سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 أذار 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
————————————-
برلين تنتزع دمشق من قبضة باريس/ سالي موسى
25 مارس 2025
بينما كانت باريس تصوغ استراتيجياتها التقليدية في أروقة وزارة الخارجية، وتشتعل المناظرات تحت قبّة الجمعية الوطنية حول دور فرنسا في “سورية الجديدة”، كانت برلين تخطو بثبات نحو دمشق. ففي لحظة غافل فيها الحليف الألماني نظيره الفرنسي، تحوّلت سورية، التي لطالما اعتبرتها باريس ساحة نفوذها التاريخية، إلى ملعب مفتوح أمام براغماتية ألمانية هادئة وحاسمة. وبينما يتخبّط الداخل الفرنسي في انقساماته السياسية، كانت الخطوات الألمانية تتردّد بثقة في شوارع العاصمة السورية، حيث تتكشّف ملامح واقع دبلوماسي جديد يشهد على انزياح غير معلن في ميزان القوى الأوروبية في الشرق الأوسط.
بين حذر باريس ومبادرات برلين الجريئة، يبرز سؤال محوري: إلى أيّ مدى تخشى باريس من أن يؤدي تقاربها الحذر مع حكومة الشرع إلى تغذية صعود اليمين المتطرّف داخليًا، ما يجعلها تتردّد في خطواتها الدبلوماسية في سورية، ويمنح برلين، التي تتحرّك بجرأة وواقعية، فرصة لوراثة النفوذ الفرنسي في دمشق؟
منذ اللحظة الأولى التي توجّهت فيها باريس وبرلين إلى دمشق، وقع مشهد في قصر الرئاسة هزّ الإعلام الغربي وكشف بوضوح عمق التباين بين العاصمتين. وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، اختارت بوعي أن لا تمدّ يدها للسلام على أحمد الشرع، مكتفية بوضع يدها بثبات على صدرها، في إشارة واضحة إلى احترام برلين للأعراف الجديدة في دمشق. على النقيض، مدّ الشرع يده إلى وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، الذي اكتفى بمصافحة باردة ومرتخية، بقبضة شبه مفتوحة. لم تكن هذه المصافحة الضعيفة مجرّد ارتباك، بل بدت كأنها رسالة تضامنية خفيّة مع الوزيرة الألمانية، التي تجاوزت الحادثة سريعًا للتركيز على أولوياتها العملية في سورية، ما جعل باريس تبدو وكأنها تحمل عبء الاعتراض وحدها.
قبضة بيربوك المُغلقة بدت أكثر قوة ووضوحًا من يد بارو المرتخية، وهو ما عكس تردّد باريس وانقسامها بين المبادئ والبراغماتية. غير أن هذا التباين في لغة الجسد لم يكن سوى مرآة لتحوّل أوسع على الأرض. ففي الوقت الذي بادرت فيه ألمانيا إلى افتتاح سفارتها في دمشق قبل أن تحسم باريس موقفها، كانت برلين تؤسّس لمرحلة جديدة، قد تُنذر باقتراب نهاية مرحلة طويلة من التفوّق الفرنسي في سورية.
هذا السبق الألماني لم يكن مجرّد مناورة دبلوماسية، بل جزءًا من تحوّل أعمق في قواعد اللعبة الإقليمية، حيث باتت برلين أقرب إلى أن تصبح صوت أوروبا في سورية، فيما تتراجع باريس أمام واقع دبلوماسي يتشكّل خارج إرادتها.
أعتقد أنّ باريس لطالما نظرت إلى اللغة والثقافة الفرنسيتين كأدوات أساسية في سياستها الإقليمية تجاه سورية. فمنذ استقلال دمشق، لم تكن الفرنكوفونية مجرّد امتداد ثقافي ناعم، بل أداة استراتيجية وظّفتها فرنسا لمدّ الجسور مع النخب السورية وترسيخ حضورها في المشرق قوةً وازنةً. غير أنني أرى اليوم أن هذا النفوذ الثقافي بدا عاجزًا وهشًا أمام التحوّلات الجذرية التي عرفتها سورية بعد سقوط الأسد.
في المقابل، وبينما ظلّت باريس وفية لأدواتها التقليدية، أرى أنّ برلين قرأت المشهد السوري بعين براغماتية واقعية. فقد تحرّكت ألمانيا وفق مقاربة مرنة، بعيدة عن الخطابات السياسية المعقّدة، وركّزت بثبات على الملفات الاقتصادية والأمنية، في وقت باتت فيه دمشق تنظر إلى الشروط الفرنسية كعبء يُثقل أيّ شراكة محتملة مع باريس.
على إثر هذه التحوّلات، يمكن القول إنّ النفوذ الثقافي الفرنسي تراجع لصالح الحضور الألماني، حيث استطاعت برلين ملء الفراغ الذي خلّفه ارتباك باريس بين المبادئ والتردّد السياسي. ففي دمشق الجديدة، لم تعد اللغة الفرنسية وحدها كافية لفرض الحضور، بل باتت الحسابات الجيوسياسية والصفقات العملية هي التي تحدّد معايير الشراكة والتأثير.
هكذا، نجحت دمشق في اللعب على التناقضات الأوروبية، فاستفادت من الحذر الفرنسي لتعزيز تقاربها مع برلين، مع الحفاظ في الوقت نفسه على علاقة قائمة مع باريس، ما منح النظام الانتقالي مساحة أكبر للمناورة والضغط على كلّ طرف للحصول على أفضل الشروط.
المفارقة أن باريس، التي لطالما تصدرت المشهد في سورية باعتبارها قوّة أوروبية ذات نفوذ راسخ، تجد نفسها اليوم على الهامش، بينما تواصل برلين قطف ثمار النفوذ الفرنسي التاريخي في البلاد. فدمشق التي لطالما اعتبرت باريس بوابتها إلى أوروبا، باتت اليوم ترى في برلين شريكًا أكثر عملية وأقلّ انخراطًا في الحسابات السياسية.
وبرأيي، فإنّ حالة الارتباك التي تظهر في تحرّكات باريس تجاه سورية ليست سوى مرآة لانقسام داخلي يقيّد صانع القرار الفرنسي. فالأزمة تتغلغل في عمق الساحة السياسية، حيث يلوّح اليمين المتطرّف بورقة دمشق الجديدة ذات الطابع الإسلامي، محذّرًا من أنّ هذا التقارب قد يفاقم المخاوف الشعبية ويغذي صعوده الانتخابي. في المقابل، يتهم اليسار الحكومة بالتخلّي عن ثوابت باريس الأخلاقية، ولا سيما حماية الأقليات وحقوق الإنسان، وهي ملفات لطالما شكّلت حجر الزاوية في السياسة الفرنسية في المشرق.
وسط هذا الانقسام، تحوّلت الأزمة السياسية الداخلية إلى عبءٍ حقيقي يكبّل يد باريس في الخارج، ويعوق قدرتها على اتخاذ قرارات حاسمة في الملف السوري. وبرلين، التي تتحرّك بثبات ومرونة، لم تتأخّر في استغلال هذا الشلل الدبلوماسي الفرنسي لتكرّس حضورها في دمشق، وتنتزع تدريجياً ما تبقى من موقع باريس بوصفها شريكًا مفضّلًا في سورية. بينما لا تزال باريس تحاول إعادة التموضع وسط ضغوطها الداخلية، تمضي برلين بثبات، وقد سبقتها بخطوات واضحة إلى الأمام.
الملف السوري الذي لطالما كان ساحة للنفوذ الفرنسي، بات اليوم شاهدًا على تحوّل في موازين القوى الأوروبية في الشرق الأوسط. وإذا لم تسارع باريس لالتقاط الكرة قبل صافرة النهاية، فستجد نفسها خارج الملعب، تشاهد من المدرجات كيف تعيد برلين صياغة قواعد النفوذ في دمشق.
