سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 أذار 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
——————————-
أولويات لا تسير إلا بالتوازي/ أرنست خوري
25 مارس 2025
سريعة وبطيئة في آن، مرّت الأيام المائة الأولى من عمر “سورية الجديدة”، وهي لا تعني حتى الآن إلا سورية ما بعد حكم آل الأسد. انقضت سريعة بالنسبة إلى ما يودّ ضحايا النظام السابق ألا ينتهي، أي نشوة الانتصار. لكنها عبرت بطيئة ثقيلة على الخائبين من حصيلة أولية لأداءٍ لا يرون فيه ما يبشر بتلك “السورية الجديدة” المأمولة. ومثلما أن الأيام المائة الأولى من عمر أي كائن كثيرة لأنها حاسمة لنموّه وسلامة جسده، وهي لا شيء في خريف العمر، فإنها كذلك مصيرية لتشكل دول ومجتمعات أو لنشوئها عوجاء عليلة.
والسوريون محرومون من سابقة تاريخية تشبه حالتهم لكي يتعلّموا درساً منها ويقصّروا فترة التجريب الضارّة والارتجال المكلفة. عربياً تغيب العبرة. العراق إن كان يشبه قليلاً تعقيد الحالة السورية، بمجتمعها وتاريخها وبنظامها البعثي الدموي، فإنه لم يمر عام 2003 وما بعده بشيء مما يعيشه السوريون اليوم، ذلك أن إسقاط نظام صدّام حسين حصل بتدخل عسكري خارجي، ولم تعرف بغداد لا مرحلة انتقالية ولا حواراً وطنياً ولا مسار عدالة ومصالحة ومسامحة، والنتيجة الكارثية ماثلة أمامنا في بلاد الرافدين. لبنان بعد حربه الأهلية كذلك لا يمكن أن يكون حالةً للدراسة بالنسبة إلى السوريين، فقليلٌ يجمع ما بين تاريخهما ومجتمعهما وثقافتهما السياسية. بعيداً عن المشرق، لا داعي لتبرير القفز سريعاً فوق التجربة الليبية ما بعد القذافي. أما تونس، الناجحة في الانتقال الديمقراطي السلمي بعد ثورتها، وسرعان ما قضى على مكاسبها الديمقراطية مصابٌ بجنون عظمة ومهووس بالسلطة وبالثأر، فإنها بدورها لا يجمعها بالدراما السورية أي رابط. وعالمياً، جميع حالات الانتقال من ديكتاتوريات أو حروب أهلية، من البرتغال ودول أوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية، ينقصها الكثير من الدم ومن التعقيد والطوائف والعشائر والقوميات والروابط ما دون الوطنية لكي تشبه النموذج السوري.
أمام هذا الواقع، يجد السوريون أنفسهم أمام سؤال “ما العمل؟”، كمن يُطلَب منه العثور على إبرة في كومة قش في غضون ساعتين. وهنا تظهر نظرية الأولويات التي تمسي خطيرة في حال جرى التلاعب بها تهرّباً من تأدية مهام هي أولوية لدى فئات من المجتمع، وليست كذلك بالنسبة لأخرى تمثّلها السلطة السياسية الجديدة. وخطورة نظرية الأولويات تكمن في وضع مهام ملحّة بمواجهة متخيَّلة مع أخرى، كأنها سمكٌ وحليبٌ في طبق واحد في زمنٍ ساد الاعتقاد فيه أن هاتين المادتين الغذائيتين المفيدتين تسمّمان آكلهما إذا تناولهما معاً. فأولوية ضبط الأمن في سورية اليوم، وهي فعلاً أولوية، بمَ تتناقض مع حفظ الحريات الفردية ونسج أوسع تحالفات اجتماعية وسياسية ممكنة لتمثيلها في السلطة الانتقالية ولكي تعكس تعددية المجتمع السوري؟ أولوية الحفاظ على وحدة البلد وحمايته من التقسيم، بمَ يضرّها الاستعانة بالضباط المنشقين بدل حلّ الجيش واستبداله بمليشيات وفصائل مسلحة. إعادة الإعمار هل يعيقها تحضير حوار وطني حقيقي يستحق اسمه، وصياغة إعلان دستوري يطمئن بدل أن يطيل فترة المرحلة الانتقالية بشكلٍ مبالغ فيه، ولا يحصر جميع السلطات بيد الرئيس خمس سنوات على الأقل؟ أولوية مصالحة العالم الخارجي والعمل بكل جهد لرفع العقوبات عن سورية، ألا تستقيم مع إرساء أسس عدالة انتقالية وإنشاء محاكم نزيهة خاصة بمقاضاة كبار رموز النظام السابق ونزع فتيل مجازر طائفية أحد أسبابها أن أي خطوة لبدء مسار المحاسبة والعدالة لم تُتخذ طوال هذه الأيام المائة؟ أولوية تحسين الوضع المعيشي الكارثي للسوريين، ألا تستقيم مع توزيع عادل للثروة وإحقاق المناطق الشرقية، حاضنة ثروات سورية ونفطها ومائها وزراعتها، وغير المستفيدة من عوائدها إلا بالشيء النزير تاريخياً؟
في “سورية الجديدة”، كل شيء أولوية فعلاً. هي ورشة بناء عملاقة تتطلب جيوشاً من الخبراء والتقنيين والعلماء والسياسيين والاقتصاديين والأكاديميين والأمنيين والقانونيين والكفاءات والنخب والكوادر. هؤلاء متوفرون بكثرة داخل سورية وفي الاغتراب، وإشراكهم في تنفيذ الأولويات يتطلب قراراً سياسياً من سلطة تكون صاحبة تواضع الاعتراف بأنها عاجزة عن فعل أي شيء وحدها، وجرأة الإقرار بجهلها الكثير من تعقيدات المجتمع السوري وحساسياته، وأن دورها يكون تاريخياً بقدر ما يكون انتقالياً ومؤقتاً.
العربي الجديد
———————–
الإسلام السياسي مقابل العلمانية الطائفية والأقلوية/ أحمد الشمام
2025.03.25
تمثل العلمانية طرحا حديثا يتقارب مع المدنية حينا ويبتعد أحيانا أخرى، ويعد المقال أو البحث أضيق من أن يلقي بالضوء عليها.
وابتعادا عن الاختلاف بالتعريف والتوصيف، وأنماط التوافق مع مجتمعاتنا المشرقية، فإنه لابد من الإقرار أن كل من تنطع لها نشرا، تأييدا، أو عملا من المثقفين في العالم؛ يميز بين مفهومين هما الفكرة والمنهج العلماني إن جاز توصيفها كمنهج حياة وحكم وشكل للدولة من جهة، وبين النزعة التي تأخذ معتنقها بعيدا عن إعمال العقل في مناقشة مفهوم أو مبدأ ما، وإيجاد التبيئات والتفسيرات اللازمة حسب كل مجتمع وابتكار أدوات التغيير، وقبل ذلك فهمها انطلاقا من البنى والأنماط التقليدية للحياة الاجتماعية والسياسية في مجتمعاتنا، والثقافات ومرجعياتها التاريخية، والأديان كذلك؛ بل وأنماط التدين المشرقية التي يشترك فيها مسيحيو المشرق مع مسلميه في كثير من الأخلاق، والثقل المرجعي، والقيم الرمزية التي يمثلها الدين في المجتمع، وهي المفتاح الذي أسس لهويات ثقافات مشرقية يقع فيها الله مركزا للكون مع غاية للحياة ومصير مابعد الموت والبعث، على النقيض من إزاحة الإله في الغرب وتوثين الفرد تحت مسمى الحداثة، ثم استعباده وتحييده وتحويله إلى رقم.
تختلط هنا مفاهيم كثيرة وفقا لأنساق الهيمنة، والمركزية الغربية التي فيما لو تخلصت من استشراقها؛ فإنها لا تتخلص من مركزيتها. إضافة لاختلاط العلمانية بالحداثة، والعولمة، والشركات العابرة للجنسيات، وأنساق السلطة في عالم القوى الكبرى؛ التي ما انفكت تحتكر لغة تصدير الحريات والحقوق سياسيا وتبني تحالفاتها انطلاقا من مبادئ المصلحة الدولتية بعيدا عن كل ما نثرته من رماد في عيون القطيع، ما أوقع كثيراً من النخب العربية التي شهدت الفارق العلمي بين شرق وغرب وراحت تمتهن التصفيق لتقليد الغرب برداء حداثوي؛ في غمرة رفضها للتراث الديني باعتباره تقليدا، ما جعل الثقافة العربية للنخب منقسمة على نفسها وتعيش تحشيدا بين ثنائيات أكثر حدة مما يعيشه المجتمع المتدرج في استيعابه لعالم ملتبس.
يشكو كثير من مثقفينا العلمانيين من ذاك التأطير والموقف المتشنج من قبل الإسلاميين تجاه العلمانية، المثير أن تلك الإشارات غالبا ما تضمنت لغة متعالية ضمن خطاب ثقافي نخبوي متعال أيضا، غير أنا لو تبحرنا في الصور التي يتم تداولها عن الإسلام، والإسلام السياسي، نجدها تنم عن رؤية إستاتيكية صلبة متصيدة تنميطية؛ ضمن خطاب تخشب مذ تحجر يسارنا العربي خلف مقولات ماركسية لم تجد من يدرسها خصوصا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي كقوة داعمة لأحزابنا اليسارية؛ التي تلقت قوالب الأيديولوجيا كما هي واشتغلت على تفكيك المقدس الديني عبر توثين وتقديس أيديولوجياتها. وباعتبار العلمانية هي الطرح الأبرز والأكثر جدة لدى مثقفينا منذ قرن؛ لابد وأن نذكر أن النسق العلماني هو أول من طرح التفارق أو التغيير في الذهنية العربية، وبدل من أن تحسب له وقع في التقليد والارتجال وتورط بإلباس الآخر لبوسا ثابتا مؤطرا ماضويا فوقع في تنمطية بدأت منذ قرن ولم تتغير، اللهم إلا في انتقالها من نمطية مغلقة إلى أخرى أكثر تبحرا في تصيد مايجود به الخارجون المتحضرون ممن يسمون أنفسهم باحثين إسلاميين في تسمية فيها كثير من التلفيق حيث هم باحثون في الإسلام لا باحثون إسلاميون وشتان مابين الإثنين، هناك تساؤل آخر ماهي نسبة الحديث عن نقد العلمانية أو تأطيرها وتبيئتها للمجتمع واختلاف تعريف وتقديم صحيح لها كفكرة وجملة مبادئ مقرونة بنسبة ما تم تقديمه في كبريات المنابر الثقافية والصحف العربية عن الإسلام السياسي.
وقبالة الإسلام السياسي هناك طرح مواز ومقابل، الإسلام السياسي الذي يقر بأنه سياسي دون مواربة؛ إضافة لمسلمين يؤمنون بأن دينهم سياسي بلا تردد، ويقرؤه الآخرون بموجب نصوصه وأصوله على أنه الإسلام النبوي الذي استقر في الأذهان على أنه ينتمي لما تم تسميته تاريخيا بـ “أهل السنة والجماعة”، وتفرغ كثير من المثقفين والكتبة والباحثين؛ لتفكيك كثير مما يتضمن مما وثق تأصيله، أو ضعف، أو كان زبدا وافدا، أو مدسوسا غير ذي سند. غير أنه إذا اعتبرنا أن نقد الإسلام السياسي ضرورة ثقافية؛ فهي سياسية حتما، وضرورة وطنية في شتى الدول، لكنها تصب في مصلحة جهود دولية، ولا يمكن أن تنفصل عنها أيضا في غمرة هيمنة الحداثة والعولمة، كما أنه إن كانت حملات النقد تلك متوجهة ضد الدين بما يفرزه من عطب في تحول المجتمعات كما تم التنظير له، فلماذا لم نجد من هؤلاء المثقفين والباحثين نقدا وتفكيكا لأديان ومذاهب الطوائف باعتبارهم خارجين عنها، وباعتبارها تمارس تقية متوارثة وثابتة منذ قرون؛ بنصوص سرية ودين وتعاليم باطنية، وقبالة نبش كل شاردة وواردة في الدين الإسلامي لأهل السنة والجماعة، فالأولى أن يحمل هؤلاء عبء البحث والكشف أيضا عن تلك الكتب أو النصوص الدينية التي تفتك بأبناء طوائفهم، والمغلقة بأبواب سرية وصناديق مرصودة بكل علوم الإنس والجان، وهنا ينبثق سؤال ملح حول نفر كثير من أولئك الباحثين الذين حملوا لواء العلمانية، لماذا لم يكتبوا ما يفكك آثار الخطاب الداخلي الديني الظاهر لمشيخات كل طائفة؟ وذلك إن افترضنا عجزهم عن الوصول لها، ذاك الخطاب الذي ظهر فيه مشايخ طوائف يلبسون الزي العسكري، ويقفون لمؤازرة الجنود دينيا وبخطابات طائفية ودينية واضحة، بالإضافة إلى أن الطائفية التي أنشأها النظام واستولدها عبر سرديات ومظلوميات هشة، تم اختزالها بالنظام من دون السعي إلى تفكيكها ودراسة عواملها وحواملها التاريخية، بل حتى أن الشيعية السياسية الفارسية التي دفعت بها كل من إيران والعراق ميليشياتها الطائفية لقتل السوريين والولوغ بدمائهم، تم اختزالها بإيران الدولة وليس التعاليم الطائفية؛ التي أطلقتها عمائم أزلامها في العراق مثل فتوى الإمام الحائري 2012 للجهاد بالشام وحماية المراقد؛ قبل ظهور التنظيمات الجهادية السلفية والتي ظهرت كرد فعل عليها وانزياح الثورة نحو الأسلمة فيما بعد.
ثمة سمة لجزء من علمانويينا لابد من التوقف عندها، وقد لعبت دورا في تغيير الاصطفافات لدى مثقفي يسارنا التقليدي؛ وهي البقاء ضمن حالة هوياتية مشتتة تمثلت في عجزهم عن تعريف أنفسهم؛ إلا وفقا لثيمة اختلافهم مع الدين الإسلامي، وبعد انضمامهم للثورة بموقف نخبوي ومتعال ركزوا في معظم طروحاتهم على الإسلام السياسي بعيدا عن انتمائهم الديني له. ورغم اعتبارهم خارجين من أكثرية وعلمانيين، وغير حاملي عقدة الأقلوية أو الطائفية، فقد تجلت المشكلة عندهم في موقفهم الهووي ذاك والعقدي، بالمقابل فقد غفلوا عن ممارسة النقد للفكر الطائفي، وتغافلوا عن تقصير جزء مهم من علمانيي الطوائف والأقليات في نقد الطائفة؛ ولعبوا دورا محابيا ممالئا لطوائف تمظهرت لا كبنى اجتماعية تحمل خصوصية ثقافية ودينية؛ بل كمجال تحشيد وتأطير، ونظام اجتماعي داخلي يشكل أنساق سلطته وهيمنته على العامة من أبنائها؛ تحقيقا لنزوع سياسي تحت رايتها. وكان للثورة وانتصارها الأثر الأكبر في كشط جلد كثير من الطروح العلمانية بدوافع طائفية؛ لتتضح حقيقة الموقف لا كعلمانية موضوعية؛ بل كغطاء لطائفية مضمرة اتخذت العلمانية لبوسا ظاهريا، فصار المثقف يتبع المشيخة بذريعة الاستفادة من رأسماله الرمزي.
ثمة لحظة لابد من تأملها؛ وهي الصدمة التي عاشها محاربو الإسلام السياسي عندما انتصر الإسلام الجهادي، مع سؤال مفجع هو ليس حول كيفية انتصار هذا التيار وإزاحة الأسد؛ بل كيف استطاع هذا التيار أن يطرح رؤية للدولة وفعلا حقيقيا في جملة تطميناته وقراره في رفض استكمال مسيرة التقدم العسكري نحو الساحل كبيئة حاضنة للنظام تضم مقاتليه وقادته وأركان نظامه؟، بل ومنعت ذوي الضحايا من الاقتصاص من القتلة؛ وأطلقت مبدأ العمل على العدالة الانتقالية، حيث بدت الإدارة الجديدة رغم كل تاريخها القديم؛ أكثر قدرة على تبني مفهوم الاختلاف والتطور الذي أشار له منذ يومين مسؤول أميركي رفيع، فهل يمتلك هؤلاء العلمانيون القدرة على التحول بما يناسب المرحلة إخلاصا لمرحلة بناء سوريا؟
تلفزيون سوريا
—————————–
كي لا تفشل المرحلة الانتقالية في سورية/ عمار ديوب
25 مارس 2025
ورثت الإدارة الجديدة في سورية مشكلات مجتمعية معقّدة للغاية، متراكمة ومتأزّمة منذ 2011، وقبلها. ورثت ثورة شعبية، رفعت شعارات الخلاص من الاستبداد والانتقال إلى الديمقراطية. ورثت خبراتٍ سوريّة كبيرة، انشقّت عن النظام، أو كانت في مؤسّسات دولته، ولكنّها مهمّشة، وهناك خبرات خارج مؤسّسات الدولة، ولم تغادر البلاد، ومنها من غادر ويرغب في العودة. ورثت ذلك كلّه، ولكن مشكلة الشعب معها في أنّها تتجاهل المداخل الواقعية نحو تفكيك هذه المشكلات كلّها، والاستفادة من الخبرات كلّها، ورغبة الأغلبية الساحقة من السوريين في إنجاح المرحلة الانتقالية والنهوض بالدولة.
مرّ أكثر من ثلاثة أشهر على رحيل بشّار الأسد وسلطته، ولم تستطع الإدارة الجديدة الابتعاد عن سياسات الاستئثار والتفرّد بالخطوات كافّة، التي بدأتها لإعادة تشكيل الدولة ومؤسّساتها والجيش والأمن، ولم تنسج علاقات سياسية ذات مصداقية مع مختلف المدن السورية أو كوادر الثورة منذ 2011. عكس ذلك، تحاول فرض كوادرها وسياساتها في المدن السورية. صحيحٌ أن هناك تعقيدات هائلة للبدء بما ذكرنا، ولكنّ عقلية فرض السياسات هذه أنتجت ثقةً مهزوزةً بالإدارة، وشعوراً بالتهميش الشديد، وشعوراً بأن الإدارة تتجه نحو فرض ديكتاتورية جديدة.
جاءت أحداث الساحل ومجازره الطائفية، والتجييش الطائفي على أرضية العداء بين السُّنة وبقيّة الأقلّيات، لتزرع بذور الشكّ العميق تجاه السلطة في دمشق، وأنّها فوّتت ثلاثة أشهر من رغبة السوريين في مساعدتها في تخطّي المشكلات منذ 2011. لم تُعد الخطوات السياسية التي تُوِّجت بالإعلان الدستوري المؤقت، ومركزت السلطات بيد رئيس الجمهورية، واللجان المشكّلة للتحقيق بأحداث الساحل والسلم الأهلي، وغياب مؤسّسات رقابية عليها أو إشراك لجان دولية في التحقيق، الثقة، ولم توقف التجييش الطائفي ولا التطييف الذي أنتجته طريقة تعامل الإدارة مع أحداث الساحل. لقد استَغلَّ ضبّاط النظام المجرمون الأخطاء في سياسات الإدارة الجديدة للبدء بأحداث الساحل، وسيستفيدون من المداخل الخاطئة في المعالجة، ومن المظلومية “العلوية” التي تشكَّلت مع الانتهاكات السابقة لـ 6 مارس/ آذار (2025)، والمجازر والانتهاكات بعد التاريخ المذكور.
هناك شعور عام حالياً بأن الإدارة “تعتقل” نفسها في رؤية ضيّقة للمشكلات المتراكمة، وهناك من يعتبر أنّها لن تغادرها، ولا تعير انتباهاً للمشكلات التي نتجت من خطواتها السياسية، وأدّت، في وجهٍ منها، إلى ما جرى في الساحل، وتبعه فقدان الثقة، وابتعاد الدروز والأكراد عنها، وتشكّك كثيرين من أبناء المدن في سياساتها.
لم تُخفّف خطواتها السابقة من تقدّم القوات الصهيونية ومحاولتها تقسيم سورية طائفياً وقومياً، وإن فشلت حتى اللحظة، ولكنّها تتجه إلى فرض حزام أمني كامل في القنيطرة ودرعا والسويداء، وهذا سيشكّل إضعافاً كبيراً لإدارة دمشق أمام العالم وأمام الشعب، وأيضاً لا يبدو أنها استطاعت تفكيك الفصائل المسلّحة، ودمجها في الجيش الجديد المُعلَن. أوضحت أحداث الساحل هامشية هيمنة قيادة الجيش والأمن العام على تلك الفصائل، التي جاهدت قتلاً وحرقاً وسلباً ونهباً. وأيضاً، يتطلّب استقطاب الدروز والأكراد سياساتٍ كثيرة لعودة الثقة في إدارة دمشق. أيضاً، جاءت أحداث الساحل لتستفيد منها الإدارة الأميركية في الابتعاد عن التفكير برفع العقوبات بشكل كامل، وضمن ذلك لن تتجرّأ أيّ دولة على دعمٍ جادٍّ وحقيقيٍّ للإدارة في دمشق. وستؤدّي هذه القضايا إلى تفاقم المشكلات المجتمعية، وقد تقود إلى انفجاراتٍ مجتمعيةٍ كبيرة، وما حدث في الساحل لا علاقة له بتلك الانفجارات، فقد كانت حركة ضبّاط عاجزين عن استيعاب رحيل النظام، ولم يلقوا دعماً مجتمعياً، وانهزموا سريعاً.
هناك استحقاقاتٌ عديدة في الأيام المقبلة أمام الإدارة الجديدة، وتشكّل آليات الاستجابة لها معياراً للحكم على سياساتها، فهل ستستمرّ في الاستئثار أم ستتجه نحو إشراك الشعب، والاستفادة من خبراته؟… هنا المحكّ، ليس أمام الشعب، بل وأمام العالم الذي يراقب جيّداً خطوات الإدارة في دمشق، وحتّى الصهيوني بنيامين نتنياهو قال إنه يراقب أحمد الشرع من جبل الشيخ الذي احتلّه.
ينتظر السوريون الحكومة الانتقالية، ويفترضون أن تكون تمثيليةً لمختلف المحافظات، وأن يمتاز أعضاؤها بالنزاهة والكفاءة والوطنية، وبالخبرات الكافية لحلّ المشكلات المستعصية، ولن يتناقش السوريون حولها، ولو كانت بأكملها من الطائفة السُّنية، شريطة توافر الصفات التي ذكرناها. أيضاً، هناك استحقاق المجلس التشريعي المؤقّت، ويُفترض أن يكون التمثيل فيه وطنياً، وهناك المحكمة الدستورية.
عنوان هذا المقال “كي لا تفشل الحكومة الانتقالية”، ذلك أن الخطوات السابقة تقودها إلى الفشل. تتطلب الأزمة الاقتصادية من الإدارة الحالية دعوة الخبراء الاقتصاديين كافّة إلى وضع خطّة اقتصادية دقيقة لتحديد أوجه الأزمة وكيفية النهوض بها وعبر الموارد الوطنية، وبالاستعانة بالخبرات العربية والعالمية. لم يحدُث ذلك، ما أوجد مشكلات جديدة تتكاثف في شبه عطالة كاملة للاقتصادين الصناعي والزراعي، وفاقم ذلك طردُ عشرات آلاف من الموظفين، وهناك مئات آلاف من الجيش المنحل. المقصد هنا، كيف سيتم استيعاب هذه العطالة كلّها (وسواها) من دون خطّة وطنية، تؤمّن فرص العمل لملايين من السوريين؟… حاولت المقاربة الأمنية التصدّي لبعض أوجه الأزمة، وهي تتطلّب تشكيلاً مختلفاً للجيش بالتحديد، ففشله في الساحل يؤكّد ضرورة ذلك. سياسياً، هناك رفض كامل لإشراك الخبرات السياسية والثقافية في إدارات الدولة، وأمل السوريين منعقدٌ على تمثيل وطني في الحكومة والمجلس التشريعي في هذه اللحظة.
استمرار الإدارة في السياسات ذاتها، وتشكيل حكومة من لونٍ واحدٍ أو من ألوان باهتة، كأن يُؤتى بشخصياتٍ كردية أو درزية أو علوية أو مسيحية في الحكومة المقبلة من دون كفاءة ونزاهة واستقلالية، وتابعين للإدارة، ليس المدخل الوطني لهذا التشكيل، ولن يُوقف أيّ ابتزازات دولية أو مطالب داخلية، أكّدت (وتؤكّد) التمثيل الوطني الحقيقي، والكلام يخصّ الحكومة والمجلس التشريعي والمحكمة الدستورية وأيّ تشكيلات إدارية جديدة.
كان بإمكان الرئيس الشرع فرض حكم شمولي منذ لحظة وصوله إلى دمشق في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، ولكن حجم الأزمات جعله يمتنع عن ذلك، وأصاب. ولكنّ الخطوات التي سار فيها منذ التاريخ المذكور مركزت السلطات بين يديه، وأدخلت سورية في أزماتٍ لا يمكن الخروج منها من دون إشراك الشعب. والاستمرار بسياسة الاستئثار لصالح الإدارة، التي تكرّر سياسات هيئة تحرير الشام في إدلب، تقود نحو أزمات أمنية واقتصادية وسياسية وثقافية وتعليمية، وربّما إلى حرب أهلية، ولن تتراجع الدولة الصهيونية عن فرض حزامها الأمني وتعمل بتنسيق كامل مع الإدارة الأميركية، وهذا يهدّد سلطة دمشق، ويُخفّف من الاستعجال الأوربي في الانفتاح على السلطة، الذي يستهدف إعادة مئات آلاف اللاجئين، ولا شيء آخر يذكر.
يريد السوريون الانتقال نحو دولة ديمقراطية، والمشاركة في إنهاضها بما يحقّق مصالح السوريين كافّة، فهل تتوقّف الإدارة عن سياساتها الاستئثارية والتفرّدية، وتسهم في التأسيس للدولة المأمولة؟
العربي الجديد
————————–
الخسارة الإيرانية في سوريا: نهاية مشروع أم تحوّل إلى استراتيجية الفوضى؟/ ضياء قدور
2025.03.25
في أعقاب ما وُصف بالخسارة المهينة في سوريا، لا يزال العديد من المسؤولين الإيرانيين يتحدثون عن البلاد وكأن طهران لا تزال لاعباً مهماً على الساحة السورية، في محاولة واضحة لإنكار الوقائع الميدانية الجديدة والتقليل من وطأتها. ويعكس هذا التخبط الواضح في الخطاب الإيراني صعوبة استيعاب طهران للواقع الجديد، ويكشف عن مأزق استراتيجي لن يُعالج عبر التصريحات المتناقضة أو محاولات التبرير، بل يرسّخ خسارتها الطويلة الأمد في سوريا.
في عام 2015، ادّعت إيران أنها حققت “انتصاراً دبلوماسياً” عندما أقنع قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتدخل العسكري دعماً لنظام الأسد. إلا أن هذه النشوة لم تدم طويلًا، إذ سرعان ما بدأت موسكو باستغلال الملف السوري لتعزيز نفوذها الإقليمي، على حساب النفوذ الإيراني، حتى وصل الأمر إلى حد اعتراف العميد إثباتي، آخر ضابط إيراني في سوريا، بـ”الدور الخائن” الذي لعبته روسيا، معتبراً أن العامل الروسي كان من بين أسباب انهيار المشروع الإيراني في سوريا.
ومع إخراج إيران فعلياً من المعادلة السورية، لا سيما بعد الفشل الذريع لتمرد الساحل الأخير، لم تجد طهران سوى التعلق بالإجراءات الإسرائيلية – التي كانت حتى وقت قريب تستهدف مراكز نفوذها العسكرية – كأداة لتأجيج الفوضى وإعادة إنتاج دوامة العنف، أملاً في خلق فراغ سياسي وأمني تستعيد من خلاله دوراً خسرته تدريجياً.
ويشير بعض المراقبين الإيرانيين على الفضاء الافتراضي بوضوح إلى أن محاولات التشويش التي تتشبث بها طهران، بعد ضياع عشرات المليارات من الدولارات التي صُرفت دعماً لنظام الأسد، وآلاف القتلى من المقاتلين الإيرانيين والميليشيات المتعددة الجنسيات تحت الشعار المزعوم “الدفاع عن الحرم”، باتت اليوم بلا جدوى في وجه واقع سوري تغيّر جذرياً.
في هذا السياق، يُعاد تداول رواية سابقة لوزير الخارجية الإيراني السابق، أمير عبد اللهيان، تحدث فيها عن طلب غير معتاد وُجّه للأسد خلال الحرب، حيث دُعي برفقة زوجته لزيارة طهران أو أي مدينة إيرانية أخرى “للاستراحة” مؤقتًا من أجواء الحرب. لكن الأسد، بحسب عبد اللهيان، رفض العرض مؤكداً أنه سيبقى في بلده إلى جانب شعبه حتى النهاية.
إلا أن هذا الوفاء الظاهري للأسد سرعان ما تهاوى مع هروبه الشائن، حيث اختار الأسد لاحقاً موسكو بدلًا من طهران كمكان لاستراحته “النهائية”، في خطوة كانت – ولا تزال – سبباً رئيسياً لسخط الإيرانيين عليه وانتقاده بشكل لاذع بين الفينة والأخرى، وسبباً أيضاً في غيابه التام عن إعلامهم الرسمي، بعد أن كان عنواناً دائماً لـ”المقاومة” في خطابهم.
خامنئي يفتح النار على تركيا والرئيس الشرع
في أعقاب تصريحاته العدائية عن سوريا، واصلت صحيفة كيهان الأصولية التابعة لخامنئي، على لسان مديرها حسين شريعتمداري، فتح النار على الإدارة السورية الجديدة والرئيس الشرع بالتحديد، حيث أعاد في مقال عنونه بـ”تذكّروا هذا الاحتمال”، تكرار المزاعم السابقة ذاتها مع نبرة تهديدية واضحة لا تخلو من الحسرات على مآلات القضية السورية.
وفي محاولة فاشلة لإثبات وجهة نظره، يضطر شريعتمداري في هذا المقال للتوافق مع تصريحات سابقة للرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي للمصادفة تضطر طهران للتعامل اليوم مع التداعيات الخطيرة لصعوده إلى السلطة.
واستمراراً في تبني رؤى متشددة مؤامراتية، غرق شريعتمداري في حديثه عن الوضع السوري، حيث زعم أن “حكم الجماعات التكفيرية في سوريا لن يدوم طويلاً، وأنهم لم يكونوا ولن يجب أن يكونوا حكام البلاد”. وادّعى أن “الحكومة التي ترغب الولايات المتحدة في إقامتها في سوريا هي حكومة دمية، على غرار بعض الأنظمة العربية في المنطقة”. وفي السياق نفسه، زعم أن “المجموعات التكفيرية تهدف إلى نشر الخوف والرعب، واستئصال القوى الثورية الإسلامية، تمهيداً لإرساء حكم تابع للأجندات الخارجية”، بحسب وصفه.
وفي ختام مقاله، توقّع شريعتمداري أن تقترب مهمة حكومة دمشق من نهايتها، مشيراً إلى احتمال تعرض الرئيس الشرع لمصير مشابه لمصير أسامة بن لادن وأبي بكر البغدادي، بعد أن “ينقضي العمر المفيد” له، بحسب تعبيره.
وتُظهر تصريحات شريعتمداري الانتقائية حول سوريا أن إيران لا تزال تتبنى معياراً ثابتاً لتقييم الدول والثورات في المنطقة: فالدول التي تقف إلى جانبها، حتى وإن كانت أنظمتها استبدادية أو فاسدة كنظام الأسد البائد، تُعتبر نزيهة ومقاومة، في حين تُصنف الدول التي تخالفها في المعسكر الآخر على أنها عميلة وخائنة.
وفي سياق تعليقه على الوضع في سوريا، جدد حسين شريعتمداري في مقال آخر تهديداته الضمنية ضد تركيا، مستندًا إلى تصريح سابق لخامنئي عن أهمية أمن تركيا وسوريا معًا خلال لقاء سابق لخامنئي مع الرئيس أردوغان قبل سنوات من سقوط الأسد. وادّعى أن الهجوم الأخير الذي أسفر عن سقوط الأسد يخدم من وصفهم بـ “الإرهابيين”. كما وجّه تحذيراً صريحاً للرئيس أردوغان، محذراً إياه من وزير خارجيته، هاكان فيدان، معتبراً أن تهديدات الأخير لإيران لم تكن سوى “سخافة”، مشيرًا إلى أن تصريحاته كانت غير مؤثرة، بحسب زعمه. وفي نهاية مقاله، اختتم شريعتمداري بتأكيده أن “التهديدات التي أطلقها فيدان قد سقطت في فخ كان قد أعده لنفسه”، محذرًا قائلاً: “فاعتبروا يا أولي الأبصار”.
إن إعادة تذكير شريعتمداري بتصريحات خامنئي السابقة بشأن سوريا خلال لقائه مع الرئيس أردوغان يجب أن يُؤخذ على محمل الجد، فهي تشير بوضوح إلى أن إيران ماضية في سعيها لزعزعة استقرار سوريا، مع السعي المباشر لضرب الأمن القومي التركي، ويظهر على المستوى التشغيلي كيف يمكن لإيران أن تعوض خسارتها من خلال تحويل دورها من لاعب مؤثر وحاسم في سوريا إلى عنصر مهاجم وتخريبي.
في السياق ذاته، هاجم عضو هيئة رئاسة البرلمان الإيراني، على خلفية الاحتجاجات الأخيرة في تركيا، السياسة التركية، زاعماً أن تدخلات تركيا في سوريا وليبيا والسودان قد أسهمت بشكل مباشر في إشعال الأزمات وزرع بذور عدم الاستقرار في المنطقة. وأضاف أحمد نادري، قائلاً: “عندما تزرع الألغام في السياسة، فسوف تدوس على أحدها عاجلاً أم آجلاً”، في إشارة تحذيرية إلى العواقب التي قد تواجهها تركيا نتيجة لهذه السياسات.
مفارقة الدبلوماسية والميدان مرة أخرى في سوريا
على الرغم من محاولات خامنئي السابقة إشعال ما وصفه بـ”المقاومة الشعبية الشريفة” ضد حكومة دمشق الجديدة مؤخراً، خرج وزير خارجية طهران، ورئيس الدبلوماسية الإيرانية، عراقجي، مؤخراً بتصريحات هادئة ومتناقضة في الوقت نفسه مع مواقف خامنئي المتشددة في سوريا.
وخلافاً للأدلة التي تم تقديمها مؤخراً حول دعم إيراني لفلول النظام في الساحل، ظهر
عراقجي بنهج جديد حيث عبر عن أن سياسة طهران في سوريا هي الانتظار والترقب، زاعماً أن “إيران لن تتدخل في ما يحدث في سوريا”.
