تحرير الدين من السياسة/ فوّاز حداد

25 مارس 2025
تعتبر العلمانية، بوصفها فكرة سياسية نشأت من الفلسفة، نتاجاً لتجربة تاريخية خاصة في أوروبا، وارتبطت بالصراع الطويل مع الكنيسة الكاثوليكية، التي احتكرت السلطة الروحية والزمنية على مدى قرون. وفي لحظة تاريخية فارقة في هذا الصراع، مثّلت الثورة الفرنسية القطيعة النهائية بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، وتبلورت الدولة القومية الحديثة على أساس علماني، يفصل الدين عن الدولة.
انطوى تصدير هذه التجربة إلى المجتمعات الأخرى على إشكاليات عميقة، باعتبارها النموذج السياسي المثالي للأمن الأوروبي. فالمجتمعات العربية والإسلامية، كما هو معروف، لم تعش تجربة تاريخية مشابهة للصراع مع الكنيسة، بل إن الدين في هذه المجتمعات لعب دوراً مزدوجاً: فمن جهةٍ، كان أداة للسلطة السياسية، ومن جهة أخرى، كان إطاراً للحفاظ على الهوية في مواجهة الاستعمار الأجنبي. لذلك؛ فإنّ الدعوة إلى علمانية صارمة في هذه المجتمعات تعبير عن سوء فهم لتاريخها.
تبنّت أنظمة ما بعد الاستقلال في العالم العربي فكرة “العلمانية” في خطابها السياسي، لكنّها لم تستخدمها بوصفها ضماناً للحريّات الفردية والتعدّدية السياسية، بل وظّفتها أداةً للسيطرة على المجتمع، من خلال التلاعب بها لخدمة أنظمة استبدادية. وارتبطت مع الأنظمة العسكرية بتأميم الدين لصالح الدولة، إذ أصبحت المؤسّسات الدينية خاضعة للسلطة السياسية، وقُمِعت التيارات الدينية المعارضة باسم حماية “العلمانية”، ما حوّلها من فكرة لتحرير المجال السياسي من الهيمنة الدينية إلى أداة لقمع الخصوصيات الثقافية، ووسيلة لتبرير الهيمنة السياسية للنخب الحاكمة، وغطاء للطغيان.
بالنظر إلى النموذج الغربي للعلمانية، فإنّه يقوم على فرضية أنّ الدين ظاهرة شخصية بحتة يجب أن تُحصر في المجال الخاص. لكن في المجتمعات العربية والإسلامية، الدين ليس مجرد ممارسة فرديّة، بل هو عنصر أساسي في تشكيل الهوية الجماعية والبنية الاجتماعية. لذلك؛ فإنّ محاولة تبنّي النموذج العلماني الغربي بحذافيره تؤدي إلى صدام حتمي مع الهوية الثقافية والدينية.
عندما فُرض على المسلمين في بلدٍ عربيٍّ الالتزام بقوانين العلمانية الصارمة، كمنع الصيام أو الآذان أو تدريس الدين في المدارس، أدى إلى شعور قطاع واسع من الناس بأنّ الدولة تمارس تمييزاً ثقافيّاً ضدهم، ما يشير إلى أنّ العلمانية، حين تُفرض من خارج السياق الثقافي والتاريخي للمجتمعات، لا تؤدي إلى التحرّر، بل إلى تعميق أزمة الهوية. فالمشكلة إذاً لا تكمن في “العلمانية” فكرةً فلسفيةً، بل في محاولة فرضها قالباً سياسياً جاهزاً، ما يعني أنّه لا يمكن نقلها بالقوة إلى مجتمعات تختلف في تركيبتها الاجتماعية، ومسارها التاريخي وهويتها الثقافية.
المطلوب ليس رفض العلمانية، بل إعادة تدويرها بما يتلاءم مع خصوصيات المجتمع، بحيث يكون فصل الدين عن السياسة تحريراً للدين من السياسة، لكن ليس من المجتمع. إنّ السعي إلى العلمانية ضروري ولازم، لكن ليس تلك العلمانية الموتورة والمتطرفة، التي يرعاها كارهو الإسلام. بالتالي لا ينبغي أن تكون استنساخاً لأنموذج غربي، ولا رفضاً للدين، أو نقيضاً له، وبما يضمن الحريات الفردية. لهذا شاعت في القرن الماضي دعوة نحو علمانية محلية لا مستوردة على النمط الفرنسي، بل نموذجاً محلياً يحقق التوازن بين احترام القيم الدينية والثقافية، مع ضمان الحريات السياسية والفردية، يمكن أن تكون إطاراً لتنظيم العلاقة بين الدين والدولة.
بالنظر إلى ما لحق الدين من تشويه في استخدامه ذريعة للدكتاتوريات العربية للسيطرة على شعوبها، تكتسب فكرة تحرير الدين أهمية كبرى، فالدين ثابت، بينما السياسات متغيرة. ومثلما تُملي السياسة الغربية على العالم اتهام الإسلام بالإرهاب، تُملي السياسة المحلية التابعة التضييق على الصلاة واللحى، والمآذن، والحجاب. إن انتزاعه من السياسة، يعود عليه بترسيخه في الفضاء الشخصي.
أمّا الادعاء بأنّ المظاهرات التي كانت سياسية في سورية، وأدّت إلى الثورة، قد خرجت من المساجد، بينما هي أماكن عبادة، لكنّ المساجد هي أماكن تجمّع للناس، وفّرت تحت وطأة المنع والقمع المساحة الأكثر حريّة للمتظاهرين من الساحات والشوارع.
العربي الجديد