من يجرؤ على الاعتراض/ أنس أزرق

25 مارس 2025
لم يفز الفيلم الكرواتي “الرجل الذي لم يستطع الصمت” (13 دقيقة) لمخرجه وكاتبه نيبويشا سلييبشيفيتش بجائزة أفضل فيلم روائي قصير في أوسكار هذا العام، والتي وصل إلى قائمتها القصيرة مع خمسة أفلام أخرى، بينما قد سبق أن فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان. ومع ذلك يستحق موضوع الفيلم روايته، ولا سيما من زاوية ما يحدُث وما حدث في سورية.
يروي الفيلم المبني على وقائع حقيقية ما حدث على قطار متجهٍ من مدينة بلغراد إلى مدينة بار في الجبل الأسود، حيث أوقفت مجموعة مسلحة القطار، لترتكب مجزرة شتربتشي في البوسنة والهرسك عام 1993 حيث أعدمت 19 مدنياً منهم 18 مسلما وضابط كاثوليكي كرواتي.
في القطار، يفحص قائد المجموعة المسلحة “النسور البيضاء” هويات الرّكاب وليتأكد من انتمائهم الديني، يسألهم من أي منطقة تعود اصولهم، ومن هو شفيع هذه المنطقة، حيث يعتقد الكروات الكاثوليك بملاك حارس وحام لكل منطقة.
هنا، يحضرني “الاختبار الطائفي” (أو الديني)، والذي يقوم به المتطرفون أحيانا كي يبرّئوا ذمتهم، ولا يقتلوا الا قاصديهم من دين أو قومية أو طائفة بعينها، كما فعل النازيون، حين كانوا يبحثون عن اليهود بالكشف إن كان الشباب مختونين أو ليسوا كذلك. وفي أثناء سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على بعض المناطق السورية كانوا يسألون عن عدد الصلوات وأحكامها وما يحفظ المرء من آيات القرآن الكريم وسوره، ليتأكّدوا أن المعني من الطائفة السنّية أو من غيرها.
وتذكّر مجموعة “النسور البيضاء” بأسماء المجموعات المسلحة والشبّيحة التي أسّسها النظام في سورية وولعها بالنسور والصقور والأسود، وغيرها من الحيوانات الضارية التي تحيل إلى حيونة هذه المجموعات.
كانت المجموعة المسلّحة تريد تصفية المسلمين، ولكن يحدُث أن يكون في إحدى المقصورات مسلمٌ لا يحمل هويته، وآخر كرواتي يرفض السكوت على طلب قائد المجموعة بإنزال المسلم لقتله، ويتلاسن مع المسلح متسلّحا بأنه ضابط في الجيش اليوغسلافي، وينتهي المطاف به قتيلا في المذبحة، فيما ينجو المسلم الذي كان معه في المقصورة، وما زال على قيد الحياة.
رفض الكرواتي المسيحي تومو بوزوف، وهذا اسمه الحقيقي، قتل إخوانه المسلمين، ورفض السكوت على المذبحة، فكان نصيبه القتل، وهذا يحيل إلى ما حدث وما يحدُث في سورية، حيث الانقسام الحادّ بين دعاة الثأرية والتشفّي والانتقام الطائفي وأنصار العدالة الانتقالية ودولة القانون، والذي نرى معاركه الواقعية والافتراضية، حيث يتذابح السوريون، سيما في “فيسبوك”، حيث يعيش معظمهم.
ما لا يرويه الفيلم أن قائد مجموعة النسور البيضاء، ميلان لوكيتش، اعتقل في الأرجنتين وحكمت عليه عام 2009 محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بالسجن مدى الحياة، لارتكابه جرائم مختلفة، بينما حكمت محكمة بوسنية عام 2020 عليه وعلى سبعة من الصرب البوسنيين بالسجن 91 عاماً، بارتكاب مجزرة شتربشي، ولكن لوكيتش المسجون في أستونيا رفض الاعتراف بها.
رمت “النسور البيضاء” جثث ضحايا مذبحة القطار، وأيضا الكثير من جثث الرجال والنساء والأطفال البوسنيين خلال حملات التطهير العرقي التي شاركت بها في نهر درينا ببلدة فيسيغراد، كي لا يقال إن الأسماك جاعت في نهر درينا. وقد وصفت محكمة الجنايات الدولية ليوغوسلافيا السابقة جرائم ميلان بأنها “تجسّد أسوأ أعمال اللاإنسانية التي قد يرتكبها الإنسان بحق الآخرين، وهي مثالٌ على التاريخ الطويل والحزين والبائس لانعدام إنسانية الإنسان تجاه أخيه الإنسان”.
عاش ميلان المجرم فترة بعد انتهاء الحرب حرّاً طليقا، بل وارتكب بعض الجرائم خلال هذه الفترة، ومنها قتل صربي ساهم بإخفاء المسلمين وتهريبهم والمشاركة بعصابة لتهريب المخدرات.
كتب لوكيتش مذكّرات بعنوان “اعتراف سجين من لاهاي”، اعترف به ببعض الجرائم دفاعاً عن الشرف الصربي. ولذلك لا يشعر بأي ذنب أو تأنيب ضمير، وقد احتفى بالكتاب متعصبون صرب، ومنهم بعض رجال الدين. للأسف، ومع الحزن الشديد، تكرّر ويتكرّر هذا السيناريو في الوضع السوري، ومعه ننحدر إلى قاع مظلم، لا نهاية له، والأمل أن يتطهر ويتبرّأ السوريون من المجرمين وجرائمهم، أيا كان مرتكبوها ويسلموا هذا الملف لقضاء عادل، ولا بأس بتشكيل محكمة عربية أو دولية لجرائم الحرب التي حدثت منذ بداية الثورة السورية.
العربي الجديد