عن دائرة الرعب الحدودية/ سميرة المسالمة

25 مارس 2025
هذه دمشق، بعد أكثر من عقد من الزمن، قلبي يرتجف. تذكرة السفر تنكأ جراحي، وقرار العودة يملأ صدري بمشاعر مختلطة، الخوف يسيطر عليها، يداي ترتجفان، أتذكر خروجي الأخير منها، هاربة، متلفتة، حائرة، متوجسة من كل ما يحيط بي، وعلى الحدود ثمة “سورية” هاربة، بلد تحمل كل شعبها على ظهرها لتنجو بنفسها، وتنزح الأرض بأبنائها عن أرضها، في تلك اللحظة فقط، تدرك أن الأوطان تهاجر أيضًا عندما يقتل أبناؤها أبناءها.
في مركز “جديدة يابوس” التابع لإدارة الهجرة والجوازات السورية، تدخل دائرة الرعب، أطرافك تصطك، وعيناك تمسحان المكان، فقد يأتيك الغدر من أي اتجاه، فقط في ذلك المكان تحديدًا، أنت تريد أن تتقدم إلى دورك، ولا تريد، أحدهم يدفعك إلى الأمام وسط الزحام: “يلا أختي استعجلي”، هم لا يعرفون أنهم يدفعونك إلى مواجهة قدرك المجهول، أبتلع ريقي، وأتنفس كما لو أنني للتو دخلت تحت مياه بحر هائج.
أحدهم يشير لي من خلف الزجاج لأتقدم، ثم يذهب إلى آخر الزاوية يخفض رأسه وهو يتحدث معي: “أعطني جوازك بسرعة، ‘أنت مطلوبة‘”، يرفع عينيه، يختم الجواز على عجل، ثم يقول خلال دقيقة عليك المغادرة، لا تلتفتي، اذهبي فورًا إلى الحدود اللبنانية، فقد يلحقون بك، وعندها لن تأمني شر العقاب، لا أستطيع الكلام فقد ابتلع الخوف لساني وتجمدت كلماتي، رمشت بعيني، وانطلقت أعد خطواتي.
في “المصنع”، مركز الحدود اللبنانية عام 2012 افترش الناس الأرض، وامتلأت الساحات بالسيارات، الخوف صار يحاصرني، كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها وطنًا نازحًا، يحمل “بقجته” على ظهره، ويكتب على صدره شهادة وفاته.
استطعت بسهولة أن أندس بين الجموع، بعضهم أفسح المجال متأثرًا بحالة الهلع البادية على وجهي، بعض آخر اعترض تجاوزي الدور، دموعي هزمت شجاعتي، من بعيد أشار لي الضابط اللبناني المسؤول من خلف الحاجز متسائلًا عن الأمر، فأعطاني سببًا للتقدم، قلت له بصوت يكاد يختنق، وبغصة: “هاربة منهم وقد يلحقون بي”. مدّ يده أخذ جواز السفر، أنهى كل شيء على عجل، قال لي: “عرفتك، شاهدتك على شاشة الجزيرة”، وسألني إن كنت محتاجة إلى شيء، هززت رأسي نافية، وسمعته يقول: “سأصطحب سيارتك حتى نهاية الطريق”، السائق الذي يرافقني مندهشًا قال لي: “اللبنانيون أيضًا مع الثورة”.
مضت سنوات التشرد من بيروت إلى دبي والقاهرة وعمان واسطنبول لتستقر الحال بي مع عائلتي لاجئين على هامش المواطنة الأوروبية، تتقاذفنا آمال العودة التي تتضاءل يومًا بعد آخر. صار الوطن شاشة تلفزيون نتجول بين زواياها عن خبر هنا، أو تصريح من هناك، يعيد الأمل بفتح ملف سورية، بعودتها لتكون ضمن أخبار الساعة، وسنة بعد أخرى، مات الحلم، وضاعت من بين أيدينا فرصة التغيير، أفقدتنا الغربة لم شملنا الصغير، صرنا موزعين بين بلدان عدة، حتى قهرنا مرض زوجي وصارت المشافي هي بيتنا لسنوات طويلة، حتى كدنا ننسى أحاديث الناس واجتماعاتهم.
الفرحة العظيمة يوم الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 لم تكتمل لأن أحدنا صار جسدًا تحت التراب، ستفرّقنا الأرض التي تجمعنا، أعود وحيدة إلى بيت تعشعش فيه ذكرياتنا، حلوها ومرها، هنا في دمشق، كانت أيامنا تمضي سريعة تارة، ونعد لحظاتها كـأنها سنوات قهر تارة أخرى، عدادها من دم، كان قرار الفراق عن مدينتنا بذات صعوبة العودة إليها بدون رفيق العمر، بيتنا بلا صخب الأصدقاء، صامت، نوافذه مغلقة على أحزاننا، كأن ذراعيه لم تعد تقوى على المصافحة، يسألني عن الراحلين وينتظر عودة مؤجلة.
حتى هذه اللحظة، أنا أخاف مراكز الحدود، أقرأ كل المعوذات، وأدعية السفر، وأتلعثم عندما يسألني موظف أي حدود، حتى وأنا هنا في أوروبا المفتوحة على كل دولها، يسكنني ذلك الشك أن الشر قادم لا محالة، أسأل العابرين قبلي: هل أوقفوكم؟ عن ماذا سألوا؟ هل اسمي ممنوع من الدخول؟ على الحدود السورية هل توجد مفرزة أمن؟ يا الله كيف ينجو المرء من سجانه حين يكبله من داخله، حين يصبح صوت الجلاد صريرًا في رأسك، وصورته قرينًا يرافقك ليدس سمه في كل لحظاتك، يعكر صفو آمالك.
في لحظة هزيمته الموعودة، لقد عدت، أعيد قولها على مسامعي كأنني أحفظها، أريد أن أتعود على وقع نغمتها، لقد عدت، أي امتنان لتلك اللحظة الممتدة من يوم النصر إلى لحظة العبور… إنها دمشق.
*كاتبة سورية.
ضفة ثالثة