العربي الجديد
——————————-
بين المصالح وملء الفراغ.. ألمانيا تقود حراكا أوروبيا نحو دمشق/ عباس شريفة
26/3/2025
في خطوة لافتة، زارت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك مع نائب رئيس البرلمان الأوروبي آرمين لاشيت، يوم 20 مارس/آذار الجاري، دمشق والتقت أثناءها الرئيسَ أحمد الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني، أكدت خلالها دعم سوريا.
كما شهدت الزيارة إعادة فتح السفارة الألمانية في دمشق بعد 13 عاماً على إغلاقها، وتعيين المبعوث الألماني إلى سوريا شتيفان شنيك قائما بأعمال السفارة إلى حين تعيين سفير لاحقا.
وتعد هذه الزيارة الثانية من بيربوك إلى دمشق بعد زيارتها الأولى مع وزير الخارجية الفرنسي في 3 يناير/كانون الثاني الماضي، والتي شكلت في حينها محاولة استكشاف هوية الإدارة الجديدة ومدى قدرتها على أن تأمين الاستقرار بعد سقوط نظام الأسد.
ولم تخل الزيارة أيضا، في حينها من رسائل حازمة وجهتها إلى دمشق، أكدت فيها على ضرورة حماية الأقليات واستعادة الأمن، وربطت رفع العقوبات بمدى التزام دمشق بمسار الانتقال السياسي ومشاركة كافة مكونات الشعب السوري في الحكومة.
نناقش في هذا التقرير السياقات المحلية والإقليمية لهذه التحركات الأوروبية والدلالات الإستراتيجية والسياسية لها، والأهداف التي يتوخاها الأوروبيون من مسار التقارب مع دمشق.
توقيت التحركات الأوروبية
تعكس خطوة افتتاح السفارة الألمانية في دمشق رغبة الأوروبيين في الانفتاح على الإدارة الجديدة في سوريا، خاصة وأن هذه الخطوة جاءت عقب سلسلة من التطورات المحلية والإقليمية التي شكّلت ملامح المشهد السياسي السوري في المرحلة الانتقالية.
بدأت تلك التطورات بانعقاد مؤتمر النصر في 30 يناير/كانون الثاني الماضي، والذي شهد تعيين أحمد الشرع رئيساً للمرحلة الانتقالية، ثم تبعه مؤتمر الحوار الوطني في 25 فبراير/شباط، وفي 6 مارس/آذار تمكنت دمشق من إجهاض محاولة فلول نظام الأسد مع أطراف إقليمية الانقلاب على الإدارة الجديدة في الساحل السوري واستدعاء التدخل الخارجي وتفجير الصراع الطائفي.
وجاءت زيارة الوزيرة الألمانية أيضا، بعد توقيع الرئيس الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” مظلوم عبدي، في 10 مارس/آذار اتفاقاً يقضي بدمج قسد ضمن الحكومة السورية.
وقد أشادت بيربوك أثناء الزيارة بالاتفاق الذي جاء بعد أسبوع من إصدار الإعلان الدستوري في 13 مارس/آذار، ما عزز الثقة الألمانية والأوروبية في مسار المرحلة الانتقالية وخطواتها والتي يبدو أن الاتحاد الأوروبي يقابلها بمزيد من خطوات الانفتاح على دمشق بناء على مبدأ خطوة مقابل خطوة.
وكان الاتحاد الأوروبي، قد أعلن في 24 فبراير/شباط الماضي تعليقَه العقوبات المتعلقة بقطاعات الطاقة والبنوك والنقل لتخفيف المعاناة عن الشعب السوري.
كما تأتي الزيارة بعد 3 أيام من تعهد الاتحاد الأوروبي في مؤتمر بروكسل للمانحين الذي عقد 17 مارس/آذار بتقديم 2.5 مليار يورو لدعم السوريين داخل سوريا وفي المنطقة في عامي 2025 و2026. كما تعهدت ألمانيا وحدها بتقديم مساعدة جديدة لسوريا بقيمة 300 مليون يورو.
وليست محاولات روسيا لاستعادة علاقاتها مع دمشق والمحاولات الإيرانية لزعزعة الاستقرار في سوريا بمعزل عن الزيارة وأهدافها.
أهداف الانفتاح الألماني والأوروبي
تهدف التحركات الأوروبية والألمانية في مساعي الانفتاح المتصاعد تجاه دمشق إلى تحقيق المصالح الأوروبية على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، في ظل تقييم غربي عام يتمسك بانطواء المرحلة الانتقالية في سوريا على فرصة إستراتيجية لإعادة رسم خريطة التوازنات في المنطقة واستعادة أوروبا دورَها الفاعل في محيطها القريب.
استعادة النفوذ الأوروبي في الجوار
تعبر المساعي الأوروبية بقيادة ألمانيا للانفتاح والتقارب مع سوريا عن رغبة في استعادة دور فاعل بعد سنوات طويلة سبقت الثورة السورية، شهدت فشلا أوروبيا في استمالة دمشق إلى المعسكر الغربي.
كما يأتي هذا الانخراط كرد فعل على الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة، مما دفع أوروبا إلى التعامل مباشرة مع الإدارة الجديدة في سوريا لضمان مصالحها.
ويتصل هذا التحرك بسياق أوسع يتعلق بالإستراتيجية الدفاعية الأوروبية الجديدة طويلة الأمد، وتقوم في بعض تفاصيلها على عدم ترك الساحة السورية مجددا لروسيا وإيران، إضافة إلى تأمين الحدود البحرية مع دول حوض المتوسط.
تقوم هذه الإستراتيجية على تعزيز القدرات الدفاعية، وعقد التحالفات، وإحياء نفوذ أوروبا في محيطها الحيوي الذي تشكل سوريا جزءا منه، خصوصًا بعد التحديات التي واجهتها القارة بسبب سياسات ترامب السلبية تجاه أمن القارة الأوروبية، والتهديد الروسي الدائم لأمن القارة، ومنع ظهور تنظيم داعش من جديد في المنطقة، وهذا ما يجعل من سوريا ركيزة أساسية في الإستراتيجية الأوروبية.
منع عودة النفوذ الروسي
يبدو أن موسكو تقرأ التحركات الأوروبية جيدا، خصوصاً بعد تصريحات بيربوك قبل زيارتها الأولى إلى دمشق، والتي طالبت الأخيرة بإخراج القوات الروسية من سوريا، ما دفع الرئيس بوتين إلى إرسال رسالة للرئيس الشرع في نفس اليوم الذي وصلت فيه بيربوك إلى دمشق في زيارتها الثانية.
عبر بوتين في رسالته عن دعمه جهودَ الحكومة الرامية إلى استقرار الوضع في البلاد واستعداد موسكو للتعاون مع دمشق، وذلك بعد التصريحات الروسية السلبية تجاه دمشق في مجلس الأمن الدولي على خلفية أحداث الساحل، وقيام موسكو بدور سلبي فيها من خلال استقبال فلول النظام في قاعدة حميميم.
في ظل التنافس مع روسيا، التي تسعى للحفاظ على قواعدها العسكرية، وتركيا، التي تدعم الحكومة السورية، يبدو أن ألمانيا ترغب في أن تكون جزءاً من تشكيل المستقبل السوري بدلاً من تركه للقوى الإقليمية فقط.
إبعاد إيران
مع تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وإيران في المنطقة ترفض ألمانيا والاتحاد الأوروبي محاولات إيران استعادة نفوذها في سوريا عبر تجميع فلول النظام السابق وإعادة إنتاج أذرعها، خاصة في الساحل السوري على البحر المتوسط.
وقد وجهت الوزيرة الألمانية الاتهام المباشر لإيران بكونها أحد الأطراف الأساسية التي تقوم بانتهاك السيادة السورية والوقوف وراء الأحداث الأخيرة في الساحل.
