عن المظلوميّات الطائفيّة العابرة للحدود/ حسام أبو حامد

25 مارس 2025
منح نظام “الملّة” الأقلّياتِ سلطاتٍ محدودةً لتنظيم شؤونهم في سيادة شاملة للإدارة العثمانية، لكنّ التوزيع غير المتكافئ للسلطة والموارد زرع بذور الانقسامات اللاحقة. تحوّل انتصار ثورةٍ فلاحيةٍ في كسروان حرباً أهلية، وعبرت الأزمة الطائفية بين المسيحيين والدروز في العام 1860 “الحدود” إلى دمشق، ووفاءً للتقليد النبوي في حماية “أهل الذمّة”، حاول الزعيم المتنوّر، الأمير عبد القادر الجزائري، إخماد “الفتنة”، ولكن أيضاً إنقاذ الحكم العثماني (السُّني) في مواجهة مخطّطات التقسيم الغربية. وفي غياب وحدة اندماجية، اجتماعية سياسية، ظلّت الطائفية، بوصفها إعلاءً لشأن الانتماءات والولاءات الدينية والمذهبية والعرقية والثقافية، نشطةً، واستمرّت الروابط الدينية والمذهبية والأسرية والعشائرية أساساً للهُويَّة، وكان لكلّ فريق مشروعه الاجتماعي والسياسي الخاص.
استحدث الانتداب الفرنسي في سورية هياكل إدارية تقنّن الهُويَّات الطائفية، وعمل لإضعاف النخب السُّنية بإقصائها من الجيش، بينما ركّز في تجنيد الأقلّيات، وفي مقابل النفوذ الاقتصادي للنخب السُّنية تمتعت الأقلّيات بالنفوذ العسكري خصوصاً العلويين. تدريجياً، خسر السُّنة السلطةَ أمام صعود “البعث” ونظام الأسد. ورغم مظلوميةٍ سُنّيةٍ تقليديةٍ نظّرت لها حركات الإسلام السياسي تفاعلاً مع سقوط الخلافة الإسلامية في مطلع عشرينيّات القرن الماضي، إلا أن المظلومية الطائفية لم تكن عاملاً حاسماً في الحياة السياسية السورية، إذ همّشت تنازعَ المظلومياتٍ أيديولوجياتٌ وانتماءاتٌ توزّعت بين المحلّي والوطني والقومي.
قمع نظام حافظ الأسد التعبيرات الصريحة عن المظالم المجتمعية، وأبقى التوتّرات الطائفية الكامنة تحت السيطرة. كانت سورية علمانيةً في الخطاب، براغماتية في الممارسة، ووظّف النظام الدين أداةً للسيطرة السياسية، قمعاً لحركاتٍ دينيةٍ مستقلّة (الإخوان المسلمين)، وانتقاءً وتعزيزاً لشخصيات ومؤسّسات دينية موالية. إبان الغزو الأميركي للعراق (2003) عبر الحدود جهاداً مقاتلون أرادوا الدفاع عن حكم ديكتاتور سنّي، والتفّت حبالٌ طائفيةٌ حول رقبة صدّام حسين فجر عيد الأضحى (30 ديسمبر/ كانون الأول 2006)، فتركت جرحاً غائراً في الوجدان السُّني، نكأه لاحقاً اجتياح حزب الله بيروت (2008) واختطافه الدولة اللبنانية لصالح إيران الشيعية. تفاقمت حدّة المظلوميات الطائفية إبّان الصراع الطائفي في العراق (2006-2007)، واستمرّ حاملوها الاجتماعيون في التنقّل عبر الحدود. في هذا المناخ الإقليمي، أخضعت الطائفيةُ خطاباً وسلوكاً الثورةَ السورية (2011)، وتحوّلت حرباً أهليةً. دعت فصائل جهادية سلفية إلى ثورة سُنّية ضدّ “الاستبداد العلوي”، فيما صوّر النظام نفسه حامياً للأقليات من “التطرّف السُّني”، وحمى نفسه بمزيدٍ من تحالفاتٍ طائفية، أقبلت مليشياتها من الشرق والغرب.
بعد لبنان والعراق، استكملت 14 عاماً من الحرب عملية تطييف السوريين السُّنة (التقليد المذهبي السائد) ورسّخت مظلوميّتهم. وفق هذه المظلومية، لم يكن سقوط بشّار الأسد نهاية نظام استبدادي فقط، بل أيضاً انقاذاً للسلطة السُّنية السليبة، وانتهت حقبة أديرت فيها الطائفية تحت السيطرة المركزية السلطوية، لكن فراغ السلطة الذي ملأته هيئة تحرير الشام والفصائل الموالية لها لم يمنع تجمّع الفاعلين المحلّيين حول الهُويَّات الطائفية، ذلك أن مظلوميّة شاركت في إنتاجها هذه الفصائل، وبدت أحد مكوّنات الهُويَّة، انقلبت حين انتصرت ثقافة ثأرية تحت مظلّة عقلية إعادة بناء الدولة والمجتمع بمداميك تلك المظلومية، وروافعها الطائفية، ما أدّى إلى نتائج كارثية أفصحت عن نفسها مجازرَ انتقاميةً بحقّ العلويين. في أفضل الحالات، تحوّل خطاب العفو ابتزازاً سياسياً. لذلك، لا يزال الاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) هشّاً، ومتعذّراً مع الدروز في الجنوب، وواحد من أوجه القصور تعامل المظلومية السُّنية مع الأقلّيات بوصفهم أشبه بـ”ذميين”، أو من خلال استلهام نظام الملّة، لا شركاء في الوطن.
المظلوميات الطائفية عابرة للحدود في الاتجاهين، ولن يمنعها اتفاق أمني حدودي شرقاً (العراق). أمّا التوتّرات عند الحدود الغربية، واستمرار عبور العلويين النهر الكبير هرباً من المجازر، وخوفاً من تكرارها، فقد يجدّد اشتباكات درب التبانة – جبل محسن، أو في غيرها من ديموغرافيا بألوان طائفية.
تبدو دولةٌ ديمقراطيةٌ تلتزم الحياد تجاه عقائد مواطنيها بعيدةَ المنال، تحتاج تحقيباً تاريخياً. لكن عدالة انتقالية تؤطّر المظلوميات الطائفية حقوقياً، تمنح فرصاً حقيقية للحيلولة دون بقائها هُويَّات سياسية تهدّد السلم الأهلي، والاستقرار الإقليمي، أما تأجيلها فإمعان في تبنّيها.