أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

دمشق وموسكو خطوة جديدة إلى الأمام/ بشير البكر

27 مارس 2025

تتمسك روسيا بمواقعها القليلة المتبقية في سورية، وتقدم مقابل ذلك العديد من الإغراءات للسلطات السورية، كي لا تواجه مصير إيران، التي اجتُث نفوذها السياسي ووجودها العسكري والأمني والاقتصادي، بالتزامن مع سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي. وفي العلاقة الحالية بين دمشق وموسكو تنشط الديبلوماسية الروسية على عدة مستويات للإبقاء على الحرارة قائمة مع سورية، رغم أن روسيا خسرت بعد سقوط النظام دورها السياسي والأمني والاقتصادي في البلاد. ولم يبق لها على الأرض سوى قاعدة حميميم العسكرية الواقعة في ريف مدينة اللاذقية الساحلية، والتي فقدت الوظيفة السابقة لها داخل سورية وخارجها، وباتت خاضعة في عملها لقوانين الدولة السورية.

صفحة جديدة بين دمشق وموسكو

لم تتبع موسكو خطى إيران وتنأ عن دمشق وتعادي السلطات الجديدة، بل تعمل على بناء علاقات ذات طبيعة مختلفة عما كان عليه الأمر مع نظام الأسد، تعتمد على تبادل المصالح. كما خطت عدة خطوات في سبيل إغلاق صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة. من أجل ذلك كثفت الاتصالات على أعلى المستويات، فيما بادر الرئيس فلاديمير بوتين، في فبراير/شباط الماضي، إلى الاتصال هاتفياً بالرئيس السوري أحمد الشرع، مؤكداً دعمه لوحدة وسيادة سورية، واستعداد موسكو لتقديم المساعدة الاقتصادية والإنسانية. لهذا الغرض أوفد إلى دمشق ميخائيل بوغدانوف، مساعد وزير الخارجية والسفير الأسبق في سورية، الذي عقد عدة لقاءات تناولت العديد من الملفات الحساسة. كما نقل إلى القيادة الروسية طلبات وأسئلة السلطة السورية في ما يخص ملفات كالأضرار التي خلفها التدخل العسكري الروسي بسورية، ووضع الرئيس المخلوع بشار الأسد في موسكو، ومستقبل الوجود العسكري الروسي في منطقة الساحل السوري.

بعد نحو أسبوعين من أحداث الساحل السوري، بعث بوتين، وتحديداً في 20 مارس/آذار الحالي رسالة إلى الشرع، أثارت تساؤلات حول توقيتها ومضمونها، لا سيما أنه نادراً ما يقوم بذلك. ودرجت العادة على اعتماد قنوات أخرى للتواصل مع رؤساء الدول، منها إرسال موفدين عنه يبلغون رسائل مكتوبة أو شفوية، وفي ذلك جانب من الاعتداد بالنفس، والتعامل بأسلوب رئيس دولة عظمى. في الوقت ذاته، من المتعارف عليه أن يوجه الرؤساء رسائل لنظرائهم، إما في المناسبات الوطنية أو للتهنئة بالتنصيب أو نجاح الانتخابات أو استفتاء ما وأحياناً للتعبير عن التضامن والتعاطف في حالات الكوارث، وما إلى ذلك. إلا أنه لم يسجل وقوع أي حدث أو مناسبة من هذه في سورية قبل الرسالة، ما يعكس أهمية سورية وما تمر به في هذا الوقت، بالنسبة لروسيا. رسالة بوتين إلى الشرع، والتي أعلن عنها الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، كما جاء في وكالة تاس، “أعرب فيها عن دعمه للجهود الرامية إلى استقرار الوضع في البلاد بأقرب وقت ممكن، بما يخدم ضمان سيادة سورية واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها”. وأكد على “استعداد روسيا المستمر لتطوير التعاون العملي مع القيادة السورية بشأن جميع القضايا المدرجة على جدول الأعمال الثنائي، وذلك من أجل “تعزيز العلاقات الروسية السورية الودية”.

ترى مصادر سورية مطلعة أن توقيت الرسالة على صلة بالأحداث الطائفية التي شهدها الساحل السوري، وتداول بعض وسائل الإعلام لأنباء مجهولة المصدر، عن دور روسي في دعم تحرك فلول النظام، خصوصاً ماهر الأسد شقيق الرئيس المخلوع. وحسب أكثر من قراءة، أراد بوتين من وراء توجيه الرسالة، تحقيق أكثر من هدف. تبدأ هذه الأهداف من نفي الصلة بأحداث الساحل، وعدم السماح لشخصيات من النظام السابق بالعمل من روسيا لتقويض الاستقرار في سورية، بمن في ذلك بشار الأسد، والالتزام بدعم وحدة واستقرار سورية في ظل دعوات التقسيم ومحاولات إثارة الاضطرابات بتشجيع من إسرائيل وإيران. وفي الختام النية لوضع أسس علاقات جيدة بين دمشق وموسكو تقوم على معالجة ملفات الماضي، وتعزيز المصالح المشتركة.

في طليعة الأسباب التي تدفع موسكو للاحتفاظ بعلاقات جيدة مع دمشق، أن سورية البلد الوحيد في الشرق الأوسط، الذي لا يزال يحتفظ بحضور روسي عسكري ويرتبط باتفاقات على هذا المستوى من خلال قاعدة حميميم، وميناء طرطوس، الذي يقدم خدمات للأسطول العسكري في حوض البحر الأبيض المتوسط. وتدرك روسيا أهمية الموقع السوري، سواء بالنسبة لدورها في الشرق الأوسط، أو لقواتها المنتشرة في عدة بلدان أفريقية. وحسب تقديرات عسكرية توفر قاعدة حميميم وحدها قرابة نصف الكلفة المادية للجهد الروسي في أفريقيا، وتختصر الزمن والمسافة في الوقت ذاته لقواتها.