استقرار يسمح بعودة اللاجئين
تستقبل ألمانيا العدد الأكبر من اللاجئين السوريين في الاتحاد الأوروبي، حيث بلغ عددهم نحو 973 ألف سوري في نهاية عام 2023.
ومن الواضح، أن الدعم الألماني والأوروبي السياسي والاقتصادي لدمشق يهدف إلى المساهمة في بناء استقرار مستدام يسمح بعودة اللاجئين، أو على الأقل عدم تصدير المزيد منهم، بتخفيف العقوبات تدريجيا، وتقديم المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار سوريا، ودعم عملية سياسية شاملة لكل مكونات الشعب السوري.
وفي هذا الإطار أعلنت وزارة الداخلية الألمانية في 18 فبراير/شباط الماضي، أنها لا تزال تعمل على وضع حل “لتمكين السوريين من القيام برحلات قصيرة الأمد إلى وطنهم دون فقدان وضع الحماية الخاصة بهم من أجل تقييم الوضع هناك استعدادا لعودة طوعية دائمة”.
أهداف اقتصادية بعيدة المدى
إن موقع سوريا على طريق الحرير التاريخي، يعطيها أهمية كبيرة بالنسبة للاتحاد الأوروبي.
كما أن التحرك الأوروبي للبحث عن بديل للغاز الروسي، وكذلك الغاز الأميركي مرتفع التكلفة، ربما يعزز رغبة أوروبا بالتحديد في البحث عن موطئ قدم لها في سوريا، خصوصاً، أن المياه الإقليمية السورية تحتوي مخزونا كبيرا بحسب دراسات فنية، لكنه لم يتم التنقيب فيها عن الغاز بعد.
وقد تُقدم الحكومة السورية على إلغاء اتفاقية التنقيب عن الغاز مع روسيا التي وقعت عام 2013 في حال حصلت دمشق على عرض من ألمانيا التي تمتلك تكنولوجيا متطورة في التنقيب والاستخراج للغاز، وفي هذا السياق يمكن، أن نشهد إحياء اتفاقية الشراكة الأوروبية السورية التي جمدها النظام السابق عام 2009.
تطور تدريجي
تمثل الخطوات الألمانية والأوروبية تجاه دمشق نقطة تحول في العلاقات السوريةـ الأوروبية، مدفوعة بمصالح إستراتيجية تشمل محاولة ملء الفراغ الأميركي السلبي تجاه سوريا، وقطع الطريق على محاولات روسيا العودة للاستفراد بنفوذها ومواجهة المحاولات الإيرانية لزعزعة الاستقرار بعد خسارتها الإستراتيجية بسقوط نظام الأسد.
ويبدو، أن العلاقات الأوروبية مع إدارة الرئيس الشرع تطورت تدريجياً منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث تعززت الثقة الأوروبية بدمشق بعد عدد من الخطوات التي خطتها سوريا، مثل الحوار الوطني والاتفاق على دمج قسد في الحكومة.
شكلت أزمة الساحل تحدياً كبيراً للعلاقة، إلا أن مبادرة الشرع لتشكيل لجنة تحقيق وطنية وهيئة للحفاظ على السلم الأهلي والتصرف بمسؤولية وشفافية، واعتقاد الاتحاد الأوروبي بوجود أياد إيرانية فجرت الأحداث في الساحل سيساهم بتجاوزه، وهو ما حمل الاتحاد الأوروبي على تحميل مسؤولية ما حصل فلول نظام الأسد.
وتظهر إعادة فتح السفارة الألمانية، التي أغلقت في 2012، ثقة أولية في استقرار الإدارة الجديدة وقدرتها على قيادة مرحلة انتقالية، مع إشارة إلى استعداد أوروبي لدعم هذا التحول، وهو يشكل في مضمونه اعترافا سياسيا بالإدارة الانتقالية للرئيس الشرع.
تعتبر ألمانيا اليوم الدولة الأقوى في الاتحاد الأوروبي بقيادة مستشارها الجديد، فريدريش مرتس. وإذا اتخذت خطوات سياسية متقدمة تجاه سوريا، فإن ذلك يعني أن أوروبا ستلحق بها، ويمكن أن تتتابع الدول الأوروبية في فتح سفاراتها بدمشق واستعادة نشاط علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا.
تمتلك سوريا فرصة مهمة لإعادة تشكيل علاقاتها وتوازناتها مع الدول الأوروبية، مما يمكن أن يسرع من عملية التعافي في البلاد ويفتح الأبواب أمام الانتقال من مسار الدعم الإنساني إلى مسار إعادة الإعمار الذي يتوقف عليه إنجاز الملفات الأخرى، أبرزها تشكيل حكومة شاملة والبدء بمسار العدالة الانتقالية وصولا إلى تهيئة الأوضاع لعودة اللاجئين.
المصدر : الجزيرة
————————–
متطلبات وتحديات الاستقرار الاقتصادي في سورية/ عبد الحافظ الصاوي
26 مارس 2025
الاستقرار الاقتصادي، هو الهدف الرئيس لأي سياسة اقتصادية ناجحة، ففي ظلّ الاستقرار الاقتصادي، يستطيع جميع المشاركين في القطاعات الاقتصادية المختلفة، أن يخططوا ويتخذوا القرارات المنظمة لعملهم في الأجلين المتوسط والطويل. وفي ضوء المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سورية، بعد التخلص من نظام الديكتاتور بشار الأسد، أصبح الوصول إلى حالة الاستقرار الاقتصادي والمالي، ضرورة مهمة، لا يمكن التغافل عنها، فبدونها، لن يتحقق الاستقرار الاجتماعي، ولن تتم مشروعات إعادة الإعمار والتنمية، ولن تتخذ جموع المهاجرين السوريين قرارات بالعودة إلى بلادهم، خوفاً من المجهول والغموض الاقتصادي.
ولذلك؛ ينبغي للإدارة السورية الحالية بقيادة أحمد الشرع، أن تضع استراتيجية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، في إطار خطة تستغرق ثلاث سنوات على الأكثر، وإن امتدت إلى خمس سنوات، فلا بأس، لكن لا تستغرق زمناً أكثر من ذلك. فالاستقرار الاقتصادي معناه، أن تتسم إيرادات الدولة ونفقاتها بما يمكن في ضوئه، ممارسة الدولة لدورها الاقتصادي والاجتماعي، ومعالجة التركة شديدة السلبية التي ورثتها البلاد من نظام الديكتاتور الأسد.
كما يستطيع مجتمع وقطاع الأعمال، أن يدير منظومته في قطاعَي الإنتاج والخدمات، بما يساعد كثيراً في تحقيق أهداف الخطة الاجتماعية والاقتصادية العامة للدولة، ومن شأن الاستقرار الاقتصادي أن يعمل على زيادة الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي الاستغناء عن المساعدات والقروض الخارجية، واستقلال طويل الأمد لسورية. لكن تحقيق هدف الاستقرار الاقتصادي، يتطلب مجموعة من المتطلبات، فضلاً عن أن الأمر لن يكون سهلاً، وسيواجه مجموعة من التحديات، وقبل أن نشير إلى متطلبات وتحديات الوصول إلى الاستقرار الاقتصادي في سورية، نتناول بعض الأمور الإيجابية التي تحققت على هذا الصعيد خلال الفترة الماضية.
إنجازات تحققت لصالح الاستقرار
على الصعيد المحلي، تمّت مجموعة من الخطوات، خلال الفترة القليلة الماضية، التي يمكن اعتبارها تمهيداً لصالح تحقيق الاستقرار الاقتصادي، منها تحرير سعر الصرف سريعاً، ما أعطى حالة من الطمأنينة لأفراد المجتمع الذين يحوزون النقدَ الأجنبي، ونتج عن ذلك تحسن ملموس في سعر الليرة السورية، ما خفف بوضوح من ضغوط التضخم. وحسب أرقام صادرة عن مؤسسات رسمية في سورية، انخفض التضخم على أساس سنوي نهاية يناير 2025 إلى قرابة 47% مقابل 120% تقريباً في العام السابق.
كذلك عدم هدم مؤسسات الدولة الاقتصادية والمالية، فعلى سبيل المثال، مارس بنك سورية المركزي دوره على نحوٍ طبيعي، وكذلك باقي مؤسسات الدولة المعنية بالنشاط الاقتصادي والتجاري ومنها القطاع المصرفي والمصانع وغيرها، كما أن الإسراع في الإعلان عن هوية الاقتصاد السوري بعد الثورة، وتبني اقتصاد السوق، ساعد على البعث برسالة طمأنينة للمعنيين كافة بهذا الاقتصاد، في الداخل والخارج.
كما أن التسوية السياسية التي جرت بين الحكومة السورية والمكوّن الكردي “قسد”، لها مدول شديد الإيجابية، لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، فوحدة التراب الوطني في سورية مهمة، من أجل الوقوف على المقدرات والثروات الاقتصادية الكلية للبلاد، خاصة إذا علمنا أن معظم الثروة النفطية لسورية، كانت تحت سيطرة المناطق الشمالية الشرقية التي يديرها الأكراد.
وعلى الصعيد الخارجي، كانت تركيا بما قدمته من دعم شبه كامل للنظام الجديد في سورية، أحد أسباب ما تحقق في ضمان ممارسة الأنشطة الاقتصادية أعمالها طبيعياً، إذ مدت تركيا السوق السورية، باحتياجاتها من عدد وآلات وسلع غذائية وغيرها من المتطلبات الضرورية. ساعدت أيضاً العودة السريعة إلى العلاقات التجارية لسورية مع جيرانها مثل العراق والأردن ولبنان، على تنشيط الاقتصاد السوري، وساهمت في وفرة السلع والخدمات، كما عملت على عودة الصادرات السورية لأسواق تلك الدول.
على الصعيد الخارجي، كانت القرارات التي صدرت عن الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، مهمة لصالح تحقيق الاستقرار الاقتصادي في سورية، إذ جرى رفع العقوبات عن البنك المركزي السوري، ومكونات مالية واقتصادية أخرى، ما يشجع على ضمان تدفقات المعاملات المالية والاقتصادية، من وإلى سورية، بعيداً عن المعوقات، ويتوقع أن يساعد رفع العقوبات في جذب الاستثمارات الأجنبية لسورية خلال الفترة القادمة.
متطلبات الوصول إلى الاستقرار الاقتصادي
الطريق في بدايته لثورة سورية، التي مرّ على انطلاقها ما يقرب من أربعة شهور، لكي تصل إلى مرحلة الاستقرار الاقتصادي، ولذلك فعلى الإدارة الحالية، أن تعمل لتحقيق المتطلبات التالية؛ لكي تصل إلى مبتغاها:
1- ضرورة تسوية الملفات المعنية بالخلافات السياسية كافة، أسوة بما جرى مع الأكراد، فتكون الخطوة القادمة، تسوية ملف الدروز، لتطوى ملفات النزاعات المحلية.
سورية الجديدة وحتمية ترشيد الاستيراد السلعي
2- الإسراع في إنجاز متطلبات العدالة الانتقالية، لكي تسود المجتمع روح جديدة، بعيدة عن روح الانتقام، التي كرستها ممارسات نظام الدكتاتور الأسد ومسئوليه.
3- توفير الأمن في ربوع سورية كافة، لتسهيل انتقال الأفراد والسلع والخدمات، فسهولة الانتقال ووجود شبكة طرق ومواصلات جيدة، تسهل عمل المشاركين في النشاط الاقتصادي، فضلاً عن أنها تقلل من تكاليف النشاط الاقتصادي.
4- مراجعة التشريعات الاقتصادية التي تركها نظام الدكتاتور الأسد، وتعديل ما يصلح منها في أسرع وقت ممكن، ولا بدّ من معالجة للوضع التشريعي خلال المرحلة الانتقالية، من خلال الإعلان الدستوري المنتظر إصداره قريباً.
5- العمل على تنظيم سوق الصرف، تحت إشراف البنك المركزي، وخاصة عمل الصرافات، التي يديرها أفراد على قارعة الطريق، أو على المقاهي وغيرها، بحيث يمكن تقليص مساحات العبث بسوق الصرف، سواء من السوق السوداء، أو الاقتصاد الأسود.
6- مكافحة الفساد، ومراقبة الأموال المشبوهة، وبخاصة تلك التي تصل من الخارج لتمويل زعزعة الأوضاع في سورية.
7- سرعة إصدار العملة النقدية السورية البديلة لعملة نظام الأسد، ما يساعد على تحقيق مجموعة من الإيجابيات، منها: الوقوف على حقيقة الثروات داخل البلاد، وتضييق الخناق على الدولة العميقة وفلول نظام الأسد، في محاولتهم لتحقيق حالات احتكار للثروة، أو توظيف الثروة لإفشال الثورة، وكذلك منعهم من تهريب أموالهم إلى الخارج.
التحديات المعيقة للاستقرار الاقتصادي
إعادة بناء سورية بعد الثورة، ليست بالعملية السهلة، فثمّة خصوم، من صالحهم إعاقة تلك الثورة، وعدم تحقيق أهدافها، وإن كان ذلك على حساب الشعب السوري. ومن بين تكل التحديات، التي قد تعوق تحقيق الاستقرار الاقتصاد في سورية:
1- ممارساتُ الكيان الصهيوني، منذ نجاح الثورة السورية، إذ استهدف الكيان غير مرة مواقع مهمة وحيوية داخل الأراضي السورية بالطائرات، خاصة تلك المتعلقة بالنواحي العسكرية.
2- حرصُ بعض القوى الإقليمية على زعزعة الأوضاع في سورية، والعمل على أن تكون سورية ممزقة بين نيران الطائفية والقوميات المختلفة، لما يرونه من مخاطر أن يكون هناك نظام ديمقراطي أو إسلامي ناجح، يظهر عورات تلك النظم، التي عادت ثورات الربيع العربي، وحرصت على إفشالها.
3- التأخر في معالجة الآثار الاجتماعية السلبية الناتجة عن التحول لاقتصاد السوق، أو الناتجة عن التركة الفاسدة لنظام الدكتاتور الأسد، فترك هذه الأمور دون معالجة سيكون قنبلة اجتماعية، يمكنها أن تؤثر كثيراً على معطيات العملية السياسية المنتظرة.
4- عشوائية الأسواق وكل الأنشطة الاقتصادية، بما يؤدي إلى تضخّم الاقتصاد غير المنظم، وصعوبة سيطرة الدولة على المقدرات الاقتصادية للبلاد، فالعشوائية، تعني مزيداً من المسئوليات والواجبات على الدولة، وتضييع حقها في الحصول على الضرائب والرسوم، التي تساعدها على القيام بواجبها في تنظيم ورقابة النشاط الاقتصادي.
العربي الجديد
————————————
طريق القدس يمرّ من “درعا”/ يوسف الدموكي
25 مارس 2025
أولى الصيحات في وجه النظام المخلوع البائد كانت من درعا، وأولى “الشخبطات” على الجدران كانت في درعا، وأوّل الشهداء الأطفال كان حمزة، وأوّل الإلهام والشرارات كانت درعا، وأمام ذلك التوغّل الإسرائيلي اليوم في الجنوب السوري، وتلك الطعنات الغادرة التي لم تُمهل السوريين أيّاماً للاحتفال بإسقاط الصنم الأكبر الذي ظلّ جاثماً على صدر البلاد نصف قرن، كانت بخاصرة درعا.. فهل يصمت أهل درعا طويلاً؟ هل يقبلون ذلك الضيم أكثر من ذلك؟ هل أسقطوا الطاغوت الأسدي ليرضخوا للطاغوت البنياميني؟
الذين يعرفون درعا جيّداً يملكون الجواب، وفي الصباح كانت رصاصات الأهالي من أسلحتهم البدائية في درعا، تجاه قوات الاحتلال الإسرائيلي، وهناك كذلك، ارتقى الشهداء على طريق المقاومة الجديد؛ إذ طريقُ القدس الحقيقيُّ، يمرّ من درعا.
صدعوا رؤوس العالم والسوريين طيلة 14 عاماً بطريق القدس الذي مرّروه زيفاً على جثثهم، واسم القدس الطاهر منهم براء، وقتلوا من السوريين والفلسطينيين من قتلوا باسم الأقصى، في فرع فلسطين، يا لشناعتهم! ثم حين تسلّم الشعب مقاليد قصر الشعب، سألوهم، وأين قواتكم من احتلال البلاد؟ ذلك الاحتلال الذي نتج أصلاً عن حكمهم خمسين سنة، يريدون محاسبتك عليه، وأن “تشيل الشيلة” في يومك الأوّل، كأنّهم ينتظرون التشفّي في الأرض مما قضى به لك ربّ السماء، ومع ذلك، فها هي بنادق درعا الصادقة تلجم الجميع، ودماؤها الطاهرة تسيل مجدّداً، للمرّة الثانية ضدّ احتلالَين.
ثم إنّ ذلك الوحش الإسرائيلي الذي يظنّه البعض سيتراجع بالسياسة، وببعض الصمت الاستراتيجي، وبخطواتِ الدبلوماسية وجهود الوساطات، لم يعد ذلك الوحش الخفيّ القديم، وإنما هو حامل المشروع الواضح من دون مواربة، صاحب الحلم الكبير بأسْرَلَة بلادنا جميعاً، خاصةً عندما يغيب كفيله من سدّة الحكم، فإنّه لا بُدّ من أن يحكم بنفسه، هو لا يريد حدوداً لا يأمن بها طوفاناً جديداً، ولا يريد ضمانات ولو بعته سماءك ونصف أرضك، ولا يريد مدينتك الحدودية، ولا أراضيك ولا جبالك، ولا حتى دمشق، هو يريد التهامك كلك، لينتقل إلى ما بعدك، لنصبح بين عشية وضحاها تحت حكم إمبراطورية جديدة، لم تجاوز في البداية قوارب عدّة من المحتلين الدخلاء، وكلّ ذلك ليس إلّا لأنّ حكاماً آمنوا بربّ أميركا، لا بالإله الذي يقوّيهم في وجه أعتى قوى الأرض، ولا بالولاء الذي يبقيهم أقوى من أيّ عدوان.
من درعا، وإلى درعا، تعود البدايات والنهايات، بداية الثورة، وبداية المقاومة، ونهاية النظام، ونهاية العدوان، هناك ملخص كلّ شيء، والسرّ السوري الكامن، أصل تلك العجينة المختلفة، وأساس ذلك البناء الشامخ، هي الدرع والحصن، هي الأصل والثمر، وربما ما زلنا في بداية طريق طويلة مؤلمة وشاقة، لن تنتهي بطلقتَين ولا بمئة شهيد، ولا بجولتَين أو ثلاث، وإنما هي حرب ضروس، سيكون فيها ما شاء الله أن يكون، لكن الذي أنا على يقين منه، أنّ درعا أخت غزّة، ستعلّم الذين لاكوا اسمها كثيراً في شعاراتهم الكاذبة، بأنّ طريق القدس الحقيقيّ، الحقيقيّ فحسب، سيمرّ عبر درعا.
العربي الجديد
————————
هل ستتمكن إدارة أحمد الشرع من تفكيك الفكر البعثي في سوريا؟/ طارق علي
لجأت للحل الأسهل وهو التفكيك الجماعي للحاضنة لبنية الدولة
الأربعاء 26 مارس 2025
ارتأت الإدارة الجديدة أن تبدأ باجتثاث البعث من القطاع الحكومي أولاً، فسرحت أكثر من 400 ألف موظف، وأوقفت رواتب أكثر من 500 متقاعد مدني وعسكري قبل الحرب، ومن ثم واجهت مشكلة أخرى هي أن الجيش السوري بأكمله مع الإدارات الأمنية بعثيون، فقامت بحلهم جميعاً.
جرت العادة مع انتصار كل ثورة أو انتفاضة أو انقلاب أن يفكك الواصلون الجدد إلى الحكم رموز النظام السابق من مفاصل الحكم، لكن المهمة بدت أصعب مما تصورت الإدارة السورية الجديدة التي أطاحت بحكم بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، إذ إن بشار الأسد الذي ورث الحكم عن والده حافظ، لتمدد فترة حكمهما لما يقارب 54 عاماً، اعتمدا على الولاءات في التعيين وفي شتى التخصصات والمجالات والوظائف، بدءاً من رئيس الحكومة وصولاً إلى عامل النظافة.
الحزب الأوحد
وفي ظل الحكم الشمولي الأحادي الذي يقوم على الحزب الواحد كان لا بد أن ينال “حزب البعث العربي الاشتراكي” الحصة الوفيرة، بل والكاملة، من التغلغل في مفاصل البلد حتى إتمام السيطرة عليها في جو تكاد تنعدم فيه المنافسة السياسية، أو بأفضل الأحوال القبول بوجود أحزاب غير مؤثرة تمكن البعث من أدلجتها في سياق تصوره للمرحلة المستديمة استراتيجياً لاستتباب حكمه.
ومع كل ذلك الترهل المؤسساتي الذي فاجأ الإدارة الجديدة حين وصولها إلى السلطة لناحية إمكان استمرار تلك المؤسسات بالعمل في ظل ما تشهده وما تعيشه، بدا الموقف شائكاً ومربكاً ومعقداً ولم تعرف من أين تبدأ في تفكيك “حزب البعث” ومناصريه وعزلهم خارج إطار الدولة، فالتجأت للحل الأسهل وهو التفكيك الجماعي للحاضنة الاجتماعية الهيكلية لبنية الدولة، على رغم علمها المسبق أن “بعثيي بشار ليسوا كما بعثيي حافظ”، والفرق هنا شاسع.
“الفرق بين بعثين”
بعثيو حافظ كانوا يملكون توجهاً أيديولوجياً صارماً في الغالب ضمن بوتقة الأهداف والمنطلقات والنظريات القومية، أما بعثيو بشار، لاسيما في حرب الأعوام الـ14 الأخيرة، فلم يكونوا إلا مناصرين بغية المناصب والوظائف بعيداً من أي هدف أيديولوجي قومي عابر للحدود. ويمكن الاستدلال على ذلك من ناحيتين، الأولى كم الفساد الذي نهش “البعث” في عهد بشار، والثانية حين حاولت السلطة تشكيل ميليشيات مقاتلة باسم “البعث” (كتائب البعث – مغاوير البعث وغيرهما) وكانوا الأقل شأناً وقدرة وحماسة وتأثيراً، ومرة ثانية خلاف بعثيي حافظ الذين استخدمهم كقوة ضاربة في مواجهة “الإخوان المسلمين” في أحداث ثمانينيات القرن الماضي.
شركة قابضة
تحول الحزب إلى ما يشبه “شركة قابضة” على مستوى القيادة جعلت جميع أصحاب المناصب شركاء في دائرة من الفساد المسموح به على الصعيد الضيق، ومع اتساع مواردها يجب أن تصب في جيب السلطات الأعلى، أي في القصر الجمهوري، بحسب مقربين من النظام السابق.
