الحاضر السوري وسؤال عمومية الحق ونسبية التعاقد/ جمال الشوفي

2025.03.26
بين طموحات ورغبات وأحلام السوريين في تحقيق دولة المواطنة والحريات والحقوق وسندها سيادة القانون والعدالة، وبين ضرورات الواقع السوري الحالي وشدة تعقيداته ومعوقاته وتحدياته، تجتاح السوريين موجات متعددة من الاختلافات تتباين في شدتها وأثرها في الحياة السياسية السورية العامة تصل لعمقها الوطني!
وأبرز ما يجتاح بعضنا هو القسوة وشدة الاجهاد الذي يقع على من يدرك الفارق بين الصورة المثالية التي نرغب بحضورها وبين زمن توقعها وحدوثها وآليات الوصول إليها، وهذا ذو ألم وشجن وتعب مضنٍ.
فجميع البشر تمتلك تصوراً عن منزل أحلامهم، لكن بناؤه يتطلب أولاً تثبيت أساساته وتمكينها. وما يثير الدهشة أن بعض من ينظر للأساسات ويقارنها بالصورة التي يطمح لها سيقول: لا ليست ما أريد! ناسياً ومتناسياً زمن التحقق والعمل المبذول للوصول للصورة التي يريد.
تبدو سوريا اليوم محط تباين واسع في مشهدها المحلي والإقليمي والدولي، فمرحلة التأسيس لم تزل دون خط الدولة والاستقرار. فالأحداث المتتالية التي تجري على الساحة السورية تشير لتعقد مشهدها العام وتحدياتها الجسام وأبرز مظاهرها:
– التشنج والتحريض الطائفي وما يرافقه من ارتكاسات وأحداث يومية تشير لعدم الرضا من جهة، ومحاولة كل جهة أو مكون سوري لاستثمار أية فرصة للنيل من الآخر المختلف عنه فكرياً أو سياسياً أو دينياً من جهة أخرى!
– بذات السياق يبرز الرفض القطعي لكل ما ينتج عن سياق السلطة السورية الجديدة سواء في قراراتها الإدارية أو في إعلانها الدستوري للمرحلة الانتقالية، أو صعوبة وتحديات بسط الأمن والأمان على مساحة الساحة السورية برمتها. ولسان حال كثير من السوريين يرددون: هذه السلطة تبحث عن الاستئثار بالسلطة وحسب كما فعل حزب البعث سابقاً!
– التهديدات الإسرائيلية المتتالية واستمرار ضرباتها الجوية لمواقع عسكرية سورية تتركز في الجنوب السوري، مترافقة مع تهديداتها بمنع وجود مواقع عسكرية سورية فيها، واستمرارها الإعلان عن حماية الأقليات السورية، بموقف يشبه ما كان يفعله النظام السوري بادعاء حماية الأقليات!
وإذ تبدو هذه المؤشرات هي خلاصة لأحداث جمة يومية تشير لما ينتاب السوريين من قلق عام، وانعكاساتها العامة تظهر بأشد صورها في البحث عن الأسس المتينة لبناء الدولة مجدداً، وبالضرورة يلقي بجانب من المعاناة التي يمر بها الكثيرون من خلال مساهماتهم في إرساء هذه الأسس وتثبيت أركانها سواء كانوا ممن هم في السلطة حالياً أو أفراداً مستقلين. فالاكتفاء بالنقد السلبي على أهميته، لكنه غير كاف ما لم يوازيه الفعل العمومي والعمل البناء للتخفيف من الآثار السلبية للمرحلة السورية الحالية.
فما كُتب وحُرر في مقالات سابقة حول ضرورة الفصل الواقعي والفكري والسياسي بين السلطة والدولة يبقى ضرورة قائمة لأي حوار أو عمل سوري اليوم وغداً، وبالضرورة المساهمة الفعلية في بناء مؤسسات الدولة من جديد لا يعني الموالاة للسلطة القائمة كما درج مفهوم الموالاة للسلطة الساقطة السابقة، ونقد مجريات الواقع الحالي والمساهمة في تعديل أخطائه لا يعني بالضرورة استعادة فكرة المعارضة المطلقة للسلطة الحالية والبحث عن خيارات انفصالية أو عدائية تجاهها.
وفي الحالتين من الضرورة التمييز بين ضرورة المرحلة الحالية وأعبائها الجسام وبين طرق ومسارات الوصول للدولة السورية التي نرغب بها مع الزمن وبالتدريج، أو ما أسميه بتوليف التباين الحاد بين الفكرة العامة وضرورتها الواقعية. فبين صورة الدولة التي نريد أو قرأنا عنها أو عاشها سوريو الاغتراب وبين الحالة السورية قيد التشكل بكل ما ينتابها من تحديات وتباينات، تجعل النفس البشرية تعاني من شدة تناقضها، يجب الإضاءة عليها بعيداً عن استهلاك المفاهيم السابقة من موالاة ومعارضة. وبالضرورة سؤال اليوم هو سؤال الأدوات والأولويات وهذا لا يعني أيداً تناسي أو تجاهل المفاهيم المثالية التي نريد تضمينها في البناء ذاته، وبالأصح العمل على تثبيت الأساسات والأسس.
الأمن والأمان والاستقرار المادي هي أولويات المرحلة الحالية السورية، وذلك ليس لأنها قاعدة هرم ماسلو للاحتياجات وحسب، بل لكونها ضرورة لكبح الفوضى وانتشار الجريمة والبحث عن مصادر للأمان والرزق المكروه. وأيضاً لأنها الأساس الذي يفتح بوابات الثقة في بناء مؤسسات الدولة وتركيز اهتمامها المباشر في المصلحة العمومية للبشر دون تمييز بينهم حسب العرق أو الدين أو الرأي والفكر أو الجنس. ويحقق أيضاً القاعدة المتينة للقدرة على التعبير عن الذات والحرية في الاختيار وليس فقط بل تحقيق الذات في معادلة الدولة- مواطن.
ربما يناقش البعض أن الثورة السورية كان عنوانها الحرية والكرامة أولاً، ولا مجال للمفاضلة اليوم بين الحاجيات المادية تلك وبين القيم المعنوية الحق هذه. وحقيقة هذا القول قيمة وطنية وإنسانية بذاتها، ولا مجال للمفاضلة بين هذه وتلك. ولكن هذه الموضوعة بذاتها تعيدنا لما نناقشه بالأساس بين إجهاد الحاضر وصورة المستقبل والهوة التي يمكن ردمها بينهما هي الأدوات وطرق الفكر والوصول.
فالحق عمومي والتعاقد نسبي، هي مقولة الواقع الراهن السوري التي يجب أن تكون عنواناً فكرياً وتصوراتياً عن الواقع الحالي والمستقبل الممكن. وهي تجسيد فعلي لمفاهيم الدولة العصرية بكل مضامينها من حرية الرأي والتعبير وحق الاختلاف وحقوق الإنسان وحق ممارسة الإيمان والتدين دون ضغوط أو اكراه أو عنف….. وعمومية الحق تعني حق الجميع أياً كان رأيه أو ثقافته أو جنسه أو دينه، وهذه ينظمها القانون العام دون تعديات أو إكراه أو إنكار، وهي هدف الثورة العام وبوصلتها المعنونة في دولة لكل السوريين، والوصول لهذا الحق هو سؤال الضرورة والواقع، سؤال الأمن والأمان أيضاً. وسؤال إنتاج وصناعة التعاقد الاجتماعي الوطني، وهذا من غير الممكن أن يكون تعاقداً بالإخضاع أو الإكراه. فالتعاقد المنشود يعني قدرة كل فرد أو جماعة أو مكون سياسي أو أهلي على التنازل النسبي عن حقه المطلق الذي يتخيله لذاته وجماعته، لصالح الحق العام، حق المواطنة دون تمييز أو إقصاء. وبالضرورة يصبح السياق العام للبناء اليوم سياق نسبية التصورات والآراء والأفكار وإطلاقية الحق العام للجميع وفق منظار الدولة لا منظار الاستئثار والاستفراد والادعاء الزائف بأحقية مطلقة لجهة على حساب الآخرين. فالأولى بناء يبحث في الأسس للوصول للصورة العامة، وهذه مسؤولية مشتركة بين السلطة القائمة وكل المكونات المجتمعية بتنوعها والحوار والتوافق أساسها. في حين الثانية تصرّ على الصورة وفرضها بديلاً عن أية صورة أخرى مختلفة، ما يهدد بعودة الاستبداد بطرق مختلفة سلطوياً أو مجتمعياً، وهذا ما لم تكن عليه الثورة أساساً، بل كانت ضده بكل تضحياتها الجسام.
في 26 من هذا الشهر تمر ذكرى وفاة سلطان الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى، وأحد رجالاتها والآباء المؤسسين لنواة الدولة السورية قبل أن تقضمها تصورات العسكر عن الاستفراد بالسلطة وقضم الدولة لمصلحتها. ولنستذكر معاً أن سلطان ورفاق دربه كان يمكنهم الاكتفاء بالإغراءات الفرنسية بدويلة على مقاس “الدروز” وجبل العرب، ومثلهم وطنيو سورية كلٌ في منطقته ويرتاحون من هموم الوطن وحريته! لكن بصيرتهم ووعيهم الفطري قادهم لمغايرة الاستسهال والذهاب لأعلى درجات المسؤولية والوعي بضرورة التعاقد على هوية الوطن وطريقة المواطنة، دون نزاع ديني أو سياسي، وهو سؤال اليوم في عمومية الحق ونسبية التعاقد وأساس البناء وسوريا والسوريين قادرون على ذلك وإن طال الزمن وكثرت التحديات.
تلفزيون سوريا