الرقعة/ يعرب العيسى

25 مارس 2025
لطالما أنقذت هذه البلاد نفسها. أثبتت قدرتها على فعل ذلك مرّات كثيرة في الفترة الماضية، وأقصد بالفترة الماضية بضعة آلاف من السنين عرفت فيها أشكالاً مختلفة من الاجتماع البشري. عرفت ممالك وإمبراطوريات وإمارات وولايات، وهذه المرّة ستنقذ نفسها أيضاً، وغالباً ستستخدم الطريقة المجربة ذاتها: ستتخلص منّا، أو من بعضنا، أفراداً وأفكاراً وروابط. وستلجأ لأحدث أجيالها ليفعل ما يريده وتريده.
لقد تخلّصت للتو من صخرةٍ كانت تظنُّ بنفسها الأبد. وهي مضطربة الآن، لأنها تحاول استيعاب حجم ما أنجزته. بعد قليل، ستتابع السير إلى الأمام، وستتخلّص من المزيد منّا، ثم يسكن ارتجاج رأسها.
الأشهر الأربعة الماضية كانت مزلزلة ومزدحمة وغريبة، لذلك يشعر كثيرون بالقلق، وهم محقّون في ذلك، فانفتاح باب المستقبل يعني انفتاح الباب على الاحتمالات، على كل الاحتمالات، ومعظمها مجهول وغير قابل للتوقع. ويا لبؤسنا نحن البشر، كم مرّت علينا من دروس، وكم تجاهلناها.
قبل أن يبدأ دور الشطرنج، سيكون على الرقعة عشرون احتمالاً للحركة (ستة عشر بيدقاً وأربعة أحصنة)، بمجرد أن يتحرّك بيدق واحد منها، سيصبح عليها 400 احتمال، ومع الحركة الثانية تصبح الاحتمالات 9800 والثالثة ستجعل الاحتمالات 200 ألف. وهكذا في منتصف اللعبة ستكون لدينا مليارات الاحتمالات.
هذه متوالية تحصل في مكان يتكون من 96 عنصراً (32 حجراً و64 مربعاً محتملاً) وستة قوانين للحركة، فماذا لو كنّا ننظر إلى مكان آخر، مكان أكبر، فيه خمسة وعشرون مليون إنسان، وعشرات الدول المكترثة سلباً أو إيجاباً، مليون قاعدة وقانون وعرف، أمزجة وآراء وعقائد، رضوض عقلية ونفسية في الأفراد والجماعات، انقسامات عرضية وطولية ومنحنية، طوائف وقوميات وطبقات ومناطق وبيئات.
تركة ثقيلة خرجت كل عناصرها إلى السطح، لن يجري شيء كما نريد، ولا كما يريد الآخرون، ستمضي الاحتمالاتُ إلى حيث يأخذها تتالي الحركات، ولكل حركةٍ أهميتها وأثرها في تحديد الحركة التالية، فكما تغير حركة بيدق على رقعة الشطرنج إمكانيات وزيرين وملكين وفرصهم، يمكن لحملة تحريضٍ، أو حتى مجرّد جملة، أن تحرف الدور كلّه باتجاه آخر.
ليس من مصلحتنا الوطنية اليوم أن نستمر بتغذية الوهم، ولا بصنع أوهام جديدة، بل مصلحتنا في الصراحة والمكاشفة والاعتراف، وأول ما علينا الاعتراف به أننا ضعفاء، منكسرون، بلادنا مدمّرة ومجتمعنا متشظٍ، مواردنا شحيحة، والعالم ينظر إلينا بعين الريبة. يلوح لنا بالوعود من بعيد، ويطالبنا بالأثمان عن قرب، همساً في الأذن تماماً. لا أحد منّا يمكن له أن يكون أسد الديبلوماسية، ولا نمر الاقتصاد، ولا فهد التنمية، ولا سلمون العودة المظفّرة.
نحن ورثة تلك التركة، وهذا ليس عيباً، مرّ غيرنا بما نمرّ به الآن، ونجوا، الألمان واليابانيون والكوريون. وكل ما فعلوه، أن مسؤوليتهم الوطنية دفعتهم إلى أن يكونوا صادقين مع أنفسهم ومع الآخرين.
هذه الأسابيع من حصّة الرؤوس الحامية، وكل كلامٍ لا يخرج من حرارتها يبدو نشازاً، وتغريداً خارج السرب. وهو أكثر ما نحتاجه الآن، التغريد خارج السرب، فلم يسبق لغناء سرب أن وصل إلى مكان.
وليس هناك وقتٌ غير مناسبٍ لصوت العقل، بل تزداد الحاجة له في ساعات الجنون، وكما علّمنا التاريخ، فللقدر، مثلنا جميعاً، ساعات جنونه، وهي خطيرةٌ لأنها قد تأخُذ في طريقها أرواح بشر، وعلّمنا أيضاً أن أفضل ما يخفّف منها هو التشويش عليها بتعقّل بعض الأفراد الذين يجري عليهم هذا القدر.
هل فات الوقت؟ لا يفوت الوقت أبداً، خصوصاً على هذه البلاد، فكما قال المتنبّي: ستغلب الغلباءُ عنصرَها.
العربي الجديد