وتلك اتهامات طاولت حتى مفتي الجمهورية السابق أحمد بدر الدين حسون بالأعمال التجارية المشبوهة بغطاء بعثي تحت عمامة دينية، وحين تجاوز الحصة المسموح بها له كان أن عزل قبل أعوام وظلت الدولة بلا مفت، مع توسع صلاحيات وزير الأوقاف عبدالستار السيد الذي كان يوصف بأحد حكام الظل مع احتفاظه بحقيبته الوزارية لـ17عاماً متتالية، وما فضحه شيوخ الشام بعد سقوط النظام عن تدخل الوزير بأمر من الرئاسة في فرض موعد بدء شهر رمضان وعيد الفطر بناء على حسابات سياسية، لا على حسابات دينية من التماس قمر الشهر الفضيل وخلافه، وذاك مثال إلى أي حد كانت تتدخل السلطات في شؤون الناس، ولذا كان البعثيون يقودون الدولة، لأنهم تعلموا ألا يقولوا “لا”.
فوضى الاجتثاث
ارتأت الإدارة الجديدة أن تبدأ باجتثاث البعث من القطاع الحكومي أولاً، فسرحت أكثر من 400 ألف موظف، وأوقفت رواتب أكثر من 500 متقاعد مدني وعسكري قبل الحرب، ومن ثم واجهت مشكلة أخرى هي أن الجيش السوري بأكمله مع الإدارات الأمنية بعثيون، فقامت بحلهم جميعاً.
ثم اتجهت للجامعات وأعادت ترتيبها، وآخر ذلك الترتيب تعيين شاب من إدلب عمره 35 سنة عميداً لكلية الإعلام في دمشق، مما أحدث إرباكاً على أساس أن تعيين الدكتور الجديد جاء على حساب قامات كبرى من الدكاترة والأساتذة الذين يحسب لهم حساب في الكلية إياها، خصوصاً أن الدكتور الوافد كان يدرس في جامعة إدلب غير المعترف بها. بالتزامن جرى إقصاء دكاترة وحملة ماجستير وجامعيين من مديرية نقل طرطوس لصالح تعيين مدير من إدلب من الفئة الثالثة (أي يحمل شهادة ثانوية)، وهو أمر آخر من جملة عشرات الأمور التي لم تفهم في حيثياتها وسياقها.
يرى الشارع السوري اليوم أن السلطة الجديدة تعيد إنتاج القديمة، فالقديمون اعتمدوا على “البعث”، والجدد اعتمدوا بالخصوص على أهل إدلب، والمرتبطين بـ”هيئة تحرير الشام” عموماً.
وبذلك يكون السوريون خرجوا من مرحلة الولاءات القديمة إلى الولاءات الجديدة، فعلى رغم حل “هيئة تحرير الشام” نظرياً، إلا أنها هي من أعدت مؤتمر الحوار الوطني والإعلان الدستوري، وهي من يستلم أفرادها المناصب الحكومية والوزارية والإدارية العامة والأمنية والعسكرية، حتى أنها في سياق تفكيكها لـ”البعث” لم تجد بداً من أن يكون أمنها وجيشها وحكومتها ولجانها من لون واحد، إذ لا يمكن العثور على مكونات شريكة في القرار في المناصب التي يعول عليها.
الكذبة الكبرى
اجتثاث “البعث” من الدولة كما في سوريا يعني اجتثاثها من نفسها أساساً، بل وتفكيكها كهيكلية كاملة يغلب عليها النمط البيروقراطي الذي جعلها تتمكن من المضي في تسيير الأعمال في خضم الحرب.
“اندبندنت عربية” حاولت الاستماع لبعثيين سابقين قبل حل حزبهم مع انتصار الانتفاضة للأخذ برأيهم، فإيجاد البعثيين السابقين في سوريا ليس أمراً شاقاً، إذ كان الانتساب للحزب بمثابة “فرض عين” على المواطن السوري، وهو ما يؤكده المهندس معتز جمراني المفصول من عمله بقوله: “في الصف العاشر الثانوي يجري تنسيب كل الطلبة إلى ’حزب البعث‘، ونجد أنفسنا مع الوقت بعثيين بغير إرادتنا، فإما أن نبقى في خانة نصير وندفع الاشتراكات، أو هناك من تكبر أحلامه فيخضع لدورة عضو عامل لتؤهله لتبوؤ مناصب في المستقبل، وتلك الدورة عادة حدها الأدنى عامان، وبالطبع يمنع دخول مؤسستي الجيش والأمن من غير البعثيين، كما تحجب الوظائف بنسبة 99 في المئة عن غير البعثيين، إذ يمكن أن يتسلل مستقل من هنا أو هناك أو منتم لحزب مسموح به إلى وظيفة ما على قاعدة أن البلد ديمقراطي وتلك الكذبة الكبرى”.
فرض وليس خياراً
“الحزب فرض وليس خياراً”… يقول الموظف زيدان ميداني ويكمل: “إما أن تكون بعثياً أو أن تبقى فلاحاً، طريقك للراتب الشهري والمعيشة الكريمة تبدأ من البعث، واليوم نحن ندفع ثمن بعثيتنا القسرية، لأننا بعثيون أجلسونا في المنازل، أما كبار البعث فإما صاروا خارج البلد أو يفاوضون السلطة الجديدة. في المعادلة السورية يدفع الفقير دوماً ثمن ما يحصل، صحيح أننا كنا بعثيين، ولكن هل كنا مقتنعين أو مؤمنين بأفكاره وسلوك قياداته وضمنهم رئيس الجمهورية؟ كنا نرى كيف أن ’البعث‘ هو سبيل المال والوصول والسلطة والحماية حتى، هذا عدا عن أن آخرين تماهوا مع ’البعث‘ سعياً وراء مركز فتعلموا بإتقان كيف يكونون مخبرين وكتبة تقارير بأقرب الناس لهم. اجتثاث ’البعث‘ بفكره وأدبياته البائدة وشخوصه المتلونين، ضرورة لا بد منها، لكن ليس أن ندفع الثمن والثمن هو تلك الـ20 دولاراً التي كنا نتقاضاها كراتب شهري لتحل ’هيئة تحرير الشام‘ مكان ’البعث‘، فنكون كمن يدور في مكانه”.
المد القومي
نشأ “حزب البعث” في غمرة صعود الأحزاب القومية في العالم العربي في أربعينيات القرن الماضي على يد صلاح البيطار وميشيل عفلق، مطورين نظريات الحزب التي جاء بها قبلهما زكي الأرسوزي، وانضم إليهم لاحقاً الزعيم الحموي أكرم الحوراني، وتمسك الجميع بالأيدولوجية التقدمية التحررية التي اتخذت من شعار “أمة عربية واحدة… ذات رسالة خالدة” شعاراً لها، ومن “وحدة، حرية، اشتراكية” أهدافاً لها، وتمكنوا من التوسع وافتتاح أفرع قطرية في بلدان عدة بينها العراق واليمن والأردن ولبنان وليبيا وغيرها، وكل تلك الأفرع سقطت تباعاً، وكان آخرها “بعث العراق” مع سقوط نظام صدام حسين عام 2003.
وفي عام 1963 شكل حافظ الأسد مع مجموعة ضباط لجنة عسكرية تمكنت من السيطرة على سوريا تحت مسمى “البعث”، قبل أن يقصي حافظ رفاق دربه ويستأثر بالسلطة عام 1970. وكانت تلك فاتحة المقولة الشهيرة “الجدران لها آذان”، إذ إنه مكن البعثيين بصلاحيات وقوة وشأن شرط الولاء المطلق والوشاية بأقرب الناس إليهم، أخاً أو أباً، إن شذوا عن طريق القومية والولاء.
بين سوري وبعثي
قبل ذلك كان العالم العربي مأخوذاً بالحالة الناصرية، وكان جمال عبدالناصر مخذولاً من سوريا التي فضت الوحدة مع بلده وانقلبت عليها مطيحة بالجمهورية العربية المتحدة (1958-1961) فقال في كلمة شهيرة، “إن حزب البعث قسم سوريا بين بعثي وسوري”، وهو ما أثبتته الأيام والأعوام والعقود اللاحقة.
جاء حافظ بكل طائفته إلى حزبه الذي انتزعه من قادته التاريخيين، ولكنه كان أكثر دهاء من جعله حزباً طائفياً، فشرع أبوابه للجميع، حتى صارت طائفته الأقلوية أقلية في صفوف حزب “الجماهير والفلاحين والعمال”، وأغلق الأسدين كل أبواب الأحلام في الوصول والسيطرة والهيمنة إلا للحزبيين على النطاق الأعلى، وفي النطاق الأسفل ترك لهم الوظائف والمناصب الفرعية.
هل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟
ما كان يحدث في سوريا لم يكن شذوذاً عن دول كثيرة أخرى حكمت بالحزب الواحد، لكن الفرق أن انتفاضة انتصرت وأطاحت بحكم دام 54 عاماً، فكم سيحتاج العطار لإصلاح ما أفسده الدهر؟ وهل سيتمكن؟
الناس في لا وعيها أدلجت، تعودت على التصفيق والخطابات والمسايرات ونمط حياة من الصعب اقتلاع جذوره في أشهر قليلة.
عبدالمعطي حازم كان أحد قيادات “البعث” في تسعينيات القرن الماضي، يقول لـ”اندبندنت عربية”: “لا شك أن الحزب الواحد عطل مسار الحياة السياسية التعددية في سوريا، لكن اقتلاعه بطريقة عشوائية سيسهم في دمار أكبر. البعثيون منذ زمن بعيد ليسوا أصحاب نضال وقضايا وبنادق محشوة، هم فقط تماهوا مع المرحلة المفروضة قسراً، وتطهير البلد منهم وظيفياً وجماعياً سيخلق أحقاداً لا تريدها سوريا الآن تحديداً، وسيخلق أزمات مركبة من بينها البطالة والمجاعة وارتفاع منسوب الجريمة، الحل هو بالعدالة الانتقالية التي تحاسب كبار البعثيين الذين عينوا حكومات وضباطاً وإدارات أمنية لا ممرضين وموظفين في معامل الأسمدة والغزل والتربية وغير ذلك”.
ويتابع “مع انحدار المد القومي صار البعث مجرد حزب، لكنه احتفظ بدوره التعبوي في عهد الرئيس المخلوع خدمة لأجندات تتعلق بالولاء في مقابل العيش، وخدمة لملفات تتعلق بالتجييش والتحشيد والانتخابات، أما لو سألت الناس عن رأيهم بالبعث، فهم منذ زمن بعيد لا يعرفون شيئاً عن منطلقاته، وأجزم أن كل بعثيي سوريا لا يعرفون تاريخ تأسيسه ولا سياق اندماجه مع أحزاب أخرى ليتشكل، أولئك أبناء الشعب، يريدون أن يأكلوا ويشربوا ويعيشوا، وإقصاؤهم بتلك الطريقة يعني أن ’هيئة تحرير الشام‘ تدق إسفيناً بينها وبين شعبها”.
ما نسبة السوريين القوميين الاجتماعيين والشيوعيين والناصريين والوحدويين والمستقلين من الشعب السوري؟ هي نسبة ضئيلة أمام الطوفان البعثي الكبير، الطوفان الذي كان أهل إدلب أنفسهم جزءاً كبيراً منه، لكن 14 عاماً من الانتفاضة والاستقلال الجغرافي أتاحت لهم التخلص من عباءة الحزب، وهو ما لم يتح لبقية السوريين في مناطق النظام، المناطق التي كان يسيطر فيها على المدن الكبرى والمركزية.
ولكن استبدال أيدولوجية بأخرى ليس بالأمر السهل، تغيير نمط الاعتياد الفكري للناس ليس سهلاً، قد يبدو السوريون سعداء بتخلصهم من الحزب الحاكم، لكن ثمناً كبيراً سيدفعونه عاجلاً على ماض كانوا شركاء فيه بالقوة، وهنا دور الإدارة الجديدة باحتواء الناس والعمل لأجل الجميع والاقتناع بأن البلد يبنى بمن حضر.
الشعب مصدر السلطات
وللإدارة السورية الجديدة في تجربة اجتثاث “بعث العراق” ما بعد صدام دروس كبيرة وكثيرة، فالسلطات هناك عادت لاحقاً لتعتمد على الموظفين العسكريين والمدنيين من البعثيين، إذ إن بناء الدولة يجب أن يكون من منظور أكثر شمولية وواقعية وتشاركية وإدراكاً أن تجربة إدلب لا يمكن أن تنجح في حكم سوريا متفردة.
فالإعلان الدستوري الذي لم يذكر أن الشعب هو مصدر السلطات عليه – بحسب قانونيين – لا بد من مراجعته لأن أسباب شرعية الحكم تستمد من الشعب الذي يجب أن تشمله عين المغفرة والمسامحة والانتقال السلس البسيط للسلطة، وهو الذي أكده رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع غير مرة وفي غير مناسبة، بأن الانتفاضة انتهت والآن يجب التوجه لبناء الدولة، ولبناء الدولة لا بد من إشراك ومشاركة جميع مكوناتها، إلا أن اللون الواحد ما زال طاغياً على رغم مرور ثلاثة أشهر من تسلم السلطة. فكيف ستبنى سوريا في نهاية المطاف؟ هذا سؤال يتجاوز تفكيك “حزب البعث” لأن يصير محرك القادة الجدد الذين عليهم الاتعاظ من تجارب غيرهم في بناء الدول، بحسب متخصصين وسياسيين.
اندبندنت عربية
————————————–
محنة الليبراليين السوريين/ رستم محمود
لا يبالي التحرريون السوريون راهنا بالتفصيل الأساسي في “مسألة الحرية”
26 مارس 2025
بينما يشيّد حكام سوريا الجدد مجموع المؤسسات والأجهزة والمواثيق والمسارات والاستراتيجيات التأسيسية لسوريا المستجدة، على كتلة من القيم المحافظة والسلوكيات الانضباطية والترتيبات العصبوية والتي غالبا ستشكل الهيكل الرئيس لما ستكون عليه البلاد خلال سنوات كثيرة قادمة، فإن طيف الشخصيات والأحزاب والطبقات السياسية السورية “الليبرالية” يبدو “أبكما” تماما في مواجهتها، رغم التناقض الجوهري بين نزعاتها الأيديولوجية وما عرف عنها من سلوك سياسي تقليدي، وبين هذا النوع من التأسيس.
ليس المقصود بـ”الليبرالية” في هذا المقام إجمالي التنظيمات والشخصيات التي تصرح بهويتها الليبرالية كنزعة سياسية/اجتماعية. فهؤلاء– على قلتهم في الفضاء السوري- يشكلون جزءا من الطيف المعني، الذي يضم كامل الشخصيات والأحزاب والطبقات التي واجهت استبداد الحقبة الأسدية، الفظ والمديد، بطلب مستدام للحريات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وأولا السياسية.
هؤلاء السوريون الذين كان يصح تسميتهم بـ”التحرريين”، ويضمون أحزابا سياسية تقليدية، مثل “حزب الشعب الديمقراطي” و”حزب الاتحاد الاشتراكي” و”رابطة العمل الشيوعي” و”حزب العمال الثوري” والأحزاب الكردية السورية، ومثلهم قادة منظمات المجتمع المدني والمثقفون السوريون، صامتون راهنا، سياسيا على الأقل. فخلال المئة يوم الأولى منذ التغيير، الأصعب والأكثر بنيوية في تاريخ سوريا المعاصر، منذ سقوط النظام السابق، وعلى الرغم مما تظهره القوة الحاكمة حديثا من نزوع شبيهٍ بسابقاتها، فإن هؤلاء التحرريين لم يشكلوا تيارا أو صوتا سياسيا واضحا، ناقدا قبل أن يكون رافضا ومعارضا لما يحدث.
