أبحاثالأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

هل تفيدنا تخريجة «الطائفة الأسدية»؟/ حسام جزماتي

2025.03.24

إثر الانهيار المفاجئ لحكم بشار الأسد وجدت سوريا نفسها أمام استحقاقات كبرى على عدة مستويات. ومن ذلك استحقاق «الرواية»؛ أي تأريخ ما عاشته البلاد في العقود الماضية، ولا سيما خلال أربعة عشر عاماً دامياً من عمر الثورة، وتحديد المسؤوليات، العامة والفردية، للسير في طرق العدالة الانتقالية؛ جنائياً وسياسياً ورمزياً.

وحتى قبل أن تصل معركة «ردع العدوان» إلى مستقرها في دمشق وجدت نفسها أمام «الإشكالية العلوية» إذا صح التعبير. فمن الشائع أن النظام اعتمد على أبناء هذه الطائفة في مفاصل عسكرية وأمنية وميليشياوية عديدة، مما جعل تعرضها لانتقام جماعي احتمالاً وارداً عقب سقوطه. ولأن تحقيق الانتقال في الحكم بأقصى قدر من السلاسة وأقل كمية من الدم كان شرطاً لنيل التغيير غطاء سياسياً فقد أُعدّت، على عجل، «فتوى سياسية» مستخرجة من خطابات وطنية متقادمة، أفادت بأن الأسدين لم يعتمدا على جماعة أهلية محددة بل على خليط من أبناء الطوائف والقوميات والمناطق من دون تمييز، وباعتبار معايير الولاء.

في الحقيقة لم يخالف هذا فقط ما هو معروف عن تاريخ سوريا المعاصر لدى باحثين ومراقبين غربيين محايدين، بل أيضاً ما يعرفه السوريون عما عاشوه خلال سنوات طويلة، بمن فيهم العلويون أنفسهم الذين كانوا يلمسون أثر هذا التمييز وإن لم يطلهم جميعاً بشكل شامل وفردي وحصري لأسباب عديدة منها وجود بقايا كبيرة لم يمكن تجاوزها من «الدولة الحديثة». لكنهم فضّلوا رواية «الطائفة الأسدية» العامة على رواية أخرى تفصيلية قد تأتي بالذبح، أو تفتح باب محاسبات واسعة غير قابلة للهضم، اجتماعياً وقرابياً، حين تطول الأخ وابن العم وصديق النشأة.

كما فضّلت السلطة الجديدة في دمشق السير في هذا الطريق لأنه يستجيب لسلّم أولوياتها الملحّ الذي يهدف إلى ترسيخ التمكين، وعدم التعرض لهزات عسكرية كبيرة، وجمع السلاح من فلول النظام.

وأضيف إلى ذلك غموض في إجراءات العدالة وملاحقة المجرمين البارزين، مما وضع في الزاوية، المفعمة بمشاعر ضاغنة معتقة، عشرات ألوف المقاتلين ضد نظام الأسد، ومئات الألوف من «أولياء الدم» الفعلي، وملايين من أولياء الدم الرمزي من حاضنة الثورة وجمهورها الأوسع. ولا جدوى من تجاهل أن هؤلاء شعروا، بنسب متفاوتة بالطبع، بالخيبة تجاه الاضطراب في تطبيق العدالة على الذين سببوا مآسيهم، أو «الثأر» الجماعي الذي «يشفي الغليل» وإن لم يكن عادلاً، كما يعلمون في قرارة أنفسهم ويعلم الجميع عند تيقظ الضمير.

بالتأكيد، لا تبرير للمجازر وللانتهاكات تجاه الأرواح والكرامات والأملاك والأراضي، لكن من تمام معالجة هذه المسائل أن يجري تفكيك دوافعها من صدور من قام بها ومن أيدها من الجمهور. ومن الضروري هنا أن نلاحظ أن هؤلاء شعروا أنفسهم مغبونين، لا يلمسون طريق العدالة التي ستبرّد قلوبهم بعد احتقان سنوات، ويفتقدون إلى التعويض الرمزي، وهو جزء هام من بنية العدالة الانتقالية يتمثل باعتراف المجرمين السابقين، ومؤيديهم والمتغاضين عنهم، بارتكابهم خطيئة أخلاقية.

لا جديد إذا قلنا إن تجربة السوريين مع نخبهم الثقافية-السياسية لم تتسم تاريخياً بما يكفي من الثقة والاحترام فضلاً عن التمثيل. ولهذا لم تُفاجأ «العامة» من مبادرة قسم وافر من المثقفين إلى تبني سردية «الطائفة الأسدية» والترويج لها بحجج غير مكينة، كاحتلال مسؤولين من الطائفة السنّية، أو غيرها، مناصب مدنية صورية غالباً، أو تكوّن قاعدة الجيش السابق من تنوع طائفي ومناطقي بحكم التجنيد الإجباري أو للحفاظ على مظهر «الدولة الوطنية». بالإضافة إلى مجموعة أخرى من المجادلات التي تصعب مناقشتها هنا.

حسنٌ أن يكون المثقف مهموماً بحقن الدماء وبتماسك بنية المجتمع. لكن ذلك يجب أن ينبني على محاججة قوية تقنع الناس ولا تُشعِر بعضهم بالاستغفال. لا سيما إذا كان هذا البعض مسلحاً ومحتقناً، ولا يقرأ!

وبالمقابل ارتكب مثقفون آخرون، من طرف مقابل، خيانة كبيرة حين يلعبون دور شاعر القبيلة، إن غوت غوى وإن ترشد أصابه الركود، متخلياً عن دوره كضمير للجماعة إلى تقديم المرافعات ضد خصومها الأهليين، وتبرير أفعالها، والتستر على انتهاكاتها.

المسألة الطائفية أشد قضايا السوريين خطراً في المرحلة بعد التغيير. ورغم أن الجميع يقول هذا إلا أن المعالجات تتسم بكثير من الخفة والنظرات المبسطة المسبقة والاكتفاء بتبويس الشوارب بعد المأساة. وكانت لنظام الأسد الحصة الأكبر في تفخيخ المجتمع بهذه القضية عبر سياساته التمييزية فعلاً والإنكارية ظاهراً، في ما صار يُعرَف بسياسة كنس الوسخ إلى تحت السجادة. وها هي السجادة السورية تُنفَض بأعنف ما حدث لها خلال تاريخها الحديث كله. ولا فائدة، في هذه المرحلة، ولا في سواها في الحقيقة، من ترميم سياسة التعمية نفسها، ببساطة لأنها لن تجدي. وهذا ما رأيناه جميعاً في ليل الجمعة 7 آذار الجاري، ليلة «النفير العام»، حين توفز عشرات آلاف المحاربين لتحصيل «حقهم» وباطلهم بأياديهم.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى