“حديقة المسالك المتشعّبة”: بورخيس وميكانيك الكم/ ألبرتو جِيْ. روخو

ترجمة: لطفية الدليمي
(2-1)
مدخلٌ إلى المتاهة البورخيسية
في التاسع من تمّوز/ يوليو 1985، وبمحض مصادفة طيّبة، حصل أن تبادلتُ بضع كلمات مع خورخي لويس بورخيس. كان الوقت حينذاك صباحًا أعقب ليلة زواجي قبل الشروع في رحلة شهر العسل أنا وزوجتي. اعتزمنا قبل بدء الرحلة المضيّ لتحيّة والديّ اللذيّن قَدِما من مدينة توكومان Tucumán إلى بوينس أيرس العاصمة، ومكثا في فندق دورا Dorá المطلّ على شارع مايبو Maipú. أمسكتْ والدتي حينها بذراعي وقادتني إلى غرفة الطعام في الفندق. كانت كلّ طاولات الطعام فارغة ما خلا واحدةً. هناك كان يجلس بورخيس وهو يتناول غداءه صحبة امرأة ربّما كانت إستيلّا كانتو، التي كان بورخيس يتبادل معها الحديث بإسبانية تتلوها عبارات بالإنكليزية في سلسلة متناوبة: بعض الإسبانية ثمّ بعدها مقاطع بالإنكليزية ثمّ إسبانية… هكذا مضى حديثهما على هذه الشاكلة. صُعِقتُ لفرط الدهشة، ومضيتُ أتطلّعُ في بورخيس وأتفحّصه بدقّة كمن يقف أمام نُصُبٍ نحتية عظيمة وهي لا تراه ولا تُلقي له بالًا. كان بورخيس يرتدي بزّة داكنة، وربطة عنق أنيقة، وأمامه طبقٌ فيه كمّية متقشّفة من الرز الأبيض. أقنعني والدي بالاقتراب من بورخيس وتبادل الحديث معه، لذا انتظرنا حتى يفرغ من غدائه. عندما جاءه النادل – الذي كان يتعامل معه بجرعة مفرطة من التهذيب والاحترام ويناديه “كبير الأساتذة”- بكوب من الشاي شرعنا بخطوات بطيئة صوب طاولة بورخيس. بدأ والدي الحديث أولًا، وبعده شرع بورخيس- الذي بدا منتشيًا بفكرة تبادل الحديث معنا- بسرد حكايات مكتنزة بالثقافة والمعرفة والرصانة عن موضوعات عديدة: عن الرب، والمينوتور (الكائن الأسطوري)، كما وجّه انتقادًا لاذعًا لِـ أورتيغا دي غاسيت قائلًا إنّه التقاه عندما زار الأرجنتين، وكان انطباعه عنه يساوي صفرًا!!.

لم تتعدّ مداخلتي الوحيدة في حديثنا مع بورخيس حدود الإشارة إلى أنّ بعض النصوص الفيزيائية تحوي إشاراتٍ إلى بعض أعماله. كنتُ أيامذاك طالبًا جامعيًا في معهد بالسيرو في باريلوتشي، وما عنيتهُ بكلامي بالتحديد هو عمل بورخيس المسمّى “اليانصيب في بابل” The Lottery in Babylon حيث يورد بورخيس تأمّلاتٍ في موضوعَتَي العشوائية Randomness والحتمية Determinism. أكّد بورخيس – بل أفرط في التأكيد- جهله بالموضوعات الفيزيائية من خلال إجابة غير متماسكة كان عليّ تكرارُها كثيرًا. تبادلُ الحكايات الشخصية مع بورخيس فرصةٌ رائعة لكي يصاب المرء بغرور لا سبيل لكبحه، إذ الجميع يعلمون أنّ صيته أقربُ لعالَمٍ لا يفتأ يتوسّعُ من غير كوابح، لكن في الوقت ذاته فإنّ قلّة من البشر تعلمُ أنّه رجلٌ يسير المنال، يسعدهُ كثيرًا أن يتحدّث إلى النجوم العالميين مثلما يتحدّث إلى كثرة من المغمورين الذين لم تطرق الشهرة بابهم.
مرّ بي لاحقًا، وبمحض المصادفة أحيانًا، العديدُ من الاستشهادات بأعمال بورخيس في النصوص العلمية وكذلك في الكتابات العلمية الموجّهة للعامة: إشاراتٌ إلى “مكتبة بابل” The Library of Babel لتوضيح مفارقات المجموعات اللانهائية(1)، والهندسة الكسورية Fractal Geometry (2)، إشارات إلى العمل التصنيفي الرائع للدكتور فرانز كون في “اللغة التحليلية لجون ولكنز” The Analytic Language of John Wilkins (3) (ذلك العمل بين أعمال بورخيس الذي يفضّله علماء الأعصاب والمشتغلون بالمباحث اللغوية)، تعليقاتٌ على “فونيس، قوي الذاكرة” Funes , His Memory فيما يختصُّ بأنظمة الترقيم الحالية(4)، بل بلغ الأمر حدّ أنّني عثرتُ على اقتباس مستلّ من “كتاب الرمل” The Book of Sand في ورقة بحثية هندسية بشأن فصل المخاليط الحبيبية(5). لكن برغم هذا فإنّ كلّ ما أوردتُهُ من إشارات يبقى محض أمثلة مجازية تسعى إلى فهم أفضل لغموض التعقيدات التقنية. ثمّة استثناءٌ واضحٌ بين أعمال بورخيس، ذلكم هو “حديقة المسالك المتشعّبة” The Garden of the Forking Paths) حيث يتجاوز بورخيس مسألة الفهم الأفضل للتعقيد التقني إلى اقتراح قدّمه من غير علم مسبّق (لم تكن له وسيلةٌ حينذاك ليعلم ما كان يقترحه)، وهذا الاقتراح ينطوي في تضاعيفه على حلّ لمعضلة مستعصية في ميكانيك الكم. عَمَلُ بورخيس هذا “حديقة المسالك المتشعّبة” الذي نشره عام 1941 سبق فيه ما قدّمه هيو أيفيريت الثالث Hugh Everett lll من حل لمعضلة ميكانيك الكم في أطروحته للدكتوراه التي قدّمها تحت عنوان “صياغة الحالة النسبية لميكانيك الكم” Relative State Formulation of Quantum Mechanics (6) والتي أشهَرَها برايس ديويت Bryce DeWitt لاحقًا تحت مسمّى تفسير العوالم المتعدّدة لميكانيك الكم The Many Worlds Interpretation of Quantum Mechanics. هذا التوافق الغريب والمثير بين مادة علمية محتواة في ورقة بحثية من جهة، وحكاية قصيرة من جهة أخرى، هو موضوع مادتنا التالية، وهو ما نهدف إليه في موضوعنا الحالي.
مسالك كموميّة Quantum Paths
قوانين ميكانيك الكم تصفُ سلوك العالم المايكروسكوبي (الصغير)- ذلك العالمُ الذي تكون فيه الأجسام الفيزيائية بالغة الخفّة إلى حدّ يجعل ضغط شعاع الضوء، مهما كان ضئيلًا، قادرًا على إحداث انزياحات Displacements مفاجئة. الأجسام في هذا العالم الصغير (الذرات والجزيئات غير المرئية للعين البشرية) تتحرّك وتتفاعل بينها بكيفية مختلفة نوعيًا عن تفاعل كرات التنس والسيارات والطائرات وشتى أنواع الحيوانات في العالم المرئي (الماكروسكوبي أو الكبير). دعونا نرَى كيف يحصل هذا الأمر.
عندما نصفُ الأجسام في كلّ من العالميْن المايكروسكوبي (الصغير) والماكروسكوبي (الكبير) فمن المفيد أن نتحدّث عن حالة الجسم The State of an Object. من الممكن مثلًا أن تكون حالة كرة التنس ساكنة بجانب الشبكة، ومن الممكن أيضًا أن تكون حالة أخرى: كأن تكون على إرتفاع متر واحد فوق سطح الأرض وتتحرّك إلى الأعلى بسرعة متر واحد في الثانية. في هذه اللغة الفيزيائية (وهي رياضياتية بالتأكيد) يعني تحديد حالة كرة التنس في لحظة معيّنة الإشارة إلى موقعها وسرعتها في تلك اللحظة. قوانين الميكانيك الكلاسيكي التي وضع صياغتها الرياضياتية إسحق نيوتن تسمح لنا بالتنبّؤ بحالة الكرة في أيّ وقت لاحق فيما لو علمنا حالتها عند لحظة ما سابقة للحظة المطلوبة. أمّا في العالم المايكروسكوبي (الصغير) الذي تحكمه قوانين ميكانيك الكم فالأجسام لا تعمل بالطريقة السابقة: الذرّات والجسيمات المايكروسكوبية الأخرى لا ترتضي وصفًا يتوافق فيه تحديد حالة الجسيم في وقت محدّد مع تحديد كلّ من السرعة والموضع معًا. تحديد حالة الجسيم في وقت معيّن ضمن مفاهيم ميكانيك الكم يعني إبتداع دالة معيّنة تسمّى الدالة الموجية Wave Function، وتتيح لنا قوانين ميكانيك الكم التي صاغها إرفين شرودنغر Erwin Schrodinger وفيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg حساب التغيرات الزمنية لدالة الاحتمال الموجية. التغيّرات في حالة الجسيم المايكروسكوبي ليست تغيّراتٍ في موضع الجسيم فحسب بل تغيّراتٌ في الدالة الموجية. هذه هي الثورة المفاهيمية الأولى التي تخالف بها ميكانيك الكم مع مفاهيم الميكانيك النيوتني الكلاسيكي: التخلّي عن فكرة المسار Trajectory وإخلاء الطريق لصالح وصف يتأسّسُ على جملة من احتمالات عديدة لمسارات مختلفة.
لكنّ الحكاية لا تنتهي هنا. ثمّة أحايين كثيرة يواجه عالمنا اليومي فيها مواقف تلعب فيها العشوائية دورًا حاسمًا يتطلّبُ وصفًا يقوم على الإستعانة بلغة إحتمالية. لكي نقارن بين رؤيتين احتماليّتيْن: كلاسيكية وكمومية يمكننا اللجوء إلى واحدة من أبسط التجارب العشوائية في العالم المايكروسكوبي (الكبير): ترمي أليس عملة معدنية في الهواء وتمسكها بيد مغلقة، ويتوجّب على صديقتها ماري أن تتنبّأ هل أنّ العملة في يد أليس المغلقة هي على الوجه أم الظهر؟ من وجهة نظر ماري يمكن وصف حالة العملة (فلننسَ سرعتها ولو للحظة واحدة) بدلالة دالّة احتمالية كلاسيكية تعيّنُ لكلّ حالة (الحالتان الممكنتان هنا هما الوجه والظهر) احتمالًا بنسبة خمسين في المائة لكلّ منهما. بالطبع يتوجّبُ على ماري أن تنتظر حتّى تفتح أليس يدها لمعرفة ما إذا كانت العملة قد سقطت على وجهها أم ظهرها، لكن من الواضح لنا أنّ العملة لا بدّ أنّها كانت بواحد من الحاليْن اللذين لا ثالث لهما، وأنّ الوصف الإحتمالي الرياضياتي ليس سوى تعبيرٍ عن جهل ماري بحالة العملة أو موقعها. إذا ما فتحت أليس يدها فعندها ستعلم ماري على أيّ الوجهيْن سقطت العملة، أي أنها ستنتقل من حالة الجهل إلى حالة المعرفة بحالة العملة، لكنّ حالة العملة ذاتها لم تتغيّر. كلّ ما كشفته الملاحظة هو معرفة نتيجةٍ كانت موجودة مسبقًا.
دعونا الآن نقارنْ هذه التجربة بنظيرتها المايكروسكوبية التي تجري وقائعها في العالم الصغير. لا توجد في هذا العالم عملاتٌ كمومية بالتأكيد، غير أنّ هناك أنظمة (ذرّات مثلًا) يمكن أن توجد في واحدة من حالتيْن تستبعد إحداهما الأخرى. سيدرك القارئ المتخصّص أنّني أشيرُ هنا إلى دوران الذرّة Spin of an Atom الذي يمكن أن تكون له قيمة واحدة من قيمتين ممكنتيْن: واحدة تشير للأسفل والأخرى تشير للأعلى. لنفترضْ أنّ لدينا ذرّة في (صندوق) مغلق (يقوم مقام يد أليس)، وأنّنا نعلمُ أنّ دالة الموجة للذرّة تتوافق مع دوران بإحتمال خمسين بالمائة للأعلى وخمسين بالمائة للأسفل. في ذات السياق الذي فعلناه مع عملة أليس في التجربة السابقة فلو فتحنا الصندوق فسوف نرى الذرّة في واحد من الإحتماليْن، ولو كرّرنا التجربة مع الذرّة ذاتها وهي بحالة أولية محدّدة فسوف نتحقق من أنّ ما يقاربُ نصف الحالات سيكون دوران الذرّة فيها للأعلى، ونصفها الآخر سيكون الدوران فيها للأسفل. حتى هذا القدْر من الحكاية تتطابق الرؤيتان الإحتماليتان الكلاسيكية والكمومية.
لكنّ ميكانيك الكم يعترف بإمكانيّة وجود الذرّة في حالة تراكب من الحالات Soperposition of States (بمعنى وجود الذرة في حالة دوران للأسفل والاعلى معًا في الوقت ذاته في مثالنا هذا، المترجمة). يحصل هذا التراكب قبل رصد الذرّة، أما بعدما يتمّ رصدها فتكون في حالة واحدة محدّدة تحديدًا جيدًا. لنفترضْ أنّ ماري لديها الآن كاشف Detector يستطيع فتح الصندوق ومعرفة حالة دوران الذرّة: الفرق بين هذه الحالة والحالة السابقة أنّ فتح الصندوق يتسبّبُ في تغيير حالة الذرّة. الفرق الحاسم يكمنُ في حقيقةٍ مفادُها أنّ الذرة قبل الرصد تكون في حالة تراكب بين حالتيْن، ولا معنى جوهريًا للحديث عن إنّها في حالة دوران للأعلى أو للأسفل، فهي في الحالتيْن معًا في الوقت ذاته. هذا هو جوهر الثورة المفاهيمية الثانية في ميكانيك الكم: فقدان فكرة الواقع الموضوعي Objective Reality. فيما يختصُّ بنيلز بور Niels Bohr الذي تُعرفُ رؤيته هذه بإسم تفسير كوبنهاغن Coopenhagen Interpretation – والذي يمثلُ الرؤية السائدة في تفسير ميكانيك الكم- فإنّ الكيانات المايكروسكوبية تختلف عن الكيانات الماكروسكوبية في وضعها الوجودي، وتنتهي المعضلة عند هذا الحدّ في جانبها الفلسفي. بعبارة أخرى: ليس منطقيًا أن نتحدّث عن حالة جسيم مايكروسكوبي إلّا بعد تفاعله مع جهاز قياس ماكروسكوبي، غير أنّ المعضلة المفاهيمية تتعاظم سوءًا لأنّ الآباء المؤسسين لميكانيك الكم يدّعون أنّه الوصف الكامل والموحّد للعالم. تتجوهر معضلة ميكانيك الكم في احتواء نظريته على عناصر عديدة مثيرة للقلق لأنّها تتحدّى جهازنا الحدسيّ على المستوى الماكروسكوبي.
