في الجولان السوري المحتل: الآثار في خدمة الاستعمار/ تيسير خلف

25 مارس 2025
أنفق الرعيل الأول من علماء الآثار الصهاينة قرناً كاملاً في إرسال بعثات استكشافية إلى الجولان، بحثاً عن قصص الكتاب المقدس وآثارها المتخيلة، بغية تأسيس مستوطنات ليهود شرقي أوروبا في هذه المنطقة الحيوية إضافة إلى مناطق أخرى مجاورة لها في فلسطين وشرقي الأردن وحوران.
من أبرز المستكشفين المبشرين الذي زاروا الجولان ودرسوا آثاره عالم اللاهوت إيلي سميث (1801- 1857) وويليام.م تومسون (1806- 1894) وإدوارد روبنسون (1794- 1863)، والذي سيكون له أكبر الأثر في تأسيس علم الآثار الكتابي. وعموماً، لا تخرج بحوث روبنسون عن إطارها الكتابي المُغرق في لاهوتيّته، فالتاريخ والآثار يجب أن يخدما التبشير الأنغليكاني، وإلا فلا داعي للتطرّق إليهما، والدليل على ذلك إهماله المتعمّد الحديث هوية قلعة الصبيبة العربية التي بنيت زمن الأيوبيين، وإشارته غير الرزينة إلى أن الفينيقيين هم الذين بنوها! ومن أجل هذا تعجّ أبحاث روبنسون وصاحبه إيلي سميث بالاجتهادات النظرية من دون أن تستند إلى معطياتٍ آثارية يعتد بها، أما صديقهما الثالث المستر ويليام .م تومسون صاحب الدليل السياحي “الأرض والكتاب”، فكان يعيش في عالمٍ غير مرئيٍّ أبطاله نصف قبيلة مناشيه والدانيين وغيرهم من أسباط بني إسرائيل!
ويمثل سيلا ميريل (1837- 1909) الجيل الثاني من علماء الآثار التوراتيين الأميركيين الذين قصدوا “الأراضي المقدسة” بحثاً عن جغرافيا الكتاب المقدّس التي كانت تشغل رجال الدين الأنغليكان بشكل خاص آنذاك. وفي أثناء أعماله الاستكشافية في منطقة جنوب الجولان في 6 مارس/ آذار 1876، لم يخف ميريل تطلعه إلى توطين شعبٍ “متحضّر” في هذه الأراضي حيث يقول: “وإذا ما خضعت سورية يوماً لحكومة صالحة وقطنها شعب ذكي متحضر، فإن هذه الينابيع (الحمّة) سوف تصبح، من دون ريب، واحداً من أروع المنتجعات المائية في البلاد كلها”. ولكن، وبعد 15 عاماً كان هو نفسه واحداً من أشد معارضي مذكّرة بلاكستون (العضو الفعال في الكنيسة التدبيرية)، التي يعتبرها كثيرون الوثيقة الصهيونية الأولى الداعية إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين عام 1891، أي قبل كتاب هيرتزل “دولة اليهود” والمؤتمر الصهيوني الأول بسنوات.
مشروع استيطاني
ولم يكتف النائب السابق في البرلمان البريطاني لورانس أوليفانت (1829- 1888) برحلةٍ استكشافيةٍ على خطى رجال الدين الانغليكان الذين سبقوه، بل حمل في 1879 مشروعاً متكاملاً للاستيطان اليهودي في فلسطين وشرق الأردن، بما فيه منطقة الجولان، وعرضه على السلطان عبد الحميد، غير أن السلطان رفضه بتحريضٍ من المسيحيين العرب، كما قال في مقدّمة كتابه “أرض جلعاد” الذي يبسُط فيه أفكاره حيال هذه الأرض بمعزلٍ عن سكانها الأصليين، فالهاجس المسيطر عليه، بفعل أفكاره الإنجيلية المغرقة في تطرّفها، تقريب موعد القيامة عبر إعادة اليهود إلى الأراضي المقدّسة الواقعة على جانبي وادي الأردن، حسب الفهم الكتابي (التوراتي). ولذلك تجده في مقدّمة كتابه يحاول أن يبرّر هذا الأمر منطقياً، بعرضه مجموعةً من الاحتمالات التي تستقر على اليهود وحدهم.
