
25 مارس 2025
سريعة وبطيئة في آن، مرّت الأيام المائة الأولى من عمر “سورية الجديدة”، وهي لا تعني حتى الآن إلا سورية ما بعد حكم آل الأسد. انقضت سريعة بالنسبة إلى ما يودّ ضحايا النظام السابق ألا ينتهي، أي نشوة الانتصار. لكنها عبرت بطيئة ثقيلة على الخائبين من حصيلة أولية لأداءٍ لا يرون فيه ما يبشر بتلك “السورية الجديدة” المأمولة. ومثلما أن الأيام المائة الأولى من عمر أي كائن كثيرة لأنها حاسمة لنموّه وسلامة جسده، وهي لا شيء في خريف العمر، فإنها كذلك مصيرية لتشكل دول ومجتمعات أو لنشوئها عوجاء عليلة.
والسوريون محرومون من سابقة تاريخية تشبه حالتهم لكي يتعلّموا درساً منها ويقصّروا فترة التجريب الضارّة والارتجال المكلفة. عربياً تغيب العبرة. العراق إن كان يشبه قليلاً تعقيد الحالة السورية، بمجتمعها وتاريخها وبنظامها البعثي الدموي، فإنه لم يمر عام 2003 وما بعده بشيء مما يعيشه السوريون اليوم، ذلك أن إسقاط نظام صدّام حسين حصل بتدخل عسكري خارجي، ولم تعرف بغداد لا مرحلة انتقالية ولا حواراً وطنياً ولا مسار عدالة ومصالحة ومسامحة، والنتيجة الكارثية ماثلة أمامنا في بلاد الرافدين. لبنان بعد حربه الأهلية كذلك لا يمكن أن يكون حالةً للدراسة بالنسبة إلى السوريين، فقليلٌ يجمع ما بين تاريخهما ومجتمعهما وثقافتهما السياسية. بعيداً عن المشرق، لا داعي لتبرير القفز سريعاً فوق التجربة الليبية ما بعد القذافي. أما تونس، الناجحة في الانتقال الديمقراطي السلمي بعد ثورتها، وسرعان ما قضى على مكاسبها الديمقراطية مصابٌ بجنون عظمة ومهووس بالسلطة وبالثأر، فإنها بدورها لا يجمعها بالدراما السورية أي رابط. وعالمياً، جميع حالات الانتقال من ديكتاتوريات أو حروب أهلية، من البرتغال ودول أوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية، ينقصها الكثير من الدم ومن التعقيد والطوائف والعشائر والقوميات والروابط ما دون الوطنية لكي تشبه النموذج السوري.
أمام هذا الواقع، يجد السوريون أنفسهم أمام سؤال “ما العمل؟”، كمن يُطلَب منه العثور على إبرة في كومة قش في غضون ساعتين. وهنا تظهر نظرية الأولويات التي تمسي خطيرة في حال جرى التلاعب بها تهرّباً من تأدية مهام هي أولوية لدى فئات من المجتمع، وليست كذلك بالنسبة لأخرى تمثّلها السلطة السياسية الجديدة. وخطورة نظرية الأولويات تكمن في وضع مهام ملحّة بمواجهة متخيَّلة مع أخرى، كأنها سمكٌ وحليبٌ في طبق واحد في زمنٍ ساد الاعتقاد فيه أن هاتين المادتين الغذائيتين المفيدتين تسمّمان آكلهما إذا تناولهما معاً. فأولوية ضبط الأمن في سورية اليوم، وهي فعلاً أولوية، بمَ تتناقض مع حفظ الحريات الفردية ونسج أوسع تحالفات اجتماعية وسياسية ممكنة لتمثيلها في السلطة الانتقالية ولكي تعكس تعددية المجتمع السوري؟ أولوية الحفاظ على وحدة البلد وحمايته من التقسيم، بمَ يضرّها الاستعانة بالضباط المنشقين بدل حلّ الجيش واستبداله بمليشيات وفصائل مسلحة. إعادة الإعمار هل يعيقها تحضير حوار وطني حقيقي يستحق اسمه، وصياغة إعلان دستوري يطمئن بدل أن يطيل فترة المرحلة الانتقالية بشكلٍ مبالغ فيه، ولا يحصر جميع السلطات بيد الرئيس خمس سنوات على الأقل؟ أولوية مصالحة العالم الخارجي والعمل بكل جهد لرفع العقوبات عن سورية، ألا تستقيم مع إرساء أسس عدالة انتقالية وإنشاء محاكم نزيهة خاصة بمقاضاة كبار رموز النظام السابق ونزع فتيل مجازر طائفية أحد أسبابها أن أي خطوة لبدء مسار المحاسبة والعدالة لم تُتخذ طوال هذه الأيام المائة؟ أولوية تحسين الوضع المعيشي الكارثي للسوريين، ألا تستقيم مع توزيع عادل للثروة وإحقاق المناطق الشرقية، حاضنة ثروات سورية ونفطها ومائها وزراعتها، وغير المستفيدة من عوائدها إلا بالشيء النزير تاريخياً؟
في “سورية الجديدة”، كل شيء أولوية فعلاً. هي ورشة بناء عملاقة تتطلب جيوشاً من الخبراء والتقنيين والعلماء والسياسيين والاقتصاديين والأكاديميين والأمنيين والقانونيين والكفاءات والنخب والكوادر. هؤلاء متوفرون بكثرة داخل سورية وفي الاغتراب، وإشراكهم في تنفيذ الأولويات يتطلب قراراً سياسياً من سلطة تكون صاحبة تواضع الاعتراف بأنها عاجزة عن فعل أي شيء وحدها، وجرأة الإقرار بجهلها الكثير من تعقيدات المجتمع السوري وحساسياته، وأن دورها يكون تاريخياً بقدر ما يكون انتقالياً ومؤقتاً.
العربي الجديد