————————————-
(2-2)
يمكن صياغة السؤال المركزي في ميكانيك الكم والذي يلخّصُ معضلة القياس Problem of Measurement التي لم يتمّ حلّها بعدُ في سياق مثالنا على الكيفية التالية: إذا كانت كلٌّ من ماري والذرّة خاضعة لقوانين ميكانيك الكم، وإذا كانت الذرّة في حالة تراكب من الحالات قبل القياس، وفي حالة واحدة محدّدة تحديدًا جيدًا بعد القياس، فما هي الآلية التي تستطيع الذرّة من خلالها أن تختار حالة بعينها ولا تختار حالة أخرى سواها؟ ثمّة إجماعٌ جمعي عام سائد بين الفيزيائيين على أنّ بلوغ حلّ مناسب لهذه المعضلة أمرٌ يتجاوز حدود ميكانيك الكم، بل يتجاوز نطاق علم الفيزياء بأكمله. برغم هذا تظلُّ نظرية الكم وذراعها الرياضياتية (ميكانيك الكم) قادرة (وبدرجة عالية من التقريب) على حيازة أعظم قدرة تنبؤية وتفسيرية لأيّة نظرية فيزيائية.
الحلّ الوحيد لهذه المفارقة قد يكمنُ في نظرية إيفيريت التي تقترحُ مخرجًا متماسكًا للمعضلة على الرغم من أنّها تبدو غريبة للغاية وغير مستساغة لذوق بعض الفيزيائيين الذين يكيلون لها الإتهام ويرونها أقرب إلى (دواء وهمي لفظي الطابع)(7)، وتنطوي على الكثير من المبالغة(8)، وتحمل الكثير من المَتاع الميتافيزيقي(9). لا بدّ في نهاية الأمر من بلوغ مفترق الطرق في متاهة معضلة الميكانيك الكمومي: إمّا أن نقبل بنظرية ميكانيك كم غير مكتملة، أو أن نقبل النظرية المتنازع عليها والخاصة بالعوالم المتوازية Parallel Worlds لإيفيريت وديويت، وفي الحالة هذه سيكون العالمُ هو المتاهة التي تصوّرها تسوي بن Ts’ui Pên، الذي:
“… آمن بسلسلة لا نهائية من الأزمنة، شبكة متنامية ومذهلة من الأزمنة المتباعدة والمتقاربة والمتوازية. ذلك النسيج من الأزمنة التي تقترب من بعضها، أو تتفرّع، أو تنقطع، أو تظلّ – ببساطة- غير معروفة لقرون. ذلك النسيج هو الذي يحوي كلّ الاحتمالات. في معظم تلك الأزمنة لا وجود لنا. في بعضها أنت موجود وأنا غير موجود، وفي بعضها الآخر أنا موجود وأنت غير موجود، وفي بعضها الآخر نحن موجودان معًا ….”. (10)
انقساماتُ تسوي بن وتداعياتُ هيو إيفيريت الثالث
في مقدّمته للطبعة الأصلية من أوّل مجموعة قصصية له أسماها قصص خيالية Ficciones، يعلنُ بورخيس أنّ “حديقة المسالك المتشعّبة” قصّة بوليسية. بطلُ هذه القصّة، الجاسوس يو تسون، يعمل في خدمة الألمان خلال الحرب العالمية الأولى، والمهمّة الموكلة إليه هي إرسالُ اسم مدينة معيّنة إلى الألمان. يتبع يو تسون في رحلته الجاسوسية القبطان الجلِد ريتشارد مادن الذي يعمل على إبلاغ رسالة تفيد بقتل عالم الثقافة الصينية الأشهر ستيفن ألبرت لأنّه يحمل اسم المدينة الفرنسية التي يعتزم البريطانيون البدء بمهاجمتها. يعلم مادن أنّه سيُعدَمُ مباشرة بعد قتله ألبرت، وأنّه بعدما تنشر الصحف البريطانية عن حادثة القتل مقترنةً بإسمه واسم ألبرت سيتلقى الألمان الرسالة. يعثر يو تسون على عنوان ألبرت في دليل الهاتف، وحالما يصل هناك، وبمعونة مصادفة بورخيسية مثيرة يتعرّفُ ألبرت على يو تسون باعتباره أكبر أحفاد عالم الفلك الصيني (تسوي بن) الذي كتب كتابًا غير عادي عنوانه “حديقة المسالك المتشعّبة”.
كان تسوي بن قد ارتضى أن يتكفّل يومًا ما بعبء مهمّة غير عادية: بناء متاهة معقّدة تعقيدًا لا نهائيًا، وكتابة رواية لا نهائية كذلك. عقب وفاته رأى جميع من عرفه أنّه خاب في مسعاه لأنّ وجود المتاهة غير واضح، وأنّ الرواية لم تكن غير مكتملة فحسب، بل جاءت نتيجتها عملًا سخيفًا وغير متماسك (على سبيل المثال: يموت البعض من الشخصيات في فصول محدّدة، ثمّ يحصدون الكمثرى في فصول لاحقة!!). يندهش يو تسون أعظم الاندهاش عندما يبوح ألبرت عن اكتشافه بشأن الرواية الغامضة معلنًا: الكتاب هو المتاهة، والمتاهة ليست مكانية بل زمانية. الحديقة هي صورة الكون كما تصوّرها تسوي بن، ولو ارتأينا القبول بفرضية إيفيريت في العوالم المتعدّدة فسيكون العالم مثالًا لحديقة ذات مسالك متشعّبة.
دعونا الآن نعود ثانية إلى تجربتنا مع ماري والذرّة. تأسيسًا على فرضية إيفيريت في العوالم المتعدّدة (المتوازية أيضًا) وبعد أن تدرك ماري أنّ الذرّة في حالة محدّدة تحديدًا جيدًا (بمعنى: عندما تنجز ماري قياسًا لحالة الذرّة، المترجم)، فإنّ الكون حينذاك ينقسم إلى نسختين متطابقتيْن تقريبًا: يكون دوران الذرّة في أحدهما للأعلى، وفي الآخر يكون للأسفل. يطرق المؤلفان بورخيس وإيفيريت الفكرة المركزية ذاتها بمقاربة متشابهة على نحو يثير الدهشة. يكتب إيفيريت في القسم الخامس من مقالته الأصلية:
“ترتيبات تكوين الذاكرة لدى المراقب (بمعنى الموكل بأمر القياس، المترجم) الذي ينجز سلسلة من القياسات ليست ترتيباتٍ خطية لتشكُّل الذاكرة بل هي شجرة متفرّعة توجد فيها جميع النتائج الممكنة في الوقت ذاته”.
وفي “حديقة المسالك المتشعّبة” يكتب بورخيس:
“في جميع القصص الخيالية، في كلّ مرّة يلتقي فيها رجل بخيارات كثيرة فإنّه يختار مسلكًا واحدًا ويستبعد الأخرى. في عمل تسوي بن الذي لا يمكن تفكيكه او إختزال علاقاته المتشعّبة تختار الشخصية في وقت واحد جميع البدائل المتاحة معًا. هو يخلق بالتالي مستقبَلاتٍ Futures عديدة ، ولمرّات عديدة كذلك، وكلّ مستقبل منها يتفرّع ويتكاثر بدوره إلى مستقبلات عديدة……”.(11)
أين توجد كلّ هذه الأكوان (العوالم) المتعدّدة؟ واحدة من الإجابات أنها “هنا” حيث يوجد “كوننا”. طبقًا لفرضية إيفيريت لا تتفاعل هذه الأكوان وليس ثمّة سبب يستبعد إمكانية اشغالها لذات الحيّز. إجابة أخرى ترى أنّ هذه الأكوان “متراكمة” في بعد إضافي لا نعرف عنه شيئًا. يتوجّب هنا التمييز بين هذه الاحتمالية ومفهوم “الأبعاد اللانهائية للزمن” التي أوردها بورخيس في مقالته عن جَيْ. دبليو. دن J. W. Dunne التي عنوانها “استنطاقات أخرى” Other Inquisitions. تبعًا لِـ (دون) الذي ربّما إستوحى بورخيس كتاباته وتمثّلها في بعض ما كتب، فإنّه يتحدّث عن أزمنة متعامدة على بعضها (12). “هندسة” الزمن هذه لا تتناسب مع العوالم المتعدّدة التي تقترحها فرضية إيفيريت، وهي بالتأكيد مختلفة عن الزمن المتفرّع الذي اقترحه تسوي بن.
