الإسلام السياسي مقابل العلمانية الطائفية والأقلوية/ أحمد الشمام

2025.03.25
تمثل العلمانية طرحا حديثا يتقارب مع المدنية حينا ويبتعد أحيانا أخرى، ويعد المقال أو البحث أضيق من أن يلقي بالضوء عليها.
وابتعادا عن الاختلاف بالتعريف والتوصيف، وأنماط التوافق مع مجتمعاتنا المشرقية، فإنه لابد من الإقرار أن كل من تنطع لها نشرا، تأييدا، أو عملا من المثقفين في العالم؛ يميز بين مفهومين هما الفكرة والمنهج العلماني إن جاز توصيفها كمنهج حياة وحكم وشكل للدولة من جهة، وبين النزعة التي تأخذ معتنقها بعيدا عن إعمال العقل في مناقشة مفهوم أو مبدأ ما، وإيجاد التبيئات والتفسيرات اللازمة حسب كل مجتمع وابتكار أدوات التغيير، وقبل ذلك فهمها انطلاقا من البنى والأنماط التقليدية للحياة الاجتماعية والسياسية في مجتمعاتنا، والثقافات ومرجعياتها التاريخية، والأديان كذلك؛ بل وأنماط التدين المشرقية التي يشترك فيها مسيحيو المشرق مع مسلميه في كثير من الأخلاق، والثقل المرجعي، والقيم الرمزية التي يمثلها الدين في المجتمع، وهي المفتاح الذي أسس لهويات ثقافات مشرقية يقع فيها الله مركزا للكون مع غاية للحياة ومصير مابعد الموت والبعث، على النقيض من إزاحة الإله في الغرب وتوثين الفرد تحت مسمى الحداثة، ثم استعباده وتحييده وتحويله إلى رقم.
تختلط هنا مفاهيم كثيرة وفقا لأنساق الهيمنة، والمركزية الغربية التي فيما لو تخلصت من استشراقها؛ فإنها لا تتخلص من مركزيتها. إضافة لاختلاط العلمانية بالحداثة، والعولمة، والشركات العابرة للجنسيات، وأنساق السلطة في عالم القوى الكبرى؛ التي ما انفكت تحتكر لغة تصدير الحريات والحقوق سياسيا وتبني تحالفاتها انطلاقا من مبادئ المصلحة الدولتية بعيدا عن كل ما نثرته من رماد في عيون القطيع، ما أوقع كثيراً من النخب العربية التي شهدت الفارق العلمي بين شرق وغرب وراحت تمتهن التصفيق لتقليد الغرب برداء حداثوي؛ في غمرة رفضها للتراث الديني باعتباره تقليدا، ما جعل الثقافة العربية للنخب منقسمة على نفسها وتعيش تحشيدا بين ثنائيات أكثر حدة مما يعيشه المجتمع المتدرج في استيعابه لعالم ملتبس.
يشكو كثير من مثقفينا العلمانيين من ذاك التأطير والموقف المتشنج من قبل الإسلاميين تجاه العلمانية، المثير أن تلك الإشارات غالبا ما تضمنت لغة متعالية ضمن خطاب ثقافي نخبوي متعال أيضا، غير أنا لو تبحرنا في الصور التي يتم تداولها عن الإسلام، والإسلام السياسي، نجدها تنم عن رؤية إستاتيكية صلبة متصيدة تنميطية؛ ضمن خطاب تخشب مذ تحجر يسارنا العربي خلف مقولات ماركسية لم تجد من يدرسها خصوصا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي كقوة داعمة لأحزابنا اليسارية؛ التي تلقت قوالب الأيديولوجيا كما هي واشتغلت على تفكيك المقدس الديني عبر توثين وتقديس أيديولوجياتها. وباعتبار العلمانية هي الطرح الأبرز والأكثر جدة لدى مثقفينا منذ قرن؛ لابد وأن نذكر أن النسق العلماني هو أول من طرح التفارق أو التغيير في الذهنية العربية، وبدل من أن تحسب له وقع في التقليد والارتجال وتورط بإلباس الآخر لبوسا ثابتا مؤطرا ماضويا فوقع في تنمطية بدأت منذ قرن ولم تتغير، اللهم إلا في انتقالها من نمطية مغلقة إلى أخرى أكثر تبحرا في تصيد مايجود به الخارجون المتحضرون ممن يسمون أنفسهم باحثين إسلاميين في تسمية فيها كثير من التلفيق حيث هم باحثون في الإسلام لا باحثون إسلاميون وشتان مابين الإثنين، هناك تساؤل آخر ماهي نسبة الحديث عن نقد العلمانية أو تأطيرها وتبيئتها للمجتمع واختلاف تعريف وتقديم صحيح لها كفكرة وجملة مبادئ مقرونة بنسبة ما تم تقديمه في كبريات المنابر الثقافية والصحف العربية عن الإسلام السياسي.
وقبالة الإسلام السياسي هناك طرح مواز ومقابل، الإسلام السياسي الذي يقر بأنه سياسي دون مواربة؛ إضافة لمسلمين يؤمنون بأن دينهم سياسي بلا تردد، ويقرؤه الآخرون بموجب نصوصه وأصوله على أنه الإسلام النبوي الذي استقر في الأذهان على أنه ينتمي لما تم تسميته تاريخيا بـ “أهل السنة والجماعة”، وتفرغ كثير من المثقفين والكتبة والباحثين؛ لتفكيك كثير مما يتضمن مما وثق تأصيله، أو ضعف، أو كان زبدا وافدا، أو مدسوسا غير ذي سند. غير أنه إذا اعتبرنا أن نقد الإسلام السياسي ضرورة ثقافية؛ فهي سياسية حتما، وضرورة وطنية في شتى الدول، لكنها تصب في مصلحة جهود دولية، ولا يمكن أن تنفصل عنها أيضا في غمرة هيمنة الحداثة والعولمة، كما أنه إن كانت حملات النقد تلك متوجهة ضد الدين بما يفرزه من عطب في تحول المجتمعات كما تم التنظير له، فلماذا لم نجد من هؤلاء المثقفين والباحثين نقدا وتفكيكا لأديان ومذاهب الطوائف باعتبارهم خارجين عنها، وباعتبارها تمارس تقية متوارثة وثابتة منذ قرون؛ بنصوص سرية ودين وتعاليم باطنية، وقبالة نبش كل شاردة وواردة في الدين الإسلامي لأهل السنة والجماعة، فالأولى أن يحمل هؤلاء عبء البحث والكشف أيضا عن تلك الكتب أو النصوص الدينية التي تفتك بأبناء طوائفهم، والمغلقة بأبواب سرية وصناديق مرصودة بكل علوم الإنس والجان، وهنا ينبثق سؤال ملح حول نفر كثير من أولئك الباحثين الذين حملوا لواء العلمانية، لماذا لم يكتبوا ما يفكك آثار الخطاب الداخلي الديني الظاهر لمشيخات كل طائفة؟ وذلك إن افترضنا عجزهم عن الوصول لها، ذاك الخطاب الذي ظهر فيه مشايخ طوائف يلبسون الزي العسكري، ويقفون لمؤازرة الجنود دينيا وبخطابات طائفية ودينية واضحة، بالإضافة إلى أن الطائفية التي أنشأها النظام واستولدها عبر سرديات ومظلوميات هشة، تم اختزالها بالنظام من دون السعي إلى تفكيكها ودراسة عواملها وحواملها التاريخية، بل حتى أن الشيعية السياسية الفارسية التي دفعت بها كل من إيران والعراق ميليشياتها الطائفية لقتل السوريين والولوغ بدمائهم، تم اختزالها بإيران الدولة وليس التعاليم الطائفية؛ التي أطلقتها عمائم أزلامها في العراق مثل فتوى الإمام الحائري 2012 للجهاد بالشام وحماية المراقد؛ قبل ظهور التنظيمات الجهادية السلفية والتي ظهرت كرد فعل عليها وانزياح الثورة نحو الأسلمة فيما بعد.
ثمة سمة لجزء من علمانويينا لابد من التوقف عندها، وقد لعبت دورا في تغيير الاصطفافات لدى مثقفي يسارنا التقليدي؛ وهي البقاء ضمن حالة هوياتية مشتتة تمثلت في عجزهم عن تعريف أنفسهم؛ إلا وفقا لثيمة اختلافهم مع الدين الإسلامي، وبعد انضمامهم للثورة بموقف نخبوي ومتعال ركزوا في معظم طروحاتهم على الإسلام السياسي بعيدا عن انتمائهم الديني له. ورغم اعتبارهم خارجين من أكثرية وعلمانيين، وغير حاملي عقدة الأقلوية أو الطائفية، فقد تجلت المشكلة عندهم في موقفهم الهووي ذاك والعقدي، بالمقابل فقد غفلوا عن ممارسة النقد للفكر الطائفي، وتغافلوا عن تقصير جزء مهم من علمانيي الطوائف والأقليات في نقد الطائفة؛ ولعبوا دورا محابيا ممالئا لطوائف تمظهرت لا كبنى اجتماعية تحمل خصوصية ثقافية ودينية؛ بل كمجال تحشيد وتأطير، ونظام اجتماعي داخلي يشكل أنساق سلطته وهيمنته على العامة من أبنائها؛ تحقيقا لنزوع سياسي تحت رايتها. وكان للثورة وانتصارها الأثر الأكبر في كشط جلد كثير من الطروح العلمانية بدوافع طائفية؛ لتتضح حقيقة الموقف لا كعلمانية موضوعية؛ بل كغطاء لطائفية مضمرة اتخذت العلمانية لبوسا ظاهريا، فصار المثقف يتبع المشيخة بذريعة الاستفادة من رأسماله الرمزي.
ثمة لحظة لابد من تأملها؛ وهي الصدمة التي عاشها محاربو الإسلام السياسي عندما انتصر الإسلام الجهادي، مع سؤال مفجع هو ليس حول كيفية انتصار هذا التيار وإزاحة الأسد؛ بل كيف استطاع هذا التيار أن يطرح رؤية للدولة وفعلا حقيقيا في جملة تطميناته وقراره في رفض استكمال مسيرة التقدم العسكري نحو الساحل كبيئة حاضنة للنظام تضم مقاتليه وقادته وأركان نظامه؟، بل ومنعت ذوي الضحايا من الاقتصاص من القتلة؛ وأطلقت مبدأ العمل على العدالة الانتقالية، حيث بدت الإدارة الجديدة رغم كل تاريخها القديم؛ أكثر قدرة على تبني مفهوم الاختلاف والتطور الذي أشار له منذ يومين مسؤول أميركي رفيع، فهل يمتلك هؤلاء العلمانيون القدرة على التحول بما يناسب المرحلة إخلاصا لمرحلة بناء سوريا؟
تلفزيون سوريا