وبحسب مشروعه الاستيطاني الذي يهدف إلى النهوض بواقع السلطنة العثمانية، وتخليصها من عثراتها، يقترح تأسيس شركة مساهمة لإقامة مستوطنةٍ أو مستوطناتٍ في مناطق مختلفة من فلسطين والجولان وشرق الأردن، ويعرض بطريقة “المنطق الصوري” جلب مستوطنين غربيين مسيحيين إلى هذه المستوطنات، ولكنه يقرّر أن الأوروبيين يتطيّرون من فكرة أن يصبحوا رعايا تحت حكم السلاطين العثمانيين، ثم يقترح توطين المسلمين الذين أخرجوا من ديارهم في بلغاريا ورومانيا ومعظمهم من الشراكسة المهجرين سابقاً من شمال القوقاز، لكنه يشكّك برغبة الدول الأوروبية في تمويل مثل هذا المشروع الذي يخص المسلمين وحدهم. ولذلك الحل السحري الذي يخرُج به هو اليهود، وخصوصاً يهود أوروبا الشرقية الذين يعانون من اضطهادٍ يجعلهم يفضلون العيش تحت حكم العثمانيين من أن يبقوا تحت حكم الدول التي يعيشون بكنفها، نظراً إلى التسامح والرعاية اللذين يسبغهما السلاطين العثمانيون على رعاياهم اليهود، تلك الرعاية الموثقة بفرمان للسلطان عبد المجيد عام 1840.
شوماخر ومدرسة التلفيق الآثاري
وفي أواخر القرن التاسع عشر، استكمل المهندس الألماني غوتليب شوماخر (1857- 1925) عمليات استكشاف الجولان لصالح الجمعية الألمانية لاستكشاف الأراضي المقدّسة، وصدر كتابه “الجولان” بالألمانية والإنكليزية مرفقاً برسوم توضيحية وخريطة تضم معظم أجزاء الجولان التاريخي، باستثناء الجزء الشمالي الغربي، وساد انطباع عام لدى الأوساط الأكاديمية الغربية أن شوماخر درس كل شيء ومحّصه، ولم يعد هناك ما يغري الباحثين لخوض غمار استكشاف هذا الإقليم الذي يعدّ جزءاً رئيساً من الأراضي المقدسة.
ورغم الجهد الكبير الذي بذله شوماخر في دراسة المظاهر الطبيعية والسكانية والوقائع التاريخية واللقى الأثرية، إلا أنه بقي أسير النظرة الاستشراقية الاستعلائية التي تختزل التاريخ العربي للجولان ببضع كلمات، فها هو يختزل 13 قرنا ببضع جمل قال فيها: “بعد الهزيمة الدامية للبيزنطيين عند نهر اليرموك (634) في أقصى الطرف الجنوبي للجولان، سقطت هذه البلاد مع سورية بأكملها في يد العرب، الذين لم يخلدوا ذكرهم هنا، رغم ذلك، إلا من خلال معالم ذات هندسة رديئة”.
والغريب أن الأحكام القطعية التي أطلقها شوماخر امتدّت أيضاً لتمنح اليهود فضل بناء أبنيةٍ كثيرة لا دليل على يهوديتها سوى وحدات زخرفية، تمثل نصف دائرة، قد تكون تساعية الشعب أو عشاريتها، تَصوَّر هو، كما تَصوَّر ميريل قبله، أنها قد تشبه الشمعدان اليهودي! ولذلك يطلق شوماخر حكماً قطعياً بأن هذه الأبنية “ذات شخصية يهودية لا شك فيها، وتثبت خصائصها المعمارية أن المقدرة اليهودية استطاعت أن تجعل نفسها ملموسةً بشكلٍ صريح حتى بالقرب من التفوّق الروماني”، حسب تعبيره الحرفي. وعلم الآثار الصهيوني المعاصر في دولة إسرائيل مدينٌ لشوماخر بجميع المبادئ والأسس التي بنى عليها رؤاه المتخيلة لآثار الجولان، فحتى هذه اللحظة ما زال علماء الآثار الصهاينة يرددون الخرافات نفسها التي أطلقها شوماخر في نهايات القرن التاسع عشر، رغم تقدّم هذا العلم وخروجه من القوالب النمطية التي كرسها روبنسون وشوماخر حول تاريخ الجولان وآثاره.
تغييب الآثار العربية الإسلامية
وبشأن التصوّرات التي يحاول علماء الآثار الصهاينة الإسرائيليون تكريسها عن آثار الجولان، فقد يسلّط هؤلاء الضوء على أثر عادي يمكن العثور عليه في أي مكان، لغايةٍ في نفس يعقوب، وقد يتجاهلون موقعاً عظيماً شامخاً للسبب نفسه.