ورغم أن السفير الإيراني الأخير في سوريا، وضابط الحرس الثوري السابق، حسين أكبري قد ادعى بعد أيام من سقوط الأسد استئناف عمل السفارة الإيرانية بدمشق، لكن ذلك لم يحدث فحسب، بل ذهب عراقجي للقول بشكل انفعالي واستهتاري أن “طهران قررت عدم التسرع، وأنها ليست في عجلة من أمرها حتى للتواصل مع الحكومة السورية الجديدة”.
وكان بيان صادر عن وزارة الخارجية الإيرانية، قد أعلن بداية العام الجاري عن تعيين محمد رضا رؤوف شيباني إيران مبعوثاً خاصاً للشؤون السورية، في أول تحرك إيراني أحادي الجانب نحو دمشق على الصعيد الدبلوماسي.
وكان محمد رضا رؤوف شيباني بعد شهر من ذلك، قد أعلن إن بلاده على تواصل مع دمشق “بشكل غير مباشر وتلقت أيضا رسائل منها” من دون الكشف عن فحواها.
وفي تصريح مثير للاستغراب في أعقاب الاتهامات الإيرانية لروسيا بخيانة طهران في سوريا، أوضح عراقجي أن هناك مبدأ بين طهران وروسيا تم التأكيد عليه وهو أنه، بحسب تعبيره، “أن لا أحد منا سيفاجئ الآخر”.
إن مفارقة الدبلوماسية والميدان ليست أمراً جديداً في السياسة الإيرانية، لا سيما في ظل حكومة إصلاحية تتحمل أعباء المواقف المتشددة لخامنئي وتحاول تبريرها، بل إن هذه التناقضات يجب أن تُؤخذ مع كثير من الريبة والشك، إذا لطالما استغلتها إيران في ملفات أخرى، كالملف النووي، كوسيلة للخداع والمماطلة.
ويرى كثير من السوريين أن طهران التي واصلت دعم نظام الأسد الديكتاتوري بالمال والسلاح والمقاتلين تحت الشعار “الدبلوماسي” المعروف بالدعم الاستشاري الإيراني لسنوات، لن يتقبلوا بسهولة اليوم رواية عراقجي الأخيرة بشأن “الدور المراقب” لطهران في سوريا، لا سيما بعدما شهدوه من أحداث غذّتها الدعاية الإيرانية بشكل طائفي في الساحل السوري.
كيف تتشبث طهران بالطائفية والاعتداءات الإسرائيلية لتفتيت سوريا؟
في محاولتها المستميتة لتخفيف تداعيات خسارتها العسكرية والسياسية في سوريا، لا تزال إيران تتشبث بالنعرات الطائفية وتوظف الاعتداءات الإسرائيلية كأدوات لتفتيت سوريا وتعميق أزمتها. ومن خلال استثمار هذه الهجمات الإسرائيلية، تسعى طهران إلى خلق أجواء من الفوضى والتشويش في الساحة السورية، بهدف إعادة تدوير خطابها، بينما تبتعد عن حقيقة أن تلك السياسات قد أدت إلى تعميق الانقسامات في سوريا.
وبدلاً من قبول هذه الحقيقة والتكيف معها، أظهرت التقارير الموثقة أن طهران تواصل اللعب على وتر الطائفية، معتمدة على الحشد الطائفي للضغط على الحلفاء وتثبيت أقدامها في المنطقة.
وفي هذا السياق، قلل الخبير الإيراني مصطفى نجفي من قدرات الإدارة السورية الجديدة، وتوقع مستقبلًا مظلماً لسوريا في ظل ما وصفه بالهيمنة الأجنبية التي تعاني منها. وأشار إلى أن النظام الجديد في سوريا يفتقر إلى الثقة والقدرة على السيطرة على البلاد، بسبب اعتماده على القوى الأجنبية مثل تركيا، فضلاً عن تدمير البنية العسكرية السورية بشكل كامل من قبل إسرائيل، واحتلال أجزاء كبيرة من الأراضي السورية من قبل تل أبيب.
وتوقع نجفي في مقال له بعنوان “استمرار اللعبة في سوريا بكروت جديدة” على موقع إيرنا مستقبلاً سوداوياً لسوريا عندما رأى أن الصدامات ستكون سمة المرحلة المقبلة، إذ ستتزايد المواجهات بين الحكومة الجديدة والمعارضة بمختلف أطيافها، من العلويين إلى القبائل والأكراد والدروز وحتى السنة في جنوبي سوريا.
وتكشف هذه التصريحات عن أن طهران تسعى لاسثتمار هشاشة المرحلة الانتقالية في سوريا بعد سنوات من الحرب المدمرة، ومحاولات دمشق إبعاد سوريا عن أي تجاذبات إقليمية، في محاولة لتوجيه أزماتها الداخلية إلى الخارج، ولعب دور المهاجم المخرب في مشهد سوري وإقليمي معقد.
وفي تتمة حديثه؛ اعترف نجفي أن كلاً من إيران وإسرائيل تستفيدان من عدم استقرار الحكومة السورية واستمرار التوترات، رغم أهدافهما المتضاربة. إذ إن استمرار الصراعات في سوريا يعزز من استمرار الاحتلال الإسرائيلي للحدود الغربية والجنوبية، في حين تسعى إيران، من جانبها، للاستفادة من هذا الوضع كأداة للضغط والتفاوض، بهدف استعادة مكانتها وتأثيرها في الساحة السورية، بحسب تعبيره.
تلفزيون سوريا
—————————–
عقدُ اجتماعٍ جديد/ سمر يزبك
25 مارس 2025
يستدعي الحديث عن الهُويَّة الوطنية السورية وضوح الرؤية والقدرة على مواجهة الواقع، أكثر من الاكتفاء بشعارات مكرورة تحاول تجميل المشهد. لا يمكن إنكار أن الطائفية متجذّرة في بنيتنا السياسية والاجتماعية، وليست مجرّد عرضٍ طارئ. لم نكن يوماً شعباً موحّداً بقدر ما كنّا مزيجاً هشّاً يحاول التجانس، متماسكاً ظاهرياً بفعل الخوف والإكراه من جهة، والاسترخاء تحت وطأة التاريخ، وربّما الخوف من مواجهة الحرّية وجهاً لوجه؛ تلك الحرّية التي تعني أننا (وحدنا) معنيون بتدبير أحوالنا بأنفسنا من جهة أخرى. قال يوماً أنطون مقدسي: “نحن مواطنون ولسنا رعايا”. تلخّص هذه العبارة معضلتنا الأساسية، إذ لم تكن المواطنة واقعاً بقدر ما كانت فكرةً مؤجّلةً، مُعرقلةً بتوازنات القوة والهيمنة. ويبدو أن مشروع الدولة الوطنية السورية لم ينجح في تجاوز البنى الأولية كالطائفة والعشيرة، بل أعاد إنتاجها بوسائل مختلفة.
ليست تجربة بناء الأمّة مسألةً تلقائيةً (علينا الاعتراف بذلك)، بل عملية تاريخية تتطلّب توافقات وصراعات تُعيد تعريف الهُويَّات. بعد الثورة الفرنسية، واجهت الجمهورية انقسامات حادّة بين الملكيين والجمهوريين، والعلمانيين والمتدينين، لكن نجاحها لم يكن نتيجة إلغاء الفوارق، بل إعادة تشكيلها ضمن هُويَّة وطنية مدنية. كما قال إرنست رينان: “الأمّة هي استفتاء يومي”، أي أن التماسك الوطني لا يُفرَض، بل يُبنى عبر تفاعل دائم بين مكوّناته. ليست الأمم كيانات طبيعية تولد متجانسةً، إنها في حقيقتها مشاريع سياسية وثقافية تخضع لإعادة التشكيل المستمرّة. لا يتمّ بناء الأمّة عبر فرض نموذج ثقافي واحد، بل من خلال تطوير آليات لإدارة التنوّع تحوّله من عامل انقسام إلى مصدر قوة.
تشير التجارب الحديثة إلى أن المجتمعات التي تدير تنوّعها بفاعلية، مثل كندا وسويسرا، تفعل ذلك عبر ضمان العدالة والتمثيل المتوازن، بينما فشلت دول أخرى، حين تعاملت مع التعدّدية باعتبارها تهديداً. يقوم مفهوم “التعدّدية الحاضنة” على الاعتراف بالاختلاف من دون عدّه مدعاةً للصراع، بل جزءاً من نسيج المجتمع. في المقابل، تؤدّي سياسات الإقصاء إلى تعزيز الشعور بالخطر واللجوء إلى آليات دفاعية قد تصل إلى العنف. وفي حالتنا السورية قد تصل بنا إلى أوضاع لا نستطيع مجرّد تخيّلها. لا تنشأ ثقافة التعايش تلقائياً، بل تُبنى عبر المؤسّسات والقوانين والتعليم، وإلا أصبح التنوّع عامل تفجير لا إثراء. لا يتحقّق الاستقرار بسحق الهُويَّات الفرعية، بل عبر إعادة تشكيلها ضمن منظومة وطنية قادرة على استيعابها. لا يمكن تجاوز الانقسامات من دون الاعتراف بها، ومن دون تفكيك آليات إنتاجها واستغلالها سياسياً.
ما نعيشه بعد التحرير ليس مجرّد انقسام طارئ بين ثوار وفلول، بل انعكاسٌ لغياب الثقة وغياب مشروع وطني قادر على استيعاب التعدّدية الغنية في المجتمع السوري. تجاهل المشكلة لن يؤدّي إلى حلّها، بل إلى استمرار حالة الانفجار البطيء. مواجهة الطائفية لا تعني إنكارها، بل التعامل معها بوعي سياسي قادر على تحويلها من أداة تفريق إلى عامل إثراء. ليست المسألة في التظاهر بالتماسك، بل في بناء ما يجعله ممكناً. لا يتعلّق الأمر ببناء الهياكل السياسية أو الاقتصادية للدولة على أسس حديثة، فقط، بل هو مسألة تغيير جذري في الوعيين، الفردي والجماعي. الأمّة لا تنمو إلا عندما يتبنّى شعبها قيم العقل، والحرّية، والعدالة، وأن يُشجَّع الأفراد على التفكير النقدي، والتفاعل مع الآخرين بسلام، من دون تقيّد بالأيديولوجيات المتطرفة أو العصبيات القَبَلية. القوة الحقيقية للأمّة تكمن في قدرتها على إرساء مبدأ التسامح، وعلى تعليم مواطنيها قبول المساواة والاعتياد على التنوّع بين جميع أفرادها. إدارة التنوّع بدورها تتطلّب الانتقال من عقلية الهيمنة إلى عقلية الشراكة، ومن التوجّس المتبادل إلى الاعتراف الحقيقي بحقّ الآخر في الحياة الكريمة والعادلة والتمتّع بذات الحقوق. المجتمعات الناجحة هي تلك التي طوّرت أدواتها لاستيعاب تناقضاتها وتحويل خلافاتها دينامياتٍ إيجابية. في غياب هذا الإدراك، يظلّ كلّ اختلافٍ مشروعَ صراعٍ مؤجّل، وتظلّ الدولة رهينةَ موازين قوى هشّةٍ، غير قادرةٍ على توفير إطار جامع يضمن حقوق الجميع. التحدّي الحقيقي ليس في إنكار التنوّع أو تطويعه، بل في جعله أساساً لبناء عقد اجتماعي جديد أكثر مرونةً وإنصافاً، عقد اجتماعي يستحقّه السوريون بعد أكثر من خمسة عقود من الظلم والتمييز.
العربي الجديد
———————————–
عن المظلوميّات الطائفيّة العابرة للحدود/ حسام أبو حامد
25 مارس 2025
منح نظام “الملّة” الأقلّياتِ سلطاتٍ محدودةً لتنظيم شؤونهم في سيادة شاملة للإدارة العثمانية، لكنّ التوزيع غير المتكافئ للسلطة والموارد زرع بذور الانقسامات اللاحقة. تحوّل انتصار ثورةٍ فلاحيةٍ في كسروان حرباً أهلية، وعبرت الأزمة الطائفية بين المسيحيين والدروز في العام 1860 “الحدود” إلى دمشق، ووفاءً للتقليد النبوي في حماية “أهل الذمّة”، حاول الزعيم المتنوّر، الأمير عبد القادر الجزائري، إخماد “الفتنة”، ولكن أيضاً إنقاذ الحكم العثماني (السُّني) في مواجهة مخطّطات التقسيم الغربية. وفي غياب وحدة اندماجية، اجتماعية سياسية، ظلّت الطائفية، بوصفها إعلاءً لشأن الانتماءات والولاءات الدينية والمذهبية والعرقية والثقافية، نشطةً، واستمرّت الروابط الدينية والمذهبية والأسرية والعشائرية أساساً للهُويَّة، وكان لكلّ فريق مشروعه الاجتماعي والسياسي الخاص.
استحدث الانتداب الفرنسي في سورية هياكل إدارية تقنّن الهُويَّات الطائفية، وعمل لإضعاف النخب السُّنية بإقصائها من الجيش، بينما ركّز في تجنيد الأقلّيات، وفي مقابل النفوذ الاقتصادي للنخب السُّنية تمتعت الأقلّيات بالنفوذ العسكري خصوصاً العلويين. تدريجياً، خسر السُّنة السلطةَ أمام صعود “البعث” ونظام الأسد. ورغم مظلوميةٍ سُنّيةٍ تقليديةٍ نظّرت لها حركات الإسلام السياسي تفاعلاً مع سقوط الخلافة الإسلامية في مطلع عشرينيّات القرن الماضي، إلا أن المظلومية الطائفية لم تكن عاملاً حاسماً في الحياة السياسية السورية، إذ همّشت تنازعَ المظلومياتٍ أيديولوجياتٌ وانتماءاتٌ توزّعت بين المحلّي والوطني والقومي.
قمع نظام حافظ الأسد التعبيرات الصريحة عن المظالم المجتمعية، وأبقى التوتّرات الطائفية الكامنة تحت السيطرة. كانت سورية علمانيةً في الخطاب، براغماتية في الممارسة، ووظّف النظام الدين أداةً للسيطرة السياسية، قمعاً لحركاتٍ دينيةٍ مستقلّة (الإخوان المسلمين)، وانتقاءً وتعزيزاً لشخصيات ومؤسّسات دينية موالية. إبان الغزو الأميركي للعراق (2003) عبر الحدود جهاداً مقاتلون أرادوا الدفاع عن حكم ديكتاتور سنّي، والتفّت حبالٌ طائفيةٌ حول رقبة صدّام حسين فجر عيد الأضحى (30 ديسمبر/ كانون الأول 2006)، فتركت جرحاً غائراً في الوجدان السُّني، نكأه لاحقاً اجتياح حزب الله بيروت (2008) واختطافه الدولة اللبنانية لصالح إيران الشيعية. تفاقمت حدّة المظلوميات الطائفية إبّان الصراع الطائفي في العراق (2006-2007)، واستمرّ حاملوها الاجتماعيون في التنقّل عبر الحدود. في هذا المناخ الإقليمي، أخضعت الطائفيةُ خطاباً وسلوكاً الثورةَ السورية (2011)، وتحوّلت حرباً أهليةً. دعت فصائل جهادية سلفية إلى ثورة سُنّية ضدّ “الاستبداد العلوي”، فيما صوّر النظام نفسه حامياً للأقليات من “التطرّف السُّني”، وحمى نفسه بمزيدٍ من تحالفاتٍ طائفية، أقبلت مليشياتها من الشرق والغرب.
بعد لبنان والعراق، استكملت 14 عاماً من الحرب عملية تطييف السوريين السُّنة (التقليد المذهبي السائد) ورسّخت مظلوميّتهم. وفق هذه المظلومية، لم يكن سقوط بشّار الأسد نهاية نظام استبدادي فقط، بل أيضاً انقاذاً للسلطة السُّنية السليبة، وانتهت حقبة أديرت فيها الطائفية تحت السيطرة المركزية السلطوية، لكن فراغ السلطة الذي ملأته هيئة تحرير الشام والفصائل الموالية لها لم يمنع تجمّع الفاعلين المحلّيين حول الهُويَّات الطائفية، ذلك أن مظلوميّة شاركت في إنتاجها هذه الفصائل، وبدت أحد مكوّنات الهُويَّة، انقلبت حين انتصرت ثقافة ثأرية تحت مظلّة عقلية إعادة بناء الدولة والمجتمع بمداميك تلك المظلومية، وروافعها الطائفية، ما أدّى إلى نتائج كارثية أفصحت عن نفسها مجازرَ انتقاميةً بحقّ العلويين. في أفضل الحالات، تحوّل خطاب العفو ابتزازاً سياسياً. لذلك، لا يزال الاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) هشّاً، ومتعذّراً مع الدروز في الجنوب، وواحد من أوجه القصور تعامل المظلومية السُّنية مع الأقلّيات بوصفهم أشبه بـ”ذميين”، أو من خلال استلهام نظام الملّة، لا شركاء في الوطن.
المظلوميات الطائفية عابرة للحدود في الاتجاهين، ولن يمنعها اتفاق أمني حدودي شرقاً (العراق). أمّا التوتّرات عند الحدود الغربية، واستمرار عبور العلويين النهر الكبير هرباً من المجازر، وخوفاً من تكرارها، فقد يجدّد اشتباكات درب التبانة – جبل محسن، أو في غيرها من ديموغرافيا بألوان طائفية.
تبدو دولةٌ ديمقراطيةٌ تلتزم الحياد تجاه عقائد مواطنيها بعيدةَ المنال، تحتاج تحقيباً تاريخياً. لكن عدالة انتقالية تؤطّر المظلوميات الطائفية حقوقياً، تمنح فرصاً حقيقية للحيلولة دون بقائها هُويَّات سياسية تهدّد السلم الأهلي، والاستقرار الإقليمي، أما تأجيلها فإمعان في تبنّيها.
————————
من يجرؤ على الاعتراض/ أنس أزرق
25 مارس 2025
لم يفز الفيلم الكرواتي “الرجل الذي لم يستطع الصمت” (13 دقيقة) لمخرجه وكاتبه نيبويشا سلييبشيفيتش بجائزة أفضل فيلم روائي قصير في أوسكار هذا العام، والتي وصل إلى قائمتها القصيرة مع خمسة أفلام أخرى، بينما قد سبق أن فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان. ومع ذلك يستحق موضوع الفيلم روايته، ولا سيما من زاوية ما يحدُث وما حدث في سورية.
يروي الفيلم المبني على وقائع حقيقية ما حدث على قطار متجهٍ من مدينة بلغراد إلى مدينة بار في الجبل الأسود، حيث أوقفت مجموعة مسلحة القطار، لترتكب مجزرة شتربتشي في البوسنة والهرسك عام 1993 حيث أعدمت 19 مدنياً منهم 18 مسلما وضابط كاثوليكي كرواتي.
في القطار، يفحص قائد المجموعة المسلحة “النسور البيضاء” هويات الرّكاب وليتأكد من انتمائهم الديني، يسألهم من أي منطقة تعود اصولهم، ومن هو شفيع هذه المنطقة، حيث يعتقد الكروات الكاثوليك بملاك حارس وحام لكل منطقة.
هنا، يحضرني “الاختبار الطائفي” (أو الديني)، والذي يقوم به المتطرفون أحيانا كي يبرّئوا ذمتهم، ولا يقتلوا الا قاصديهم من دين أو قومية أو طائفة بعينها، كما فعل النازيون، حين كانوا يبحثون عن اليهود بالكشف إن كان الشباب مختونين أو ليسوا كذلك. وفي أثناء سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على بعض المناطق السورية كانوا يسألون عن عدد الصلوات وأحكامها وما يحفظ المرء من آيات القرآن الكريم وسوره، ليتأكّدوا أن المعني من الطائفة السنّية أو من غيرها.
وتذكّر مجموعة “النسور البيضاء” بأسماء المجموعات المسلحة والشبّيحة التي أسّسها النظام في سورية وولعها بالنسور والصقور والأسود، وغيرها من الحيوانات الضارية التي تحيل إلى حيونة هذه المجموعات.
كانت المجموعة المسلّحة تريد تصفية المسلمين، ولكن يحدُث أن يكون في إحدى المقصورات مسلمٌ لا يحمل هويته، وآخر كرواتي يرفض السكوت على طلب قائد المجموعة بإنزال المسلم لقتله، ويتلاسن مع المسلح متسلّحا بأنه ضابط في الجيش اليوغسلافي، وينتهي المطاف به قتيلا في المذبحة، فيما ينجو المسلم الذي كان معه في المقصورة، وما زال على قيد الحياة.
رفض الكرواتي المسيحي تومو بوزوف، وهذا اسمه الحقيقي، قتل إخوانه المسلمين، ورفض السكوت على المذبحة، فكان نصيبه القتل، وهذا يحيل إلى ما حدث وما يحدُث في سورية، حيث الانقسام الحادّ بين دعاة الثأرية والتشفّي والانتقام الطائفي وأنصار العدالة الانتقالية ودولة القانون، والذي نرى معاركه الواقعية والافتراضية، حيث يتذابح السوريون، سيما في “فيسبوك”، حيث يعيش معظمهم.
ما لا يرويه الفيلم أن قائد مجموعة النسور البيضاء، ميلان لوكيتش، اعتقل في الأرجنتين وحكمت عليه عام 2009 محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بالسجن مدى الحياة، لارتكابه جرائم مختلفة، بينما حكمت محكمة بوسنية عام 2020 عليه وعلى سبعة من الصرب البوسنيين بالسجن 91 عاماً، بارتكاب مجزرة شتربشي، ولكن لوكيتش المسجون في أستونيا رفض الاعتراف بها.
رمت “النسور البيضاء” جثث ضحايا مذبحة القطار، وأيضا الكثير من جثث الرجال والنساء والأطفال البوسنيين خلال حملات التطهير العرقي التي شاركت بها في نهر درينا ببلدة فيسيغراد، كي لا يقال إن الأسماك جاعت في نهر درينا. وقد وصفت محكمة الجنايات الدولية ليوغوسلافيا السابقة جرائم ميلان بأنها “تجسّد أسوأ أعمال اللاإنسانية التي قد يرتكبها الإنسان بحق الآخرين، وهي مثالٌ على التاريخ الطويل والحزين والبائس لانعدام إنسانية الإنسان تجاه أخيه الإنسان”.
عاش ميلان المجرم فترة بعد انتهاء الحرب حرّاً طليقا، بل وارتكب بعض الجرائم خلال هذه الفترة، ومنها قتل صربي ساهم بإخفاء المسلمين وتهريبهم والمشاركة بعصابة لتهريب المخدرات.
كتب لوكيتش مذكّرات بعنوان “اعتراف سجين من لاهاي”، اعترف به ببعض الجرائم دفاعاً عن الشرف الصربي. ولذلك لا يشعر بأي ذنب أو تأنيب ضمير، وقد احتفى بالكتاب متعصبون صرب، ومنهم بعض رجال الدين. للأسف، ومع الحزن الشديد، تكرّر ويتكرّر هذا السيناريو في الوضع السوري، ومعه ننحدر إلى قاع مظلم، لا نهاية له، والأمل أن يتطهر ويتبرّأ السوريون من المجرمين وجرائمهم، أيا كان مرتكبوها ويسلموا هذا الملف لقضاء عادل، ولا بأس بتشكيل محكمة عربية أو دولية لجرائم الحرب التي حدثت منذ بداية الثورة السورية.
العربي الجديد
———————–
سورية بين وطنيّتَين/ عمار ديوب
25 مارس 2025
تكتمل الوطنية الجديدة في سورية، المؤسّسة على المواطنة باستعادة الجولان، ودعم قضايا التحرّر، وفي مقدّمتها فلسطين، إذ لا يمكن لشعبٍ أن يؤسّس لدولة المواطنة وجزء من أراضيه محتلٌ أو ألّا يبادر إلى موقف سياسي تجاه الدولة الصهيونية، سيّما أنها تحتل أرضاً لشعبٍ يشترك مع الغالبية السورية العربية. لا تتأسس الدول إلّا على القضايا العادلة، وفي مقدمة تلك القضايا، المساواة بين الشعب، ودعم قضايا التحرّر العربية والعالمية.
تتحدّد الوطنية بالعلاقة مع الخارج وبمسألة الأرض المحتلّة، وكذلك تتحدّد بجغرافية وشعب وسلطة دولة ما. لم تنبنِ الوطنية السورية في النظام السابق، الشمولي، بالاستناد إلى المواطنين بل بالاستناد إلى مفهوم الوطن والدفاع عنه. ساد هذا الفهم في سورية منذ سيطر العسكر على السلطة في 1963، وبالتدريج غابت الحقوق العامة وفُرضت الواجبات، وارتبطت الأخيرة بتنفيذ أوامر السلطة الحاكمة، ولم يعُد للشعب دور إلّا الطاعة، وعُومل كرعايا، وانتفت الحرّيات العامة، وتقلّصت حرية الفرد إلى قضاياه الشخصية، ولم يعد للسوريين أيّ حقوقٍ سياسية.
استقت السلطة هذا الفهم من الأيديولوجيات السائدة حينذاك، التي جاءت إثر إخفاق المشروع الليبرالي الوليد وديمقراطيّته في الخمسينيات التي لم تستطع إقناع الأكثرية، فابتعدت عنها لصالح الاشتراكية، والقومية، والشيوعية، والإسلام السياسي، متوهّمة أنّها ستتحصل على حقوقها وستستعيد فلسطين. وكان ارتباط العسكر بالأيديولوجيا القومية سبباً لتعزيز وطنيات جديدة في مصر وسورية والعراق بصفة خاصة، وتلبّست بخطابٍ قومي فوق وطني، وسادت وطنياتٌ أخرى في بقية الدول العربية.
ارتبطت الوطنية الجديدة بالتسلط والشمولية، وصار كلّ نقدٍ لها بمثابة أيديولوجيا معادية ومرتبطة بالخارج الإمبريالي، وضد الوطن وفلسطين، صار هذا الكلام أيديولوجيا سائدة وغير قابلة للتشكيك، أو حتى المساءلة، وهنا تتساوى الأيديولوجيا مع الكذب. وفي هذا الإطار، اجتُثّت الحريات العامة، وصارت السياسة بوصفها شأناً عاماً بمثابة مقتلةٍ لأصحابها، ولم يفتح بعد ملف الاعتقال السياسي منذ السبعينيات، ولم ينصف أصحابه، وهم بعشرات الآلاف ما قبل 2011 وبمئات الآلاف بعد هذا العام. عاش السوريون كذلك عقوداً متتالية، وضمناً أصبح كلّ عملٍ سياسيٍّ علني يمارس الكذب، أو المواربة في قول حقيقية الواقع، وهو حال أحزاب الجبهة الوطنية التقدّمية، وحال الأحزاب التي تشكلت بعد 2011 علنياً، وبموافقة من النظام.
حافظ الأسد يغادر القومية
لم يعد النظام قادراً على تحمّل هذه الأيديولوجيا، فقد صارت القومية والاشتراكية عبئاً كبيراً عليه. للدقة، تراجعت مفاهيم الاشتراكية والقومية مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة، وتقدّمت الأيديولوجيا الوطنية بالتزامن مع تفرّده بالسلطة، وجعلها له ولعائلته أولاً، ولكبار الضباط في الأجهزة الأمنية، ولقيادات حزب البعث ثانياً. مع حرب الثمانينيات، ارتبط مفهوم الوطنية بالجنرال حافظ الأسد أكثر فأكثر، وأُجهِز على القوى السياسية المعارضة، وانتهت الأصوات المعارضة مع بداية التسعينيات، وتلاشت مساحة النقد التي تمتّعت بها نسبياً أحزاب الجبهة الوطنية التقدّمية، التي كانت تأتمر أو تَضبط سياساتها وفقاً لما تريده الأجهزة الأمنية، ومع تتالي العقود، أصبحت مجرّد قوى ملحقة بالسلطة، ولا قيمة لنقدها الاقتصادي أو الوطني خاصة.
احتكرت السلطةُ الوطنيةَ، للإجهاز على الحرّيات العامة، ولمنع الانتقال نحو الديمقراطية، ومنع نقاش القضية الفلسطينية قضيةً قوميةً بامتياز، وأيضاً لتمارس الفساد والنهب من دون رقيب أو حسيب، وهذا أدّى إلى ابتذال كل المفاهيم، بما فيها مفهوم الوطنية، وأدّى ذلك إلى تراجع مضامين هذه المفاهيم في وعي السوريين تدريجياً، وأصبحت مواقفهم تجاه هذه المفاهيم، السخرية منها، وبذلك فَرضت السلطة سيطرتها الكاملة على المجتمع وقُواه، وبغياب مفاهيم الوطنية والقومية والاشتراكية، عاد المجتمع إلى قوقعته الأهلية، ليحمي ذاته، باحثاً عن معانيه ضمن دوائر ضيّقة للغاية، كالعائلة، والطائفة، والعشيرة، وضمناً تمسّكت الجماعات القومية، غير العربية، بقومياتها، لتشدّ من أزرها.
أيديولوجيا الفساد والكذب
عاشت سورية عقوداً بلا أيديولوجيا حقيقية إذاً، وعزّزت السلطة الفساد بكلّ أشكاله. وبالتالي، عاش السوريون، حالة من الكذب والنفاق واللفّ والدوران، لإبعاد سطوة القوى الأمنية، وتعمّمت مناخات الفساد والإفساد والكذب معاً، وهذا كان شاملاً لكلّ قوى المجتمع، المُفقَرة والثرية. وكادت الشمولية أن تصبح أبديةً في وعي أغلبية السوريين؛ إذ لم تكن هناك خيارات بديلة حقيقية، وانزوت جماعاتٌ سوريةٌ كثيرةٌ كي لا تتلوّث بالفساد والكذب، لكن حينما كانت تضطر إلى التواصل والتعامل مع مؤسّسات الفساد والكذب، فإنّه ينالها بعض الإفساد، وهذه المناخات تتناقض مع مفاهيم الوطنية والقومية والاشتراكية. وأُجبرت أغلبية سوريّة على الانخراط في حزب البعث ولاعتبارات شتّى: تدبر فرصة عمل، صفقة تجارية، وظيفة عالية في الدولة، الاشتراك في مؤسّسات أجهزة الاستخبارات أو الشرطة أو الجيش، وسواها، وكثيرون ممن كانوا في هذه المؤسّسات لم تكن لهم صلة بالمفاهيم المذكورة، وليس أدلّ على ذلكَ من التبرّؤ منها في سنوات الثورة الأولى، ومن دون أيِّ نقاشٍ لها، فهي لم تكن تعني شيئاً للشعب، عندما كان كثير منه في حزب البعث، أو يلهج بها لسبب أو لآخر.
الثورة وإشكالية الوطنية
مع الثورة، تعالت المطالبة بالحريات وبالكرامة وبالعمل، لكن مفهوم الوطنية لم يتعالَ، ولم تتقدّم شعاراتٌ مرتبطة بالجولان أو بفلسطين، أراد الشعب الخلاص من نظامٍ أغلق أمامهم كل الأبواب، واحتكر هو ومحاسبوه كل الفرص، الاقتصادية والسياسية طبعاً، وحتى الثقافية، بل وأدارت المؤسسات الدينية شؤونها بالتوافق مع سياسات النظام، وانحدرت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للأكثرية. لم تكن القضية الوطنية هي الأساس، ولا القومية، كان المأمول هو الخلاص من النظام أولاً، كما جرى في تونس ومصر وليبيا، حين تخلّصت من أنظمتها سريعاً.
تتعلق الوطنية، وعدا عمّا جاء أعلاه، بتحرير الأرض، الأرض المحتلة، والقومية تتعلق بفلسطين، وبمفهوم الوحدة العربية والعلاقات مع الدول العربية، والمواطنة بوصفها حقوقاً وواجبات تنظم العلاقات بين أفراد الشعب وعلاقتهم بالدولة. كانت مطالب الشعب الثورية داخلية بامتياز بدءاً من 2011، إذ تعامل الشعب مع الوطنية والقومية باعتبارهما من الأكاذيب الأيديولوجية للنظام، ولم تعنيانه. نعم غاب الجولان وغاب الموقف من الدولة الصهيونية، وكان حضورهما هامشياً، وحتى حينما كان الفلسطينيون يتعرّضون لحروب، كما كان يجري على غزّة أو الضفة الغربية أو أراضي الـ48، كانت ردود السوريين الثائرين هامشية. وللطرافة، حتى جمهور النظام لم يكن يعلن ما بعد 2011 أيّ مواقف ذات معنى ضد تلك الحروب، والمقصد هنا أن وعي كلية الشعب السوري استقرّ على أن أيديولوجية النظام الوطنية والقومية محضُ أكاذيب يوظفها لتأبيد نفسه، لكن غياب الحريات والأزمات العميقة التي يعيشها دفعته إلى أن يعلن ثورة شعبية، ومن أجل قضايا داخلية، اقتصادية وسياسية واجتماعية وسواها.
كان يمكن أن تَقرأ شعاراتٍ تتعلق بالجولان لدى قوى أقرب إلى اليسار، أو القوى الفلسطينية المناهضة للنظام والمشتركة بالثورة، وترفع شعارات استعادة الجولان وتحرير فلسطين، لكن هذه القوى كانت تتفق مع غالبية السوريين في أن تحرير الجولان أو فلسطين يأتي عبر إسقاط النظام السوري. إذاً هناك قضية اجتماعية بارزة، وإسقاط النظام سيفتح الأفق نحو حلّها والتفكيرِ بالمسألة الوطنية والقومية، لكن لاحقاً.
تأخّر الاهتمام بالمسألة الوطنية وبالفكرة الوطنية بسبب التوظيف الأيديولوجي الطويل للنظام لها، كما أوضحت السطور السابقة أعلاه، لكن ذلك لم يكن لصالح صياغة مشروع وطني للثورة، يتضمّن القضايا الاجتماعية والوطنية والموقف من دولة الاحتلال والعلاقة مع الدول العربية. وعدم إيلاء هذه القضايا الأهمية الواجبة، مع شدّة القمع والقتل والتهجير والتدخّل الإيراني باسم الشيعة، دَفع الصراع في سورية إلى الانتقال من صراع اجتماعي مناهض للنظام إلى صراعٍ طائفي في كثير من الأحيان، سيّما بعد عام 2013، إذ دفع الشكل الجديد للصراع المجتمع السوري إلى تسييس بناه الأهلية، والانطلاق منها في العلاقة مع الآخر، وسيطر هذا الشكل من الصراع على بقية أوجه الصراع، الاجتماعي والديمقراطي والاقتصادي وسواه.
المعارضة وافتقادها المشروع الوطني
المعارضة السورية، وبدلاً من أن تُعنى بالمشروع الوطني انساقت برؤاها نحو الشكل الطائفي، وتدريجياً، وحينما سيطر الصراع المسلح تهمّشت هي لصالح تنظيمات إسلامية عسكرية، تخوض الصراع مع النظام وحليفه الإيراني وحزب الله ولاحقاً روسيا، وجيء بتنظيم داعش ليخلط الأوراق أيضاً. في هذا الوضع تراجعت المفاهيم الوطنية والقومية لدى السوريين كثيراً، ومع طول سنوات الصراع، من 2014 وإلى 2025، لا سيّما بعد 2018، تهتّكت البنية الاجتماعية، بالتزامن مع تهشم وتعفن مؤسسات الدولة، والمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وكانت فترة ذهبية لسيطرة الدول الخارجية على “دويلات” قوى الأمر الواقع، وعلى أشكال الوعي السائد، والمتوافقة مع الانشغال الكامل بتدبر شؤون العيش الأوّليّة، وأصبحت غالبية السوريين تحت خط الفقر وفي كلّ هذه الدويلات.