يبدو أنّ بورخيس أوّلُ من ابتدع هذا البديل للزمن الخطي Linear Time. الاحتمال الآخر، الزمن الدوري Cyclic Time له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة(13) وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخيس فيما كتب. مع تعدّد الأزمنة تبدو الحكاية مختلفة:
“أنكر هيوم Hume وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء نعيشه. أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب”. (14)
عندما كنتُ منغمرًا في مهمّة تجميع المواد اللازمة لكتابة هذه المقالة حصل أن سألتُ برايس ديويت (المشار إليه سابقًا)، والذي كان يعمل آنذاك في جامعة تكساس في أوستن، بشأن معرفته بقصّة بورخيس “حديقة المسالك المتشعّبة” عام 1971 عندما صاغ للمرة الأولى مصطلح “عوالم متعدّدة” Many Worlds، فأجابني أنّه لم يكن يعرف بها، وأنّه علم بها من مسموعاته لِما تحدّث به الفيزيائي البريطاني لين هيوستن من أكسفورد.
ثمّة ملحوظة أخرى في هذا السياق: في مجموعة من المقالات المنشورة عام 1972 والتي احتوت نسخة موسّعة من ورقة إيفيريت البحثية الأصلية يمكن للمرء معاينة أحد العناوين وهو يستشهد في مادته بقصّة بورخيس ويذكر عنوانها الصريح (15) .
أخيرًا، ما الذي نتعلّمه من هذا التوازي المذهل بين نصّ بورخيس وفرضية إيفيريت وديويت؟ في نهاية الأمر لا بدّ أن نقتنع بوجود مصادفات Coincidences، وهذه المصادفات تدفعنا للخلط بين الارتباط Correlation والسبب Cause والنتيجة Effect والتشابه Similitude والتمثّل Representation(16). أرى أنّ التشابه بين النصّين يكشف لنا عن الطريقة غير العادية التي إنغمس بها عقل بورخيس في حياكة النسيج الثقافي للقرن العشرين- ذلك النسيج الذي هو أقرب لشبكة معقّدة تتفرّع مكوّناتها السرّية إلى ما هو أبعد من الحدود الفاصلة بين التخصصات المعرفية. هيكل الخيال العقلاني في قصص بورخيس القصيرة – التي تتقارب أحيانًا مع النظريات أو الفرضيات الخيالية- قادرٌ على تقطير الأفكار في هيأة جنينية تتموضع في نطاق الأدب قبل أن تنتهي نظريات علمية راسخة البنيان. فكّرْ في هذه المفارقة المثيرة: يمكن قراءة أفكار إيفيريت وديويت على أنّها خيال علمي، وفي الوقت ذاته يمكن قراءة الخيال في “حديقة المسالك المتشعّبة” على أنّه علمٌ (إشارة إلى حالة التعابر والتلاقح بين التخصصات البحثية والاشتغالات المعرفية، المترجمة).
في ذلك الصباح التمّوزي عندما قابلتُ بورخيس في الفندق شعرتُ بالارتباك من إجابته (راجع مقدّمة المقالة، المترجمة). اليوم بتُّ أفهمها كاستعارة كاشفة لما يمكننا معرفته بدون أن نعرف بأنّنا نعرف!!. أتذكّره حينها وهو يقول لي ولوالدي:
كم هو أمرٌ غريب!!. إنّه لأمرٌ غريب حقًا أنّ الشيء الوحيد الذي أعرفه عن الفيزياء أتاني من والدي الذي أراني يومًا كيف يعمل المضغاط (البارومتر، مقياس الضغط الجوّي).
قال هذه العبارة بتواضع شرقي. قالها ثمّ راح يحرّك يديه في الهواء محاولًا رسم الجهاز، ثمّ أضاف: “الفيزيائيون ذوو خيال مبدع للغاية”.
المصادر:
[1] See for example R. Rucker, Infinity and the mind (Boston: Birkhäuser, 1982).
[2] F. Merrell, Unthinking Thinking, Jorge Luis Borges, Math ematics, and the New Physics (West Lafayette: Purdue University Press 1991).
[3] S. Pinker, How the Mind Works (New York. W. W. Norton, 1997).
[4] Philip Morrison, The Physics of Binary Numbers, Scien tific American, February de 1996, p. 130.
[5] H. A. Makse et al., Dynamics of granular stratification Physical Review E. Vol. 58 (1998). p. 3357.
[6] H. Everett III, Reviews of Modern Physics Vol. 29 (1957). p.454.
(*) ألبرتو جي. روخو Alberto G. Rojo: فيزيائي أرجنتيني ولد في توكومان. بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الفيزياء من معهد بالسيرو واصل حياته المهنية في الولايات المتحدة. عمل باحثًا في جامعة شيكاغو وأستاذًا متفرغًا في جامعة أوكلاند. نشر العديد من الأوراق البحثية في المجلات الرائدة، فضلًا عن مساهماته في تعليم العلوم. هو مؤلف كتب عديدة أهمّها “مبدأ الفعل الأقلّ: التاريخ والفيزياء”
The Principle of Least Action: History and Physics
عن دار نشر جامعة كامبريدج، بالتعاون مع أنتوني بلوخ، وهو عضو متعاون في الأكاديمية الأميركية الشمالية للغة الإسبانية، وهو أيضًا موسيقي بارز لديه ثلاثة ألبومات فردية. (المترجمة).
7. A. J. Leggett, “The Problems of Physics” (Oxford: Oxford University Press, 1987) p. 172.
8. J. S. Bell. “Speakable and unspeakable in quantum me chanics”. (Cambridge: Cambridge Universituy Press, 1987) p. 133.
9. See for example A. Rae, “Quantum physics, illusion or real ity?” (Cambridge: Cambridge University Press 1986) Chapter 5.
10. J. L. Borges. Collected Fictions, translated by Andrew Hur ley. (New York. Viking, 1998). p. 127.
11. Ref. [10], p. 125.
12. J.W. Dunne, “An experiment with time” (New York: The MacMillan Company, 1949).
13. B. C. Sproul, “Sacred Time”, in The Encyclopedia of Reli gion. Mircea Eliade, ed. (New York: MacMillan, 1987). See also M. Eliade, “Cosmos and History: The Myth of the Eternal Return”, trans. W. Trask, (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1959).
14. J. L. Borges,”Nueva Refutaci´on del tiempo”, in Otras In quisiciones (Buenos Aires: Sur, 1952) p. 202.
15. B. S. DeWitt y N. Graham, “The Many-Worlds Interpreta tion of Quantum Mechanics” (New Yersey: Princeton University Press, 1973).
16. F. Capra in his book “The Tao of Physics” (Boulder: Shambhala, 1975) falls in this trap by drawing conclussions about “parallels” between ancient mysticisms and modern physics.
(*) ألبرتو جي. روخو Alberto Rojo: فيزيائي أرجنتيني ولد في توكومان. بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الفيزياء من معهد بالسيرو واصل حياته المهنية في الولايات المتحدة. عمل باحثًا في جامعة شيكاغو وأستاذًا متفرغًا في جامعة أوكلاند. نشر العديد من الأوراق البحثية في المجلات الرائدة، فضلًا عن مساهماته في تعليم العلوم. هو مؤلف كتب عديدة أهمّها “مبدأ الفعل الأقلّ: التاريخ والفيزياء”:
The Principle of Least Action: History and Physics
(دار نشر جامعة كامبريدج، بالتعاون مع أنتوني بلوخ).
وهو عضو متعاون في الأكاديمية الأميركية الشمالية للغة الإسبانية، وهو أيضًا موسيقي بارز لديه ثلاثة ألبومات فردية (المترجمة).
(**) الموضوع منشور كملف PDF على موقع جامعة أوكلاند.
يمكن الحصول على الملف وقراءة المادة الأصلية باللغة الإنكليزية بالرجوع إلى الرابط الإلكتروني التالي:
chrome-extension://efaidnbmnnnibpcajpcglclefindmkaj/https://our.oakland.edu/server/api/core/bitstreams/d5907479-0cb0-4611-831a-61dcbe3ef068/content
عنوان الموضوع الأصلي هو:
The Garden of the Forking Worlds: Borges and Quantum Mechanics
المترجم: لطفية الدليمي
ضفة ثالثة