كيف تُجمّد الصور الحزن في سوريا؟/ مصطفى ديب

27-مارس-2025
لنتخيل أن سوريا ليست بلدًا، بل هي مجرد معرض صور فوتوغرافية معلّق على جدران قاعة كبيرة. ما الذي سنراه أولًا؟ وجوه بشر غائبين هم المعتقلون المختفون والشهداء؟ وربما نرى أمكنة طُمست بالزلازل التي سببتها البراميل المتفجرة، واختفت خلف سحب الغبار والرماد؟ وهل ستكون صور البشر والأمكنة كما كانت في لحظة الحياة، أم كما أصبحت بعد الغياب؟
في دمشق، حين نمرّ بشارع عُلقت عليه عشرات الصور لوجوه غائبة، نرفع أعيننا للحظة، ثم نكمل سيرنا. بعد مرة أو اثنتين، تصبح الوجوه جزءًا من المشهد العام، من نسيج المدينة اليومية، من ضجيجها. لا تعود “وجوهًا”، بل تتحول إلى ظلال مطبوعة، لا في المكان فقط، بل في الوعي أيضًا. الغياب هنا لا يُحسّ، بل يُرى، ويُرى حد الاعتياد.
كما نعتاد الوجوه الغائبة، نعتاد صور الأمكنة المدمرة. القابون، جوبر، مخيم اليرموك… كانت ذات زمن تنبض بالحياة، واليوم تُختزل إلى صور ركام نتقبلها كما لو أنها قدر محتوم.
الاعتياد هو الطريقة التي ينزلق بها النسيان إلى الحضور. حين تتكرّر الصورة، لا تعود تذكّر بشيء، بل تصبح هي ذاتها موضوعًا جديدًا، مكتفيًا. كأن التكرار يمحو الفقد عبر مفعول معاكس: لا بالإنكار، بل بالإشباع المفرط بالرؤية.
في إدلب، لا تقتصر الصور على الجدران. بل تملأ شاشات الهواتف، حيث يضع الناس صور الغائبين كخلفيات، كي يتكرر الوجه نفسه يوميًا، كأنهم يعيدون بثّه كي لا يغيب. كأن الصورة مقاومة للقوة التي تسحبه من الوجود. لا نطلب من الصورة أن تقول شيئًا، بل فقط أن تبقى. أن تبقى بما يكفي لتعلّق الزمن في لحظة لم تكتمل.
في الظاهر، يبدو كل هذا شكلًا من أشكال الوفاء. لكنّه ليس كذلك فقط. إنه ارتباك في التعامل مع النهاية. الصور لا تحيي أصحابها، بل تضعهم في وضع مؤجل: لم يرحلوا حقًا، ولم يعودوا أحياء. الصورة لا تشهد على الموت، بل تؤجله. لا تعلن النعي، بل تنكره بطريقة ناعمة. في الماضي، كانت الصورة جزءًا من الذاكرة المؤجلة، تُفتح في مناسبات، وتُطوى في غيرها. اليوم، الصورة متوفّرة على الدوام، حاضرة أكثر من الحيّ، ومفروضة أكثر من الغائب.
الأمر نفسه يحدث مع الأماكن إذ تبدو صور الأحياء المدمّرة كأنها نوع من الوثائق، لكنها ليست وثائق محايدة، بل شهادات من نوع خاص تقول: “ما زال مكاننا كما هو، ولو على هيئة أنقاض”. في كل مرة نرى فيها صور الدمار، لا نحزن كما في المرّة الأولى، بل نعتاد الحطام، وننزع عنه صفة الكارثة. الصورة هنا أيضًا لا تسمح للمكان بأن يُدفن، ولا للذاكرة بأن تمضي. إنها تؤجل ترميم الروح كما تؤجل إعادة الإعمار. تضع المدن في حالة من السكون المؤلم، لا الماضي يمضي، ولا الحاضر يأخذ مفعوله.
تصبح الصورة وسيلة لتعطيل النسيان. تمنع الحزن من أن يُغلق على نفسه ويأخذ مجراه. تفتح في داخلنا نافذة كي تدخل منها الريح كل يوم مجددة الحزن. لا مجال للوداع، والبدء من جديد. نعيش مع الحزن، لا فيه. نحمله معنا مثل ظل، لكنه ليس ظل الفقيد ولا المكان المقوَّض، بل ظلنا نحن، وقد علقنا في مرحلة ما على حافة الموت.
في المحصلة، يبدو أن السوريين لم يُمنحوا فرصة الحداد، لا الفردي ولا الجمعي. لم يُدفن الحزن لأن الموت ذاته لم يُعترف به. تحول الفقد إلى أرشيف بصري، وإلى شبح يطلّ كل صباح من شاشة، من جدار، من جيب، من ذاكرة هاتف. وكأننا لم نعد نحاول استعادة من غاب، بل نحاول أن نبقيه معنا بأي شكل، حتى لو كان ذلك شكلًا من أشكال التعذيب اليومي للذاكرة.
ربما لا نفعل هذا لننقذ الذاكرة من النسيان، بل لننقذ النسيان من الذاكرة، لأننا لم نعد نحتمل الاعتراف بأننا خسرناهم فعلًا.
الترا سوريا