وعلى سبيل المثال، ضخَّم علماء الآثار الإسرائيليون من بعض المواقع، مثل “خربة كنف”، أو “خربة عين النشوط”، أو “قلعة السنام”، أو “خرائب دبورة”، بسبب زعمهم أنها تضم كنساً يهودية بنيت في الفترة البيزنطية. ورغم أن هذا الكلام لا يصمد أمام أي محاكمةٍ عقلية، إلا أنهم يصرّون على القول إن الحقبة البيزنطية شهدت ازدهاراً في الاستيطان اليهودي في الجولان، غير مثبت إلاَّ في كتب الهالاخاه والتلمود. أما المواقع الشامخة العظيمة مثل آثار بانياس وقلعة الصبيبة وِفِيْق وكفر حارب ذات الهوية العربية الإسلامية، فلم يولوها أدنى اهتمام، لأنها تدحض مزاعمهم.
وبما أن علم الآثار لم يقدم أي قرينة تدعم ادعاءات الصهاينة بوجود آثار عبرية في الجولان، فإن البحث لا يزال جارياً على قدم وساق عن أي قطعة فخار، أو حجر عليه رمز ما، أو عملة نقش عليها اسم ملك يهودي مزعوم. وجميع الدلائل التي ساقها علماء الآثار الإسرائيليون على يهودية بعض المواقع في الجولان استنتاجية تعتمد على تفسير رموز تستخدم لدى البشرية جمعاء على أنها يهودية خاصة، مثل رمز الأسد أو الحمامة أو الأفعى أو قرط العنب. أما الأدلة الفاقعة الدامغة التي لا تقبل مجالاً للشك فهي العائدة إلى الحقبتين المسيحية والإسلامية، حيث تشير الكتابات والرموز إلى تجذّر هاتين الديانتين في الجولان، وخصوصاً الديانة المسيحية التي لا يخلو بيت من القرى المعروفة بأن فيها آثاراً بيزنطية، من رمز الصليب أو كتابة يونانية مسيحية.
20 كنيساً يهودياً شرقي بحيرة طبريا؟
تتحدّث البعثات الأثرية الإسرائيلية عن عثورها على أكثر من 20 كنيساً يهودياً في منطقة صغيرة شمال شرق بحيرة طبريا، وهو ما يعتبرونه دليلاً على أن سكان هذا الموقع من الجولان كانوا يهوداً في العصر البيزنطي. المعضلة الجوهرية في هذه الادعاءات أنها ظنّية، تعتمد على الحدس والرموز أكثر من اعتمادها على أدلة دامغة، فالكنس العشرون المزعومة هي أبنية عادية لا يوحّدها اتجاه، علماً أن أحد المباني المندثرة في قرية نعران صنّف كنيساً فقط لأن واجهته تتجه نحو القدس! وعثر بالقرب من بعض هذه الكنس المزعومة على زخارف لرموز نباتية وحيوانية كانت شائعة في ذلك الزمن مثل عقدة هيراكليس، أو إكليل الغار، أو حمامة وأفعى وقرط عنب. وهي رموزٌ يمكن أن نجدها في أي منازل أو كنائس في المنطقة، كما عثر على قطع فخارية قيل إن عليها أسماء متبرعين لبناء تلك الكنس، أما الشمعدانات فلها شعب مختلفة العدد، ثلاثية وخماسية وتساعية، وهي تعد على أصابع اليد الواحدة. وبالإضافة إلى ذلك هي موجودة في كنائس مسيحية إلى جانب الصلبان، وهو ما يثير شكوكاً حول وظيفتها ورمزيتها، حتى أن الباحثين باتوا على قناعة بأن الشمعدان كان رمزاً مسيحياً في الحقبة البيزنطية. وهناك زخارف قيل إنها شمعدانات تبين أنها شجرة زيتون مقدّسة إلى جانب الصليب. وهذا ما بدا واضحاً في الأسكفة التي تحدث عنها شوماخر في قرية بريقة، وادّعى أنها شمعدان يهودي فوق صليب مسيحي، بينما هي في الواقع رمز شجرة الزيتون المقدّسة عند المسيحيين. وينطبق هذا الكلام على الكنيسة المسيحية في قصرين، والتي جرى تحويلها إلى كنيس أثري من دون أي دليل دامغ على ذلك، وقد جرى ترميمُها بطريقةٍ توحي بأنها كنيسٌ حقاً، عبر إضافة مقاعد حجرية تحيط بالجدران من الداخل.
وينطبق الأمر نفسه على المبنى العام في قلعة السنام، أو جملة كما يسمّونها، فقد تم ترميم القاعة الكبيرة بالطريقة نفسها، أي إضافة مقاعد حجرية تحيط بالجدران، والدليل الذي تم اعتماده على يهودية هذه القلعة، عملة معدنية لا مثيل لها في العالم، كتب عليها “من أجل عزّة أورشليم”.
وفيما يخص كنيس الحمّة المزعوم، فقد اعتمد في تحديده على لوحة فسيفسائية لأسديْن، قيل إنهما يشبهان أسدي كنيس بيت ألفا في فلسطين، من دون وجود أي دليل آخر سوى كتابة باللغة الآرامية تتحدّث عن أسماء المتبرّعين ببنائه، وجميعهم ليسوا من سكّان الحمّة، بعضهم من كفر عاقب في منطقة البطيحة، وآخر من سوسيا وكفر ناحوم وعمواس وأربل. وما يلفت النظر أيضاً حسب تأكيدات البعثة الأثرية الإسرائيلية عدم وجود رموز أو شعاراتٍ أو عباراتٍ لها علاقة باليهودية، بل إن ما يزيد الأمر استغراباً وجود لقب لأحد المتبرّعين هو القمص، وهو لقب مسيحي قبطي معروف.
مصادر هلاخية شرعية
وقد أدّى اعتماد المصادر الهلاخية (الشرعية) في تحديد هوية بعض القرى الجولانية باعتبارها يهودية، إلى الوقوع في خيبة أمل لدى الباحثين الإسرائيليين، الذين أقرّوا بأن القرى التي يرد ذكرها في كتب الهلاخاه، وهي عينوش (التي قيل إنها العوانيش)، وعينحارة (؟)، ودمبر (؟) وعيون، ويعروت (؟)، وكفار يحريب (التي قيل إنها كفر حارب)، ونوب (التي قيل إنها ناب)، وخسفيه (التي قيل إنها خسفين)، وسمخ، لم يعثر في أي منها على أي أثر يهودي، بل عثر على آثار مسيحية، بينما قالوا إنهم عثروا على رموز يهودية في قرى لم تصنف في الهلاخاه بأنها يهودية!
ومن أمثلة يستخدمها بعض الباحثين الإسرائيليين للتدليل على هوية منطقة ما في الجولان بأنها يهودية، نذكر المثل الوارد في كتاب “الجولان في الحقبتين الرومانية والبيزنطية” لدان أورمان، الذي دلّل على أحد افتراضاته بما ورد في مدراش تناعيم في سفر التثنية: “قالوا: عندما انطلق هدريان على الطريق الصاعدة إلى الحمّة، وجد شابّة من إسرائيل.. قال لها: ما أنت؟ فقالت له أنا من بنات إسرائيل، فنزل عن جواده في الحال وركع أمامها”. ومع أن الباحث يقرّ بأسطورية هذا المدراش، إلا أنه يعتبره مؤشّراً يدعم فكرته.
كما يستشهد الباحث نفسه بنصّ حاخامي؛ يحاول أن يثبت من خلاله أن بيت صيدا كانت يهودية، والمثال يرد في اليروشاليمي شيكاليم ونصّه: “تقول تعاليم الحاخام شمعون بن غمائيل قال: ذهبت مرّة إلى صيدان (بيت صيدا) فجلب أمامي ثلاثمائة نوع من الأسماك على صينية واحدة”. ورغم إقرار الباحث بأن الأبحاث دلّت على عدم وجود أكثر من 18 نوعاً من الأسماك في بحيرة طبريا، إلا أنه يعتبر ذلك دليلاً غير مباشر على افتراضه.
عبثية المحاولات
عبثيّة محاولات الباحثين الإسرائيليين تتجلى بالبحث عن فترة ازدهار افتراضية للاستيطان اليهودي في الجولان، في المرحلة البيزنطية التي تعتبر ذهبيةً بكل المقاييس بالنسبة للديانة المسيحية، ليس في الجولان وفلسطين وعموم منطقة شرق المتوسّط فحسب، بل في العالم القديم أجمع. وهو ما يؤكّد على الغاية الحقيقية من كل تلك البحوث وهي دعم الاستيطان الصهيوني في الجولان بعلم الآثار، نوعاً من البحث عن مشروعية ما للاحتلال.
العربي الجديد