لحظة رحيل النظام وضرورة الوطنية الجديدة
كان رحيل النظام لحظةً في غاية الأهمية، وكان كلّ تأخير فيها سيكون كارثياً ومعمّقاً للانقسام المجتمعي، وللتقسيم الإداري. كانت تلك اللحظة، بداية تأسيسٍ لوطنية جديدة. تنبهت إدارة العمليات العسكرية والسياسية لهذه الوطنية، فأرسلت، وهي تسيطر على المدن، رسائل إلى المسيحيين والعلويين والإسماعيليين والدروز، وحتى الأكراد، بأنها ساعية إلى تشكيل دولة لكلّ السوريين. كان هذا جديداً، تستقي هذه الرسائل مضامينها من مساواة السورين مع بعضهم، وإبعاد كلّ شكل للتقسيم، أو التمايز، فسقوط النظام سيحقق مصلحة كلّ السوريين، والمساواة في الحقوق والواجبات.
تضمّنت تلك الرسائل معانٍ تؤسّس لوطنية عابرة للطوائف والعشائر والقوميات، وتؤدّي إلى طرحٍ وطنيٍّ لقضية الجولان. حازت الإدارة الجديدة، على ثقة كبيرة من السوريين، المتخندقين طائفياً وقومياً، لكنها لم تستمر في السياق نفسه، ومع لحظة استلام الحكم، والإعلان عن الحكومة المؤقتة، وتأسيس الجيش، وبدء الانتهاكات في مدينة حمص وأريافها، واللاذقية، والخلاف مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ظهر أن الرسائل السابقة كانت أكبر من أن تُصبح نهجاً مستداماً، لم تتأسّس وطنية جديدة، كما كان مأمولاً، أي لم تكن سياسات الإدارة الجديدة لصالح كل السوريين، ولم تتأسّس المؤسّسات الجديدة للدولة على رؤى وطنية، فظهرت الغلبة لقيادات الإدارة الجديدة، الآتية من هيئة تحرير الشام وحلفائها.
أصبح في حكم الواقعة المقروءة أن الشعب يريد تأسيس وطنية جديدة، تُدار فيها السياسة وشؤون الدولة على أسس وطنية ومن دون أيِّ تمييز بين الشعب على أسس دينية أو قومية أو عشائرية أو مناطقية، بينما راحت الإدارة تبني دولتها على رؤية “إسلامية سلفية”، ومطعّمة بمفاهيم ضبابية عن العدل والمساواة والقانون، وحتى المواطنة. كل خطوات المرحلة الانتقالية حتى لحظة البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني الخاص بالإدارة، تعزّز من دور الإدارة في الهيمنة على الدولة وتأسيس مؤسستها الجديدة، لا سيّما الجيش والأمن والشرطة والقضاء والتعليم والاقتصاد كذلك. وبذلك، تعود الإدارة الجديدة إلى الوطنية السابقة، وطنية النظام نفسها، القائمة على تأبيد السلطة، وتسييس البنى الأهلية واصطدامها ببعضها، وضمن ذلك كان موقفها ضعيفاً تجاه تقدّم قوات الدولة الصهيونية إلى مناطق جديدة في القنيطرة ودرعا، وتهديدها الإدارة إن تمركزت قواتها في الجنوب السوري، وكذلك لم يُلمس موقفٌ قوي، حينما دمّرت أغلبية البنية العسكرية السورية بعد أيام من رحيل النظام السابق. لم يكن للإدارة موقف وطني جاد، كأنّها تقرأ السيادة الوطنية بعين النظام القديم، الذي لطالما صمت عن اعتداءات الدولة الصهيونية، راغباً في إنقاذ ذاته بصمته، ومتوهماً أن الصمت سيبقيه، مؤبداً، في حكم سورية، وقد رحل.
الوطنية الجديدة
لم تظهر الوطنية السورية الجديدة مع بداية الثورة في 2011 على نحوٍ ممنهجٍ وواعٍ، لكن شعارات الثورة في الحرية والكرامة والعمل كانت لكل السوريين، وكانت هناك محاولة شعبية ملتبسة لتأسيس الوطنية، لكنها لم تتعزّز بمشروعٍ وطنيٍّ من المعارضة، يتأسس على لحظة 8 ديسمبر (2024)، حيث رسائل الإدارة الجديدة، وانفتاح التاريخ بزوال النظام الشمولي. رغم تراجع الإدارة عن مضامين رسائلها، فإن انفتاح التاريخ يسمح بإعادة تأسيس الوطنية الجديدة، وبالارتكاز على كلّ ما هو وطني في تاريخ السوريين، سواء لجهة المشاريع السياسية والثقافية والدينية منذ تأسيس الدولة السورية وانفكاكها عن تركيا، أو لجهة اللحظات السابقة المذكورة وسواها.
هناك حالياً ضرورة لتجاوز كل أشكال الانقسام، التي تعزّزت بعد 2013، تجاه اتحاد السوريين في مطالب جديدة، وانطلاقاً من مفاهيم المواطنة والمساواة الكاملة، وشرعة حقوق الإنسان، وبما لا يتعارض مع البنى الأهلية، والدينية، والقومية، والمناطقية، وشريطة ألا تتعارَض البنى هذه مع المبادئ المذكورة سابقاً. يبدأ التأسيس لوطنية سورية مستقبلية من الحاضر، من المرحلة الانتقالية التي نحن فيها، ويتطلب ذلك البدء بالعدالة الانتقالية، والمصالحة المجتمعية والسلم الأهلي، وتشكيل حكومة وطنية. يبدأ من تعالي السوريين على أيديولوجية النظام القديمة في تقسيم المجتمع وفقاً لبناه الأهلية، واعتبار السوريين متساويين في الحقوق الواجبات.
تكتمل الوطنية الجديدة، المؤسّسة على المواطنة باستعادة الجولان، ودعم قضايا التحرّر، وفي مقدّمتها فلسطين. لا يمكن لشعبٍ أن يؤسّس لدولة المواطنة وجزء من أراضيه محتلٌ، أو ألّا يبادر إلى موقف سياسي تجاه الدولة الصهيونية، سيّما أنها تحتل أرضاً لشعبٍ يشترك مع الغالبية السورية العربية. لا تتأسس الدول إلّا على القضايا العادلة، وفي مقدمة تلك القضايا، المساواة بين الشعب، ودعم قضايا التحرّر العربية والعالمية.
السوريون منهكون للغاية، ليس بسبب همجية النظام السابقة منذ 2011 فحسب، بل ومنذ استبدّ بهم العسكر، لكنّ انفتاح التاريخ، يستدعي دفن ذلك الماضي، واستعادة تاريخهم منذ الستينيات وربما أبعد، ويقتضي ذلك ما أشير إليه من فهم جديد للوطنية. السوريون أمام فرصة تاريخية، لبناء دولة جديدة، وطنية بالفعل، فهل يسيرون في هذا الاتجاه فعلاً أم سيفوّتون الفرصة؟ بعض سياسات الإدارة الجديدة والخطأ في خطوات المرحلة الانتقالية تعزل الشعب عن المشاركة في تأسيس الدولة، وهذا يتناقض مع هذه الفرصة، ويعزّز من الانقسام المجتمعي وتهشيم فكرة الوطنية، فهل ستتراجع عن سياساتها هذه، وتُشرك مختلف القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في صناعة القرار والمساهمة بتأسيس الدولة الجديدة؟ هذا هو المأمول.
العربي الجديد
————————
أين كنتم؟ وأين كنّا؟/ رباب هلال
25 مارس 2025
تمضي صباحاتنا الخالية من الفوبيا الأسديّة، إنّما واقع الحال المأزوم في جهاتنا السوريّة كلّها، والدامي ما زال هنا، وهناك، يصفعنا بالسؤال: هل سنتعافى فعلاً؟
يقول جورج أورويل في روايته “1984”: “لن يثوروا حتّى يعوا، ولن يعوا حتّى يثوروا”. لستُ هنا في صدد تحليل سيرورة ما حدث، ولا تذكّر ما فعله الأسدان بالبلاد والعباد، خاصّة الابن الساقط، الذي سار على نهج والده، في ترتيب سلطته بإحكام، اختار حاشيته من سفلة الأطياف كلّها. اغتال الأحزاب الثوريّة، وقتل ذوي العقول المبدعة أو هجّرهم، وحاصر من بقي في البلاد، شدّد الرقابة على حرّية التعبير، ودجّن الإبداع والفنّ. كتم أصوات الاحتجاجات، وفتح أبواب المعتقلات.
وللاستبداد درجاتُه، يقول الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع العباد”: “كلّما كان المستبدّ حريصاً على العسف، احتاج إلى زيادة جيش المتمجّدين العاملين له والمحافظين عليه، واحتاج إلى الدقّة في اتّخاذهم من أسفل السافلين الذين لا أثر عندهم لدين أو وجدان”. وتحضرني هنا عبارة كُتبت على قبر أحد الطغاة: “قُلْت للطاغية، أنت سبب المحنة الدامية لا الحاشية”.
يحكم المستبدّ بالتخويف والترويع، يعلّق على جدران بيوت المواطنين عبارة “الأخ الأكبر يراقبك”، تبعاً لجورج أورويل. فما من بلاد حكمها الاستبداد إلّا قتلها وهم أنّ للجدران آذاناً. إسكات الشعب ضرورة لاستمراريّة السلطة، فالسلطة للمستبدّ هي الغاية لا الوسيلة، فيشتدّ القمع والظلم. تحاصر الجميع، من يواليها ومن يعارضها، لكلّ حسابه، وبدهاء ومكر، لا توفّر أي سبيل، لإبقاء الحال على ما هو عليه، لحماية سلطتها وحسب، تحيطها الحاشية بسور منيع، لتأمين ديمومة عرشها.
وإذاً، ها قد عادت أصوات تعلو تنادي لبناء الوطن الحطام، أصوات انتعش حلمها ثانية، بعد مواتها قمعاّ، وتهميشاً، إفقاراً وحرماناً، قتلاً وتهجيراً. إنّما تعلو من بينها أصوات تقول باستقواء: “أنتم مندسّون… أين كنتم من قبل؟”، لتعود لغة الإقصاء، والشبّيحة الجدد. يحلّ الصراخ، وينتفي الإصغاء.
وما قد يثير السخرية السوداء أن يوجّهوا السؤال ذاته إلى مناضلين ثوار مشهود لهم، وإلى سجناء سابقين، وإلى كتّاب ومبدعين، كلّفهم طلب الحريّة الأثمان الباهظة. فعلاً، جرأة الجاهل مقتل.
يقول جورج أورويل، في الرواية نفسها: “الولاء يعني انعدام التفكير، بل انعدام الحاجة للتفكير. الولاء هو عدم الوعي”.
لا شكّ، إطلاقاً، في محبّة أحد منّا أو خوفه على سوريّتنا، وبحقّه القانوني المشروع بالمشاركة في إعادة بناء الدولة، فثمّة أصواتٌ تعلو في الساحات العامّة، أو عبر المدوّنات على وسائط التواصل الاجتماعيّ، بينها أصواتٌ مثقّفة عارفة ومدركة، وأخرى بسيطة جاهلة، لكلّ منها مظلوميّتها، تتعدّد المظلوميّات بعدد أطياف المجتمع وتنوّعها، تتقاطع السرديّات وتتصادم، على اختلاف توجّهاتها الفكريّة والسياسيّة، العقائد والتقاليد، تنسجم المطالب أو تختلف. إلى هنا، يبقى الأمر إيجابيّاً، بل ضروريّاً. إنّما أن يصل ببعضهم الاختلاف إلى حدّ التطرّف، يصرّون على تكذيب سرديّات الآخرين ونكران الظلم الذي عانوه، وقد تجاوز بعضهم تكذيب مظلوميّات الآخرين ونكرانها، إلى نكران حقّ وجود هذا الآخر المختلف إلى جانبهم والعيش معاً تحت سقف الوطن الواحد والهويّة. ليدقّ الخطر، مجدّداً، أجراس الإنذار.
بلى، جميعنا في خطر، نحن السوريّين المنهكين جميعنا، هنا تاريخنا، حاضرنا والمستقبل. ولن ينقذنا سوى تحقيق العدالة الانتقاليّة، تطبيق القانون، ومحاكمة المجرمين جميعاً، السابقين، والحاليّين، وتحقيق الديمقراطيّة، المساواة والتشاركيّة بين الأطياف كلّها، لعودة الأمان والسلم الأهلي في وطن جامع، وهويّة وطنيّة موحّدة.
أتُرانا ننجو، ونتشارك في إعادة بناء حطامنا الدامي ما يزال؟
العربي الجديد
——————————-
قرية تنتظر وطناً/ شعبان عبود
25 مارس 2025
على مدار سنوات وجودي بعيداً عن سورية، غالباً ما كان يدغدغني حلمٌ بسيط، أو لنقل رغبة داخلية بأن أرجع يوماً ما إلى بِنّش، أن أستيقظ باكراً على صوت أذان الفجر، أن أحضّر فنجان قهوة، أن أحمله وأجلس على “البرندا” فيما عيناي تذهبان بعيداً في كروم الزيتون الممتدّة أمامي غرباً حتى مدينة إدلب وشمالاً حتى الفوعة.
سقط النظام، وما زال هذا الحلم الصغير يُغريني، ربما يقول بعضهم إن لا شيء يمنعني من تحقيقه، وإن المسألة تحتاج فقط تذكرة طائرة، لكن شيئاً ما في داخلي يدفعني إلى التريث، شيء عميق لا أستطيع شرحه بالتفصيل.
أنا من بِنّش، من جيل ينتمي للثورة، لكني ومن منظار الأجيال والأعمار، أنتمي لجيل ما قبل الثورة والحرب، جيلٍ لا يشبه الأجيال الجديدة التي تعرّفت على السوري الآخر وعرفته خصماً وعدوّاً.
في بِنّش، وعندما كنت شاباً صغيراً، لم نكن نفكر كثيراً ولا نكترث لما تعنيه كلمة شيعة، ولا بماذا تختلف عن كلمة سنّة. كل ما أذكره أننا كنّا، نحن طلاب المدرسة الثانوية، نتشارك مع جيراننا وندرس في المدرسة نفسها التي تقع في منتصف الطريق بين البلدتين، يزوروننا في بيوتنا ونفعل نحن ذلك ونزورهم. كان من شأن هذه المجاورة أن تساعد في نشوء الكثير من العلاقات الاجتماعية وحالات الحب التي فشل بعضُها وتبخّر، فيما انتهى بعضُها الآخر بالزواج، مثل ذلك الزواج الذي أثمر عن ولادة طفل، هو حسام جنيد الذي سيصبح لاحقاً مغنياً سورياً معروفاً.
كنت من فئة الذين تورّطوا في الحب، المدرسة التي كان يدرس فيها شبان وصبايا بِنّش والفوعة، ومقاعد الدراسة التي جمعتنا، جعلتني ومن دون أن أشعر متيّماً بفتاةٍ ما من تلك القرية. لكن هذا الحب البريء انتهى بانتهاء المرحلة الثانوية، افترقنا وفرّقتنا الحياة.
في الولايات المتحدة، حيث أعيش وأعمل، تابعتُ أخبار المظاهرات الأولى، ضد النظام، تابعتُ وشاهدتُ غالبية فيديوهات القتل والموت والقصف بحكم طبيعة عملي، تابعت مقتل ابنَي أخي الصغيرين بلال وسارة، حينما سقطت قذيفة مصدرُها الفوعة التي صارت “موالية”، لكنها الفوعة نفسها التي صارت قرية محاصرة ويمنع عليها دخول الطعام.
ذات يوم، رنّ هاتفي الجوّال ورأيت رقماً غريباً، حين أجبت سمعت صوتاً أعرفه جيداً: أنا فلانة.. … كانت ذاتها تلك الفتاة من الفوعة التي أحببتها في يوم بعيد جداً. لكنها اليوم وبعد مضي نحو 35 سنة على آخر مرّة رأيتها فيها تبدو امرأة حزينة ومتعبة، امرأة لديها زوج وأسرة وأبناء وبنات، وقد فقدت للتو أحد أبنائها. وكما قالت لي: منذ بداية الحرب وأنا أبحث عنك لأعرف أخبارك، قلت لها: – وأنا مثلك، كنتُ أبحث عنك وأدعو في سرّي ألا تصيبك قذيفة أو رصاصة طائشة مصدرها بِنّش.
تجيب: لقد أصابت إحداها ابني وقتلته. قلت لها: لكنك تتصلين بشخصٍ من بِنّش ذاتها بعد سنين طويلة؟ قالت: أنت مختلف، نحن، جيلنا ينتمي لزمن مختلف.
اليوم، سقط النظام، تحرّرت سورية، خرجت روسيا وإيران، خرجت المليشيات، عاد عشرات الآلاف من السوريين من دول اللجوء البعيدة إلى قراهم ومدنهم، لكن جيراننا أهل الفوعة وعائلاتها وأبناءها المنتشرين في عدة محافظات سورية لم يعودوا بعد إلى قريتهم. وابن فتاة أحلام مراهقتي، وكذلك ابنا أخي، لن يعودوا.
العربي الجديد
————————
الرقعة/ يعرب العيسى
25 مارس 2025
لطالما أنقذت هذه البلاد نفسها. أثبتت قدرتها على فعل ذلك مرّات كثيرة في الفترة الماضية، وأقصد بالفترة الماضية بضعة آلاف من السنين عرفت فيها أشكالاً مختلفة من الاجتماع البشري. عرفت ممالك وإمبراطوريات وإمارات وولايات، وهذه المرّة ستنقذ نفسها أيضاً، وغالباً ستستخدم الطريقة المجربة ذاتها: ستتخلص منّا، أو من بعضنا، أفراداً وأفكاراً وروابط. وستلجأ لأحدث أجيالها ليفعل ما يريده وتريده.
لقد تخلّصت للتو من صخرةٍ كانت تظنُّ بنفسها الأبد. وهي مضطربة الآن، لأنها تحاول استيعاب حجم ما أنجزته. بعد قليل، ستتابع السير إلى الأمام، وستتخلّص من المزيد منّا، ثم يسكن ارتجاج رأسها.
الأشهر الأربعة الماضية كانت مزلزلة ومزدحمة وغريبة، لذلك يشعر كثيرون بالقلق، وهم محقّون في ذلك، فانفتاح باب المستقبل يعني انفتاح الباب على الاحتمالات، على كل الاحتمالات، ومعظمها مجهول وغير قابل للتوقع. ويا لبؤسنا نحن البشر، كم مرّت علينا من دروس، وكم تجاهلناها.
قبل أن يبدأ دور الشطرنج، سيكون على الرقعة عشرون احتمالاً للحركة (ستة عشر بيدقاً وأربعة أحصنة)، بمجرد أن يتحرّك بيدق واحد منها، سيصبح عليها 400 احتمال، ومع الحركة الثانية تصبح الاحتمالات 9800 والثالثة ستجعل الاحتمالات 200 ألف. وهكذا في منتصف اللعبة ستكون لدينا مليارات الاحتمالات.
هذه متوالية تحصل في مكان يتكون من 96 عنصراً (32 حجراً و64 مربعاً محتملاً) وستة قوانين للحركة، فماذا لو كنّا ننظر إلى مكان آخر، مكان أكبر، فيه خمسة وعشرون مليون إنسان، وعشرات الدول المكترثة سلباً أو إيجاباً، مليون قاعدة وقانون وعرف، أمزجة وآراء وعقائد، رضوض عقلية ونفسية في الأفراد والجماعات، انقسامات عرضية وطولية ومنحنية، طوائف وقوميات وطبقات ومناطق وبيئات.
تركة ثقيلة خرجت كل عناصرها إلى السطح، لن يجري شيء كما نريد، ولا كما يريد الآخرون، ستمضي الاحتمالاتُ إلى حيث يأخذها تتالي الحركات، ولكل حركةٍ أهميتها وأثرها في تحديد الحركة التالية، فكما تغير حركة بيدق على رقعة الشطرنج إمكانيات وزيرين وملكين وفرصهم، يمكن لحملة تحريضٍ، أو حتى مجرّد جملة، أن تحرف الدور كلّه باتجاه آخر.
ليس من مصلحتنا الوطنية اليوم أن نستمر بتغذية الوهم، ولا بصنع أوهام جديدة، بل مصلحتنا في الصراحة والمكاشفة والاعتراف، وأول ما علينا الاعتراف به أننا ضعفاء، منكسرون، بلادنا مدمّرة ومجتمعنا متشظٍ، مواردنا شحيحة، والعالم ينظر إلينا بعين الريبة. يلوح لنا بالوعود من بعيد، ويطالبنا بالأثمان عن قرب، همساً في الأذن تماماً. لا أحد منّا يمكن له أن يكون أسد الديبلوماسية، ولا نمر الاقتصاد، ولا فهد التنمية، ولا سلمون العودة المظفّرة.
نحن ورثة تلك التركة، وهذا ليس عيباً، مرّ غيرنا بما نمرّ به الآن، ونجوا، الألمان واليابانيون والكوريون. وكل ما فعلوه، أن مسؤوليتهم الوطنية دفعتهم إلى أن يكونوا صادقين مع أنفسهم ومع الآخرين.
هذه الأسابيع من حصّة الرؤوس الحامية، وكل كلامٍ لا يخرج من حرارتها يبدو نشازاً، وتغريداً خارج السرب. وهو أكثر ما نحتاجه الآن، التغريد خارج السرب، فلم يسبق لغناء سرب أن وصل إلى مكان.
وليس هناك وقتٌ غير مناسبٍ لصوت العقل، بل تزداد الحاجة له في ساعات الجنون، وكما علّمنا التاريخ، فللقدر، مثلنا جميعاً، ساعات جنونه، وهي خطيرةٌ لأنها قد تأخُذ في طريقها أرواح بشر، وعلّمنا أيضاً أن أفضل ما يخفّف منها هو التشويش عليها بتعقّل بعض الأفراد الذين يجري عليهم هذا القدر.
هل فات الوقت؟ لا يفوت الوقت أبداً، خصوصاً على هذه البلاد، فكما قال المتنبّي: ستغلب الغلباءُ عنصرَها.
العربي الجديد
—————————-
تحرير الدين من السياسة/ فوّاز حداد
25 مارس 2025
تعتبر العلمانية، بوصفها فكرة سياسية نشأت من الفلسفة، نتاجاً لتجربة تاريخية خاصة في أوروبا، وارتبطت بالصراع الطويل مع الكنيسة الكاثوليكية، التي احتكرت السلطة الروحية والزمنية على مدى قرون. وفي لحظة تاريخية فارقة في هذا الصراع، مثّلت الثورة الفرنسية القطيعة النهائية بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، وتبلورت الدولة القومية الحديثة على أساس علماني، يفصل الدين عن الدولة.
انطوى تصدير هذه التجربة إلى المجتمعات الأخرى على إشكاليات عميقة، باعتبارها النموذج السياسي المثالي للأمن الأوروبي. فالمجتمعات العربية والإسلامية، كما هو معروف، لم تعش تجربة تاريخية مشابهة للصراع مع الكنيسة، بل إن الدين في هذه المجتمعات لعب دوراً مزدوجاً: فمن جهةٍ، كان أداة للسلطة السياسية، ومن جهة أخرى، كان إطاراً للحفاظ على الهوية في مواجهة الاستعمار الأجنبي. لذلك؛ فإنّ الدعوة إلى علمانية صارمة في هذه المجتمعات تعبير عن سوء فهم لتاريخها.
تبنّت أنظمة ما بعد الاستقلال في العالم العربي فكرة “العلمانية” في خطابها السياسي، لكنّها لم تستخدمها بوصفها ضماناً للحريّات الفردية والتعدّدية السياسية، بل وظّفتها أداةً للسيطرة على المجتمع، من خلال التلاعب بها لخدمة أنظمة استبدادية. وارتبطت مع الأنظمة العسكرية بتأميم الدين لصالح الدولة، إذ أصبحت المؤسّسات الدينية خاضعة للسلطة السياسية، وقُمِعت التيارات الدينية المعارضة باسم حماية “العلمانية”، ما حوّلها من فكرة لتحرير المجال السياسي من الهيمنة الدينية إلى أداة لقمع الخصوصيات الثقافية، ووسيلة لتبرير الهيمنة السياسية للنخب الحاكمة، وغطاء للطغيان.
بالنظر إلى النموذج الغربي للعلمانية، فإنّه يقوم على فرضية أنّ الدين ظاهرة شخصية بحتة يجب أن تُحصر في المجال الخاص. لكن في المجتمعات العربية والإسلامية، الدين ليس مجرد ممارسة فرديّة، بل هو عنصر أساسي في تشكيل الهوية الجماعية والبنية الاجتماعية. لذلك؛ فإنّ محاولة تبنّي النموذج العلماني الغربي بحذافيره تؤدي إلى صدام حتمي مع الهوية الثقافية والدينية.
عندما فُرض على المسلمين في بلدٍ عربيٍّ الالتزام بقوانين العلمانية الصارمة، كمنع الصيام أو الآذان أو تدريس الدين في المدارس، أدى إلى شعور قطاع واسع من الناس بأنّ الدولة تمارس تمييزاً ثقافيّاً ضدهم، ما يشير إلى أنّ العلمانية، حين تُفرض من خارج السياق الثقافي والتاريخي للمجتمعات، لا تؤدي إلى التحرّر، بل إلى تعميق أزمة الهوية. فالمشكلة إذاً لا تكمن في “العلمانية” فكرةً فلسفيةً، بل في محاولة فرضها قالباً سياسياً جاهزاً، ما يعني أنّه لا يمكن نقلها بالقوة إلى مجتمعات تختلف في تركيبتها الاجتماعية، ومسارها التاريخي وهويتها الثقافية.
المطلوب ليس رفض العلمانية، بل إعادة تدويرها بما يتلاءم مع خصوصيات المجتمع، بحيث يكون فصل الدين عن السياسة تحريراً للدين من السياسة، لكن ليس من المجتمع. إنّ السعي إلى العلمانية ضروري ولازم، لكن ليس تلك العلمانية الموتورة والمتطرفة، التي يرعاها كارهو الإسلام. بالتالي لا ينبغي أن تكون استنساخاً لأنموذج غربي، ولا رفضاً للدين، أو نقيضاً له، وبما يضمن الحريات الفردية. لهذا شاعت في القرن الماضي دعوة نحو علمانية محلية لا مستوردة على النمط الفرنسي، بل نموذجاً محلياً يحقق التوازن بين احترام القيم الدينية والثقافية، مع ضمان الحريات السياسية والفردية، يمكن أن تكون إطاراً لتنظيم العلاقة بين الدين والدولة.
بالنظر إلى ما لحق الدين من تشويه في استخدامه ذريعة للدكتاتوريات العربية للسيطرة على شعوبها، تكتسب فكرة تحرير الدين أهمية كبرى، فالدين ثابت، بينما السياسات متغيرة. ومثلما تُملي السياسة الغربية على العالم اتهام الإسلام بالإرهاب، تُملي السياسة المحلية التابعة التضييق على الصلاة واللحى، والمآذن، والحجاب. إن انتزاعه من السياسة، يعود عليه بترسيخه في الفضاء الشخصي.
أمّا الادعاء بأنّ المظاهرات التي كانت سياسية في سورية، وأدّت إلى الثورة، قد خرجت من المساجد، بينما هي أماكن عبادة، لكنّ المساجد هي أماكن تجمّع للناس، وفّرت تحت وطأة المنع والقمع المساحة الأكثر حريّة للمتظاهرين من الساحات والشوارع.
العربي الجديد
——————————
عن دائرة الرعب الحدودية/ سميرة المسالمة
25 مارس 2025
هذه دمشق، بعد أكثر من عقد من الزمن، قلبي يرتجف. تذكرة السفر تنكأ جراحي، وقرار العودة يملأ صدري بمشاعر مختلطة، الخوف يسيطر عليها، يداي ترتجفان، أتذكر خروجي الأخير منها، هاربة، متلفتة، حائرة، متوجسة من كل ما يحيط بي، وعلى الحدود ثمة “سورية” هاربة، بلد تحمل كل شعبها على ظهرها لتنجو بنفسها، وتنزح الأرض بأبنائها عن أرضها، في تلك اللحظة فقط، تدرك أن الأوطان تهاجر أيضًا عندما يقتل أبناؤها أبناءها.
في مركز “جديدة يابوس” التابع لإدارة الهجرة والجوازات السورية، تدخل دائرة الرعب، أطرافك تصطك، وعيناك تمسحان المكان، فقد يأتيك الغدر من أي اتجاه، فقط في ذلك المكان تحديدًا، أنت تريد أن تتقدم إلى دورك، ولا تريد، أحدهم يدفعك إلى الأمام وسط الزحام: “يلا أختي استعجلي”، هم لا يعرفون أنهم يدفعونك إلى مواجهة قدرك المجهول، أبتلع ريقي، وأتنفس كما لو أنني للتو دخلت تحت مياه بحر هائج.
أحدهم يشير لي من خلف الزجاج لأتقدم، ثم يذهب إلى آخر الزاوية يخفض رأسه وهو يتحدث معي: “أعطني جوازك بسرعة، ‘أنت مطلوبة‘”، يرفع عينيه، يختم الجواز على عجل، ثم يقول خلال دقيقة عليك المغادرة، لا تلتفتي، اذهبي فورًا إلى الحدود اللبنانية، فقد يلحقون بك، وعندها لن تأمني شر العقاب، لا أستطيع الكلام فقد ابتلع الخوف لساني وتجمدت كلماتي، رمشت بعيني، وانطلقت أعد خطواتي.
في “المصنع”، مركز الحدود اللبنانية عام 2012 افترش الناس الأرض، وامتلأت الساحات بالسيارات، الخوف صار يحاصرني، كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها وطنًا نازحًا، يحمل “بقجته” على ظهره، ويكتب على صدره شهادة وفاته.
استطعت بسهولة أن أندس بين الجموع، بعضهم أفسح المجال متأثرًا بحالة الهلع البادية على وجهي، بعض آخر اعترض تجاوزي الدور، دموعي هزمت شجاعتي، من بعيد أشار لي الضابط اللبناني المسؤول من خلف الحاجز متسائلًا عن الأمر، فأعطاني سببًا للتقدم، قلت له بصوت يكاد يختنق، وبغصة: “هاربة منهم وقد يلحقون بي”. مدّ يده أخذ جواز السفر، أنهى كل شيء على عجل، قال لي: “عرفتك، شاهدتك على شاشة الجزيرة”، وسألني إن كنت محتاجة إلى شيء، هززت رأسي نافية، وسمعته يقول: “سأصطحب سيارتك حتى نهاية الطريق”، السائق الذي يرافقني مندهشًا قال لي: “اللبنانيون أيضًا مع الثورة”.
مضت سنوات التشرد من بيروت إلى دبي والقاهرة وعمان واسطنبول لتستقر الحال بي مع عائلتي لاجئين على هامش المواطنة الأوروبية، تتقاذفنا آمال العودة التي تتضاءل يومًا بعد آخر. صار الوطن شاشة تلفزيون نتجول بين زواياها عن خبر هنا، أو تصريح من هناك، يعيد الأمل بفتح ملف سورية، بعودتها لتكون ضمن أخبار الساعة، وسنة بعد أخرى، مات الحلم، وضاعت من بين أيدينا فرصة التغيير، أفقدتنا الغربة لم شملنا الصغير، صرنا موزعين بين بلدان عدة، حتى قهرنا مرض زوجي وصارت المشافي هي بيتنا لسنوات طويلة، حتى كدنا ننسى أحاديث الناس واجتماعاتهم.
الفرحة العظيمة يوم الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 لم تكتمل لأن أحدنا صار جسدًا تحت التراب، ستفرّقنا الأرض التي تجمعنا، أعود وحيدة إلى بيت تعشعش فيه ذكرياتنا، حلوها ومرها، هنا في دمشق، كانت أيامنا تمضي سريعة تارة، ونعد لحظاتها كـأنها سنوات قهر تارة أخرى، عدادها من دم، كان قرار الفراق عن مدينتنا بذات صعوبة العودة إليها بدون رفيق العمر، بيتنا بلا صخب الأصدقاء، صامت، نوافذه مغلقة على أحزاننا، كأن ذراعيه لم تعد تقوى على المصافحة، يسألني عن الراحلين وينتظر عودة مؤجلة.
حتى هذه اللحظة، أنا أخاف مراكز الحدود، أقرأ كل المعوذات، وأدعية السفر، وأتلعثم عندما يسألني موظف أي حدود، حتى وأنا هنا في أوروبا المفتوحة على كل دولها، يسكنني ذلك الشك أن الشر قادم لا محالة، أسأل العابرين قبلي: هل أوقفوكم؟ عن ماذا سألوا؟ هل اسمي ممنوع من الدخول؟ على الحدود السورية هل توجد مفرزة أمن؟ يا الله كيف ينجو المرء من سجانه حين يكبله من داخله، حين يصبح صوت الجلاد صريرًا في رأسك، وصورته قرينًا يرافقك ليدس سمه في كل لحظاتك، يعكر صفو آمالك.
في لحظة هزيمته الموعودة، لقد عدت، أعيد قولها على مسامعي كأنني أحفظها، أريد أن أتعود على وقع نغمتها، لقد عدت، أي امتنان لتلك اللحظة الممتدة من يوم النصر إلى لحظة العبور… إنها دمشق.
*كاتبة سورية.
ضفة ثالثة
———————————
علَويّو سوريا إلى الشتات؟/ عمر قدور
الثلاثاء 2025/03/25
يوم أمس الاثنين بقي أهالي مدينة “الدريكيش” الخائفون في بيوتهم، وكانوا قد عاشوا ليلة رعب تسبب بها إطلاق كثيف جداً للرصاص في الهواء، وهتافات من قبيل: جيش السُنّة بالساحة.. وين كلاب القرداحة؟ استعراض القوة قام به فصيل مسلّح وافد إلى المدينة، ولم تكن هناك أحداث أمنية قبل مجيئه، ولا توجد أخبار (حتى كتابة هذه السطور) عن ضحايا بين المدنيين الذين كانوا لحسن الحظ في بيوتهم، إذ حدث الاستعراض بعد منتصف الليل.
ما حدث في الدريكيش ليس الأول من نوعه، ولا هو معزول عمّا حوله. فمنذ التمرد الذي قام به بعض من شبيحة العهد البائد، وما رافق قمعه وتلاه من مجازر طائفية، لم تعد الحياة إلى طبيعتها في الساحل والجبال الساحلية. هناك استعراضات مشابهة للقوة تحدث هنا وهناك. وحسب الأقاويل، خلّف بعضها عدداً من القتلى الجدد، وثمة أنباء عن فصائل تتهيأ لاقتحامات هنا وهناك، ما يُبقي المدنيين في حالة ذعر دائمة.