العلاقات بين دمشق وموسكو قديمة العهد، تعود إلى بداية ستينيات القرن الماضي، وهي تنقسم إلى مرحلتين. الأولى عبارة عن شراكة كاملة، سياسية وعسكرية واقتصادية، استمرت حتى سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991. واعتمدت سورية على الاتحاد السوفييتي في تسليح جيشها، وبناء المطارات والطرق والسدود وسكك الحديد والمصانع واستخراج النفط، ولم يتغير الوضع كثيراً بعد ذلك في المرحلة الثانية من العلاقة بين دمشق وموسكو. بدأت تلك المرحلة مع انتخاب بوتين رئيساً (2000) وعادت العلاقات بين البلدين إلى زخمها القديم. أصبح اعتماد النظام السوري مع رئاسة بشار الأسد على موسكو، أساسياً بعد الثورة (2011)، ما تجلى في التدخل العسكري الروسي المباشر لحماية النظام من السقوط في عام 2015.

مصالح متبادلة

يتقاطع الصراع الدولي والإقليمي من حول سورية، مع المصالح السورية الروسية المشتركة، وهذا ما يُبقي موسكو حاضرة بقوة كطرف أساسي، لا يمكن بأي حال من الأحوال، إسقاط دورها. يعزز من ذلك أنها تحتفظ بتفاهمات قديمة حول الملف السوري مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد عملت الأطراف الثلاثة مجتمعة، وكل طرفين على حدة، على أساس قواعد اشتباك لا تزال سارية المفعول، حتى في حال انكفاء الدور الروسي بعد سقوط الأسد. وجاءت رسالة بوتين للشرع، بعد مكالمة الرئيس الروسي مع نظيره الأميركي دونالد ترامب، بيوم واحد فقط. حسب معلومات إعلامية جرى تداولها، فإن الرئيسين ناقشا الوضع في سورية وخطوات الحكم الجديد بعد سقوط الأسد، وسبل تحقيق الاستقرار في البلاد. وتميل بعض القراءات إلى اعتبار الموقف الروسي إيجابياً، ومشجعاً لواشنطن حول مسألة رفع العقوبات المفروضة على سورية.

قوات روسية في القحطانية ـ الحسكة، 8 أكتوبر 2022 (دليل سليمان/فرانس برس)

عدم صلة موسكو بأحداث الساحل، وحصر الدعم الخارجي لها (بحسب ما تم تداوله) بطهران، يساعد في تبريد الأجواء بين دمشق وموسكو. كما يفتح الطريق إلى مباحثات، يتم فيها وضع كل طرف لأوراقه على الطاولة. من جانب السلطة بسورية هناك عدة ملفات ثقيلة تحتاج إلى تسوية قبل النقاش بالتوصل إلى اتفاقات جديدة، ما يعني أن التفاهمات السابقة بشأن قاعدة حميميم وميناء طرطوس سارية المفعول في حدها الأدنى، ما يفسر وصول شحنات نفط روسية إلى سورية. الملف الشائك هو مشاركة روسيا في الحرب إلى جانب النظام السابق، والذي أسفر عن قدر كبير من الضحايا البشرية والتهجير والتدمير. تشترط سورية ضرورة إقرار موسكو بالمسؤولية المادية والأخلاقية، والاعتراف بالجرائم التي ارتكبتها قواتها، وتقديم كل ما يترتب على ذلك، من التعويض إلى الاعتذار.

والملف الثاني الذي يبدو أكثر تعقيداً من السابق، يتعلق بطلب تسليم بشار الأسد، ومن لحق به من أركان نظامه، واستعادة الأموال التي نهبها من الخزانة العامة، وكل ما يعود للدولة السورية. وحسب التسريبات التي صدرت عن أوساط إعلامية قريبة من موسكو، فإن الشرع ناقش هذه النقاط مع بوتين في المكالمة بينهما، لكن الجانب الروسي ليس في وارد التجاوب مع المطالب السورية. أبرز نقطة خلاف بين دمشق وموسكو تتعلق بتسليم الأسد شخصياً، وقد توافق موسكو على تسليم بعض الضباط لكنها تعتبر الأسد خطاً أحمر في الوقت الراهن. أفاد بذلك بعض الإعلاميين المقربين من الرئاسة الروسية، لكن هذا لا يعني أن موسكو لن تسلم الأسد حين تتلقى ثمناً غالياً لذلك. أما بصدد دفع تعويضات عن التدمير الذي ألحقه القصف الروسي، فإن النقطة قابلة للنقاش، وثمة من يرجح بأن موسكو يمكن أن تقدم مساعدات في إعادة تأهيل البنى التحتية تقوم بها شركات روسية تابعة للدولة، وهو أمر يناسب السلطات السورية في هذه المرحلة.

أما من طرف روسيا فهناك عدة طلبات، منها تسديد الديون المترتبة على النظام السابق، والوفاء بالاتفاقيات الاقتصادية، والإبقاء على قاعدة حميميم نقطةَ ارتباط لروسيا مع قواتها في أفريقيا، واستضافة الأسطول الروسي في ميناء طرطوس. ويبدو من ردات الفعل الأولية أن الدولة السورية تتعامل ببراغماتية مع ذلك، في ظل عدم وجود بدائل لديها بسبب استمرار العقوبات الدولية. والعقوبات إحدى الأوراق التي تعمل موسكو على استثمارها، ومن المرجح أنها ستكون أهم الدوافع المحفزة للتقارب والتفاهم بين دمشق وموسكو.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى