمكن أن يربط الجماعات السورية، وهي في الواقع جماعاتٌ منعزلةٌ أكثر منها شعباً متجانساً، تخندقت حول أساطير عن أصلها ونشأتها، وشكّلت سردياتها الخاصّة عن نفسها وعن الجماعات الأخرى، وضمّنت مفاصل هذه السرديات كلّ ما من شأنه تدعيم التباعد والتناقض في ما بينها.
بناء على ذلك، كان العدوّ داخل سورية، عشيرةً أو طائفةً أو قوميةً مغايرةً، وكان الخارج هو الحليف الافتراضي أو الواقعي، العدوّ الذي يُشكّل خطراً على الوجود لم يكن خارج سورية، بل هو الجار والشريك في سورية. وتبعاً لذلك، ظلّت خيارات السوريين تحكمها مستويات أدنى من الوطنية، مثل المناطقية والطائفية والقومية. وتبعاً لذلك أيضاً، كان يمكن التكيّف مع المحتلّ الخارجي، انتداباً استعمارياً كان أو احتلالاً مثل الوضع في الجولان، وحتى الوحدة مع مصر كانت استدعاء دمشق للمحتلّ المصري في الضدّ من حلب، التي كانت تميل إلى العراق والتحالف الهاشمي. حتى الثورة السورية الكُبرى لم تكن حدثاً واقعياً، وهي غير موجودة وفق السرد التاريخي الذي يؤرّخها، إذ هي مجموعة تمرّدات مناطقية نشأت لأسبابٍ لا علاقة لها بالاعتراض على الاحتلال، وإنما نتيجة التغيّر في أوضاع الزعامات والصراع على الموارد والهيبة بعد خروج العثمانيين ودخول الفرنسيين، وعدم مراعاتهم الترتيب الاجتماعي الذي تشكّل عبر قرون من الاحتلال العثماني، فالثورة السورية تركيب نظري، أو تركيب قسري، لأحداث متفرّقة حصلت في بداية الاستعمار الفرنسي، وقد استطاعت فرنسا إنهاك هذه التمرّدات المناطقية، التي كان جديدها أخيراً في السويداء التي التحقت بالأصل متأخّرة بالتمرّد المناطقي، لتنتهي الحكاية في جبل العرب، ويُغلق ملفّ التمرّد نهائياً بعد إعادة فرنسا صياغة أوضاع الزعامات، أو أن هذه الزعامات استطاعت تحقيق أهدافها المحلّية، ومن ثمّ ستخرج فرنسا، ليس تحت تأثير الثورة في سورية، ولكن نتاج تغييرات في أوضاع فرنسا، انعكست في قوتها ودورها العالمي.
لا يذكر التاريخ السوري وقائع مهمّة عن رفض السوريين التقسيم الفرنسي لسورية، فلم يحصل ما يُؤكّد أن الجماعات السورية ناضلت وضحّت لإلغاء التقسيم، بل اكتشفت فرنسا خطل خطّتها وعدم واقعيّتها، وتكاليفها الباهظة التي قد ترتبها على فرنسا، ما دفعها إلى التراجع عن هذه الخطّة، بل يؤكّد التاريخ عكس ذلك؛ أن جماعات سورية طلبت من فرنسا الاستمرار في احتلال سورية لتثبيت وجودها وترسيخه، وتصليب عودها في مواجهة الجماعات الأخرى. لكنّها الجغرافيا هي التي قهرت، ليس خطّة فرنسا فحسب، بل أحلام السوريين الذين أرادوا الانفصال عن الجماعات الأخرى والعيش ضمن فضاء خاصّ بهم. كانت المشكلة دائماً في استحالة وجود هذا الفضاء مستقلّاً، نظراً إلى الترابط والتداخل الهائل، الذي يمنع أيّ مكوّن من توفير الشرط اللازم للاستقلال الذاتي، ليس على المستوى الاقتصادي فقط، وإنما على مستوى تحقيق الانسجام والتناغم الذي يحقّق الأمن الذاتي، والقادر على توليد الحدود الدنيا من الانتماء اللازم لقيامة الكيان واستمراره.
في سورية، الجغرافيا حاكمة، ويعيش الجميع تحت رحمة أقدارها وترتيبها مصائرَهم، وغالباً ما يُطلب من الحلفاء الخارجيين فكّ هذه الإشكالية وإيجاد طريقة للخروج من هذا المأزق، إذ لا قدرة على الانسجام مع باقي السوريين، ولا قدرة على الخروج من طوق سورية، لكن الآخرين أكثر عقلانية من أن يتورّطوا في مشاريع السوريين. لا يحتاج الأمر إلى دراسة موقف، إذ من الواضح أن من يدخل في خطّ أحلام السوريين في هجر سورية والتمرّد عليها، سيخرج مدمّىً وخاسراً. هذا ما أدركته أميركا التي بدأت تضرب المواعيد للخروج من سورية، وأدركته روسيا التي تتودّد لدمشق لإبقاءٍ على قواعدها ولو إلى حين، وهو ما عاينته إيران، رغم عنادها وصبرها الاستراتيجي، وتدركه إسرائيل قبل غيرها، بدليل أنها تطالب السوريين بتحدّي الجغرافيا، إن استطاعوا إنجاز هذا الأمر، وسيكون دورها مساعداً لهم.
على ذلك، تبدو سورية، أو أجزاء منها، جاذبةً للاحتلال الخارجي، الذي لن يطول به المقام ويقرّر مغادرتها، كما فعلت فرنسا، ويفعل الآخرون، لكنّها غير قابلة للتقسيم، ليس حبّاً بالوحدة، ولكن بسبب إرغام الجغرافيا وعنادها.
العربي الجديد