الحديث هو أيضاً عن مدنيين محاصرين في الكثير من الحالات، حيث هناك حواجز تحيط بأحياء أو قرى يقطنها علويون، ويخشى معظمهم مغادرة المكان، ولو تحت ضغط الحاجة إلى الغذاء أو الاستشفاء. ثمة أخبار عن سلوك مشين لبعض الحواجز، لجهة منع المساعدات الغذائية من الوصول إلى بعض الأحياء، ولجهة تقاضي مبالغ مالية لقاء السماح بالخروج والإفلات من الحصار.
إجمالاً، يصحّ الحديث عن مناخ من انعدام الثقة، ما يتكفّل أحياناً برواج شائعات غير صحيحة، وبدورها تشكّل الشائعات الخاطئة غطاءً ممتازاً لأولئك الذين يريدون ارتكاب المزيد من الانتهاكات، والتنصّل منها بزعم وجود الكثير من الأخبار الكاذبة، وبالتشكيك بشهادات المتضررين الحقيقيين. هذا الجدل حول صحة الأخبار يحدث في السوشيال ميديا، حيث لم تعد وسائل التواصل منفىً لقسم من السوريين كما كانت أيام الأسد، بل صارت هي الموطن بعد سقوطه، في غياب صارخ لوسائل الإعلام المحلية الموثوقة، وغياب للقضاء الذي لا حضور له على الإطلاق كرادع لمن يهدد السلم أو السلم الأهلي.
فعلياً، تم احتواء تمرد الفلول خلال ساعات من يوم السادس من هذا الشهر، وصار واضحاً أن تحركّهم أقل من أن يكون انقلاباً، حتى إذا تغاضينا عن أن الانقلاب يكون في دمشق لا في الساحل. وهو أقل من أن يكون حركة انفصالية، إذ لا يملك هؤلاء قوة كافية للتمترس في الساحل والدفاع عن أنفسهم، ولا يملكون غطاء دولياً مؤثّراً، وليس لديهم في الأصل حيثية شعبية. أي أن استنفار أنصار العصبية السُنيّة، وكأن السلطة التي “استعادوها” مهدَّدة، هو استنفار فقدَ مبرراته بعد اليوم الأول من الأحداث، إذا تجاهلنا أنه في الأصل أكبر بكثير من أن يكون مجرد ردّ فعل.
معنوياً، ساهم هؤلاء في المجازر، فإنكارهم حدوثها منذ اليوم الأول من المحتمل جداً أن يكون قد شجّع المرتكبين على الاستمرار فيها لأيام إضافية. وعندما بات الأمر مفضوحاً، إلى حد الدفع بتشكيل لجنة تحقيق حكومية، بدأت لعبة التشكيك في الأرقام ومن ثمّ مقارنتها بحصيلة المجازر التي ارتكبها الأسد، وكأن ميزان العدالة يزِنُ الجرائم بالكيلو أو بالأرقام! التشكيك بالأرقام هو نوع آخر من الإنكار؛ إنه إنكار مزدوج؛ للقتلى وللناجين، حيث يشهد الناجي ما سيلقاه في حال لم تخطئه الرصاصة في المستقبل.
ما حدث من السادس من هذا الشهر لا يتوقف على أعمال القتل، فقد رافقت الأخيرة انتهاكات أوسع نطاقاً على صعيد مصادرة الممتلكات والأموال، وأجهزة الموبايل بزعم منع التصوير. أثرُ الاستباحةِ ملموس في الحاجة الماسّة إلى الغذاء والدواء، وفي الأيام الأخيرة ذهبت تبرعات من مناطق الإدارة الذاتية الكردية ومن درعا لمنكوبي الساحل، بالإضافة إلى الفرق الإغاثية العاملة هناك بإمكانياتها المتواضعة. واحد من وجوه الإنكار أن تُذكر التبرعات من دون تسليط الضوء على معاناة الضحايا، ومن دون إشارة إلى الذين تسببوا بها، بل إن فداحة الإنكار كانت فاقعة لدى الذين أشادوا بتبرعات درعا على أنها تبرعات سُنية، من دون أية إشارة إلى الضحية التي يُستنتج أنها من وجهة نظرهم لا تستحق هذا الكرم.
السُعار الطائفي الموظَّف يضع في الواجهة مسؤولية العلويين عن المجازر التي ارتكبها الأسد، ويبرر ضمناً أعمال الثأر التي تستهدفهم، وهذه لها توصيف قانوني يجدر بالمحرِّضين الاطلاع عليه. هذا السعار يتجاهل هروب عشرات الآلاف من رؤوس إجرام الأسد في الأيام الثلاثة الأخيرة لمسلسل سقوطه، وبقاء الحدود لأسابيع بعد سقوطه في حالة تسيّب تسمح بفرار المزيد منهم. والتأخير في فتح ملف العدالة الانتقالية هو أفضل خدمة للمجرمين الذين ينوون الفرار، لكنه أيضاً أفضل استثمار لمن يريدون تجريم العلويين جميعاً، والحق أن التأخير يؤدي الخدمة المزدوجة تماماً.
واحد من مبررات السُعار الذي اشتدّ مع مجازر الساحل ذلك التخوّف من تدخّل دولي لدعم العلويين، التخوّف الذي يتغذّى من تصريحات غربية متكررة حول حماية الأقليات. على هذا، احتفى أصحابه أكثر من المعتاد بزيارة وزيرة الخارجية الألمانية إلى دمشق بعد المجازر، ولا تخفى الشماتة التي رافقت حفاوة البعض. مبرر آخر للسُعار برز في ترويج رواية في اليوم الأول للأحداث عن نجدة ستذهب إلى الفلول من قسد ومن السويداء، وسرعان ما تبيّن عدم صحتها وعدم صحة التخوّف والتخويف بتحالف الأقليات.
في الواقع، هناك اليوم “أقليتان” خارج سيطرة دمشق، هما الأكراد والدروز، وهذا هو وضعهما بالنسبة للمركز قبل تسلم السلطة الجديدة. أما فيما تبقى من البلد فلا جديد أيضاً؛ الأقليات مصطفة إلى جانب السلطة أو صامتة، وبما يكفي للقول عن معظمها إنها تبني علاقتها بواقعية (وبلا مطالب سياسية) مع الموجود في الحكم، بغضّ النظر عمّن يكون. ومطالب الغرب نفسه، فيما يخص حماية الأقليات، لا جديد فيها عن أيام الأسد ولا تصعيد، والخلاصة التي يدركها العلويون أنهم غير محميين بتحالف أقلوي داخلي أو بموجب أولويات قوى دولية. أي أن الكرة صارت في ملعب المحتفلين ضمناً بصمت الغرب الأخير على المجازر كي يطمئنوا إلى سلطتهم، ويتخلّصوا من الندب بدعوى المؤامرة الدولية لصالح الأقليات.
بما يذكّر بعبارات أسدية ماثلة في الذاكرة، كتب بعض مرتكبو مجازر الساحل عبارات على الجدران تتوعد الأهالي بالعودة للبطش بهم ثانية. طلاء الجدران لن يكون كافياً لمحو الوعيد من نفوس المهدَّدين به، ومما تسببت به المجازر الأخيرة أنها بددت كلياً منسوب الاطمئنان الذي بلغ أقصاه مع سقوط الأسد على النحو الذي شهدناه. يستحق وقفة مفصّلة ذلك الاطمئنان الذي رافق سقوط الأسد، وذلك التخوّف الذي برز لدى الممسكين بالسلطة الجديدة!
ورغم أن أهالي الساحل من السُنّة قدّموا نموذجاً مشرِّفاً من التضامن من الضحايا الجدد إلا أن أبناء الوطن الكبير لم يتصرفوا بالمثل، وخطابهم الطائفي يُنذر بالأسوأ. وينبغي الاعتراف بحالة الصدمة واليأس معاً السائدة الآن، فهناك صدمة الضحايا المدنيين من هول ما حدث، وهناك اليأس بعدما لم تنفع الاستغاثات في استجلاب الدعم المأمول من أبناء البلد أولاً، والفئة التي استجدته من الخارج هي محدودة ومعزولة اجتماعياً.
في كل الأحوال، الصمت على الانتهاكات ليس علامة على أوضاع صحية، لأنه ناجم عن اليأس من الكلام، ونضيف إليه تخوّف عدد كبير من الإدلاء بشهاداتهم أمام لجنة التحقيق. ويعرف الذين لهم صلات بالعلويين أن مغادرة البلاد صارت مرغوبة لدى نسبة متزايدة منهم، حتى المحتاجين للمساعدة صار قسم معتبر منهم يبحث عن مساعدة تمكّنه من المغادرة لا البقاء. على صعيد الواقع، بدأت طلائع طالبي اللجوء بالوصول إلى بعض الدول الأوروبية، وهذه الدول تقبل طلباتهم بخلاف ما أعلنته عن تعليقها البت في طلبات اللاجئين السوريين بعد سقوط الأسد.
تكتب جنى الدهيبي في “المدن”: “جبل محسن مرآة الساحل السوري: نزوح وخوف من المجهول”. وتذكر أن رئيس الطائفة العلوية هناك “أعرب عن خشيته من تداعيات ما حدث في الساحل السوري على لبنان، خصوصاً وأن عدد النازحين منه تجاوز الثلاثين ألفاً. وقال بوضوح: على المنظمات الأممية أن تتعاطى مع النازحين من الساحل السوري كما تعاطت مع أسلافهم”.
هذا التصريح يشي بالاتجاه الذي ينوي النازحون السير فيه، والثلاثون ألفاً ربما يكونون دفعة أولى ليس إلا للمغادرين من سوريا. قد يكون هذا خبراً ساراً للذين مارسوا ويمارسون التحريض الطائفي، ونضيف إليه أن الأقليات عموماً شهدت هجرات كثيفة في السنوات الأخيرة، فمثلاً من أصل قرابة سبعين ألف أرمني كانوا في حلب عام 2011 بقي حوالى عشرة آلاف، وهكذا هو حال معظم الأقليات، أي أن الحلم ببلد اللون الواحد المتجانس قد لا يكون مستحيلاً للساعين إليه.
المدن
——————–
خفة الرؤساء السوريين التي لا تُحتمل/ محمد دريوس
25.03.2025
تبدو الخفّة عنواناً عريضاً لما يحصل في سوريا، لكنها الخفّة المضادة للخفّة النيتشوية أو حتى المتعوية، الخفّة التي تشعرك بثقل أكبر كلما عاينتها واندمجت بها أكثر
يعزو نيتشه الحياة “الحلوة” للحيوان إلى “الخفّة”، إذ إنه لا يرزح تحت وطأة الثقل المفرط للذاكرة، ولا قلق لديه من فقدان الهوية أو صعوبة تحديد ماهيتها، كل كلب خفيف وسعيد، لا مشكلة لديه في هويته، بتحديد جنسه، بمعرفته: هذه عظمة آكلها، هذه قطة أكرهها، وهنا المنطقة التي أفرض عليها سطوتي فأتبوّل على زواياها.
الخفّة المثالية، التي تحدث عنها غاستون باشلار أيضاً، والمرتبطة بالسعادة وتوفير الاستقرار والفرح للبشر، من خلال تقليل مهام الحياة اليومية أو التخفيف من ثقلها على وجود الناس، استلزمت أن ينغمس العالم أكثر فأكثر في حياة الترفيه والاستهلاك، (لا دخل هنا على الإطلاق لهيئة الترفيه وزكيبة الفلوس السعودية)، وأن نتناول العالم كله، بمآسيه ومصائبه، بتراجيدياته ومجازره وانعدام العدالة فيه، بالإرهاب الذي يصبح مقاومة حيناً وشريعة حيناً آخر، نتناوله بخفّة الحيوان اللاهي، خفّة “الرقص في السلاسل” كما يقول نيتشه، فنسعد ونرتع في ملاهينا، وتزداد كروشنا حجماً ولحاناً وطولاً، لكن إلى أي حد تلزمنا خفّة مماثلة في سوريا “المحرّرة”؟
الثقل والخفّة
يرغب الفقه الإسلامي في الوصول إلى خفّة الوجود التي تحدث عنها جميع الفلاسفة، والتي كمنتج نهائي، يمكن أن تكون هدفاً أفلاطونياً: الخلاص من ثقل الجسد للبقاء في خفّة الروح، لكن مشكلة هذا الفقه أنه يستخدم أدوات الثقل للولوج إلى الخفّة، يستخدم ما ينفي الثقل نهائياً، يعدمه وينفيه عبر زجره وحجبه بل وتجريمه.
وعلى هذا، تبدو الخفّة عنواناً عريضاً لما يحصل في سوريا، لكنها الخفّة المضادة للخفّة النيتشوية أو حتى المتعوية، الخفّة التي تشعرك بثقل أكبر كلما عاينتها واندمجت بها أكثر، خفّة ألا تجد ما تغضب بشأنه لأن لا شأن لك أصلاً، ولم تكن أصلاً معنياً بالذي يحصل: خفّة في التعاطي مع المستقبل، خفّة في السياسة وخفّة في إدارة الشأن العام.
كانت السياسة بالنسبة الى حافظ الأسد شأناً مرتبطاً بشخصه: لا سياسة خارج جيوب قمصانه الموحدة، ولا توجّهات إلا ما تتفتّق عنه مخيلته البديعة، ثم أصبحت في عهد ابنه لعبة صينية رخيصة، يتم تداولها على طاولات التسلية وأراكيل المعسّل، ثم انتصرت “الثورة”، فظنها الرئيس الجديد هي نفسها سياسة الخلفاء الإسلاميين (الأمويين لو أردنا الدقة) فوزعها على ولاة الأمر واستقطع منهم الولاء والخراج، وسمح للجميع بإطلاق اللحى، حتى النساء.
السياسة الجديدة في سوريا الجديدة هي اللاسياسة: صورة فقط تجمع الرئيس بوزرائه، وبلحاهم على وجه التحديد، ومقابلات يبدو فيها باسماً ومطمئناً، طالما أن مخابرات ما وقنوات إعلامية بعينها ستحمي صورته تلك. وعلى رغم تمثّله “الثقل” الكامن في النظرة الباردة، والابتسامة الحيادية، واللطف المبالغ به (هل تذكرون ديكستر، القاتل المتسلسل؟) إلا أن الخفّة تسيل كنهر، عبر التعامل مع الواقع المعيشي، الخدمي، السياسي، العسكري، مع أطياف المجتمع، مع نواياه ورغباته، كل ما تقوم به الحكومة الجديدة متسم بالخفّة والاستئثار.
ثقل الكلمات
الكلمات لا تشير فقط الى الأشياء ولا تصف فقط الواقع، كما يقول الفيلسوف الإنكليزي جون أوستن (1911-1960) بل تهدف إلى جعل الفعل قيد “التفعّل”، قيد الإنجاز والتشكل، فحين يقول أحمد الشرع: “نعلن أن الثورة انتهت وانتصرت” لا يهدف فقط إلى توصيف واقع ووضع نقطة “انتهى” أو “تمت” للبدء بمرحلة جديدة. لا. الكلمات هنا تشكل وعيداً وإيذاناً وخلقاً لواقع ما، مغاير. لهذه الكلمات وقع الفعل أكثر من خفّة الوصف. إنه يستخدمها ليفعل لا ليعلن.
وقياساً، تتخذ الكلمات التي يقولها معنى مختلفاً لما تعنيه في سائر الأيام أو الأدبيات. “الثورة انتصرت” تعني أن التظاهرات التي يمكن أن تنشأ ضمن الواقع المنفلت الذي سمح به سابقاً مرذولة وغير ذات جدوى، وأن الانتقاد الذي كان يسمح به والموجه ضد “الدولة” وحتى ضد أعداء الدولة، الحقيقيين والمفترضين، يجب أن يتوقف الآن، لأننا نحن من أصبح الدولة، ونحن من يجب أن نحدّد الاتجاهات التي يسمح فيها بتقرير من العدو ومن الصديق، من الثائر ومن “الفلول”.
تخرج الكلمات من فم الرئيس الجديد بخفة، يقولها ويبتسم وهو يعي أنها لا تعني ما تعنيه في أحوالها العادية، أو في درجة حرارة معتادة كحرارة الغرفة مثلاً. إنها تعني ما يحمّلها إياه، ما يشحنها به، تعني ما يريد أن يسمعه الغرب وما لا يريد أن يسمعه السوري المغلوب على أمره. كلمات خفيفة تماثل الخفّة التي اعتاد أن ينحر بها ضحية أو يرمي فيها متفجّرات أو ببساطة، يختار “سبية” ليقضي ليلته معها.
يستخدم جمل مثل، “العدالة الانتقالية”، “الدولة السورية”، “الدستور”، “الحوار الوطني”، بأداء مسرحي يظن أنها تتحقّق بمجرد التلفّظ بها، بمجرد الإفراج عنها من منطوق اللغة، وهذا يبدو صحيحاً لحد ما، لو لا أن الواقع يعكس القول بطريقة المرآة، فلا الحرية تعني عكسها والعدالة أيضاً، الى درجة أن طرفة “مثقفة” تتداول بين أصدقائي المسرّحين من وظائفهم تقول: “والعدالة الانتقالية تقلّى بزيت الزيتون أم بالسمنة؟”.
كان حافظ الأسد “ثقيلاً” بهذا المعنى، ونستخدم حافظ الأسد كمثال مقابل بـ “وزنه” للجولاني لأنه قادم من المنبت الصحراوي نفسه للكلمات، المنبت القاسي والذي يزن الكلام بميزان الوقع والتأثير، بينما جاء بشار الابن من “أصيص نباتات في الصالون”، لا رائحة ولا لون لكلماته، وبالتالي لا وزن، قليل أو كثير.
كان حافظ يستخدم الكلمات الخفيفة لكن بثقل، ويستخدم الجولاني اليوم الكلمات الثقيلة بخفّة. الفارق بين الاثنين هو ضئيل لناحية التأسيس للمجزرة القادمة، لكنه كبير لناحية الغاية من الأداء المسرحي، المقدّم لمتفرّج ما، سيصفق في نهاية العرض راضياً، أو يُجبر على التصفيق.
خطاب الأسد العروبي والوحدوي ذو الصبغة الاشتراكية في بداياته كان لزوم الشيء حينها، كان خطاب الجميع، إذ كان الجرح الفلسطيني ما زال طرياً وهزيمة 1967 تعيش في الذاكرة. كان خطاباً ينحو نحو الخفّة التي كانت حينها “تحرير فلسطين” و”استعادة الحقوق المنهوبة”، وعلى رغم أننا نعيش اليوم ما يشبه الجرح القديم حينها، إلا أن الكلمات لا تعني ما عنته حينها، لا الحقوق هي نفسها ولا البلاد تشبه البلاد، والخفّة اليوم أصبحت الثقل نفسه.
كلا الخطابين ينهلان من معين كلمات واحد: الإيديولوجيا اللطيفة العلنية والنوايا الخبيثة الخفية، وكلاهما لن يعيشا إلا في التأويل الدموي، الأول ألزمنا أن نلوك خطاب الوحدة العربية حتى أدمى نواجذنا، والثاني يجعلنا نلوك الهواء فحسب.
الدم والعدم
يقال إن كتاب جان بول سارتر “الوجود والعدم” كان يزن، في طبعته الأولى، كيلوغراماً واحداً بالتمام والكمال، وهذا ما ساهم، طبعاً بخلاف رؤياه الجديدة آنذاك، في انتشاره الواسع، خصوصاً لدى النساء الفرنسيات، إذ كن يستخدمنه لقياس وزن الخضراوات والفاكهة، في ظل ندرة المقاييس والأوزان في تلك الآونة من الحرب العالمية الثانية، في 1943، والنساء بطبعهن شكاكات، والحق معهن، لا يثقن بسهولة بباعة جوالين لا يمتلكون إلا الكلمات المعسولة والأوزان المغشوشة.
ولنا أن نتخيل لو أن سارتر، أنقص أو زاد، على سبيل المثال، من كمية الاقتباسات الهيغلية في كتابه ذاك، أو أن سيمون دي بوفوار اعترضت على طريقة صياغة الفصول وتقسيمها مثلاً، لاختلف الكتاب كلياً، ولاختلفت طريقة تعاطينا، وتعاطي التاريخ الفلسفي برمته، مع فيلسوف “ثقيل” كسارتر. لو أنه فقط غيّر الضمير المستخدم. تخيّلوا…
لا أورد هذه الحكاية المشكوك في صحّتها إلا للدلالة على الخفّة التي تنتاب الكلمات عندما يُساء استخدامها، أو عندما لا تستخدم للدلالة على معناها المباشر إنما لبهرجة الأداء وتسطيحه.
ولكن، لأن للخفّة وزناً خاصاً، يقاس بمقياس الجدية، أي المنتهى الذي نخلص إليه عند مقارنة ما يُقال مع ما يُفعل، نتأكّد حينها أن رئيساً خفيفاً لن يحمل أوزاناً ثقيلة أو أن أوزاناً خفيفة تثقل أكثر إذا حملها رئيس خفيف.
درج
——————————-
كيف احتوى السوريون خطاب العنف بعد أحداث الساحل في البلد المنكوب؟
مبادرات أهلية لتقديم الدعم الطارئ وحماية التماسك المجتمعي… وأهالٍ يطالبون بمساعدات دولية
دمشق: سعاد جرَوس
24 مارس 2025 م
هي «محاولة لنكون معاً» تقول الصحافية والناشطة المدنية زينة شهلا، واصفة المبادرات الأهلية التطوعية لتقديم الدعم الإغاثي الطارئ للمتضررين من موجة العنف التي اجتاحت مناطق الساحل السوري قبل أسبوعين.
وتشير شهلا إلى تشكيل مبادرات مجتمعية أهلية ومدنية في مختلف المناطق السورية ومن كل الأطياف، تدعو للوقوف إلى جانب المتضررين، و«تقديم دعم حقيقي». وأهمية ذلك، بحسب رأيها، أنه يحمل رسالة ضمنية إلى كل السوريين كي «لا تتكرر تجارب الماضي المؤلمة عندما لم يكن بالإمكان مساندة أهالي المناطق المنكوبة في عهد النظام السابق».
وبعد أيام قليلة من اندلاع أعمال العنف، في الساحل السوري في الثامن من مارس (آذار) الجاري، بدأت تتكشف أبعاد الكارثة الحاصلة هناك، وتداعى سوريون من مختلف الأطياف أفراداً وجمعيات ومنظمات أهلية، لتشكيل فرق تطوعية تنسق تجميع التبرعات العاجلة، كلٌّ بحسب استطاعته، فكانت هناك حملات في «حي المزة 86» في دمشق وأحياء «الزهرة والنزهة» في حمص، وحملات في وادي النضارة بريف حمص، وحملات في السويداء وأخرى في حلب وحماة وريفها وفي مناطق الإدارة الذاتية شمال شرقي سوريا.
وقد انخرط فيها نشطاء وناشطات من داخل وخارج سوريا، إلى جانب جمعيات ومنظمات ومبادرات مجتمع مدني، شارك فيها آلاف السوريين، الرافضين للعنف والداعين لوقف الدماء، وتجنيب البلاد المزيد من الكوارث، تحت عناوين «كن عوناً» و«صناع السعادة» وغيرها من شعارات في ظل ارتفاع موجة التجييش في الشارع.
هناك من بادر بشكل فردي كتخصيص عائدات أعمال فنية لصالح المتضررين، منها مساهمة الفنان التشكيلي بطرس المعري بعائدات 10 نسخ من أحد أعماله الفنية، ومبادرات أخرى كانت قد بدأت قبل أحداث الساحل وتوسعت بعدها نتيجة تزايد الاحتياج، كالمبادرة التي قامت بها المهندسة نادية حلمي مع أصدقائها في دمشق، للمشاركة في حملات أهلية لتأمين رغيف الخبز في قرى جبلة، مثل «الدالية» و«الشير» ومدينة مصياف، ومع اندلاع أعمال العنف توسّعت الحملات من حيث أعداد المشاركين والمناطق، ونوع المواد المقدمة. وترى المهندسة ناديا أهمية الحملات المدنية التطوعية في أنها: «تفسح في المجال مستقبلاً للحوار والمناقشة الموضوعية والاتفاق على خطاب خالٍ من الكراهية».
ضمن هذا السياق تروي مديرة الإنتاج في مشروع «سما هاند ميد» علا الشيخ حسن، بتأثر، قصة أول حرام كروشيه أنتجته حملة «حرامات سورية» (بطانيات) التي أطلقها مشروع «سما هاند ميد»، وكان للصدفة من مربعات كروشيه اشتغلتها سيدتان من طرطوس وإدلب، وتقول علا، لـ«الشرق الأوسط»، حصل ذلك في وقت كان «التجييش في الشارع على أشده» على خلفية الأحداث في الساحل، مشيرة إلى أنها قرأت في تلك الصدفة: «رسالة تؤكد على التماسك المجتمعي».
وانطلقت «حرامات سورية» بداية شهر فبراير (شباط) الماضي، بهدف صناعة حرامات للأطفال من مربعات كروشيه يتبرع بها من يجيد هذا العمل اليدوي من المتوفر لديهم من خيوط صوف فائضة، على أن تقوم الورشات النسائية في مشروع سما، وتتركز في ريف دمشق ومدينة داريا، بتنسيقها وصنع حرامات منها للأطفال.
عندما اندلعت أعمال العنف في الساحل، اكتسبت الحملة بعداً آخر في مواجهة خطاب العنف والفتن، وكل ما يهدد السلم الأهلي. وتقول علا إنه تم تمديد فترة الحملة بعدما «فوجئنا بأعداد المتحمسين للمشاركة من كل المحافظات ومن مختلف الأطياف».
إلا أن الناشط السياسي نبيه النبهان في طرطوس، الذي انخرط خلال الأيام الماضية في تنسيق الحملات التطوعية، قال إن المتطوعين والمتطوعات من كل المناطق، استبسلوا جميعهم لتقديم كل ما يمكنهم تقديمه، ومع ذلك لا يمكن لتلك الجهود الأهلية مهما بلغت، أن تلبي الاحتياج المتزايد في منطقة منكوبة مساحتها تبلغ أربعة آلاف كم2، فقدت أعداداً كبيرة من رجالها.
ومن وجهة نظر نبهان، يصعب على المبادرات الإسهام في تهدئة خواطر المنكوبين ما دامت لا تزال «الذئاب المنفلتة تتجول في كل المناطق وتقتل دون حساب»، بحسب كلامه. وشدد النبهان على ضرورة بدء إجراءات العدالة الانتقالية، وتشكيل لجنة تقصي حقائق جدية بإشراف ومشاركة دولية، ووقف حملات الكراهية؛ لأنه «بغير ذلك لن تهدأ النفوس ولن يزول الخوف»، لافتاً إلى أن «الفرق التطوعية استنفدت خلال الأسبوعين الماضيين قدراتها ومواردها، فبعضها توقف والبعض الآخر على وشك التوقف».
ووصف مناطق محافظتي الساحل طرطوس واللاذقية مع الريف الغربي لمحافظة حماة، بأنها «مناطق منكوبة» ولا بد من تدخل فوري من الشركات العامة للمساعدة بترميم المنازل المتضررة وإعادة بناء البيوت والمنشآت المهدمة وإعادة بناء وتشغيل المنشآت التجارية والخدمية والطبية، وكذلك البنية التحتية من صرف صحي ومياه وكهرباء وهاتف، وبغير ذلك ستخرج كل تلك المناطق من كونها صالحة للحياة.
وقبل الأحداث الأخيرة في الساحل، كان حجم الأضرار التي خلفتها حرب النظام السابق على معارضيه يقدر بنحو 350 إلى 400 مليار دولار أميركي، وجاءت موجة العنف الأخيرة لتزيد حجم الضرر وتطيل أمد معاناة السوريين، فيما يسعى المجتمع الأهلي لمد يد العون بمساهمات معلومة سلفاً أنها لا تلبي الاحتياج لكنها بلا شك مبادرات لتجنب «انهيار السلم الأهلي»؛ لأن سوريا إجمالاً «بلد منكوب».
الشرق الأوسط
—————————–
ما أسباب الغموض الأميركي تجاه الإدارة السورية الجديدة؟
25/3/2025الرغم من الرسائل الإيجابية والتطمينات التي بعثت بها الإدارة السورية الجديدة منذ سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد -والتي لاقت صدى إيجابيا إقليميا وأوروبيا- فإن الموقف الأميركي بقي غامضا وضبابيا تجاه الوضع السوري الجديد.
وقد اتسمت تصريحات المسؤولين الأميركيين -على ندرتها- بعدم وجود موقف واضح وحاسم تجاه حكومة دمشق التي تراقب بحذر الإشارات والتصريحات القادمة من واشنطن، وسط مخاوف من أن يكون هذا الغموض مقدمة لسياسة ضغوط أو مساومات إقليمية مرتبطة بموقع سوريا الجيوسياسي وعلاقتها مع حلفاء واشنطن وأعدائها في المنطقة.
فما الدوافع التي تقف خلف هذا النهج الأميركي تجاه حكومة دمشق؟ وهل هو مجرد حذر إستراتيجي أم أن هناك اعتبارات أخرى تحكم السياسة الأميركية تجاه سوريا في هذه المرحلة المفصلية؟
واشنطن متحفظة
يرى مراقبون أن وجود هيئة تحرير الشام المصنفة على قوائم الإرهاب الأميركية، وقائدها أحمد الشرع على رأس الإدارة السورية الجديدة، يلعب دورا مهما في عدم اتخاذ واشنطن خطوات جدية تجاه حكومة دمشق.
هذا الموقف عبّر عنه بوضوح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في زيارته الأخيرة إلى إسرائيل وتصريحاته بشأن الإدارة السورية الجديدة عندما قال “إن سقوط الأسد أمر واعد ومهم، لكن قيام سوريا باستبدال قوة مزعزعة للاستقرار بقوة مماثلة أخرى ليس بالتطور الإيجابي”.
وقبل ذلك -وتحديدا في مؤتمر باريس الخاص بسوريا في منتصف فبراير/شباط الماضي- رفضت الولايات المتحدة التوقيع على “الإعلان” الذي وقعه جميع المشاركين، إذ يعود السبب في ذلك وفقا لمراقبين إلى تحفظ واشنطن إزاء هيئة تحرير الشام والهيئات التي تشكلت منذ سقوط نظام بشار الأسد، كما يرجح الباحث في مركز الحوار للأبحاث والدراسات في واشنطن عمار جلو في حديثه للجزيرة نت.
ويضاف إلى ذلك -حسب جلو- وجود شخصيات كثيرة ضمن إدارة دونالد ترامب من المعادين لتيارات الإسلام السياسي، والجهادي خصوصا.
وفي السياق نفسه، يوضح رئيس منظمة “مواطنون من أجل أميركا آمنة” الأكاديمي بكر غبيس للجزيرة نت أن موضوع التعامل مع بلد تحكمه جماعة مصنفة على قوائم الإرهاب هو أمر معقد ويحتاج لإجراءات قانونية وسياسية إلى جانب التشاور مع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة.
وكان أول وفد أميركي زار دمشق بعد سقوط النظام في 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي برئاسة باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، والتي أعلنت وقتها أن واشنطن ألغت مكافأة مالية قدرها 10 ملايين دولار كانت قد رصدتها في وقت سابق للقبض على الشرع.
وتجلى الحذر الأميركي أيضا في التعامل مع الوضع السوري الجديد في اتباع دبلوماسية غير مباشرة، إذ تعتمد الولايات المتحدة على إدارة علاقاتها مع دمشق على حلفائها الأساسيين في المنطقة، والذين يتمتعون بصلات قوية مع الإدارة الجديدة في دمشق.
ويعكس هذا النهج -بحسب مراقبين- رغبة واشنطن في الحفاظ على نفوذها في سوريا دون تقديم اعتراف رسمي أو اتخاذ مواقف حاسمة تجاه حكومة دمشق، وهو ما يتماشى مع إستراتيجية الولايات المتحدة القائمة على تقليل التورط في أزمات الشرق الأوسط مع الاعتماد على الشركاء الإقليميين لتحقيق مصالحها.
وتأكيدا لما سبق، يقول الباحث المختص في الشؤون الأميركية حسين الديك إن إدارة ترامب أوكلت الملف السوري إلى حلفائها الدوليين والإقليميين، كالاتحاد الأوروبي إلى جانب تركيا العضوة في حلف شمال الأطلسي (ناتو).
وإلى جانب هذه الدول -يضيف الديك في حديثه للجزيرة نت- تأتي الدول العربية وفي مقدمتها السعودية إضافة إلى قطر التي ترتبط بعلاقات قوية مع الإدارة السورية الجديدة من جهة، وعلاقات دبلوماسية مميزة مع الولايات المتحدة من جهة أخرى.
ويضرب الديك مثالا على هذه الدبلوماسية الأميركية غير المباشرة في سوريا من خلال الاتفاق الذي تم توقيعه بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة السورية الجديدة في 11 مارس/آذار الجاري، والذي تم بضغط أميركي على “قسد” للانضمام إلى حكومة دمشق.
من ناحيته، يشير الباحث عمار جلو إلى أن هناك تواصلا أمنيا وعسكريا خفيا بين واشنطن ودمشق “تجلى في إفشال عدد من العمليات الإرهابية الساعية لإشعال حرب أهلية، ومنها تفجير مقام السيدة زينب في دمشق، إلى جانب قصف التحالف شخصيات جهادية في محافظة إدلب مؤخرا”.
التوقيت والأولويات
تزامن انهيار النظام السوري واستلام الإدارة الجديدة السلطة في سوريا مع انتهاء فترة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وتولي الرئيس ترامب إدارة البيت الأبيض.
هذا التحول وما رافقه من تطورات متسارعة على الساحة السورية لم يتح الفرصة لإدارة ترامب لصياغة رؤية إستراتيجية واضحة للتعامل مع سوريا بعد، مقابل التركيز على أولويات داخلية وخارجية أخرى على حساب الملف السوري الذي يبدو أنه يعتبر ثانويا بالنسبة لإدارة ترامب.
وعن علاقة التوقيت بنهج الولايات المتحدة مع الإدارة السورية، يوضح السياسي السوري المقيم في الولايات المتحدة أيمن عبد النور أنه لحد الآن لم يتم تعيين مسؤولين عن الملف السوري في الخارجية الأميركية، إذ تم تعيين مدير مكتب سوريا بالبيت الأبيض وفريق الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي فقط.
ويشير عبد النور في حديثه للجزيرة نت إلى أن إدارة ترامب لم تعين بعد نائب وزير الخارجية ومساعديه المسؤولين عن الشرق الأوسط وسوريا في وزارة الخارجية، بمعنى أنه لحد الآن لا يوجد موظفون كي يضعوا الرؤية الخاصة بالتعامل مع الإدارة السورية الجديدة.
وفي السياق ذاته، يذكر الأكاديمي غيبس أن الحدث السوري كان كبيرا ومفاجئا، وجاء بين فترتين انتقاليتين للرئاسة الأميركية، مما ساهم كثيرا في عدم وجود رؤية واضحة للتعامل مع الواقع السوري الجديد، إضافة إلى انشغال الإدارة الأميركية بملفات أخرى، كأوكرانيا ودول أميركا الجنوبية.
وكان العديد من المسؤولين الأميركيين أشاروا إلى أن إدارة ترامب بصدد النظر في السياسة التي تنوي السير بها إزاء الإدارة السورية الجديدة، وأن هذه العملية لم تنته بعد، مما يدفعها إلى الانتظار وعدم الارتباط بالتزامات لم تقرها بعد على المستوى الوطني.
الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بوجود عسكري في سوريا (الأوروبية)
أسباب تتعلق بحكومة دمشق
منذ الأيام الأولى لسقوط الأسد أرسلت إدارة جو بايدن الديمقراطية -التي رحبت بسقوط النظام- رسائل إلى الإدارة الجديدة في سوريا أكدت مراقبتها الأوضاع عن كثب، وأنها ستحكم على أفعال حكام دمشق الجدد وليس أقوالهم فقط، في إشارة إلى تصريحات الرئيس أحمد الشرع وقتها بشأن المشاركة السياسية وضمان حقوق كافة مكونات الشعب السوري.
هذه المطالب تكررت في أكثر من مناسبة، إذ دعت الولايات المتحدة إلى تشكيل حكومة أكثر شمولا، معتبرة أن أي اعتراف رسمي بالإدارة الجديدة مرهون بقدرتها على تمثيل مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية.
وفي هذا السياق، صرح وزير الخارجية السابق أنتوني بلينكن بأن بلاده ستدعم حكومة سورية عندما تكون هيئة حاكمة موثوقة غير طائفية وتعكس تطلعات جميع السوريين.
من جانبه، يرى الباحث حسين الديك أن تأخر الإدارة الجديدة في دمشق في رسم مسار انتقال سياسي واضح وشامل، إلى جانب إشكاليات التعامل مع قضايا المكونات السورية الإثنية والدينية والمذهبية -وآخرها أحداث الساحل السوري- يجعل واشنطن حذرة وغير مطمئنة تجاه إدارة دمشق، وبالتالي تضييق مسار الانفتاح المأمول مع واشنطن.
وفي تصريحات تؤكد هذا المعنى ربطت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية تامي بروس خلال إحاطة صحفية في 21 مارس/آذار الجاري بين سلوك الإدارة في دمشق ورفع العقوبات والانفتاح الأميركي عليها.
وذكرت بروس أن واشنطن تراقب تصرفات الإدارة السورية الجديدة في الوقت الذي تحدد فيه سياساتها تجاه الحكومة بدمشق، وأعربت عن خشيتها من أن الدستور الذي أعلنت عنه الإدارة الجديدة يعطي الرئيس صلاحيات واسعة، كما جددت الدعوة إلى تشكيل حكومة شاملة بقيادة مدنية في سوريا.
ما علاقة إسرائيل؟
حرصت إسرائيل منذ سقوط النظام على تحويل سوريا إلى دولة ضعيفة مفككة لا تمتلك أي قدرات عسكرية أو دفاعية، وهذا ما تجلى في الغارات الإسرائيلية على مخازن الأسلحة ومستودعات الذخيرة منذ اليوم الأول لسقوط النظام، إضافة إلى التوغلات البرية واحتلال المنطقة العازلة.
واستكمالا لهذا الهدف يرى مراقبون أن إسرائيل تلعب دورا مؤثرا في تشكيل موقف الولايات المتحدة من الإدارة السورية الجديدة، إذ تسعى إلى ضمان أن أي انفتاح أميركي لا يتعارض مع مصالحها الأمنية والإستراتيجية في المنطقة.
هذه الضغوط الإسرائيلية يرى الباحث عمار جلو أنها تصب في عدم الانفتاح الأميركي على دمشق رغبة من تل أبيب في إبقاء سوريا ضعيفة ومجزأة، إلى جانب سعيها من خلال هذه الضغوط إلى دفع دمشق إلى مفاوضات سلام ضمن الشروط الإسرائيلية.
وكان ستيف ويتكوف المبعوث الخاص للرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط قال في مقابلة مع الصحفي تاكر كارلسون عن ملامح رؤية إدارة ترامب لمستقبل المنطقة “إن تطبيع إسرائيل مع سوريا ولبنان أصبح احتمالا حقيقيا بعد أن خرجت سوريا من دائرة النفوذ الإيراني”.
وأضاف المبعوث الأميركي أن “سوريا اليوم ليست كما كانت، وإسرائيل ترسم خريطة جديدة تتجاوز المفهوم التقليدي للحدود، وإذا تحقق السلام في غزة فإننا سنشهد شرق أوسط جديدا من التعاون التكنولوجي والاقتصادي بين دول الخليج وإسرائيل، وربما سوريا”.
وتعمل الإدارة السورية جاهدة لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، والاستفادة من ذلك في تخفيف ملفات كثيرة ضاغطة تملكها الولايات المتحدة على الإدارة، منها: العقوبات الصارمة، وملف شمال شرق سوريا، وملف رفع التصنيف الأميركي والأممي ضمن قوائم الإرهاب عن هيئة تحرير الشام وقياداتها، إضافة إلى قدرتها على عرقلة أي انفتاح عربي أو أوروبي على الإدارة.
المصدر : الجزيرة
—————————
هجمات إسرائيل في سوريا.. ماذا وراء توسعها جغرافيًا؟/ ضياء عودة – إسطنبول
25 مارس 2025
لم تعد الهجمات التي تنفذها إسرائيل في سوريا مقتصرة على مواقع وقدرات عسكرية في جنوب البلاد فحسب، بل باتت تأخذ مستويات أكبر على صعيد العمق الجغرافي، وهو ما تؤكده خارطة الضربات التي حصلت مرتين هذا الأسبوع.
وأعلن الجيش الإسرائيلي، الثلاثاء، تنفيذ غارات جوية على قاعدتين عسكريتين: الأولى تقع في تدمر بريف حمص وسط سوريا، والثانية إلى الجنوب الشرقي منها وتعرف برمز “T4”.
وجاء ذلك بعد 3 أيام من ضربات مماثلة استهدفت ذات المكان.
ووفقا للرواية الإسرائيلية، تأتي الضربات ضمن “سلسلة هجمات تهدف إلى منع سيطرة النظام السوري الجديد على هذه المنشآت العسكرية”.
ورغم أن هذا الهدف المذكور سبق أن أكد عليه المسؤولون في تل أبيب لأكثر من مرة، عقب سقوط نظام بشار الأسد، يوضح خبراء ومراقبون أن المعطيات القائمة على الأرض، منذ تلك الفترة، تشي بأن ما جرى ويجري “يسير على مراحل، ولا يمكن حصره فقط بما يطلق من تصريحات”.
ويقول الباحث السوري في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، نوار شعبان، إن “بنك الأهداف الإسرائيلية أصبح يتوسع بشكل واضح، على مستوى الجغرافيا والأهداف والأساليب”.
ويضيف لموقع “الحرة”: “الأخطر من كل ذلك أن الاستراتيجية القائمة باتت قتالية وليست كما يصوّر لها من منطلق الردع”.
أما الباحث السياسي الإسرائيلي، يوآف شتيرن، فيعتقد بأن توسيع نطاق الهجمات الإسرائيلية في سوريا جغرافيا، “يندرج في إطار سلسلة تطورات تنظر إليها إسرائيل بعين مستاءة”.
فمن جهة، يوضح شتيرن لموقع “الحرة”، أن إسرائيل “لا تزال ترى بالحكومة السورية الجديدة تهديدا”.
ومن جهة أخرى، “تتوجس إسرائيل من التقارب الكبير جدا الحاصل بين دمشق وأنقرة، وما يرافق ذلك من أحاديث وتوقعات عن اقتراب البلدين (سوريا وتركيا) من توقيع اتفاقيات قد تضمن للجيش التركي التمركز في مناطق متقدمة داخل سوريا”، وفق شتيرن.
“رسائل”
وقالت القناة 12 إن الغارة الإسرائيلية الحديثة على وسط سوريا دمرت برج مراقبة في “T4″، مما جعل القاعدة غير صالحة للاستخدام.
وأضافت أن الغارات السابقة (قبل 3 أيام) أسفرت عن “تدمير نحو 20 طائرة من طراز سوخوي روسية الصنع”، مشيرة إلى أن “الهدف هو الحيلولة دون استخدام القاعدة مستقبلا من قبل النظام الحالي، الذي تعتبره إسرائيل تهديدا محتملا”.
وربط تقرير القناة العملية “برسالة غير مباشرة لتركيا”، في ظل التطورات الإقليمية المتسارعة، واعتبر أن إسرائيل “تعمل أيضا على إحباط تمركز خلايا تابعة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي في محافظة درعا جنوبي سوريا”.
وكان لافتا أن ضربتي تدمر و”t4″ سبقهما تلميح إسرائيلي غير مباشر عبّرت عنه مصادر نقل عنها موقع “واللا” العبري، الأحد.
وفقا لتلك المصادر التي لم يسمها الموقع، فقد “جرت اتصالات سورية تركية، خلال الأيام الماضية، لنقل مناطق قرب تدمر بريف محافظة حمص إلى الجيش التركي، مقابل دعم اقتصادي وعسكري”.
وأضافت أن “التحركات التركية المحتملة في تدمر، تثير مخاوف إسرائيلية واسعة”.
كما أشار “واللا” إلى أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية “عقدت عدة مشاورات الأسبوع الماضي لبحث التطورات في سوريا”، وقال أيضا إن “النظام السوري الجديد يحاول ترميم قواعد عسكرية وقدرات صاروخية ودفاعية في الجنوب”.
ولم يصدر أي تأكيد تركي أو سوري بشأن المزاعم التي تفيد بنية أنقرة تثبيت قواعد عسكرية في وسط سوريا.
ورغم أن هذه المعلومات سبق وسلطت وكالة رويترز الضوء عليها، فإن مصادر بوزارة الدفاع التركية نفت لأكثر من مرة صحتها.
ويعتبر شتيرن أن الهجمات وتوسيع نطاقها جغرافيا في سوريا “يمكن النظر إليها من هذا الجانب”، في إشارة منه إلى التحركات العسكرية الحاصلة على خط دمشق – أنقرة.
ويشرح بالقول: “إسرائيل تريد إرسال رسائل واضحة: لن نسمح بأن تكون سوريا مكانا لحصول أي احتكاك تركي إسرائيلي.. فلتدعم تركيا سوريا كما تريد، لكن ليس كتمركز عسكري”.
ومن شأن أي تمركز عسكري تركي جديد في سوريا أن يفرض قيودا على “حرية العمل الإسرائيلية”، على حد تعبير شتيرن.
ويتابع: “إسرائيل كانت تفضل سابقا النفوذ الروسي في سوريا ونسّقت مع موسكو كثيرا. ولن يكون ممكنا إجراء مثل هذا الأمر مع تركيا الآن، بسبب التوتر السياسي الكبير الحاصل بين الطرفين”.
وقبل سقوط نظام الأسد، لم تكن السياسة الإسرائيلية المتعلقة بسوريا كما هي الحالة التي عليها اليوم.
في السابق كانت غالبية التحركات تندرج ضمن إطار “وقائي”، كما يوضح الأكاديمي والباحث في الشأن الإسرائيلي، خالد خليل.
ويعتبر خليل في تصريحات لموقع “الحرة”، أنه في أعقاب سقوط الأسد “أخذت الأفعال الإسرائيلية طابعا هجوميا”.
ويوضح الخبير الجيوساسي، عامر السبايلة، أن ضربات إسرائيل الأولى (بعد سقوط نظام الأسد) في سوريا “كانت بدأت تدريجيا مع إعادة رسم جغرافيا الجنوب، باعتبار أنه جزء من العمق الأمني الإسرائيلي”.
ويمكن اعتبار ما سبق “مرحلة أولى استندت بشكل رئيسي على تحقيق هدف بمنع إنشاء نقاط من شأنها أن تتحول إلى محطات لوجستية أو جاذبة لأي طرف قد يشكل خطرا وتهديدا على إسرائيل”، وفق السبايلة.
أما بخصوص ما يجري الآن، فهو يندرج، حسب وصف الخبير، في إطار “مرحلة ثانية يمكن اعتبارها بمثابة بداية المواجهة بالوكالة مع تركيا”.
ويشرح السبايلة: “ليس هناك تصريح إسرائيلي بوجود مواجهة فعلية مع تركيا، لكن التحركات التي تقوم بها تل أبيب في سوريا تصب في إطار مواجهة الطموح التركي، وذلك لمنع توظيف الجغرافيا السورية لصالح أنقرة”.
“ما تقوم به إسرائيل الآن هو لمنع تشكّل أي قوة في الداخل السوري”، يتابع الخبير.
ويؤكد على فكرة بأن “إسرائيل لا تريد إيران ولا تريد تركيا.. وبالتالي تعمل على منع أي طرف من استغلال الجغرافيا السورية لصالحه”.
من جانبه، يشير الباحث شعبان إلى تطور “خطير” على صعيد التوغلات الإسرائيلية في جنوب سوريا، معتبرا أنها “لا تزال متواصلة وفق مهمات أمنية غير واضحة”.
شعبان أشار إلى “مقتل مدنيين”، الثلاثاء، أثناء توغل الجيش الإسرائيلي في قرية كويا بريف درعا السورية.
وقتل 4 أشخاص في مدينة درعا السورية، إثر تبادل لإطلاق النار بين مواطنين وقوات من الجيش الإسرائيلي، حيث قال الأخير إنه تعرض لرصاص مسلحين ورد عليها، فيما قالت الرواية الرسمية السورية إن الجيش الإسرائيلي حاول التدخل في إحدى القرى وقصفها بقذائف دبابات.
ويرى الباحث شتيرن أن المناوشات الحاصلة في درعا “تدل على عمق التوتر مع إسرائيل”، ويعتقد أن ما يحصل على الحدود في جنوب سوريا “قد يجر الأمور نحو التصعيد والاشتعال”.
ضياء عودة
الحرة
———————-
رويترز: أميركا سلمت سوريا شروطها مقابل رفع جزئي للعقوبات
بحسب ما نقلته الوكالة عن مسؤولين أميركيين، تشمل قائمة الشروط ضمان عدم تولي أجانب مناصب قيادية في الحكومة السورية
واشنطن – بيروت : رويترز
25 مارس ,2025
نقلت وكالة “رويترز” عن ستة مصادر مطلعة قولها إن الولايات المتحدة سلّمت سوريا قائمة شروط تريد من دمشق الوفاء بها مقابل تخفيف جزئي للعقوبات، منها ضمان عدم تولي أجانب مناصب قيادية في الحكومة.
وقال مصدران، أحدهما مسؤول أميركي والثاني مصدر سوري، إن ناتاشا فرانشيسكي نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون بلاد الشام وسوريا سلمت قائمة المطالب لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في اجتماع خاص على هامش مؤتمر المانحين لسوريا في بروكسل في 18 مارس (آذار).
ولم ينشر سابقاً أي خبر عن هذه القائمة أو عن الاجتماع الخاص، وهو أول اتصال مباشر رفيع المستوى بين دمشق وواشنطن منذ تولي الرئيس الأميركي دونالد ترامب منصبه في 20 يناير (كانون الثاني) الماضي.
وتحدثت وكالة “رويترز” إلى ستة مصادر لكتابة هذه القصة، هم مسؤولان أميركيان ومصدر سوري ودبلوماسي من المنطقة ومصدران مطلعان في واشنطن. وطلبت جميع المصادر عدم الكشف عن هوياتهم لكون الحديث عن شؤون دبلوماسية رفيعة المستوى.
وقال المسؤولان الأميركيان والمصدر السوري والمصدران في واشنطن إن من بين الشروط التي وضعتها الولايات المتحدة تدمير سوريا لأي مخازن أسلحة كيمياوية متبقية والتعاون في مكافحة الإرهاب.
وأضاف المسؤولان الأميركيان وأحد المصدرين في واشنطن أن من بين المطالب الأخرى التأكد من عدم تولي مقاتلين أجانب مناصب قيادية في الإدارة الحاكمة في سوريا.
ووفقاً للمسؤولين الأميركيين والمصدرين في واشنطن، طلبت واشنطن أيضاً من سوريا تعيين منسق اتصال لدعم الجهود الأميركية للعثور على أوستن تايس، الصحافي الأميركي الذي فُقد في سوريا منذ ما يزيد على 10 سنوات.
وأفادت المصادر الستة بأنه في مقابل تلبية جميع المطالب، ستقدم واشنطن تخفيفاً جزئياً للعقوبات. ولم تحدد المصادر نوع التخفيف المقدم، وقالت إن واشنطن لم تقدم جدولاً زمنياً محدداً لتلبية هذه الشروط.
وسوريا في أمس الحاجة إلى تخفيف العقوبات لإنعاش اقتصادها المنهار جراء الحرب التي استمرت لما يقرب من 14 عاماً، والتي فرضت خلالها الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا عقوبات صارمة على الأفراد والشركات وقطاعات كاملة من الاقتصاد السوري في محاولة للضغط على بشار الأسد.
وجرى تعليق بعض هذه العقوبات بصورة مؤقتة لكن تأثير ذلك كان محدودا. وأصدرت الولايات المتحدة ترخيصاً عاماً لمدة ستة أشهر في يناير (كانون الثاني) لتسهيل تدفق المساعدات الإنسانية، لكن هذه الخطوة لم تعتبر كافية للسماح لدولة قطر بدفع رواتب القطاع العام من خلال مصرف سوريا السوري.
ودعا مسؤولون سوريون، منهم الشيباني والرئيس الجديد أحمد الشرع، إلى رفع العقوبات بالكامل، قائلين إن من الظلم الإبقاء عليها سارية بعد الإطاحة بالأسد في هجوم خاطف شنته فصائل معارضة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي).
وكانت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية تامي بروس قد قالت يوم الجمعة إن إدارة الرئيس دونالد ترامب تراقب تصرفات القادة السوريين الجدد في الوقت الذي تُحدد فيه واشنطن سياستها المستقبلية، لكنها أشارت إلى أن من غير المرجح تخفيف العقوبات على دمشق بسرعة.
وأضافت في إفادة صحافية يومية: “نراقب تصرفات السلطات السورية المؤقتة بوجه عام، في عدد من القضايا، في الوقت الذي نُحدد فيه ونفكر في السياسة الأميركية المستقبلية تجاه سوريا”.
وتابعت: “ما زلنا أيضاً ندعو لتشكيل حكومة تضم جميع الأطياف بقيادة مدنية يمكنها ضمان فعالية المؤسسات الوطنية واستجابتها وتمثيلها”.
والسؤال الأكبر بالنسبة لواشنطن يتعلق بمدى استعدادها لرفع العقوبات الأميركية على سوريا ونظرتها لمستقبل القوات الأميركية في شمال شرقي البلاد.
وحين سُئلت على وجه التحديد عما إذا كانت الولايات المتحدة تفكر في تخفيف العقوبات على سوريا، قالت بروس: “الآلية لم تتغير ولا خطط لتغييرها في هذه المرحلة”. لكنها أكدت عدم وجود “حظر شامل”، وأشارت إلى وجود استثناءات.
—————————–
إدلب… كيف نهضت من بين الأنقاض وتحت القصف/ شيلي كيتلسون
هنا أيضا كان لوقف تمويل الـ”يو إس إيد” عواقب
آخر تحديث 17 مارس 2025
إدلب- تمتد المساحات المنبسطة المحيطة بعاصمة هذه المحافظة السورية قبل أن تتدرج في الغرب والشمال إلى تضاريس وعرة وجبال شاهقة بمحاذاة الحدود التركية. لطالما شكلت هذه التكوينات الطبيعية عوائق أمام الحركة، لكنها في الوقت ذاته كانت ملاذا لمن لجأ إليها.
على مدى سنوات، وفرت الأنفاق ملجأ من القصف المستمر الذي شنه النظام السابق والقوات الروسية. لكن اليوم، “لم تعد هناك حاجة إليها”، كما قال شاب مقاتل لم يتجاوز العشرين من العمر، في حديث لـ”المجلة” أواخر فبراير/شباط. كان يجلس على بساط مهترئ يغطيه الغبار في بلدة صغيرة، يتصفح هاتفه المحمول، مستعرضا صور أصدقائه الذين قضوا– رفاقه “الشهداء”– بينما كان ينتظر تقديم الشاي. كان أحد عناصر قوات “العصائب الحمراء” التابعة لـ”هيئة تحرير الشام”، ولكنه الآن لا يبتغي سوى تحقيق أمنيتين بسيطتين: زيارة جدته، التي تعيش في مخيم للنازحين داخليا مع نساء أرامل، وإكمال تعليمه.
ظلت إدلب لسنوات طويلة شبه معزولة عن باقي أنحاء سوريا والعالم، لكنها تحولت إلى المعقل الذي انطلقت منه العملية التي قادتها “هيئة تحرير الشام”، وأدت في النهاية إلى إسقاط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول. ومنذ ذلك الحين، اكتسبت المحافظة مكانة أشبه بالأسطورة، رغم استمرار الحذر من الفصائل المسلحة التي نشأت فيها، وهي جماعات انخرط أفرادها لسنوات في حركات إسلامية متشددة.
ويزعم آخرون عارضوا “هيئة تحرير الشام” وسابقاتها أنهم لا يستطيعون إلا الاعتراف بأن الجماعة كان لها شأن “بطولي” في القتال الذي دار ضد نظام ديكتاتوري خلف مئات الآلاف من القتلى والمفقودين وأجبر الملايين على الفرار من البلاد. وعلى الرغم من أن إدلب كانت موضع اتهامات في السنوات الماضية بأنها “موبوءة بالإرهابيين،” فإنها كانت ولا تزال مكانا للجوء لكثير من الناس. ويكتظ ملايين السوريين النازحين من مناطق أخرى في المحافظة، حيث بُنيت بلدات فعلية في مكان المخيمات السابقة التي آوت عشرات الآلاف من المهجرين، في حين تُواصل الخيام المعرضة للبرد القارس والمطر إيواء أولئك الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف سكن أكثر متانة. ولا يملك الملايين مكانا آخر يذهبون إليه، وحتى لو كان لديهم مكان، فأنى لهم بالوسائل التي تُتيح وصولهم إلى هناك.
ويشكو النازحون داخليا من قلة المساعدات التي تُقدم لهم، في حين يتفق الجميع على أن فرص العمل لا تزال محدودة، ويُلقي كثيرون باللوم على العقوبات والبيروقراطية المفرطة.
محافظ إدلب: النظام السابق “حاول إبادة السكان”
اصطحب مسؤولون مهذبون ومدفوعون بالفضول صحيفة “المجلة” إلى مكتب محافظ إدلب الذي يقع تحت الأرض في الثاني من مارس/آذار.
كان محمد عبد الرحمن، الذي يشغل منصب محافظ إدلب منذ شهر ونصف الشهر، يرتدي قميصا وسترة، وكان مكتبه مزينا بزخارف المكاتب الحكومية النموذجية على الطراز العربي: مقاعد فخمة، والكثير من الزهور الاصطناعية، ولوحات اسمية لامعة. وكانت الجدران حديثة الطلاء، وكان البلاط الرخامي اللامع يغطي أرضية الغرفة.
وعبد الرحمن من أبناء المحافظة وخريج الأكاديمية العسكرية في حمص، وكان قد شغل منصب وزير الداخلية السوري “لمدة أربعين يوما في حكومة تصريف الأعمال بعد تحرير سوريا”. وقبل ذلك، شغل منصب وزير الداخلية في حكومة الإنقاذ السورية لمدة ثلاث سنوات.
وكانت “هيئة تحرير الشام” وجماعات معارضة أخرى شكلت حكومة الإنقاذ السورية في أواخر عام 2017، وسيطرت على جزء كبير من شمال غربي سوريا وعاصمتها إدلب، ويبلغ عدد سكانها حوالي 4 ملايين نسمة.
وكانت عمليات ترحيل جماعي متعددة من مناطق أخرى في سوريا قبل تشكيل حكومة الإنقاذ السورية قد أجبرت عشرات الآلاف من الأشخاص بالحافلات إلى إدلب من الغوطة التي تقع في ضواحي دمشق، والتي دُمرت بالكامل تقريبا، في أوائل عام 2018 بعد أن حوصرت وقُصفت على مدار سنوات. واستمرت القنابل في ملاحقة النازحين حتى بعد وصولهم إلى هذه المنطقة الشمالية الغربية من البلاد، وهو الأمر الذي زاد من الدمار الهائل الذي أحدثته هجمات النظام السابق بدءا من عام 2011.
وأكد عبد الرحمن أن “ريف إدلب مدمر بالكامل”، وسرد أسماء القرى والمدن التي تعرضت المناطق المحيطة بها لقصف متواصل من النظام السابق وحلفائه عندما كانت المناطق تحت سيطرة قوات المعارضة السابقة التي تسيطر حاليا على دمشق.
وتابع قائلا إن أرياف معرة النعمان، سراقب، وجبل الزاوية، كلها كانت عرضة للقصف، موضحا أن إدلب، على وجه الخصوص، كانت هدفا رئيسا بسبب العدد الكبير من النازحين الذين لجأوا إليها من محافظات أخرى، حيث تم استهدافها، على حد تعبيره، “لإبادة من احتمى بها”.
وبحسب تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في مارس/آذار 2024، نزح 3.4 مليون شخص في شمال غربي سوريا: وهو ارتفاع عن العدد الذي بلغ 2.9 مليون شخص في العام السابق.
وأوضح عبد الرحمن أن “أولوياتنا تتمثل في إعادة الإعمار، وإعادة تأهيل المدارس، وإعادة تجهيز المراكز الطبية والمستشفيات، وإعادة تفعيل محطات المياه، وإعادة تشغيل مرافق الكهرباء، وإصلاح الطرق”.
وأشار المحافظ إلى أنه “لا يزال لدينا نحو أربعة ملايين شخص” في إدلب، منهم “1.8 مليون شخص يعيشون في مخيمات يعانون من برد الشتاء في خيام متداعية”. وأكد أن “إعادة الإعمار تتطلب بالطبع المال والوقت، لكن الأمر الذي يؤثر اليوم أكثر على الشعب السوري هو العقوبات المفروضة عليه”. وأضاف أن المدارس والمرافق الطبية التي استهدفها النظام السابق لفترة تزيد على عقد من الزمن لن يكون من الممكن إعادة بنائها ما لم “تُقدم المساعدة وتُرفع العقوبات”.
الوضع “أفضل بكثير من مناطق النظام السابق”
تُعتبر خدمات المياه والكهرباء والإنترنت أكثر موثوقية في إدلب مقارنة بالمناطق التي كانت تحت سيطرة النظام سابقا– أو على الأقل خارج المخيمات.
وفي معظم الأماكن، تُقبل الليرة التركية والدولار فحسب، في حين أن بعض أصحاب المتاجر يسحبون الآلات الحاسبة لمعرفة أسعار الصرف الحالية إذا كان لدى العملاء الليرة السورية فحسب. وتشهد تجارة السيارات نشاطا ملحوظا، ويبدو أن ثمة وفرة في البضائع بشكل عام، بما في ذلك البضائع المستوردة، في الكثير من المحلات التجارية.
وأشار المحافظ في حديثه لـ”المجلة” إلى أن المحافظة شهدت “استثمارا وتجارة حتى قبل التحرير، وحاليا هناك المزيد من المصانع التي تفتح أبوابها”، نظرا للقدرة الجديدة على التنقل بحرية بين المحافظات. وأضاف: “نشهد افتتاح مصانع في المدينة الصناعية بمنطقة باب الهوى”، و”أصحاب المصانع هم مستثمرون خاصون يطلبون تراخيص من وزارة الاقتصاد”.
من جانبه، أخبر رجل الأعمال والخبير الاقتصادي محمود طرن، الذي درس في المملكة المتحدة ولكنه وُلد في سوريا وعاد إلى دمشق بعد 8 ديسمبر/كانون الأول، أخبر “المجلة” في 10 مارس/آذار أن حكومة الإنقاذ السورية “تمكنت من استعادة الأمن والاستقرار، وهو الأمر الذي أدى إلى التنمية الاقتصادية” في إدلب.
وأشار إلى أنها “نجحت في ربط النظام المالي مع تركيا من خلال إنشاء بعض الفروع للبنوك التركية الحكومية ومكاتب البريد مثل بنك زراعات وبنك البريد والبرق والهاتف”. وأصبح الناس قادرين على إرسال واستقبال الأموال، في ظل “تدفق الاستثمارات من السوريين المقيمين عبر الحدود”.
وأكد طرن أن إدارة حكومة الإنقاذ السورية تعني أن “الأوضاع في إدلب كانت أفضل بكثير من مناطق النظام باستثناء الوصول إلى العالم الخارجي، وهو الأمر الذي لم يتحقق أبدا”.
وأضاف أن الأمر المهم هو أن حكومة الإنقاذ السورية “نجحت في تأمين الكهرباء على مدار الساعة من تركيا ومن الإنتاج المحلي”، وأن “ظروف المعيشة في المحافظة كانت مقبولة” نظرا للظروف، على الرغم من المشاكل المتعلقة بالبيروقراطية المفرطة في الواردات.
وأردف قائلا: “لم يكن ثمة نقص في السلع الأساسية” خلال سنوات سيطرة حكومة الإنقاذ السورية على المحافظة، وكانت إدلب “بمنزلة نقطة الدخول لجميع الواردات الرئيسة مثل السيارات” وغيرها من السلع إلى البلاد في السنوات الأخيرة.
ولكنه لاحظ أن “الأمر الذي لم تتمكن الحكومة من القيام به بشكل جيد للأسف هو نظام الرعاية الصحية. وعلى الرغم من أنها تمكنت من إعادة تأهيل عدة مستشفيات، فإنها لم تتمكن من تقديم خدمات رعاية صحية مهنية”.
استهداف المرافق الصحية على مدار سنوات
وأشار محافظ إدلب عبد الرحمن إلى أن الأمر التنفيذي الذي أصدرته إدارة ترمب القاضي بتجميد تمويل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية خلف أثرا مدمرا على قطاع الرعاية الصحية الذي يعاني بالفعل في المحافظة. وأوضح لـ”المجلة”، على سبيل المثال، أن الجمعية الطبية الأميركية السورية (سامز) تدعم حوالي 24 أو 25 مركزا طبيا ومستشفى في إدلب.
وأخبر الدكتور دريد الرحمن، منسق مجموعة الصحة التابعة لمنظمة الصحة العالمية في شمال غربي سوريا، “المجلة” في 10 مارس/آذار أن “التمويل الأجنبي يشكل الغالبية العظمى من الدعم المالي لقطاع الرعاية الصحية في إدلب، مشيرا إلى أن “حوالي 80 إلى 85 في المئة من نسبة تمويل الرعاية الصحية في إدلب مصدره المنظمات الدولية أو الدول المانحة، بينما توفر حكومة الإنقاذ والمجتمعات المحلية النسبة المتبقية”.
وكتب الدكتور الرحمن ردا على أسئلة كتابية وُجِهت إليه: “خلف تجميد الأموال من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تأثيرا سلبيا كبيرا على الرعاية الصحية في إدلب، وهو الأمر الذي أدى إلى انخفاض تمويل المراكز الصحية، ونقص الأدوية والمستلزمات الطبية، كما خلف تأثيرا ملحوظا على تدريب الكوادر الطبية، وتأخرا في دعم خدمات الرعاية الصحية للنازحين. ونظرا لاعتماد المنطقة بشكل كبير على المساعدات الخارجية، فإن هذا التجميد يمثل تحديا كبيرا في الحفاظ على استمرارية وجودة خدمات الرعاية الصحية في المنطقة. وقد تسبب في إغلاق ما يصل إلى 14 مركزا صحيا وتوقف كلي أو جزئي لأكثر من 9 مستشفيات، بالإضافة إلى إلغاء برامج التدريب التخصصي المخطط لها”.
وأضاف الدكتور الرحمن: “أحرزت حكومة الإنقاذ السورية، بالتعاون الوثيق مع مديرية الصحة والمنظمات العاملة في شمال غربي سوريا، تقدما كبيرا في قطاع الرعاية الصحية، ولا سيما في مجال الرعاية الصحية الأولية. وارتفع عدد المراكز الصحية بشكل ملحوظ بفضل هذه الجهود المشتركة ليصل إلى 115 مركزا صحيا بنهاية عام 2024. وتُقدم هذه المراكز الصحية خدمات رعاية صحية شاملة وتقدم الخدمة لما يزيد على 4 ملايين شخص في مناطق شمال غربي سوريا. ومع ذلك، تمثلت التحديات الرئيسة خلال هذه الفترة في استهداف قوات النظام للمرافق الصحية بشكل منهجي”.
وأضاف أن هناك “تدميرا للبنية التحتية في الكثير من المرافق التي كانت تحتلها قوات النظام سابقا في الريف الجنوبي للمحافظة”.
وعلاوة على ذلك، أضاف قائلا: “ثمة تدمير للبنية التحتية في الكثير من المرافق التي كانت تحتلها قوات النظام سابقا في الريف الجنوبي للمحافظة. وهذا ما تعمل الحكومة السورية الجديدة على معالجته حاليا، ويمكن اعتباره أولوية قصوى”.
الشرطة والتعليم
وأشار محافظ إدلب إلى حقيقة أنه فيما يتعلق بالشرطة في المحافظة، “ليس ثمة تدريب خارجي”. وكل التدريبات هي تدريبات داخلية يقوم بها قادة مجتهدون هم بمنزلة ثوار شرفاء”، من دون أي تدريب من دول أجنبية.
وأضاف وزير الداخلية السابق قائلا: “أُنشئت مراكز تدريبية ومرافق تعليمية في إدلب. وأُسست كلية للشرطة، ويُدرب المجندون فيها. وتلقى الضباط وأفراد الشرطة الآخرون تدريبا في علوم الشرطة، والعلوم الجنائية، والعلوم العسكرية، وعلوم الأمن”.
ووفاقا لمقال نشرته صحيفة “ليفانت 24” في سبتمبر/أيلول 2023 حول افتتاح كلية الشرطة، فقد “استغرق المشروع عاما من التخطيط للإعداد، ويغطي المنهج مجموعة واسعة من التخصصات القانونية والأكاديمية والتدريب شبه العسكري الضروري لإنفاذ القانون الحديث. وتُدرس الشريعة الإسلامية والأحكام جنبا إلى جنب مع آليات المؤسسات القانونية في المناطق المحررة”.
ونقلت وسائل الإعلام المحلية عن مدير المعهد قوله إن اليوم النموذجي “يبدأ بتدريبات اللياقة البدنية قبل الفجر” وأن “اليوم الذي يستمر 17 ساعة يمتد من حوالي الساعة 5 صباحا حتى 10 مساء”.
أ.ف.ب أ.ف.ب
خلال إحياء الذكرى الرابعة عشر للثورة السورية لأول مرة منذ الإطاحة بنظام الأسد، في ساحة الأمويين بوسط دمشق في 15 مارس
وأشار المحافظ في مقابلة أجريت مع “المجلة” في مارس/آذار بمكتبه إلى أن “ثمة معايير محددة للانضمام إلى الشرطة، ويُجند المجندون عن طريق الاختيار من بين الذين يستجيبون لإعلانات دورات أفراد الشرطة. ويخضع المجندون لاختبارات أمام لجان”، ثم “تختار اللجان العدد المطلوب من المجندين ويُنقلون إلى كلية الشرطة”، حيث تستمر دورات الدراسة “لمدة لا تقل عن ثلاثة إلى أربعة أشهر”.
وأضاف المحافظ أن “الرواتب تختلف حسب الوظيفة، ولكنها تبدأ من مئة دولار”.
واعترف بأن الحكومة تدرك أن “مئة دولار أو حتى مئة وخمسين دولارا ليست كافية للوضع الحالي. ومع ذلك، هذا كل ما يمكننا فعله في الوقت الحالي بإمكاناتنا الحالية”.
وأشار إلى أنه “لا يمكن الانضمام إلى القوات الأمنية من دون شهادة تعليمية. أما بالنسبة إلى العمل العسكري، فهذا من اختصاص وزارة الدفاع. وهناك معايير ودورات، ويجري العمل على هذا الأمر هناك حاليا”.
وكما كتب إدوارد بيجبيدر، المدير الإقليمي لليونيسيف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في بيان صدر في 18 ديسمبر/كانون الأول: يوجد في سوريا بالإجمال، أكثر من “2.4 مليون طفل لا يرتادون المدارس، إضافة لوجود مليون طفل آخر معرض لخطر التسرب من المدارس. وهذا يزيد من خطر تعرضهم لعمالة الأطفال، وزواج الأطفال، والإتجار بهم، وتجنيد واستخدام أطراف النزاع لهم. إن إعطاء الأولوية للتعليم، وتمكين المعلمين، وتعزيز نظام التعليم هي أمور ضرورية لتعزيز التماسك الاجتماعي، والتسامح، والسلام”.
وقالت جميلة الزير التي تعمل في قطاع التعليم في منظمة غير حكومية بإدلب لـ”المجلة” إن “قطاع التعليم في إدلب، تحت إدارة حكومة الإنقاذ السورية، واجه تحديات كبيرة أثرت على تطوره واستدامته. ويمثل انخفاض الدعم المالي من المنظمات الدولية أبرز هذه التحديات، إذ امتنع المانحون عن تقديم الدعم أو قللوا منه إلى درجة كبيرة” مع مرور الزمن.
وعلاوة على ذلك، قالت إن الكثير من المدارس لا تمتلك حتى “تجهيزات التدفئة أو صيانة المباني، وهو الأمر الذي أثر على جودة البيئة التي يتلقى فيها الأطفال تعليمهم”.
ومع ذلك، زعمت أن حكومة الإنقاذ السورية “عملت على دعم التعليم المهني والفني” وأطلقت حملات توعية حول أهمية التعليم.
بالإضافة إلى ذلك، قالت إنه “خلال العامين الماضيين، مُنحت حوافز مالية للعاملين في المدارس الذين لا تحصل مدارسهم على دعم من المنظمات، وهو الأمر الذي رفع من جودة التعليم في المدارس غير المدعومة من المنظمات”.
مقتل مئات الشباب من إدلب في المنطقة الساحلية
كانت إدلب مسقط رأس عدد كبير من أفراد قوات الأمن الذين قُتلوا في وقت سابق من هذا الشهر بعد هجمات منسقة في المنطقة الساحلية من البلاد قادتها قوات مرتبطة بالنظام السابق، إذ قُتل أكثر من 100 شخص من إدلب وحدها وفقا لبعض التقارير، وأُعدم الكثير منهم في كمائن بدأت في 6 مارس/آذار.
وانتشرت صور لجثث شابة ملطخة بالدماء ببزاتهم العسكرية ممددة على الطرقات. وهرعت قوات وأفراد مسلحون من جميع أنحاء البلاد لضمان إفشال أي محاولة لاستعادة الأراضي بمساعدة خارجية. وتلت ذلك عمليات قتل انتقامية ضد أفراد من المجتمع المحلي، وإن لم يتضح من نفذها، وكم عدد المدنيين من بين مئات القتلى.
وسارعت الحكومة إلى تشكيل لجنة تحقيق وتعهدت بمحاسبة المسؤولين عن عمليات القتل. ويزعم البعض أن المقاتلين القادمين من إدلب نفسها كانوا أقل عرضة لارتكاب الانتهاكات بسبب سنوات من الانضباط تحت قيادة “هيئة تحرير الشام”.
وبحسب بيان صادر عن مجموعة الأزمات الدولية في 10 مارس/آذار، كان لدى “هيئة تحرير الشام” في أوائل ديسمبر/كانون الأول نحو 30 ألف مقاتل، في حين بلغ إجمالي عدد مقاتلي جماعات المعارضة الأخرى نحو 80 ألف مقاتل.
وسواء كان الجنود المدربون في إدلب والذين قضوا سنوات في صفوف “هيئة تحرير الشام” هم الذين يقفون وراء عمليات القتل الانتقامية خارج نطاق القضاء أم لا، فإن الطريقة التي تتعامل بها الحكومة التي شحذت مهاراتها في الزاوية الشمالية الغربية من البلاد مع الوضع الحالي بعد أن وصلت إلى دمشق سوف تؤثر على الكثير من الأمور الأخرى داخل البلاد وخارجها.
وفي غضون ذلك، يُواصل المسؤولون هنا التأكيد على أن الكثير من الأمور الأخرى ستتحسن إذا رُفعت العقوبات، وإذا لم يحدث ذلك، فقد تصبح الأمور غاية في الصعوبة في وقت قريب جدا.
المجلة
—————————-
طاعون الاستبداد/ غزوان قرنفل
تحديث 25 أذار 2025
يمكن القول ابتداء إن الاستبداد هو حالة معاكسة لحركة الزمن وتطورات الحياة. هو تمامًا حالة على الضد من المستقبل، وعلى الضد من أي محاولات للاشتغال على صناعة المستقبل، لأن ذلك ببساطة يعني أن أولئك المشتغلين على التغيير هم بالضرورة يحاولون هدم صرح الاستبداد الذي يقف عائقًا في طريق الحياة والمستقبل.
الاستبداد لا يدمر الكرامة الإنسانية فحسب، ولا يصادر الحرية فحسب، الاستبداد بكل معنى الكلمة يحيون البشر والمجتمعات، ويحيل تلك الأخيرة إلى مجرد قطعان، مستلبة الإرادة ومسلوبة الكرامة، وهما الشرطان الضروريان لوجود الاستبداد وديمومته، لذلك يعمد المستبدون دائمًا وأبدًا لكسر إرادة الناس وسلبهم كراماتهم بمختلف الوسائل والأدوات حتى يتمكنوا من البقاء والاستمرار.
لا تصدقوا أبدًا أن يمنحكم المستبد قسطًا من حقوقكم أو حرياتكم، أو يتيح لكراماتكم فرصة أن تينع من جديد، لأن كل ذلك هي أدوات القوة التي تتمكنون بها من تفكيك بنيان الاستبداد وهزيمة المستبد.
والاستبداد المديد يتحول إلى طاعون يعشش في كل شيء، في الزوايا والطرقات والمدارس وحتى الغابات وفي عقول الناس وأفكارهم وفي تعليمهم والكتب التي يقرؤونها، يتحول الطغيان إلى هواء يتنفسه الناس ويألفونه لأنه يعيش بينهم ويصبح جزءًا من سلوك معتاد ومألوف لديهم، يتطبعون بطباعه شيئًا فشيئًا، فيتحول المجتمع إلى مجرد مستنقع للفساد والاستئثار والفقر وانهيار البنى الصحية والتعليمية وانتشار الدعارة وغياب القانون وفساد القضاء، وهذه كلها عوامل لبدء تحلل المجتمعات وانهيارها بشكل كامل.
سوريا كانت حقًا على عتبات المراحل الأخيرة من هذه الحال لولا أن قدّر الله أقداره ومكّن السوريين من إسقاط عصابة الطغيان، التي وفرت كل السبل وهيأت كل الظروف المناسبة لاستيلاد هذا الطاعون وانتشاره.
اليوم نحن على عتبات شيء مغاير تمامًا، نحن على سكة إعادة بناء منظومة الحكم والإدارة في جمهوريتنا الجديدة، وهي بالتأكيد مهمة شاقة وعسيرة، لكننا لا نملك خيارًا إلا أن نفعل، فالعمل على تطهير البلاد من هذا الطاعون يوجب علينا ابتداء تجفيف المستنقع الذي تستنبت فيه كل رذائل الاستبداد، وهو ما يوجب بالضرورة العمل على تفكيك أدوات السلطة وإعادة بنائها بعد وضع الشروط والآليات التي لا تتيح لها فرصة التغول مجددًا، ومنع تركز السلطة وأدواتها بيد شخص أو فئة أو مجموعة، بل توزيعها بتوازن دقيق على مختلف مؤسسات الحكم، بما لا يتيح لواحدة منها الاستئثار بالنفوذ وبسط هيمنتها على أخرى.
والحقيقة أننا كنا نعتقد أن هذا أهم ما يجب أن يحصل خلال المرحلة الانتقالية التي تشبه كثيرًا حالة انتقال المريض من غرفة العمليات إلى غرفة العناية المركزة والتي تتضمن مراقبة المؤشرات الحيوية للمريض وعما إذا كانت لديه استجابة لآلية العلاج المتبع. لكن مع الأسف هذا لم يحصل، بل على العكس اتخذت ضرورات المرحلة الانتقالية سببًا وذريعة لاجتراح آليات تزيد من تركز السلطة بيد شخص واحد، ومسخ دور بقية السلطات إلى درجة تجعل منها ديكورًا مشوهًا وسيئ التنفيذ، ولزوم ما لا يلزم!
ولم يكن غريبًا بطبيعة الحال ذلك الهجوم غير المبرر من سواد المجتمع على كل من رفع صوته أو شرع قلمه بانتقاد الإعلان الدستوري، الذي كان أبلج تعبير عن جموح لا يحده حد نحو بناء منظومة سلطوية تسعى لبناء نمط للحكم وإدارة السلطات بشكل يوحي أنها لن تغادر السلطة أبدًا، ولن تسمح حتى بالمشاركة فيها، فالمجتمعات المعطوبة بالاستبداد المديد ليس من السهل عليها الخروج من كهف الطغيان لأنها ألفت العتمة والجهل بما يحصل خارجه من تطورات، الأمر الذي يشبه حالة الديناصورات التي لم تستطع أن تتكيف وتتواءم مع شروط الطبيعة المتغيرة ما أدى إلى انقراضها.
وفي حين أنك تعتقد أنك تسعى لحماية حقوق هؤلاء وتحاول أن تحجب عنهم أي فرصة أو مسعى لإعادة إنتاج الشروط التي حولت حياتهم جحيمًا، تجدهم يصلبونك ويجلدونك ويخونونك لأنهم يظنون أنك تعبث بمكاسبهم المتخيلة لمجرد أنهم تخلصوا من منظومة سلطوية قاتلة، دون أن ينتبهوا أن ما يحصل الآن هو تكرار لإعادة تصنيع نفس المنتج ولكن بغلاف مختلف.
لسنا واهمين أن التحول الديمقراطي الذي نأمله ونشتغل عليه لن يتحقق في اليوم التالي لسقوط نظام برع في تدمير الحياة بكل معانيها وتجلياتها، وأن هذا التحول حتى يحصل يستلزم زمنًا وجهدًا خارقًا، ليس فقط على مستوى منظومات ومؤسسات السلطة البديلة وإنما أيضًا على مستوى مختلف الشرائح والبنى المجتمعية السورية، لمعالجة العطب النفسي الذي نعانيه جميعًا بمستويات مختلفة، وتصحيح التشوه المعرفي والثقافي في المجتمع بما يجعل هذه البنى مؤهلة حقًا للتأسيس لمستقبل مغاير في مفاهيمه وشروط عيشه عما عاشوه سابقًا، لكن الأهم دائمًا أن تكون هناك نقطة بداية لفعل ذلك، فالبدايات الصحيحة ستقودنا دائمًا لخلاصات ونهايات صحيحة بالضرورة.
لكن مع كل أسف مرة أخرى أقول إن بدايتنا اليوم ليست صحيحة على الإطلاق، ولا تؤشر حقيقة إلى أي ملمح يوحي ببدء رحلة التعافي من طاعون الاستبداد أو على الأقل بالاستعداد لفعل ذلك، وأعتقد جازمًا، إن لم نصحح منذ الآن مسار تلك البداية، أن نهاياتها وخلاصاتها ستكون، لا قدر الله، أسوأ كثيرًا مما عشناه.
عنب بلدي
————————–
خارطة طريق لبرنامج العدالة الانتقالية والمصالحة: نحو عودة اللاجئين وبناء السلم الأهلي في سورية/ طلال المصطفى و محمد السكري
24 آذار/مارس ,2025
مثّل سقوط نظام الأسد في 8 كانون الثاني/ ديسمبر 2024، على يد إدارة العمليات العسكرية السورية، نقطة تحوّل في تاريخ سورية المعاصر من أجل بناء دولة مواطنة بعد استبداد دام لعقود طويلة، غير أن تحقيق السلام والاستقرار المستدامين يتطلب جهودًا متكاملة لمعالجة التداعيات وإعادة ترميم النسيج الاجتماعي السوري، الذي يعتبر من تركة نظام الأسد. فعلى الرغم من المخاوف التي سبقت سقوط نظام الأسد، حول احتمال اندلاع مواجهات طائفية أو ارتكاب أعمال انتقامية واسعة النطاق، فإن حدوث شيء من هذا القبيل وارد، كما حصل في المواجهات العسكرية مع الفلول العسكرية للنظام الأسدي في الساحل السوري بشكل محدود. حيث ظلت تلك المواجهات محصورة في جبهات الميليشيات العسكرية المتصارعة مع محاولة تجاوز أي تداعيات طائفية من قبل الحكومة السورية على مستوى الخطاب والسياسات في مناطق الساحل السوري.
يُعدّ هذا النهج مؤشرًا يمكن البناء عليه في تهيئة الظروف الملائمة لبناء الثقة ما بين السوريين بعد سقوط نظام الأسد؛ شريطة الحد من التدخلات الإقليمية أو التجاوزات الفردية، وإخراج جميع الميليشيات الأجنبية، وإنشاء منظومة قضائية وأمنية حديثة قادرة على تحقيق العدالة الانتقالية، ومحاسبة مرتكبي الجرائم، وإنصاف الضحايا. ويتطلب ذلك، بناء نهج تكاملي إحدى قوامه تحقيق المصالحة الوطنية عبر إجراءات شفافة تضمن المساءلة والمصارحة المجتمعية والاعتراف والاعتذار، مستفيدةً من تجارب الدول التي مرّت بظروف مشابهة، بهدف توفير بيئة آمنة ومستقرة لجميع السوريين.
أما في ما يتعلق بملف اللاجئين والنازحين، فإن عودة ملايين السوريين إلى ديارهم تتطلب ضمانات حقيقية للأمن والمصالحة. فيمكن تسهيل عودتهم مما يسهم في إعادة بناء مجتمعاتهم وتعزيز التماسك الاجتماعي عبر تهيئة بيئة مناسبة وآمنة تتسم بالاستقرار، مما يساعد على الاستفادة بالحد المقبول من رأس مال اجتماعي وطني وسوري كبير أو ما يسمّى “هجرة العقول” شريطة تحقيق التدرج في ملفات التعافي ضمن سياق إعادة الاعمار المجتمعي السوري.
تحميل الموضوع
مركز حرمون
—————————-
في سوريا، مساعي أحمد الشرع للحفاظ على سلطة الرجل الواحد/ توماس بييريه
ترجمت هذا المقال من الفرنسية فاطمة بن حمد.
في 13 آذار/مارس 2025، أصدرت سوريا إعلانا دستوريا يُنشئ نظاماً رئاسيا لفترة انتقالية مدتها خمس سنوات، أصبح بموجبه الرئيس أحمد الشرع رئيساً للدولة وللحكومة معاً، بعد إلغاء منصب رئيس الوزراء. وقبلها بيوم، أنشأ مرسوم رئاسي مجلس الأمن القومي الذي لا يضم سوى عسكري واحد إلى جانب الرئيس، وهو وزير الدفاع، والذي سيجالس وزراء الخارجية والداخلية ومدير جهاز المخابرات — للمقارنة، يضم مجلس الأمن القومي التركي ما لا يقل عن أربعة جنرالات (رئيس الأركان وقادة القوات البرية والبحرية والجوية).
يعكس هذان القراران مفهوماً شخصيًّا للغاية لممارسة السلطة لدى الشرع، فضلاً عن اهتمام قديم بموازنة نفوذ المؤسسة العسكرية، وهو اهتمام نابع من هاجس الإطاحة به من قِبل رفاقه في السلاح.
بناء شخصية “الفاتح”
منذ أول أيام المجموعة الجهادية “جبهة النصرة” التي أنشأها عام 2012، عمل من كان يُعرف آنذاك تحت اسم أبو محمد الجولاني بصبر على توطيد سلطته الفردية على التنظيم. ولتشكيل حرسه الشخصي، لم يجنّد قدامى الجهاد العابر للحدود، الذين كانوا آنذاك كثيرين بين المتمردين السوريين، بل رجالا وُلدوا مثله في ثمانينيات القرن العشرين، لهم خبرة محدودة في الكفاح المسلح. هذا هو حال أنس خطاب، الذي تقول شائعة إنه كان “أمير الحدود” في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق. والأكثر احتمالاً أن خطاب لم يلعب سوى دور ثانوي في تنظيم لم ينضم إليه إلا في عام 2008، عندما كان عمره 22 عاماً. وقد وُصف منذ عام 2013 بأنه “ظلّ الجولاني”، وكان مسؤولاً في البداية عن أمنه الشخصي، وهو اليوم يدير جهاز المخابرات العامة. كذلك بالنسبة إلى أسعد الشيباني، وزير الخارجية الحالي، الذي لم تكن له أي خدمات جهادية عندما أصبح رئيس المتحدثين باسم جبهة النصرة. أما الرجل الثالث الموثوق به، عبد الرحيم عطون، فهو الأكبر سناً، وهو أيضا لم يخرج من الظل إلا عندما جعله الجولاني المنظِّرَ الرئيسي لجبهة النصرة.
وبمساعدة المذكورين أعلاه، بنى الجولاني كاريزمته على الفور من خلال منح نفسه لقب “الفاتح” المبالغ فيه، بينما كان لا يزال مجرد قائد مجهول لمجموعة صغيرة. وإذا كان الغموض الذي يحيط به يستجيب جزئيا لاعتبارات أمنية، فإن تبدده التدريجي، الذي تم تنظيمه بمهارة، جاء ليعزز هالته كرجل موهوب. ففي عام 2013، أجرى أول مقابلة تلفزيونية مع قناة الجزيرة دون الكشف عن ملامحه. وبعد ثلاث سنوات، خرج أمام الملأ خلال خطاب أُعلن عنه بقوة من خلال حملات تشويقية نظمتها دعاية تنظيمه. ولم يقدم أبو محمد الجولاني نفسه رسميا باسمه المدني أحمد الشرع، الذي كشفته تسريبات منذ عام 2016، إلا نهاية عام 2024، بعد سقوط دمشق.
إقصاء الكوادر العسكرية
في الأثناء، تخلّص زعيم ما أصبح في عام 2017 هيئة تحرير الشام من أي شخص يمكن أن يحجب عنه الضوء داخل التنظيم. ومن جهتهم، انفصل المتشددون، المعارضون للقطيعة المعلنة في عام 2016 مع القاعدة، من تلقاء أنفسهم، لتشكيل فصيل منافس اسمه “حرّاس الدين”، الذي سرعان ما قضت عليه المسيرات الأمريكية. وتم استبعاد عناصر عقائدية أخرى، من بينهم رجال دين مصريون، حتى أن أحدهم اختُطف بعد أن لجأ إلى الفصائل المنافسة في الجيش الوطني السوري الذي ترعاه تركيا.
ويثقل كاهل الشرع أكثر من غيرهم القادة المحليون الأقوياء والذين يحتلون أعلى المناصب العسكرية في التنظيم. نذكر منهم أمير القلمون (الحدود الشرقية للبنان) أبو مالك التلي، الذي كوّن غنيمة حرب ضخمة بفضل التهريب وخطف واحتجاز الرهائن. تم نقل أهم ملازمي التلي خارج فرقته، قبل أن يترك بنفسه التنظيم ويتم وضعه وراء القضبان عام 2020. وقد تم اعتقاله بقيادة أبو ماريا القحطاني، زعيم المقاتلين المتأتيين من محافظة دير الزور الشرقية، والذي سُجن بدوره في 2023 في إطار حملة تطهير واسعة استهدفت 700 عضو من هيئة تحرير الشام، اتُهموا بالتجسس لصالح دول غربية. واغتيل القحطاني من قبل عضو من تنظيم الدولة الاسلامية – بحسب الرواية الرسمية.
وتم إقصاء كوادر هامة أخرى من السلطة العسكرية عن طريق ترقيات في إدارة إدلب المدنية، منها إدارة تصريف المراكز الحدودية. من بين هؤلاء، الأخوان قتيبة وحذيفة البدوي، اللذان يرأسان اليوم الجمارك السورية. وتم تعيين آخرين على رأس شركات احتكارية كانت تشتغل في القطاع المتمرد، على غرار أمير حلب عبد الرحمان سلامة، الذي أصبح رجل أعمال في مجال البناء. وفي 2020، تم تعويض “الجيوش” المحلية التي كانت هيكل هيئة تحرير الشام بستة عشر لواء مرقم، بينما تم تعيين مرهف أبو قصرة، وهو شخصية ودودة لكن ليست بتلك الأهمية، رئيس أركان التنظيم. وصار أبو قصرة، بعد سقوط النظام، وزير الدفاع. وجدير بالذكر أن حافظ الأسد قد أعطى خلال فترة حكمه نفس المنصب لمصطفى طلاس، ذي الشخصية الخادعة و التأثير المحدود في الجيش – بنفس قدر إمكانيته المحدودة في تنظيم انقلاب ضد الأسد.
فرّق السلطة تسد
نلاحظ وجود أجانب في رتب عالية داخل الجيش الجديد. فثلاثة من أصل ستة جنرالات الكتائب الأوائل الذين تم تعيينهم في بداية 2025 أجانب بالفعل، وهم على التوالي أردني وتركي وأويغوري. يمكن تفسير ذلك أيضا في ضوء توجّس الشرع من التهديدات الداخلية. وتتعزز هذه الفرضية بحقيقة أن اثنين من هؤلاء الجنرالات الأجانب قد وُضعا على رأس وحدات هامة لحماية النظام الجديد، وهي الحرس الجمهوري وفرقة دمشق. وبما أنهم محرومون من الجذور الاجتماعية في سوريا و“غير مرغوب فيهم” في بلدانهم الأصلية، فإن الأجانب يعتمدون بشكل كبير، من أجل بقائهم، على استعداد السلطات السورية — وبالتالي الشرع — لذلك. وقد يشكلون في هذا الصدد مرادفا معاصرا للحرس القوقازي (الشركسي والشيشاني) الذي استعانت به المملكة الأردنية المجاورة منذ تأسيسها.
وبالمثل، يبدو أن قرار تكليف بعض الفِرق (في إدلب ودرعا والبادية، أي الصحراء الوسطى)، والمحافظات (حلب وريف دمشق)، والوظائف الأمنية في المناطق الحساسة (مثل الساحل الغربي للبلاد) لقادة من فصائل كانت معادية سابقاً، مثل “أحرار الشام”، و“صقور الشام” أو “الجبهة الشامية”، يهدف إلى تجنب التركّز المفرط للمسؤوليات بين أيدي قادة هيئة تحرير الشام.
بينما كانت أجهزة الجيش في ظل النظام السابق (المخابرات العسكرية والجوية) متورطة بعمق في مهام القمع الداخلي، حتى في وقت السلم، انكبّ الشرع قبل الاستيلاء على دمشق بوقت طويل على بناء مؤسسة أمنية “مدنية”، بمعنى أن هيكلها القيادي منفصل بوضوح عن الجناح العسكري لهيئة تحرير الشام. هكذا وُلدت إدارة الأمن العام في عام 2020 تحت إشراف أنس خطاب، المذكور سابقاً. وفي آذار/مارس 2024، تم فصلها رسمياً عن هيئة تحرير الشام لتصبح وكالة تابعة لحكومة الإنقاذ السورية، وهي السلطة التنفيذية المدنية المكلفة بإدارة منطقة إدلب المتمردة. وأصبح أعضاؤها، الذين يمكن التعرف عليهم من خلال زيهم الأسود، المسؤولين الرئيسيين عن حفظ النظام في المناطق التي تمت السيطرة عليها حديثا منذ كانون الأول/ديسمبر 2024.
تشير الطريقة التي وصل بها الشرع إلى رأس منظمته ثم الدولة السورية إلى أنه أقل انشغالا بتعزيز أيديولوجية أو منظمة ما، من اهتمامه بترسيخ سلطته الفردية، بطريقة يمكن أن توصف تقريبا بأنها مَلَكية أو، بشكل أدق، “بونابرتية” (مستوحاة من الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت)، لأنها تأتي بعد الثورة بدلا من أن تكون مضادة لها، فهو يؤكد أنه يريد وضع حد للثورة باسم مكتسباتها. كما أن مفهوم الشرع للتمثيل السياسي يسير في نفس الاتجاه، إذ لم يكن المجلس الاستشاري الذي أنشأه في إدلب مخصصا لتمثيل حركات سياسية (بما في ذلك حركته) بل لتمثيل خبراء وأعيان (تجار أو زعماء قبائل) يتحدثون باسم المجتمعات المحلية التي ينتمون إليها. وبالمثل، منذ أن استقر في القصر الرئاسي في دمشق، رفض الشرع بإصرار استقبال قادة الأحزاب السياسية، مقتصرا لقاءاته على قادة الفصائل والزعماء الدينيين من مختلف الطوائف، ورجال الأعمال، وبالطبع الوفود الأجنبية.
إن التطرف الأيديولوجي المستقبلي للنظام ليس السيناريو الأكثر احتمالا، ولئن لم يكن مستحيلا. يُظهر المسار السياسي للرئيس الحالي أنه غالبا ما يعتبر أن الجناح العقائدي في منظمته تهديد يجب أن يحمي نفسه منه. ومع ذلك، فإن مفهومه الشخصي للغاية للسلطة هو على الأرجح نبأ سيء للسوريين، الذين يطمحون أولا إلى رؤية بلادهم تخرج من عهد الاستبداد.
توماس بييريه
زميل باحث في معهد الأبحاث والدراسات حول العالمين العربي والإسلامي، جامعة إيكس مرسيليا، المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي.
أوريان21
—————————
====================
====================
الإعلان الدستوري لسوريا 2025-مقالات وتحليلات- تحديث 25 أذار 2025
تحديث 25 أذار 2025
————————-
كيف استقبل السوريون مسودة الإعلان الدستوري؟/ مثنى عبد الله
تحديث 25 أذار 2025
في مثل هذه الأيام من عام 2011 كانت انطلاقة الثورة السورية، وخلال 13 عاما من الحرب التي قادها بشار الأسد ضد شعبه، بمساندة من أطراف إقليمية ودولية، ارتكبت فيها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لم يكن أحد يتصور أن هدف المعارضة المسلحة، الذي لم يتحقق لأكثر من 13 عاما، سيبصر النور في غضون 12 يوما فقط بمعركة «ردع العدوان» بقيادة هيئة تحرير الشام والفصائل المنضوية تحت لوائها، حيث فر الطاغية في 8 ديسمبر/ كانون الأول وسيطرت الهيئة على دمشق، لتتقاطر الوفود العربية والأجنبية على سوريا، في رسالة اعتراف واضح بالسلطة الجديدة، مع طي صفحة حكم آل الأسد وحلفائهم من الإيرانيين والروس.
واليوم يتم الإعلان عن توقيع الرئيس السوري أحمد الشرع، على الإعلان الدستوري، بعد أن أنهت لجنة الصياغة العمل به، مؤكدة التزام الدولة بوحدة الأرض والشعب، واحترام الخصوصية الثقافية، والحرص على الحقوق والحريات لخلق توازن بين الأمن المجتمعي والحرية. ولا شك أن هذا الفعل السياسي يأتي في مرحلة حساسة، كحاجة مُلحّه، لعدم وجود دستور بعد تعليق العمل بالدستور السابق.
وقد حددت الوثيقة الدستورية، المرحلة الانتقالية بخمس سنوات، واتخذت من الفقه الإسلامي مصدرا أساسيا من مصادر التشريع. كما نصت على الفصل بين السلطات، واحترام الحريات وحقوق المرأة وحرية التعبير والصحافة، وتشكيل لجنة لكتابة دستور دائم للبلاد. لكنه كما حصل على تأييد البعض من الشعب السوري، عارضه وانتقده آخرون، وقد تلخصت الاعتراضات على الاعلان الدستوري حول عدد من المواد الواردة فيه. فقد رأى البعض أن النص في المادة الأولى منه على أن سوريا جمهورية عربية، كان يمكن الاستغناء عن كلمة العربية من أجل لم شمل جميع السوريين، على اعتبار أن التصريح بذلك قد استثنى المكونات الأخرى. كما أن المادة 13 تحدثت عن حرية التعبير من دون تجريم العنف والكراهية والدعوات الطائفية والعنصرية، التي هي أحد التحديات الخطيرة التي ظهرت في الأحداث الأخيرة. أيضا كانت هنالك اعتراضات على المادة 14، التي تحدثت عن تشكيل مجلس شعب ثلثه يتم تعيينه من قبل رئيس الجمهورية، ما يساعد الرئيس على الاستفراد بصناعة القرارات، كذلك المادة 31 التي ألغت منصب رئيس الحكومة، وهذا يعطي رئيس الجمهورية صلاحيات تنفيذية، بالإضافة إلى الصلاحيات التشريعية التي أعطته أياها المواد 32 و39. فقد سمّت الأولى رئيس الجمهورية قائدا عاما للقوات المسلحة، وأعطته الثانية الحق بالاعتراض على القوانين التي يقترحها مجلس الشعب. أما ما يخص المادة 49 البند 2 التي قالت، إن التجريم سيكون بأثر رجعي على مرتكبي جرائم الحرب من عناصر النظام السابق، فقد نالت اعتراضات كثيرة، على اعتبار أنها لم تأت على ذكر جرائم كثيرة ارتكبتها الميليشيات الإيرانية والروس.
وقد تركزت الأصوات المعارضة للإعلان الدستوري بين الدروز والأكراد بشكل خاص، حيث اعتبر مجلس سوريا الديمقراطي، أن الدستور الانتقالي لا يتماشى مع الاتفاق الذي تم توقيعه بين قسد والحكومة السورية، وقالوا إنه يمثل تراجعا عن التفاهمات التي تم التوصل إليها، بل إنهم يطعنون في شرعية اللجنة التي عملت على صياغته، حيث إن تشكيلتها استثنت مكونات عديدة من الشعب السوري على حد قولهم. ويضيفون على ذلك بالقول، إنه كان من المفروض وجود أشخاص في هذه اللجنة من المكون الكردي والمكون الدرزي والمكون العلوي، لكن السلطات الجديدة حرصت على أن تكون التشكيلة من لون واحد، ما أعطى صورة عدم التشاركية، فنتج عن ذلك قصور في البنود الواردة في الإعلان، حيث أن أغلبها لا تعطي الحقوق للتعددية الثقافية. ويضربون مثلا على ذلك بالقول إن المادة الرابعة تحدثت عن موضوع اللغة العربية، لغة رسمية للبلاد، من دون الإشارة إلى احترام التعددية اللغوية الموجودة في سوريا. أما الطائفة الدرزية فقد أعلن زعيمها الروحي حكمت الهجري، رفضه للإعلان الدستوري متهما الرئيس أحمد الشرع بمحاولة تأسيس ديكتاتورية جديدة، وطالب بفصل السلطات وتوسيع صلاحيات الإدارة المحلية، مع الحد من صلاحيات الرئيس، ورفض سياسة الأمر الواقع بلون واحد على حد تعبيره. لكن الرجل يبدو أنه لم يعد يمثل كل طائفته والدليل على ذلك اتفاق الحكومة مع مجموعة أخرى من أهالي السويداء. وهنا لا بد من القول إن اعتراضات الدروز والأكراد على الإعلان الدستوري كانت متوقعة، لأنها نابعة من كون توجهاتهم علمانية، وهم يرون في بنوده رسائل واضحة باتجاه أسلمة الدولة السورية.
أما المُرحبون بهذه الوثيقة الدستورية فقد عبروا عن ثقتهم فيها بالقول، إنها في مجملها جاءت جيدة، خاصة في ما يتعلق بالبنود التي تحدثت عن الحريات العامة وحقوق المرأة وتجريم تمجيد نظام الأسد ورموزه. وقد عزا البعض هذا التأييد بسبب التوجه الإسلامي الواضح في الشارع السوري، حيث إن بنوده تطرقت إلى حالة قريبة من الشعارات التي أطلقوها في بداية الثورة السورية. كما أنهم يبررون طول الفترة الانتقالية التي حددتها الوثيقة الدستورية بخمس سنوات، على أنها ضرورة تطلبتها المرحلة حتى موعد كتابة دستور دائم للبلاد، ويجب أن تكون القرارات المركزية بيد الرئيس أحمد الشرع في هذه الفترة.
يقينا أن مستلزمات المرحلة الانتقالية هي التي فرضت هذا التوجه الذي رأيناه في الإعلان الدستوري، رغم أن أغلب بنوده هي بنود صادرة في دساتير سورية سابقة. فمن الناحية السياسية هي مرحلة توصف بأنها صعبة في سوريا، وهي حالة شبيهة بكل مرحلة انتقالية أخرى في أي مكان في العالم، حيث تكون البلاد في حاجة إلى حكومة مركزية تكون فيها السلطات غير متنافرة وإلى رئيس قوي. لكن على العموم هذا الإعلان الدستوري ورغم الترحيب والاعتراض فهو جزء من إعادة تشكيل سوريا، والتعويل يجب أن يكون منذ الآن على الدستور الدائم الذي لابد أن يكون مُحددا أكثر، وأن تكون الخبرات القانونية والدستورية السورية الكثيرة جدا مدعوّة للمساهمة في كتابته، وكذلك تكون الإرادة السياسية كافية أيضا.
وحسنا فعلت السلطات الجديدة في دمشق حين ضمّنت في الإعلان الدستوري عودة سوريا الى حاضنتها العربية، بعد أن كانت مُختطفة من إيران. ويبدو أن ما دفعهم لذلك هو تاريخ سوريا العربي وجغرافيتها العربية، ووجود توازنات إقليمية أقوى منهم في الإقليم، مثلا تركيا كانت تنوي التدخل في الشمال، وإسرائيل تدخلت في الجنوب كي تحمي الدروز، وفي الساحل هنالك مسلحون مدعومون من إيران وربما روسيا. لذا لا بد من العودة إلى الجذور.
كاتب عراقي
القدس العربي
————————
====================
====================
عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 25 أذار 2025
تحديث 25 أذار 2025
————————-
في الجولان السوري المحتل: الآثار في خدمة الاستعمار/ تيسير خلف
25 مارس 2025
أنفق الرعيل الأول من علماء الآثار الصهاينة قرناً كاملاً في إرسال بعثات استكشافية إلى الجولان، بحثاً عن قصص الكتاب المقدس وآثارها المتخيلة، بغية تأسيس مستوطنات ليهود شرقي أوروبا في هذه المنطقة الحيوية إضافة إلى مناطق أخرى مجاورة لها في فلسطين وشرقي الأردن وحوران.
من أبرز المستكشفين المبشرين الذي زاروا الجولان ودرسوا آثاره عالم اللاهوت إيلي سميث (1801- 1857) وويليام.م تومسون (1806- 1894) وإدوارد روبنسون (1794- 1863)، والذي سيكون له أكبر الأثر في تأسيس علم الآثار الكتابي. وعموماً، لا تخرج بحوث روبنسون عن إطارها الكتابي المُغرق في لاهوتيّته، فالتاريخ والآثار يجب أن يخدما التبشير الأنغليكاني، وإلا فلا داعي للتطرّق إليهما، والدليل على ذلك إهماله المتعمّد الحديث هوية قلعة الصبيبة العربية التي بنيت زمن الأيوبيين، وإشارته غير الرزينة إلى أن الفينيقيين هم الذين بنوها! ومن أجل هذا تعجّ أبحاث روبنسون وصاحبه إيلي سميث بالاجتهادات النظرية من دون أن تستند إلى معطياتٍ آثارية يعتد بها، أما صديقهما الثالث المستر ويليام .م تومسون صاحب الدليل السياحي “الأرض والكتاب”، فكان يعيش في عالمٍ غير مرئيٍّ أبطاله نصف قبيلة مناشيه والدانيين وغيرهم من أسباط بني إسرائيل!
ويمثل سيلا ميريل (1837- 1909) الجيل الثاني من علماء الآثار التوراتيين الأميركيين الذين قصدوا “الأراضي المقدسة” بحثاً عن جغرافيا الكتاب المقدّس التي كانت تشغل رجال الدين الأنغليكان بشكل خاص آنذاك. وفي أثناء أعماله الاستكشافية في منطقة جنوب الجولان في 6 مارس/ آذار 1876، لم يخف ميريل تطلعه إلى توطين شعبٍ “متحضّر” في هذه الأراضي حيث يقول: “وإذا ما خضعت سورية يوماً لحكومة صالحة وقطنها شعب ذكي متحضر، فإن هذه الينابيع (الحمّة) سوف تصبح، من دون ريب، واحداً من أروع المنتجعات المائية في البلاد كلها”. ولكن، وبعد 15 عاماً كان هو نفسه واحداً من أشد معارضي مذكّرة بلاكستون (العضو الفعال في الكنيسة التدبيرية)، التي يعتبرها كثيرون الوثيقة الصهيونية الأولى الداعية إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين عام 1891، أي قبل كتاب هيرتزل “دولة اليهود” والمؤتمر الصهيوني الأول بسنوات.
مشروع استيطاني
ولم يكتف النائب السابق في البرلمان البريطاني لورانس أوليفانت (1829- 1888) برحلةٍ استكشافيةٍ على خطى رجال الدين الانغليكان الذين سبقوه، بل حمل في 1879 مشروعاً متكاملاً للاستيطان اليهودي في فلسطين وشرق الأردن، بما فيه منطقة الجولان، وعرضه على السلطان عبد الحميد، غير أن السلطان رفضه بتحريضٍ من المسيحيين العرب، كما قال في مقدّمة كتابه “أرض جلعاد” الذي يبسُط فيه أفكاره حيال هذه الأرض بمعزلٍ عن سكانها الأصليين، فالهاجس المسيطر عليه، بفعل أفكاره الإنجيلية المغرقة في تطرّفها، تقريب موعد القيامة عبر إعادة اليهود إلى الأراضي المقدّسة الواقعة على جانبي وادي الأردن، حسب الفهم الكتابي (التوراتي). ولذلك تجده في مقدّمة كتابه يحاول أن يبرّر هذا الأمر منطقياً، بعرضه مجموعةً من الاحتمالات التي تستقر على اليهود وحدهم.
وبحسب مشروعه الاستيطاني الذي يهدف إلى النهوض بواقع السلطنة العثمانية، وتخليصها من عثراتها، يقترح تأسيس شركة مساهمة لإقامة مستوطنةٍ أو مستوطناتٍ في مناطق مختلفة من فلسطين والجولان وشرق الأردن، ويعرض بطريقة “المنطق الصوري” جلب مستوطنين غربيين مسيحيين إلى هذه المستوطنات، ولكنه يقرّر أن الأوروبيين يتطيّرون من فكرة أن يصبحوا رعايا تحت حكم السلاطين العثمانيين، ثم يقترح توطين المسلمين الذين أخرجوا من ديارهم في بلغاريا ورومانيا ومعظمهم من الشراكسة المهجرين سابقاً من شمال القوقاز، لكنه يشكّك برغبة الدول الأوروبية في تمويل مثل هذا المشروع الذي يخص المسلمين وحدهم. ولذلك الحل السحري الذي يخرُج به هو اليهود، وخصوصاً يهود أوروبا الشرقية الذين يعانون من اضطهادٍ يجعلهم يفضلون العيش تحت حكم العثمانيين من أن يبقوا تحت حكم الدول التي يعيشون بكنفها، نظراً إلى التسامح والرعاية اللذين يسبغهما السلاطين العثمانيون على رعاياهم اليهود، تلك الرعاية الموثقة بفرمان للسلطان عبد المجيد عام 1840.
شوماخر ومدرسة التلفيق الآثاري
وفي أواخر القرن التاسع عشر، استكمل المهندس الألماني غوتليب شوماخر (1857- 1925) عمليات استكشاف الجولان لصالح الجمعية الألمانية لاستكشاف الأراضي المقدّسة، وصدر كتابه “الجولان” بالألمانية والإنكليزية مرفقاً برسوم توضيحية وخريطة تضم معظم أجزاء الجولان التاريخي، باستثناء الجزء الشمالي الغربي، وساد انطباع عام لدى الأوساط الأكاديمية الغربية أن شوماخر درس كل شيء ومحّصه، ولم يعد هناك ما يغري الباحثين لخوض غمار استكشاف هذا الإقليم الذي يعدّ جزءاً رئيساً من الأراضي المقدسة.
ورغم الجهد الكبير الذي بذله شوماخر في دراسة المظاهر الطبيعية والسكانية والوقائع التاريخية واللقى الأثرية، إلا أنه بقي أسير النظرة الاستشراقية الاستعلائية التي تختزل التاريخ العربي للجولان ببضع كلمات، فها هو يختزل 13 قرنا ببضع جمل قال فيها: “بعد الهزيمة الدامية للبيزنطيين عند نهر اليرموك (634) في أقصى الطرف الجنوبي للجولان، سقطت هذه البلاد مع سورية بأكملها في يد العرب، الذين لم يخلدوا ذكرهم هنا، رغم ذلك، إلا من خلال معالم ذات هندسة رديئة”.
والغريب أن الأحكام القطعية التي أطلقها شوماخر امتدّت أيضاً لتمنح اليهود فضل بناء أبنيةٍ كثيرة لا دليل على يهوديتها سوى وحدات زخرفية، تمثل نصف دائرة، قد تكون تساعية الشعب أو عشاريتها، تَصوَّر هو، كما تَصوَّر ميريل قبله، أنها قد تشبه الشمعدان اليهودي! ولذلك يطلق شوماخر حكماً قطعياً بأن هذه الأبنية “ذات شخصية يهودية لا شك فيها، وتثبت خصائصها المعمارية أن المقدرة اليهودية استطاعت أن تجعل نفسها ملموسةً بشكلٍ صريح حتى بالقرب من التفوّق الروماني”، حسب تعبيره الحرفي. وعلم الآثار الصهيوني المعاصر في دولة إسرائيل مدينٌ لشوماخر بجميع المبادئ والأسس التي بنى عليها رؤاه المتخيلة لآثار الجولان، فحتى هذه اللحظة ما زال علماء الآثار الصهاينة يرددون الخرافات نفسها التي أطلقها شوماخر في نهايات القرن التاسع عشر، رغم تقدّم هذا العلم وخروجه من القوالب النمطية التي كرسها روبنسون وشوماخر حول تاريخ الجولان وآثاره.
تغييب الآثار العربية الإسلامية
وبشأن التصوّرات التي يحاول علماء الآثار الصهاينة الإسرائيليون تكريسها عن آثار الجولان، فقد يسلّط هؤلاء الضوء على أثر عادي يمكن العثور عليه في أي مكان، لغايةٍ في نفس يعقوب، وقد يتجاهلون موقعاً عظيماً شامخاً للسبب نفسه.
وعلى سبيل المثال، ضخَّم علماء الآثار الإسرائيليون من بعض المواقع، مثل “خربة كنف”، أو “خربة عين النشوط”، أو “قلعة السنام”، أو “خرائب دبورة”، بسبب زعمهم أنها تضم كنساً يهودية بنيت في الفترة البيزنطية. ورغم أن هذا الكلام لا يصمد أمام أي محاكمةٍ عقلية، إلا أنهم يصرّون على القول إن الحقبة البيزنطية شهدت ازدهاراً في الاستيطان اليهودي في الجولان، غير مثبت إلاَّ في كتب الهالاخاه والتلمود. أما المواقع الشامخة العظيمة مثل آثار بانياس وقلعة الصبيبة وِفِيْق وكفر حارب ذات الهوية العربية الإسلامية، فلم يولوها أدنى اهتمام، لأنها تدحض مزاعمهم.
وبما أن علم الآثار لم يقدم أي قرينة تدعم ادعاءات الصهاينة بوجود آثار عبرية في الجولان، فإن البحث لا يزال جارياً على قدم وساق عن أي قطعة فخار، أو حجر عليه رمز ما، أو عملة نقش عليها اسم ملك يهودي مزعوم. وجميع الدلائل التي ساقها علماء الآثار الإسرائيليون على يهودية بعض المواقع في الجولان استنتاجية تعتمد على تفسير رموز تستخدم لدى البشرية جمعاء على أنها يهودية خاصة، مثل رمز الأسد أو الحمامة أو الأفعى أو قرط العنب. أما الأدلة الفاقعة الدامغة التي لا تقبل مجالاً للشك فهي العائدة إلى الحقبتين المسيحية والإسلامية، حيث تشير الكتابات والرموز إلى تجذّر هاتين الديانتين في الجولان، وخصوصاً الديانة المسيحية التي لا يخلو بيت من القرى المعروفة بأن فيها آثاراً بيزنطية، من رمز الصليب أو كتابة يونانية مسيحية.
20 كنيساً يهودياً شرقي بحيرة طبريا؟
تتحدّث البعثات الأثرية الإسرائيلية عن عثورها على أكثر من 20 كنيساً يهودياً في منطقة صغيرة شمال شرق بحيرة طبريا، وهو ما يعتبرونه دليلاً على أن سكان هذا الموقع من الجولان كانوا يهوداً في العصر البيزنطي. المعضلة الجوهرية في هذه الادعاءات أنها ظنّية، تعتمد على الحدس والرموز أكثر من اعتمادها على أدلة دامغة، فالكنس العشرون المزعومة هي أبنية عادية لا يوحّدها اتجاه، علماً أن أحد المباني المندثرة في قرية نعران صنّف كنيساً فقط لأن واجهته تتجه نحو القدس! وعثر بالقرب من بعض هذه الكنس المزعومة على زخارف لرموز نباتية وحيوانية كانت شائعة في ذلك الزمن مثل عقدة هيراكليس، أو إكليل الغار، أو حمامة وأفعى وقرط عنب. وهي رموزٌ يمكن أن نجدها في أي منازل أو كنائس في المنطقة، كما عثر على قطع فخارية قيل إن عليها أسماء متبرعين لبناء تلك الكنس، أما الشمعدانات فلها شعب مختلفة العدد، ثلاثية وخماسية وتساعية، وهي تعد على أصابع اليد الواحدة. وبالإضافة إلى ذلك هي موجودة في كنائس مسيحية إلى جانب الصلبان، وهو ما يثير شكوكاً حول وظيفتها ورمزيتها، حتى أن الباحثين باتوا على قناعة بأن الشمعدان كان رمزاً مسيحياً في الحقبة البيزنطية. وهناك زخارف قيل إنها شمعدانات تبين أنها شجرة زيتون مقدّسة إلى جانب الصليب. وهذا ما بدا واضحاً في الأسكفة التي تحدث عنها شوماخر في قرية بريقة، وادّعى أنها شمعدان يهودي فوق صليب مسيحي، بينما هي في الواقع رمز شجرة الزيتون المقدّسة عند المسيحيين. وينطبق هذا الكلام على الكنيسة المسيحية في قصرين، والتي جرى تحويلها إلى كنيس أثري من دون أي دليل دامغ على ذلك، وقد جرى ترميمُها بطريقةٍ توحي بأنها كنيسٌ حقاً، عبر إضافة مقاعد حجرية تحيط بالجدران من الداخل.
وينطبق الأمر نفسه على المبنى العام في قلعة السنام، أو جملة كما يسمّونها، فقد تم ترميم القاعة الكبيرة بالطريقة نفسها، أي إضافة مقاعد حجرية تحيط بالجدران، والدليل الذي تم اعتماده على يهودية هذه القلعة، عملة معدنية لا مثيل لها في العالم، كتب عليها “من أجل عزّة أورشليم”.
وفيما يخص كنيس الحمّة المزعوم، فقد اعتمد في تحديده على لوحة فسيفسائية لأسديْن، قيل إنهما يشبهان أسدي كنيس بيت ألفا في فلسطين، من دون وجود أي دليل آخر سوى كتابة باللغة الآرامية تتحدّث عن أسماء المتبرّعين ببنائه، وجميعهم ليسوا من سكّان الحمّة، بعضهم من كفر عاقب في منطقة البطيحة، وآخر من سوسيا وكفر ناحوم وعمواس وأربل. وما يلفت النظر أيضاً حسب تأكيدات البعثة الأثرية الإسرائيلية عدم وجود رموز أو شعاراتٍ أو عباراتٍ لها علاقة باليهودية، بل إن ما يزيد الأمر استغراباً وجود لقب لأحد المتبرّعين هو القمص، وهو لقب مسيحي قبطي معروف.
مصادر هلاخية شرعية
وقد أدّى اعتماد المصادر الهلاخية (الشرعية) في تحديد هوية بعض القرى الجولانية باعتبارها يهودية، إلى الوقوع في خيبة أمل لدى الباحثين الإسرائيليين، الذين أقرّوا بأن القرى التي يرد ذكرها في كتب الهلاخاه، وهي عينوش (التي قيل إنها العوانيش)، وعينحارة (؟)، ودمبر (؟) وعيون، ويعروت (؟)، وكفار يحريب (التي قيل إنها كفر حارب)، ونوب (التي قيل إنها ناب)، وخسفيه (التي قيل إنها خسفين)، وسمخ، لم يعثر في أي منها على أي أثر يهودي، بل عثر على آثار مسيحية، بينما قالوا إنهم عثروا على رموز يهودية في قرى لم تصنف في الهلاخاه بأنها يهودية!
ومن أمثلة يستخدمها بعض الباحثين الإسرائيليين للتدليل على هوية منطقة ما في الجولان بأنها يهودية، نذكر المثل الوارد في كتاب “الجولان في الحقبتين الرومانية والبيزنطية” لدان أورمان، الذي دلّل على أحد افتراضاته بما ورد في مدراش تناعيم في سفر التثنية: “قالوا: عندما انطلق هدريان على الطريق الصاعدة إلى الحمّة، وجد شابّة من إسرائيل.. قال لها: ما أنت؟ فقالت له أنا من بنات إسرائيل، فنزل عن جواده في الحال وركع أمامها”. ومع أن الباحث يقرّ بأسطورية هذا المدراش، إلا أنه يعتبره مؤشّراً يدعم فكرته.
كما يستشهد الباحث نفسه بنصّ حاخامي؛ يحاول أن يثبت من خلاله أن بيت صيدا كانت يهودية، والمثال يرد في اليروشاليمي شيكاليم ونصّه: “تقول تعاليم الحاخام شمعون بن غمائيل قال: ذهبت مرّة إلى صيدان (بيت صيدا) فجلب أمامي ثلاثمائة نوع من الأسماك على صينية واحدة”. ورغم إقرار الباحث بأن الأبحاث دلّت على عدم وجود أكثر من 18 نوعاً من الأسماك في بحيرة طبريا، إلا أنه يعتبر ذلك دليلاً غير مباشر على افتراضه.
عبثية المحاولات
عبثيّة محاولات الباحثين الإسرائيليين تتجلى بالبحث عن فترة ازدهار افتراضية للاستيطان اليهودي في الجولان، في المرحلة البيزنطية التي تعتبر ذهبيةً بكل المقاييس بالنسبة للديانة المسيحية، ليس في الجولان وفلسطين وعموم منطقة شرق المتوسّط فحسب، بل في العالم القديم أجمع. وهو ما يؤكّد على الغاية الحقيقية من كل تلك البحوث وهي دعم الاستيطان الصهيوني في الجولان بعلم الآثار، نوعاً من البحث عن مشروعية ما للاحتلال.
العربي الجديد
—————————
سورية بين وطنيّتَين/ عمار ديوب
25 مارس 2025
تكتمل الوطنية الجديدة في سورية، المؤسّسة على المواطنة باستعادة الجولان، ودعم قضايا التحرّر، وفي مقدّمتها فلسطين، إذ لا يمكن لشعبٍ أن يؤسّس لدولة المواطنة وجزء من أراضيه محتلٌ أو ألّا يبادر إلى موقف سياسي تجاه الدولة الصهيونية، سيّما أنها تحتل أرضاً لشعبٍ يشترك مع الغالبية السورية العربية. لا تتأسس الدول إلّا على القضايا العادلة، وفي مقدمة تلك القضايا، المساواة بين الشعب، ودعم قضايا التحرّر العربية والعالمية.
تتحدّد الوطنية بالعلاقة مع الخارج وبمسألة الأرض المحتلّة، وكذلك تتحدّد بجغرافية وشعب وسلطة دولة ما. لم تنبنِ الوطنية السورية في النظام السابق، الشمولي، بالاستناد إلى المواطنين بل بالاستناد إلى مفهوم الوطن والدفاع عنه. ساد هذا الفهم في سورية منذ سيطر العسكر على السلطة في 1963، وبالتدريج غابت الحقوق العامة وفُرضت الواجبات، وارتبطت الأخيرة بتنفيذ أوامر السلطة الحاكمة، ولم يعُد للشعب دور إلّا الطاعة، وعُومل كرعايا، وانتفت الحرّيات العامة، وتقلّصت حرية الفرد إلى قضاياه الشخصية، ولم يعد للسوريين أيّ حقوقٍ سياسية.
استقت السلطة هذا الفهم من الأيديولوجيات السائدة حينذاك، التي جاءت إثر إخفاق المشروع الليبرالي الوليد وديمقراطيّته في الخمسينيات التي لم تستطع إقناع الأكثرية، فابتعدت عنها لصالح الاشتراكية، والقومية، والشيوعية، والإسلام السياسي، متوهّمة أنّها ستتحصل على حقوقها وستستعيد فلسطين. وكان ارتباط العسكر بالأيديولوجيا القومية سبباً لتعزيز وطنيات جديدة في مصر وسورية والعراق بصفة خاصة، وتلبّست بخطابٍ قومي فوق وطني، وسادت وطنياتٌ أخرى في بقية الدول العربية.
ارتبطت الوطنية الجديدة بالتسلط والشمولية، وصار كلّ نقدٍ لها بمثابة أيديولوجيا معادية ومرتبطة بالخارج الإمبريالي، وضد الوطن وفلسطين، صار هذا الكلام أيديولوجيا سائدة وغير قابلة للتشكيك، أو حتى المساءلة، وهنا تتساوى الأيديولوجيا مع الكذب. وفي هذا الإطار، اجتُثّت الحريات العامة، وصارت السياسة بوصفها شأناً عاماً بمثابة مقتلةٍ لأصحابها، ولم يفتح بعد ملف الاعتقال السياسي منذ السبعينيات، ولم ينصف أصحابه، وهم بعشرات الآلاف ما قبل 2011 وبمئات الآلاف بعد هذا العام. عاش السوريون كذلك عقوداً متتالية، وضمناً أصبح كلّ عملٍ سياسيٍّ علني يمارس الكذب، أو المواربة في قول حقيقية الواقع، وهو حال أحزاب الجبهة الوطنية التقدّمية، وحال الأحزاب التي تشكلت بعد 2011 علنياً، وبموافقة من النظام.
حافظ الأسد يغادر القومية
لم يعد النظام قادراً على تحمّل هذه الأيديولوجيا، فقد صارت القومية والاشتراكية عبئاً كبيراً عليه. للدقة، تراجعت مفاهيم الاشتراكية والقومية مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة، وتقدّمت الأيديولوجيا الوطنية بالتزامن مع تفرّده بالسلطة، وجعلها له ولعائلته أولاً، ولكبار الضباط في الأجهزة الأمنية، ولقيادات حزب البعث ثانياً. مع حرب الثمانينيات، ارتبط مفهوم الوطنية بالجنرال حافظ الأسد أكثر فأكثر، وأُجهِز على القوى السياسية المعارضة، وانتهت الأصوات المعارضة مع بداية التسعينيات، وتلاشت مساحة النقد التي تمتّعت بها نسبياً أحزاب الجبهة الوطنية التقدّمية، التي كانت تأتمر أو تَضبط سياساتها وفقاً لما تريده الأجهزة الأمنية، ومع تتالي العقود، أصبحت مجرّد قوى ملحقة بالسلطة، ولا قيمة لنقدها الاقتصادي أو الوطني خاصة.
احتكرت السلطةُ الوطنيةَ، للإجهاز على الحرّيات العامة، ولمنع الانتقال نحو الديمقراطية، ومنع نقاش القضية الفلسطينية قضيةً قوميةً بامتياز، وأيضاً لتمارس الفساد والنهب من دون رقيب أو حسيب، وهذا أدّى إلى ابتذال كل المفاهيم، بما فيها مفهوم الوطنية، وأدّى ذلك إلى تراجع مضامين هذه المفاهيم في وعي السوريين تدريجياً، وأصبحت مواقفهم تجاه هذه المفاهيم، السخرية منها، وبذلك فَرضت السلطة سيطرتها الكاملة على المجتمع وقُواه، وبغياب مفاهيم الوطنية والقومية والاشتراكية، عاد المجتمع إلى قوقعته الأهلية، ليحمي ذاته، باحثاً عن معانيه ضمن دوائر ضيّقة للغاية، كالعائلة، والطائفة، والعشيرة، وضمناً تمسّكت الجماعات القومية، غير العربية، بقومياتها، لتشدّ من أزرها.
أيديولوجيا الفساد والكذب
عاشت سورية عقوداً بلا أيديولوجيا حقيقية إذاً، وعزّزت السلطة الفساد بكلّ أشكاله. وبالتالي، عاش السوريون، حالة من الكذب والنفاق واللفّ والدوران، لإبعاد سطوة القوى الأمنية، وتعمّمت مناخات الفساد والإفساد والكذب معاً، وهذا كان شاملاً لكلّ قوى المجتمع، المُفقَرة والثرية. وكادت الشمولية أن تصبح أبديةً في وعي أغلبية السوريين؛ إذ لم تكن هناك خيارات بديلة حقيقية، وانزوت جماعاتٌ سوريةٌ كثيرةٌ كي لا تتلوّث بالفساد والكذب، لكن حينما كانت تضطر إلى التواصل والتعامل مع مؤسّسات الفساد والكذب، فإنّه ينالها بعض الإفساد، وهذه المناخات تتناقض مع مفاهيم الوطنية والقومية والاشتراكية. وأُجبرت أغلبية سوريّة على الانخراط في حزب البعث ولاعتبارات شتّى: تدبر فرصة عمل، صفقة تجارية، وظيفة عالية في الدولة، الاشتراك في مؤسّسات أجهزة الاستخبارات أو الشرطة أو الجيش، وسواها، وكثيرون ممن كانوا في هذه المؤسّسات لم تكن لهم صلة بالمفاهيم المذكورة، وليس أدلّ على ذلكَ من التبرّؤ منها في سنوات الثورة الأولى، ومن دون أيِّ نقاشٍ لها، فهي لم تكن تعني شيئاً للشعب، عندما كان كثير منه في حزب البعث، أو يلهج بها لسبب أو لآخر.
الثورة وإشكالية الوطنية
مع الثورة، تعالت المطالبة بالحريات وبالكرامة وبالعمل، لكن مفهوم الوطنية لم يتعالَ، ولم تتقدّم شعاراتٌ مرتبطة بالجولان أو بفلسطين، أراد الشعب الخلاص من نظامٍ أغلق أمامهم كل الأبواب، واحتكر هو ومحاسبوه كل الفرص، الاقتصادية والسياسية طبعاً، وحتى الثقافية، بل وأدارت المؤسسات الدينية شؤونها بالتوافق مع سياسات النظام، وانحدرت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للأكثرية. لم تكن القضية الوطنية هي الأساس، ولا القومية، كان المأمول هو الخلاص من النظام أولاً، كما جرى في تونس ومصر وليبيا، حين تخلّصت من أنظمتها سريعاً.
تتعلق الوطنية، وعدا عمّا جاء أعلاه، بتحرير الأرض، الأرض المحتلة، والقومية تتعلق بفلسطين، وبمفهوم الوحدة العربية والعلاقات مع الدول العربية، والمواطنة بوصفها حقوقاً وواجبات تنظم العلاقات بين أفراد الشعب وعلاقتهم بالدولة. كانت مطالب الشعب الثورية داخلية بامتياز بدءاً من 2011، إذ تعامل الشعب مع الوطنية والقومية باعتبارهما من الأكاذيب الأيديولوجية للنظام، ولم تعنيانه. نعم غاب الجولان وغاب الموقف من الدولة الصهيونية، وكان حضورهما هامشياً، وحتى حينما كان الفلسطينيون يتعرّضون لحروب، كما كان يجري على غزّة أو الضفة الغربية أو أراضي الـ48، كانت ردود السوريين الثائرين هامشية. وللطرافة، حتى جمهور النظام لم يكن يعلن ما بعد 2011 أيّ مواقف ذات معنى ضد تلك الحروب، والمقصد هنا أن وعي كلية الشعب السوري استقرّ على أن أيديولوجية النظام الوطنية والقومية محضُ أكاذيب يوظفها لتأبيد نفسه، لكن غياب الحريات والأزمات العميقة التي يعيشها دفعته إلى أن يعلن ثورة شعبية، ومن أجل قضايا داخلية، اقتصادية وسياسية واجتماعية وسواها.
كان يمكن أن تَقرأ شعاراتٍ تتعلق بالجولان لدى قوى أقرب إلى اليسار، أو القوى الفلسطينية المناهضة للنظام والمشتركة بالثورة، وترفع شعارات استعادة الجولان وتحرير فلسطين، لكن هذه القوى كانت تتفق مع غالبية السوريين في أن تحرير الجولان أو فلسطين يأتي عبر إسقاط النظام السوري. إذاً هناك قضية اجتماعية بارزة، وإسقاط النظام سيفتح الأفق نحو حلّها والتفكيرِ بالمسألة الوطنية والقومية، لكن لاحقاً.
تأخّر الاهتمام بالمسألة الوطنية وبالفكرة الوطنية بسبب التوظيف الأيديولوجي الطويل للنظام لها، كما أوضحت السطور السابقة أعلاه، لكن ذلك لم يكن لصالح صياغة مشروع وطني للثورة، يتضمّن القضايا الاجتماعية والوطنية والموقف من دولة الاحتلال والعلاقة مع الدول العربية. وعدم إيلاء هذه القضايا الأهمية الواجبة، مع شدّة القمع والقتل والتهجير والتدخّل الإيراني باسم الشيعة، دَفع الصراع في سورية إلى الانتقال من صراع اجتماعي مناهض للنظام إلى صراعٍ طائفي في كثير من الأحيان، سيّما بعد عام 2013، إذ دفع الشكل الجديد للصراع المجتمع السوري إلى تسييس بناه الأهلية، والانطلاق منها في العلاقة مع الآخر، وسيطر هذا الشكل من الصراع على بقية أوجه الصراع، الاجتماعي والديمقراطي والاقتصادي وسواه.
المعارضة وافتقادها المشروع الوطني
المعارضة السورية، وبدلاً من أن تُعنى بالمشروع الوطني انساقت برؤاها نحو الشكل الطائفي، وتدريجياً، وحينما سيطر الصراع المسلح تهمّشت هي لصالح تنظيمات إسلامية عسكرية، تخوض الصراع مع النظام وحليفه الإيراني وحزب الله ولاحقاً روسيا، وجيء بتنظيم داعش ليخلط الأوراق أيضاً. في هذا الوضع تراجعت المفاهيم الوطنية والقومية لدى السوريين كثيراً، ومع طول سنوات الصراع، من 2014 وإلى 2025، لا سيّما بعد 2018، تهتّكت البنية الاجتماعية، بالتزامن مع تهشم وتعفن مؤسسات الدولة، والمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وكانت فترة ذهبية لسيطرة الدول الخارجية على “دويلات” قوى الأمر الواقع، وعلى أشكال الوعي السائد، والمتوافقة مع الانشغال الكامل بتدبر شؤون العيش الأوّليّة، وأصبحت غالبية السوريين تحت خط الفقر وفي كلّ هذه الدويلات.
لحظة رحيل النظام وضرورة الوطنية الجديدة
كان رحيل النظام لحظةً في غاية الأهمية، وكان كلّ تأخير فيها سيكون كارثياً ومعمّقاً للانقسام المجتمعي، وللتقسيم الإداري. كانت تلك اللحظة، بداية تأسيسٍ لوطنية جديدة. تنبهت إدارة العمليات العسكرية والسياسية لهذه الوطنية، فأرسلت، وهي تسيطر على المدن، رسائل إلى المسيحيين والعلويين والإسماعيليين والدروز، وحتى الأكراد، بأنها ساعية إلى تشكيل دولة لكلّ السوريين. كان هذا جديداً، تستقي هذه الرسائل مضامينها من مساواة السورين مع بعضهم، وإبعاد كلّ شكل للتقسيم، أو التمايز، فسقوط النظام سيحقق مصلحة كلّ السوريين، والمساواة في الحقوق والواجبات.
تضمّنت تلك الرسائل معانٍ تؤسّس لوطنية عابرة للطوائف والعشائر والقوميات، وتؤدّي إلى طرحٍ وطنيٍّ لقضية الجولان. حازت الإدارة الجديدة، على ثقة كبيرة من السوريين، المتخندقين طائفياً وقومياً، لكنها لم تستمر في السياق نفسه، ومع لحظة استلام الحكم، والإعلان عن الحكومة المؤقتة، وتأسيس الجيش، وبدء الانتهاكات في مدينة حمص وأريافها، واللاذقية، والخلاف مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ظهر أن الرسائل السابقة كانت أكبر من أن تُصبح نهجاً مستداماً، لم تتأسّس وطنية جديدة، كما كان مأمولاً، أي لم تكن سياسات الإدارة الجديدة لصالح كل السوريين، ولم تتأسّس المؤسّسات الجديدة للدولة على رؤى وطنية، فظهرت الغلبة لقيادات الإدارة الجديدة، الآتية من هيئة تحرير الشام وحلفائها.
أصبح في حكم الواقعة المقروءة أن الشعب يريد تأسيس وطنية جديدة، تُدار فيها السياسة وشؤون الدولة على أسس وطنية ومن دون أيِّ تمييز بين الشعب على أسس دينية أو قومية أو عشائرية أو مناطقية، بينما راحت الإدارة تبني دولتها على رؤية “إسلامية سلفية”، ومطعّمة بمفاهيم ضبابية عن العدل والمساواة والقانون، وحتى المواطنة. كل خطوات المرحلة الانتقالية حتى لحظة البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني الخاص بالإدارة، تعزّز من دور الإدارة في الهيمنة على الدولة وتأسيس مؤسستها الجديدة، لا سيّما الجيش والأمن والشرطة والقضاء والتعليم والاقتصاد كذلك. وبذلك، تعود الإدارة الجديدة إلى الوطنية السابقة، وطنية النظام نفسها، القائمة على تأبيد السلطة، وتسييس البنى الأهلية واصطدامها ببعضها، وضمن ذلك كان موقفها ضعيفاً تجاه تقدّم قوات الدولة الصهيونية إلى مناطق جديدة في القنيطرة ودرعا، وتهديدها الإدارة إن تمركزت قواتها في الجنوب السوري، وكذلك لم يُلمس موقفٌ قوي، حينما دمّرت أغلبية البنية العسكرية السورية بعد أيام من رحيل النظام السابق. لم يكن للإدارة موقف وطني جاد، كأنّها تقرأ السيادة الوطنية بعين النظام القديم، الذي لطالما صمت عن اعتداءات الدولة الصهيونية، راغباً في إنقاذ ذاته بصمته، ومتوهماً أن الصمت سيبقيه، مؤبداً، في حكم سورية، وقد رحل.
الوطنية الجديدة
لم تظهر الوطنية السورية الجديدة مع بداية الثورة في 2011 على نحوٍ ممنهجٍ وواعٍ، لكن شعارات الثورة في الحرية والكرامة والعمل كانت لكل السوريين، وكانت هناك محاولة شعبية ملتبسة لتأسيس الوطنية، لكنها لم تتعزّز بمشروعٍ وطنيٍّ من المعارضة، يتأسس على لحظة 8 ديسمبر (2024)، حيث رسائل الإدارة الجديدة، وانفتاح التاريخ بزوال النظام الشمولي. رغم تراجع الإدارة عن مضامين رسائلها، فإن انفتاح التاريخ يسمح بإعادة تأسيس الوطنية الجديدة، وبالارتكاز على كلّ ما هو وطني في تاريخ السوريين، سواء لجهة المشاريع السياسية والثقافية والدينية منذ تأسيس الدولة السورية وانفكاكها عن تركيا، أو لجهة اللحظات السابقة المذكورة وسواها.
هناك حالياً ضرورة لتجاوز كل أشكال الانقسام، التي تعزّزت بعد 2013، تجاه اتحاد السوريين في مطالب جديدة، وانطلاقاً من مفاهيم المواطنة والمساواة الكاملة، وشرعة حقوق الإنسان، وبما لا يتعارض مع البنى الأهلية، والدينية، والقومية، والمناطقية، وشريطة ألا تتعارَض البنى هذه مع المبادئ المذكورة سابقاً. يبدأ التأسيس لوطنية سورية مستقبلية من الحاضر، من المرحلة الانتقالية التي نحن فيها، ويتطلب ذلك البدء بالعدالة الانتقالية، والمصالحة المجتمعية والسلم الأهلي، وتشكيل حكومة وطنية. يبدأ من تعالي السوريين على أيديولوجية النظام القديمة في تقسيم المجتمع وفقاً لبناه الأهلية، واعتبار السوريين متساويين في الحقوق الواجبات.
تكتمل الوطنية الجديدة، المؤسّسة على المواطنة باستعادة الجولان، ودعم قضايا التحرّر، وفي مقدّمتها فلسطين. لا يمكن لشعبٍ أن يؤسّس لدولة المواطنة وجزء من أراضيه محتلٌ، أو ألّا يبادر إلى موقف سياسي تجاه الدولة الصهيونية، سيّما أنها تحتل أرضاً لشعبٍ يشترك مع الغالبية السورية العربية. لا تتأسس الدول إلّا على القضايا العادلة، وفي مقدمة تلك القضايا، المساواة بين الشعب، ودعم قضايا التحرّر العربية والعالمية.
السوريون منهكون للغاية، ليس بسبب همجية النظام السابقة منذ 2011 فحسب، بل ومنذ استبدّ بهم العسكر، لكنّ انفتاح التاريخ، يستدعي دفن ذلك الماضي، واستعادة تاريخهم منذ الستينيات وربما أبعد، ويقتضي ذلك ما أشير إليه من فهم جديد للوطنية. السوريون أمام فرصة تاريخية، لبناء دولة جديدة، وطنية بالفعل، فهل يسيرون في هذا الاتجاه فعلاً أم سيفوّتون الفرصة؟ بعض سياسات الإدارة الجديدة والخطأ في خطوات المرحلة الانتقالية تعزل الشعب عن المشاركة في تأسيس الدولة، وهذا يتناقض مع هذه الفرصة، ويعزّز من الانقسام المجتمعي وتهشيم فكرة الوطنية، فهل ستتراجع عن سياساتها هذه، وتُشرك مختلف القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في صناعة القرار والمساهمة بتأسيس الدولة الجديدة؟ هذا هو المأمول.
العربي الجديد
——————————–
خلافات وتخوّفات إسرائيلية تعطّل إدخال عمال دروز من سورية/ نايف زيداني
25 مارس 2025
يحول خلاف بين وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس وقيادة المنطقة الشمالية في جيش الاحتلال، دون إدخال عمال دروز من سورية للعمل في دولة الاحتلال، بسبب تخوفات أمنية. وتبنّى وزير الداخلية الإسرائيلي موشيه أربيل موقف الجيش وامتنع، في الوقت الراهن، عن توقيع الأوامر التي تسمح بدخول العمال، بخلاف رغبة كاتس.
وفي إطار محاولات إسرائيل استغلال الأوضاع الداخلية في سورية، والتودد إلى بعض الشرائح بنية استغلالها في زعزعة استقرار البلد الذي يحاول بناء نفسه، أعلن كاتس قبل نحو أسبوعين، أنه ينوي استقدام عمال دروز من سورية للعمل في مستوطنات مرتفعات الجولان في تاريخ 16 مارس/ آذار الجاري، إلا أن هذا لم يحدث بعد. ونقلت صحيفة هآرتس العبرية، اليوم الثلاثاء، عن مصادر مطّلعة على الموضوع، لم تسمّها، أن سبب تعطيل دخول العمال، يعود إلى موقف قائد قيادة المنطقة الشمالي في جيش الاحتلال الجنرال أوري غوردين. ويقول الجيش إن كاتس لم يبلغ القيادة بنيته السماح بدخول العمال في التاريخ الذي حدده.
ويوجه ضباط كبار في جيش الاحتلال انتقادات حادة لتصريحات الوزير في الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، فيما يتعلق بـ”قضايا حساسة” مرتبطة بسورية، ويعتقدون وفق ما نقلته الصحيفة، أنها قد تؤدي إلى تصعيد غير ضروري مع الإدارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع، وتهدد حياة سكان هضبة الجولان في الجانب الذي احتلته إسرائيل بعد سقوط نظام بشار الأسد، والذين يسعى الجيش لتوطيد علاقاته معهم.
طائرة إف 16 تابعة لجيش الاحتلال في شمال إسرائيل، 24 مارس 2025 (جاك غويز/فرانس برس)
وترى قيادة الجيش، وفق ذات المصادر، أن دخول العمال يجب أن يتم فقط بعد إعداد شامل والتحقق من هوية كل عامل، وإلا سيصعب كشف محاولات عناصر “معادية” استغلال دخولها إلى إسرائيل. ويقول ضباط كبار إن دخول العمال دون التحضير اللازم، قد يعرّضهم أيضاً للخطر، حيث يمكن للنظام أو “المنظمات الإرهابية” في سورية، على حد تعبيرهم، اعتبارهم متعاونين مع إسرائيل، أو استغلالهم في محاولة الحصول على معلومات منهم وتجنيدهم عند عودتهم إلى بلادهم.
كما أن الوزير أربيل، الذي طلب منه كاتس توقيع تصاريح دخول العمال، لم يتم إبلاغه مسبقاً بنيات السماح لهم بالعمل في إسرائيل، في إشارة إلى الجزء الذي تحتله منذ 1967، وعلم بذلك من منشورات على شبكات التواصل الاجتماعي. وتبنّى أربيل موقف الجيش في النزاع، ووفقاً لمصادر مقربة منه، فإنه غير مستعد ليكون ختماً مطاطياً لوزير الأمن. وأصدرت وزارة الداخلية بياناً قالت فيه: “هناك حاجة لاستكمال العمل الأمني الذي يتم حالياً. بعد استكمال العمل الأمني، سيوقّع وزير الداخلية على تصاريح الدخول”.
بالإضافة إلى تصريحات الوزير بشأن إدخال عمال سوريين، أعرب كاتس في الآونة الأخيرة عن استعداده للتدخل في الشؤون السورية بذريعة حماية الدروز. وقبل نحو أسبوعين، قام بجولة في الجزء الذي احتلته إسرائيل حديثاً من جبل الشيخ، رفقة نائب رئيس الأركان تامير يدعي، ولكن دون مشاركة قائد المنطقة الشمالية غوردين. وبعد الجولة، أصدر كاتس بياناً وعد فيه الدروز بأن إسرائيل “ستحمي إخوتهم في سورية من أي تهديد”. ووفقاً لمصادر الصحيفة، لم يناقش كاتس الموضوع مع كبار مسؤولي الأمن مسبقاً.
وقال مصدر في المؤسسة الأمنية لـ”هآرتس”، إن التزام إسرائيل بالتدخل في القتال في القرى الدرزية في منطقة دمشق أو في عمق سورية، قد تكون له تداعيات خطيرة، تصل إلى فتح جبهة إضافية، فيما لم تستعد قيادة المنطقة الشمالية للعمل في هذه المناطق. ووفقاً لمصدر أمني كبير، “عندما تقول إسرائيل رسمياً إنها ستخرج لحماية الدروز، يجب أن يكون ذلك مدعوماً بخطة عملياتية وفهم أنه إذا تحرك النظام السوري ضدهم الآن، سنرد. إذا تعرضوا للهجوم ولم تقدّم إسرائيل لهم المساعدة لأي سبب كان، فإن الضرر بمكانتها وبالردع الذي حققه الجيش الإسرائيلي في الحرب سيتآكل، وقد تفهم هذه المجتمعات أن من الأفضل لها الانضمام للنظام السوري”.
وفي 14 مارس/ آذار الجاري، دخل وفدٌ من سورية يضم نحو مئةِ رجل دين يمثلون الطائفة الدرزية من محافظتَي القنيطرة وريف دمشق، الأراضي المحتلة، في زيارة وُصفت بالتاريخية والدينية، تلبية لدعوة من الشيخ موفق طريف، الزعيم الروحي للدروز في إسرائيل والمعروف أنه مقرب جداً من سلطات الاحتلال ويتبنّى سرديتها. وزار الوفد مقام النبي شعيب في الجليل الأدنى، وشارك بافتتاح مقرّ ديني في قرية البقيعة.
وأثارت الزيارة انقساماً في الآراء داخل الطائفة الدرزية في سورية ولبنان، إذ حذرت مشيخة العقل في لبنان، في بيان أصدرته وقتئذ، من تبعات المشاركة، مؤكدة المحاسبة الدينية على كل مخالف، فيما أصدر أهالي قرية حضر في القنيطرة السورية، بيان استنكارٍ وصفَ الزيارة بالأداة الإسرائيلية لزرع الانقسام، مؤكدين أن المشايخ الذين لبوا الدعوة “لا يمثلون إلّا أنفسهم”.
العربي الجديد
————————————
ما أسباب الغموض الأميركي تجاه الإدارة السورية الجديدة؟
25/3/2025الرغم من الرسائل الإيجابية والتطمينات التي بعثت بها الإدارة السورية الجديدة منذ سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد -والتي لاقت صدى إيجابيا إقليميا وأوروبيا- فإن الموقف الأميركي بقي غامضا وضبابيا تجاه الوضع السوري الجديد.
وقد اتسمت تصريحات المسؤولين الأميركيين -على ندرتها- بعدم وجود موقف واضح وحاسم تجاه حكومة دمشق التي تراقب بحذر الإشارات والتصريحات القادمة من واشنطن، وسط مخاوف من أن يكون هذا الغموض مقدمة لسياسة ضغوط أو مساومات إقليمية مرتبطة بموقع سوريا الجيوسياسي وعلاقتها مع حلفاء واشنطن وأعدائها في المنطقة.
فما الدوافع التي تقف خلف هذا النهج الأميركي تجاه حكومة دمشق؟ وهل هو مجرد حذر إستراتيجي أم أن هناك اعتبارات أخرى تحكم السياسة الأميركية تجاه سوريا في هذه المرحلة المفصلية؟
واشنطن متحفظة
يرى مراقبون أن وجود هيئة تحرير الشام المصنفة على قوائم الإرهاب الأميركية، وقائدها أحمد الشرع على رأس الإدارة السورية الجديدة، يلعب دورا مهما في عدم اتخاذ واشنطن خطوات جدية تجاه حكومة دمشق.
هذا الموقف عبّر عنه بوضوح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في زيارته الأخيرة إلى إسرائيل وتصريحاته بشأن الإدارة السورية الجديدة عندما قال “إن سقوط الأسد أمر واعد ومهم، لكن قيام سوريا باستبدال قوة مزعزعة للاستقرار بقوة مماثلة أخرى ليس بالتطور الإيجابي”.
وقبل ذلك -وتحديدا في مؤتمر باريس الخاص بسوريا في منتصف فبراير/شباط الماضي- رفضت الولايات المتحدة التوقيع على “الإعلان” الذي وقعه جميع المشاركين، إذ يعود السبب في ذلك وفقا لمراقبين إلى تحفظ واشنطن إزاء هيئة تحرير الشام والهيئات التي تشكلت منذ سقوط نظام بشار الأسد، كما يرجح الباحث في مركز الحوار للأبحاث والدراسات في واشنطن عمار جلو في حديثه للجزيرة نت.
ويضاف إلى ذلك -حسب جلو- وجود شخصيات كثيرة ضمن إدارة دونالد ترامب من المعادين لتيارات الإسلام السياسي، والجهادي خصوصا.
وفي السياق نفسه، يوضح رئيس منظمة “مواطنون من أجل أميركا آمنة” الأكاديمي بكر غبيس للجزيرة نت أن موضوع التعامل مع بلد تحكمه جماعة مصنفة على قوائم الإرهاب هو أمر معقد ويحتاج لإجراءات قانونية وسياسية إلى جانب التشاور مع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة.
وكان أول وفد أميركي زار دمشق بعد سقوط النظام في 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي برئاسة باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، والتي أعلنت وقتها أن واشنطن ألغت مكافأة مالية قدرها 10 ملايين دولار كانت قد رصدتها في وقت سابق للقبض على الشرع.
وتجلى الحذر الأميركي أيضا في التعامل مع الوضع السوري الجديد في اتباع دبلوماسية غير مباشرة، إذ تعتمد الولايات المتحدة على إدارة علاقاتها مع دمشق على حلفائها الأساسيين في المنطقة، والذين يتمتعون بصلات قوية مع الإدارة الجديدة في دمشق.
ويعكس هذا النهج -بحسب مراقبين- رغبة واشنطن في الحفاظ على نفوذها في سوريا دون تقديم اعتراف رسمي أو اتخاذ مواقف حاسمة تجاه حكومة دمشق، وهو ما يتماشى مع إستراتيجية الولايات المتحدة القائمة على تقليل التورط في أزمات الشرق الأوسط مع الاعتماد على الشركاء الإقليميين لتحقيق مصالحها.
وتأكيدا لما سبق، يقول الباحث المختص في الشؤون الأميركية حسين الديك إن إدارة ترامب أوكلت الملف السوري إلى حلفائها الدوليين والإقليميين، كالاتحاد الأوروبي إلى جانب تركيا العضوة في حلف شمال الأطلسي (ناتو).
وإلى جانب هذه الدول -يضيف الديك في حديثه للجزيرة نت- تأتي الدول العربية وفي مقدمتها السعودية إضافة إلى قطر التي ترتبط بعلاقات قوية مع الإدارة السورية الجديدة من جهة، وعلاقات دبلوماسية مميزة مع الولايات المتحدة من جهة أخرى.
ويضرب الديك مثالا على هذه الدبلوماسية الأميركية غير المباشرة في سوريا من خلال الاتفاق الذي تم توقيعه بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة السورية الجديدة في 11 مارس/آذار الجاري، والذي تم بضغط أميركي على “قسد” للانضمام إلى حكومة دمشق.
من ناحيته، يشير الباحث عمار جلو إلى أن هناك تواصلا أمنيا وعسكريا خفيا بين واشنطن ودمشق “تجلى في إفشال عدد من العمليات الإرهابية الساعية لإشعال حرب أهلية، ومنها تفجير مقام السيدة زينب في دمشق، إلى جانب قصف التحالف شخصيات جهادية في محافظة إدلب مؤخرا”.
التوقيت والأولويات
تزامن انهيار النظام السوري واستلام الإدارة الجديدة السلطة في سوريا مع انتهاء فترة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وتولي الرئيس ترامب إدارة البيت الأبيض.
هذا التحول وما رافقه من تطورات متسارعة على الساحة السورية لم يتح الفرصة لإدارة ترامب لصياغة رؤية إستراتيجية واضحة للتعامل مع سوريا بعد، مقابل التركيز على أولويات داخلية وخارجية أخرى على حساب الملف السوري الذي يبدو أنه يعتبر ثانويا بالنسبة لإدارة ترامب.
وعن علاقة التوقيت بنهج الولايات المتحدة مع الإدارة السورية، يوضح السياسي السوري المقيم في الولايات المتحدة أيمن عبد النور أنه لحد الآن لم يتم تعيين مسؤولين عن الملف السوري في الخارجية الأميركية، إذ تم تعيين مدير مكتب سوريا بالبيت الأبيض وفريق الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي فقط.
ويشير عبد النور في حديثه للجزيرة نت إلى أن إدارة ترامب لم تعين بعد نائب وزير الخارجية ومساعديه المسؤولين عن الشرق الأوسط وسوريا في وزارة الخارجية، بمعنى أنه لحد الآن لا يوجد موظفون كي يضعوا الرؤية الخاصة بالتعامل مع الإدارة السورية الجديدة.
وفي السياق ذاته، يذكر الأكاديمي غيبس أن الحدث السوري كان كبيرا ومفاجئا، وجاء بين فترتين انتقاليتين للرئاسة الأميركية، مما ساهم كثيرا في عدم وجود رؤية واضحة للتعامل مع الواقع السوري الجديد، إضافة إلى انشغال الإدارة الأميركية بملفات أخرى، كأوكرانيا ودول أميركا الجنوبية.
وكان العديد من المسؤولين الأميركيين أشاروا إلى أن إدارة ترامب بصدد النظر في السياسة التي تنوي السير بها إزاء الإدارة السورية الجديدة، وأن هذه العملية لم تنته بعد، مما يدفعها إلى الانتظار وعدم الارتباط بالتزامات لم تقرها بعد على المستوى الوطني.
الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بوجود عسكري في سوريا (الأوروبية)
أسباب تتعلق بحكومة دمشق
منذ الأيام الأولى لسقوط الأسد أرسلت إدارة جو بايدن الديمقراطية -التي رحبت بسقوط النظام- رسائل إلى الإدارة الجديدة في سوريا أكدت مراقبتها الأوضاع عن كثب، وأنها ستحكم على أفعال حكام دمشق الجدد وليس أقوالهم فقط، في إشارة إلى تصريحات الرئيس أحمد الشرع وقتها بشأن المشاركة السياسية وضمان حقوق كافة مكونات الشعب السوري.
هذه المطالب تكررت في أكثر من مناسبة، إذ دعت الولايات المتحدة إلى تشكيل حكومة أكثر شمولا، معتبرة أن أي اعتراف رسمي بالإدارة الجديدة مرهون بقدرتها على تمثيل مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية.
وفي هذا السياق، صرح وزير الخارجية السابق أنتوني بلينكن بأن بلاده ستدعم حكومة سورية عندما تكون هيئة حاكمة موثوقة غير طائفية وتعكس تطلعات جميع السوريين.
من جانبه، يرى الباحث حسين الديك أن تأخر الإدارة الجديدة في دمشق في رسم مسار انتقال سياسي واضح وشامل، إلى جانب إشكاليات التعامل مع قضايا المكونات السورية الإثنية والدينية والمذهبية -وآخرها أحداث الساحل السوري- يجعل واشنطن حذرة وغير مطمئنة تجاه إدارة دمشق، وبالتالي تضييق مسار الانفتاح المأمول مع واشنطن.
وفي تصريحات تؤكد هذا المعنى ربطت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية تامي بروس خلال إحاطة صحفية في 21 مارس/آذار الجاري بين سلوك الإدارة في دمشق ورفع العقوبات والانفتاح الأميركي عليها.
وذكرت بروس أن واشنطن تراقب تصرفات الإدارة السورية الجديدة في الوقت الذي تحدد فيه سياساتها تجاه الحكومة بدمشق، وأعربت عن خشيتها من أن الدستور الذي أعلنت عنه الإدارة الجديدة يعطي الرئيس صلاحيات واسعة، كما جددت الدعوة إلى تشكيل حكومة شاملة بقيادة مدنية في سوريا.
ما علاقة إسرائيل؟
حرصت إسرائيل منذ سقوط النظام على تحويل سوريا إلى دولة ضعيفة مفككة لا تمتلك أي قدرات عسكرية أو دفاعية، وهذا ما تجلى في الغارات الإسرائيلية على مخازن الأسلحة ومستودعات الذخيرة منذ اليوم الأول لسقوط النظام، إضافة إلى التوغلات البرية واحتلال المنطقة العازلة.
واستكمالا لهذا الهدف يرى مراقبون أن إسرائيل تلعب دورا مؤثرا في تشكيل موقف الولايات المتحدة من الإدارة السورية الجديدة، إذ تسعى إلى ضمان أن أي انفتاح أميركي لا يتعارض مع مصالحها الأمنية والإستراتيجية في المنطقة.
هذه الضغوط الإسرائيلية يرى الباحث عمار جلو أنها تصب في عدم الانفتاح الأميركي على دمشق رغبة من تل أبيب في إبقاء سوريا ضعيفة ومجزأة، إلى جانب سعيها من خلال هذه الضغوط إلى دفع دمشق إلى مفاوضات سلام ضمن الشروط الإسرائيلية.
وكان ستيف ويتكوف المبعوث الخاص للرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط قال في مقابلة مع الصحفي تاكر كارلسون عن ملامح رؤية إدارة ترامب لمستقبل المنطقة “إن تطبيع إسرائيل مع سوريا ولبنان أصبح احتمالا حقيقيا بعد أن خرجت سوريا من دائرة النفوذ الإيراني”.
وأضاف المبعوث الأميركي أن “سوريا اليوم ليست كما كانت، وإسرائيل ترسم خريطة جديدة تتجاوز المفهوم التقليدي للحدود، وإذا تحقق السلام في غزة فإننا سنشهد شرق أوسط جديدا من التعاون التكنولوجي والاقتصادي بين دول الخليج وإسرائيل، وربما سوريا”.
وتعمل الإدارة السورية جاهدة لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، والاستفادة من ذلك في تخفيف ملفات كثيرة ضاغطة تملكها الولايات المتحدة على الإدارة، منها: العقوبات الصارمة، وملف شمال شرق سوريا، وملف رفع التصنيف الأميركي والأممي ضمن قوائم الإرهاب عن هيئة تحرير الشام وقياداتها، إضافة إلى قدرتها على عرقلة أي انفتاح عربي أو أوروبي على الإدارة.
المصدر : الجزيرة
—————————–
هجمات إسرائيل في سوريا.. ماذا وراء توسعها جغرافيًا؟/ ضياء عودة – إسطنبول
25 مارس 2025
لم تعد الهجمات التي تنفذها إسرائيل في سوريا مقتصرة على مواقع وقدرات عسكرية في جنوب البلاد فحسب، بل باتت تأخذ مستويات أكبر على صعيد العمق الجغرافي، وهو ما تؤكده خارطة الضربات التي حصلت مرتين هذا الأسبوع.
وأعلن الجيش الإسرائيلي، الثلاثاء، تنفيذ غارات جوية على قاعدتين عسكريتين: الأولى تقع في تدمر بريف حمص وسط سوريا، والثانية إلى الجنوب الشرقي منها وتعرف برمز “T4”.
وجاء ذلك بعد 3 أيام من ضربات مماثلة استهدفت ذات المكان.
ووفقا للرواية الإسرائيلية، تأتي الضربات ضمن “سلسلة هجمات تهدف إلى منع سيطرة النظام السوري الجديد على هذه المنشآت العسكرية”.
ورغم أن هذا الهدف المذكور سبق أن أكد عليه المسؤولون في تل أبيب لأكثر من مرة، عقب سقوط نظام بشار الأسد، يوضح خبراء ومراقبون أن المعطيات القائمة على الأرض، منذ تلك الفترة، تشي بأن ما جرى ويجري “يسير على مراحل، ولا يمكن حصره فقط بما يطلق من تصريحات”.
ويقول الباحث السوري في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، نوار شعبان، إن “بنك الأهداف الإسرائيلية أصبح يتوسع بشكل واضح، على مستوى الجغرافيا والأهداف والأساليب”.
ويضيف لموقع “الحرة”: “الأخطر من كل ذلك أن الاستراتيجية القائمة باتت قتالية وليست كما يصوّر لها من منطلق الردع”.
أما الباحث السياسي الإسرائيلي، يوآف شتيرن، فيعتقد بأن توسيع نطاق الهجمات الإسرائيلية في سوريا جغرافيا، “يندرج في إطار سلسلة تطورات تنظر إليها إسرائيل بعين مستاءة”.
فمن جهة، يوضح شتيرن لموقع “الحرة”، أن إسرائيل “لا تزال ترى بالحكومة السورية الجديدة تهديدا”.
ومن جهة أخرى، “تتوجس إسرائيل من التقارب الكبير جدا الحاصل بين دمشق وأنقرة، وما يرافق ذلك من أحاديث وتوقعات عن اقتراب البلدين (سوريا وتركيا) من توقيع اتفاقيات قد تضمن للجيش التركي التمركز في مناطق متقدمة داخل سوريا”، وفق شتيرن.
“رسائل”
وقالت القناة 12 إن الغارة الإسرائيلية الحديثة على وسط سوريا دمرت برج مراقبة في “T4″، مما جعل القاعدة غير صالحة للاستخدام.
وأضافت أن الغارات السابقة (قبل 3 أيام) أسفرت عن “تدمير نحو 20 طائرة من طراز سوخوي روسية الصنع”، مشيرة إلى أن “الهدف هو الحيلولة دون استخدام القاعدة مستقبلا من قبل النظام الحالي، الذي تعتبره إسرائيل تهديدا محتملا”.
وربط تقرير القناة العملية “برسالة غير مباشرة لتركيا”، في ظل التطورات الإقليمية المتسارعة، واعتبر أن إسرائيل “تعمل أيضا على إحباط تمركز خلايا تابعة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي في محافظة درعا جنوبي سوريا”.
وكان لافتا أن ضربتي تدمر و”t4″ سبقهما تلميح إسرائيلي غير مباشر عبّرت عنه مصادر نقل عنها موقع “واللا” العبري، الأحد.
وفقا لتلك المصادر التي لم يسمها الموقع، فقد “جرت اتصالات سورية تركية، خلال الأيام الماضية، لنقل مناطق قرب تدمر بريف محافظة حمص إلى الجيش التركي، مقابل دعم اقتصادي وعسكري”.
وأضافت أن “التحركات التركية المحتملة في تدمر، تثير مخاوف إسرائيلية واسعة”.
كما أشار “واللا” إلى أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية “عقدت عدة مشاورات الأسبوع الماضي لبحث التطورات في سوريا”، وقال أيضا إن “النظام السوري الجديد يحاول ترميم قواعد عسكرية وقدرات صاروخية ودفاعية في الجنوب”.
ولم يصدر أي تأكيد تركي أو سوري بشأن المزاعم التي تفيد بنية أنقرة تثبيت قواعد عسكرية في وسط سوريا.
ورغم أن هذه المعلومات سبق وسلطت وكالة رويترز الضوء عليها، فإن مصادر بوزارة الدفاع التركية نفت لأكثر من مرة صحتها.
ويعتبر شتيرن أن الهجمات وتوسيع نطاقها جغرافيا في سوريا “يمكن النظر إليها من هذا الجانب”، في إشارة منه إلى التحركات العسكرية الحاصلة على خط دمشق – أنقرة.
ويشرح بالقول: “إسرائيل تريد إرسال رسائل واضحة: لن نسمح بأن تكون سوريا مكانا لحصول أي احتكاك تركي إسرائيلي.. فلتدعم تركيا سوريا كما تريد، لكن ليس كتمركز عسكري”.
ومن شأن أي تمركز عسكري تركي جديد في سوريا أن يفرض قيودا على “حرية العمل الإسرائيلية”، على حد تعبير شتيرن.
ويتابع: “إسرائيل كانت تفضل سابقا النفوذ الروسي في سوريا ونسّقت مع موسكو كثيرا. ولن يكون ممكنا إجراء مثل هذا الأمر مع تركيا الآن، بسبب التوتر السياسي الكبير الحاصل بين الطرفين”.
وقبل سقوط نظام الأسد، لم تكن السياسة الإسرائيلية المتعلقة بسوريا كما هي الحالة التي عليها اليوم.
في السابق كانت غالبية التحركات تندرج ضمن إطار “وقائي”، كما يوضح الأكاديمي والباحث في الشأن الإسرائيلي، خالد خليل.
ويعتبر خليل في تصريحات لموقع “الحرة”، أنه في أعقاب سقوط الأسد “أخذت الأفعال الإسرائيلية طابعا هجوميا”.
ويوضح الخبير الجيوساسي، عامر السبايلة، أن ضربات إسرائيل الأولى (بعد سقوط نظام الأسد) في سوريا “كانت بدأت تدريجيا مع إعادة رسم جغرافيا الجنوب، باعتبار أنه جزء من العمق الأمني الإسرائيلي”.
ويمكن اعتبار ما سبق “مرحلة أولى استندت بشكل رئيسي على تحقيق هدف بمنع إنشاء نقاط من شأنها أن تتحول إلى محطات لوجستية أو جاذبة لأي طرف قد يشكل خطرا وتهديدا على إسرائيل”، وفق السبايلة.
أما بخصوص ما يجري الآن، فهو يندرج، حسب وصف الخبير، في إطار “مرحلة ثانية يمكن اعتبارها بمثابة بداية المواجهة بالوكالة مع تركيا”.
ويشرح السبايلة: “ليس هناك تصريح إسرائيلي بوجود مواجهة فعلية مع تركيا، لكن التحركات التي تقوم بها تل أبيب في سوريا تصب في إطار مواجهة الطموح التركي، وذلك لمنع توظيف الجغرافيا السورية لصالح أنقرة”.
“ما تقوم به إسرائيل الآن هو لمنع تشكّل أي قوة في الداخل السوري”، يتابع الخبير.
ويؤكد على فكرة بأن “إسرائيل لا تريد إيران ولا تريد تركيا.. وبالتالي تعمل على منع أي طرف من استغلال الجغرافيا السورية لصالحه”.
من جانبه، يشير الباحث شعبان إلى تطور “خطير” على صعيد التوغلات الإسرائيلية في جنوب سوريا، معتبرا أنها “لا تزال متواصلة وفق مهمات أمنية غير واضحة”.
شعبان أشار إلى “مقتل مدنيين”، الثلاثاء، أثناء توغل الجيش الإسرائيلي في قرية كويا بريف درعا السورية.
وقتل 4 أشخاص في مدينة درعا السورية، إثر تبادل لإطلاق النار بين مواطنين وقوات من الجيش الإسرائيلي، حيث قال الأخير إنه تعرض لرصاص مسلحين ورد عليها، فيما قالت الرواية الرسمية السورية إن الجيش الإسرائيلي حاول التدخل في إحدى القرى وقصفها بقذائف دبابات.
ويرى الباحث شتيرن أن المناوشات الحاصلة في درعا “تدل على عمق التوتر مع إسرائيل”، ويعتقد أن ما يحصل على الحدود في جنوب سوريا “قد يجر الأمور نحو التصعيد والاشتعال”.
ضياء عودة
الحرة
———————-
فرنسا: انتشار إسرائيل في المنطقة الفاصلة مع سوريا يعد انتهاكا لاتفاق فض الاشتباك
2025.03.25
أكدت وزارة الخارجية الفرنسية على أهمية احترام السيادة السورية ووحدة أراضيها، مشددة على أن الانتشار الإسرائيلي في المنطقة الفاصلة يعد انتهاكاً لاتفاق فض الاشتباك.
وفي تصريحات خلال المؤتمر الصحفي اليومي، قال المتحدث باسم الخارجية الفرنسية إن باريس “تدعو إلى وقف جميع الأعمال العدائية في سوريا، وقبل كل شيء احترام السيادة السورية واحترام وحدة أراضيها، وفقاً لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي”.
وأضاف أنه “كما أكدت الأمم المتحدة، فإن أي انتشار عسكري في منطقة الفصل بين سوريا وإسارئيل يشكّل انتهاكاً لاتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، والتي يجب على الموقعين عليها، سوريا وإسرائيل احترامها”.
وشددت الخارجية الفرنسية على “دعمها الكامل لقوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك في الجولان، والتي يجب الحفاظ على أمنها”.
الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا
وشهدت الأراضي السورية خلال الأشهر الأخيرة تصعيداً إسرائيلياً غير مسبوق، تمثّل في غارات جوية وتوغلات برية متكررة، ولا سيما في محافظتي درعا والقنيطرة جنوبي البلاد.
وجاءت هذه العمليات في أعقاب سقوط نظام الرئيس المخلوع، بشار الأسد، في 8 كانون الأول الماضي، ما شكّل فرصة للاحتلال الإسرائيلي لتوسيع نطاق تحركه داخل الأراضي السورية.
وبعد أقل من 24 ساعة على سقوط النظام، أقدمت القوات الإسرائيلية على احتلال المنطقة العازلة والسيطرة على قمة جبل الشيخ، أحد أبرز المواقع الاستراتيجية المطلة على الأراضي السورية واللبنانية، ولم تكتفِ بذلك، بل وسّعت أيضاً نطاق توغلها داخل محافظة القنيطرة، واستهدفت البنية التحتية العسكرية السورية من خلال مئات الضربات الجوية.
وتزامناً مع التصعيد الجوي، كثّفت القوات الإسرائيلية من عمليات التمركز العسكري على الأرض، حيث بدأت بإنشاء قواعد عسكرية جديدة تمتد من جبل الشيخ حتى حوض اليرموك، ويجري تجهيز هذه القواعد ببنية تحتية متكاملة تشمل الكهرباء والمرافق السكنية، إلى جانب تعبيد طرق تصل إلى عمق الأراضي السورية، ما يشير إلى نية واضحة لترسيخ وجود إسرائيلي دائم في الجنوب السوري.
——————————-
7 شهداء بقصف إسرائيلي في درعا وغارات على حمص
محمد كركص
25 مارس 2025
الاحتلال شن نحو ألف غارة جوية خلال الأشهر الأربعة الماضية
الغارات استهدفت قاعدتي تدمر وتيفور العسكريتين بريف محافظة حمص
شبان من قرية كوية عبر الوادي بدرعا تصدّوا لتوغّل قوة إسرائيلية
استُشهد وجُرح نحو 10 أشخاص، جراء قصف مدفعي إسرائيلي، صباح اليوم الثلاثاء، استهدف قرية كوية في منطقة حوض اليرموك بريف درعا الغربي، جنوبي سورية. وأسفر القصف عن استشهاد 7 أشخاص وسقوط عدد من الجرحى، بالإضافة إلى حركة نزوح واسعة للأهالي إلى البلدات والقرى المجاورة نتيجة استمرار القصف المدفعي.
وقال المتحدث باسم “تجمع أحرار حوران” أيمن أبو نقطة، في حديث مع “العربي الجديد”، إن القصف المدفعي الإسرائيلي انطلق من مواقع الجيش الإسرائيلي في ثكنة الجزيرة، مؤكداً أن القصف أسفر عن وقوع ضحايا ونزوح عدد كبير من سكان القرية. بدورها، أفادت شبكة “درعا 24″، بأن قوة من جيش الاحتلال الإسرائيلي حاولت صباح اليوم التوغّل في قرية كوية عبر الوادي، ما أدّى إلى اشتباكات عنيفة مع شبان من القرية الذين تصدوا لها وأجبروها على التراجع. وأوضحت الشبكة أن القرية تعرضت عقب ذلك لقصف مدفعي أسفر عن سقوط أكثر من خمس قذائف على المنطقة، تزامناً مع استمرار الاشتباكات والقصف في منطقة كويا التحتا بالوادي.
في سياق متصل، نفّذت الطائرات الحربية الإسرائيلية، فجر اليوم الثلاثاء، غارات جوية مستخدمة صواريخ شديدة الانفجار، استهدفت من خلالها قاعدتي تدمر وتيفور العسكريتين بريف محافظة حمص الشرقي، وسط البلاد. وقال المتحدث باسم وزارة الأمن الإسرائيلية، إن جيش الاحتلال استهدف فجر اليوم قدرات عسكرية في قاعدتي تدمر وتيفور، مشدداً على أن “جيش الدفاع سيواصل العمل لإزالة أي تهديد على مواطني دولة إسرائيل”.
وهذه هي المرة الثانية خلال أيام التي يستهدف فيها جيش الاحتلال قاعدتي تدمر وتيفور في حمص، إذ شنّ مساء الجمعة غارات جوية استهدفت مطار تدمر العسكري الواقع في محافظة حمص، وسط سورية، قائلاً إنه هاجم “قدرات استراتيجية عسكرية بقيت في منطقة قاعدتي تدمر وتيفور”، فيما شهد محيط بلدتي الرفيد والعشة في ريف القنيطرة الجنوبي، جنوبي سورية، منتصف ليل الجمعة، توغلاً عسكرياً إسرائيلياً غير مسبوق.
وتأتي هذه التطورات في ظل استمرار جيش الاحتلال الإسرائيلي في استهداف القواعد العسكرية في سورية منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، إذ تمكن من تدمير معظم القواعد الجوية والبحرية ومخازن الأسلحة والصواريخ بعد شن نحو ألف غارة جوية خلال الأشهر الأربعة الماضية.
————————
====================