لا يمكن إطلاق أحكام ناجزة عن سبب هذه “المساكتة” التي تعتري عالم التحرريين التقليديين السوريين، لتنوع مشاربهم الأيديولوجية وتعدد تنظيماتهم واختلاف أسباب سلوكهم العام هذا. لكن ملاحظات جادة يمكن طرحها في ذلك السياق.
فالتحرريون السوريون هؤلاء يعيشون راهنا هول وشروط “البلاد المحطمة”، حياتيا ونفسيا وعقليا، يحملون في ذواتهم ميولا أخلاقية وعقلية وروحية ترى أن تجاوز “البلاد الحطام” أولوية مطلقة، وإن كان شرط ذلك هو التغاضي أو عدم الاعتداد بما قد يمارسه الحكام الجدد من تجاوزات على شروط الحرية والديمقراطية، وحتى منظومة حقوق الإنسان.
ليس “الحطام” بالنسبة لهؤلاء مجرد مدنٍ وحواضر مدمرة، وهي كذلك تماما، بل تتجاوزها لأن تكون الدولة نفسها، عبر مؤسساتها وأجهزتها القومية. فإعادة بناء “الدولة القومية القوية”، ودائما حسب رأيهم الأعم، ذو أولوية قصوى، خصوصا أن النظام السابق كان متهما بكونه “نظاما خارجيا”، فتح أبواب سوريا لتكون مركز هيمنة لمختلف قوى ودول الهيمنة.
لا يبالي هؤلاء التحرريون السوريون بأن تكون “إعادة بناء الدولة القومية القوية” هذه مناهضة للقيم العليا للتحرر، التي نادوا بها مطولا، لأنهم في ذواتهم يعيشون “فقدا عميقا” لما يعتبرونه “بلادهم التي تبددت”. لذا يظهرون مدفوعين بهذا “اليتم العارم” إلى القبول بما هو دون “خطر الفقر السياسي” الذي بقوا لعقود يناضلون في سبيله، ودفعوا أثمانا باهظة في سبيله.
لا يبالي التحرريون السوريون راهنا بالتفصيل الأساسي في “مسألة الحرية”، والذي يقول إن الحريات العامة والحياة الديمقراطية ليستا مجرد ممارسات وقيم مقدسة لذاتهما، بل لوظيفتهما، فدونهما لا يمكن بناء أي شيء ذي قيمة واستدامة. فـ”الغل الأسدي” أفقد الكثير من الطبقات السورية “رفاهية الاختيار”، ودفعهم مجبرين للنزوع نحو خيار وحيد، وإن كان فقيرا للغاية، يرى في إسقاط الوحشية الأسدية أعلى وأنبل القيم، وبذا القبول بأي شيء غيرها.
إلى جانب كل ذلك، فإن التحرريين السوريين، مثل باقي الطبقات الاجتماعية السورية “الناعمة”، فقدت طاقتها وقدرتها على الاستدامة. فسنوات الحرب الوحشية أظهرت ورفعت الطبقات الأكثر “غلاظة” وقدرة على التحمل، ومن جميع المتصارعين. فمعارضو الأسدية من مثقفين وساسة وقادة مجتمع مدني، صاروا بالتقادم منذ عام 2011 مجرد هامش سياسي، يكاد لا يرى، دون دور وتأثير وفاعلية في المتن العام، قبالة صعود أبناء الهويات “الخرسانية” الصلبة، من زعماء العشائر وخطباء المجالس والمقاتلين الجهاديين وتجار الحروب. حيث من المتوقع أن تحتاج هذه “التحررية السورية” عقودا من المراكمة، حتى تعيد بناء ذاتها ودورها في الكل السوري.
أخيرا، لا ينفي كل ذلك “التلوث” الذي ربما أصاب قدرا وفيرا من هؤلاء الليبراليين السوريين. فمثل غيرهم من السوريين، وما إن تصاعدت الخطابات والمواجهات الطائفية والقومية والمناطقية ضمن الحرب السورية الكلية، نزع الكثير منهم قناع الحرية وخطابات الديمقراطية التي كانوا ينادون بها سابقا، وصاروا أكثر التصاقا بجماعاتهم الأهلية، يفضلون تحسين موقعها وشرط عيشها على الصالح العام.
المجلة
——————————-
اجتماع أوروبي سري في دمشق.. دعم الحكومة مشروط بإصلاحات شاملة
2025.03.26
كشفت وكالة “رويترز” أن دولاً غربية تراقب من كثب قيادة أحمد الشرع في سوريا، وتطالب باتخاذ إجراءات صارمة ضد “الجهاديين” المسؤولين عن أحداث الساحل، إلى جانب تشكيل حكومة شاملة بمؤسسات فعالة تضمن الاستقرار وتمنع عودة تنظيم الدولة أو القاعدة.
ووفقاً لمصادر دبلوماسية نقلت عنها الوكالة، عُقد اجتماع غير معلن في 11 آذار الجاري في دمشق، ضم ثلاثة دبلوماسيين أوروبيين ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، حيث أبلغ الوفد الأوروبي الوزير أن “الأولوية القصوى هي قمع المقاتلين الجهاديين”، محذرين من أن “الدعم الدولي للحكومة الناشئة قد يتبخر إذا لم تُتخذ خطوات حاسمة”.
“لا شيك على بياض”
وفي السياق، صرّح المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية، كريستوف ليموان، قائلاً: “الانتهاكات التي وقعت في الأيام الأخيرة غير مقبولة، ويجب تحديد المسؤولين عنها ومحاسبتهم”، مضيفاً: “لا شيك على بياض للسلطات الجديدة”.
ونقلت “رويترز” عن دبلوماسيين أوروبيين ومسؤولين إقليميين زاروا دمشق، أن هناك إجماعاً على ضرورة بسط السيطرة الأمنية ومنع تكرار المجازر. وقال أحدهم: “طالبنا بالمحاسبة. يجب معاقبة من ارتكبوا المجازر، وتنقية الأجهزة الأمنية”.
من جهتها، دعت الولايات المتحدة إلى محاسبة الجناة، إذ قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، تامي بروس، إن بلادها “تراقب تصرفات السلطة المؤقتة لتحديد سياستها تجاه سوريا”.
ولم يصدر أي تعليق من مكتب أحمد الشرع أو وزارة الخارجية السورية بشأن هذه المعلومات.
“الدعم العربي مشروط بتقاسم السلطة”
كما نقلت “رويترز” عن دبلوماسي عربي قوله إن “الدعم السياسي من الدول العربية ليس مطلقاً، بل مشروط بخطوات ملموسة، من بينها تشكيل حكومة شاملة وحماية الأقليات وتحقيق نتائج على الأرض”.
وأضاف أن تحقيق الاستقرار في سوريا “يتطلب تقاسماً حقيقياً للسلطة مع العلويين والمسيحيين والأكراد والأقليات الأخرى، وعندئذ فقط يمكن كسب الدعم الأميركي والأوروبي”.
وأشارت “رويترز” إلى أن الدول الغربية تربط رفع العقوبات المفروضة منذ عهد بشار الأسد بمدى التزام الحكومة الجديدة بالحكم الشامل وحماية الأقليات، معتبرة أن هذا الرفع يُعد مفتاحاً لإنقاذ الاقتصاد السوري المنهار، والتحدي الأكبر أمام قيادة الشرع.
—————————–
تحولات المكون السني في سورية/ رامي الخليفة العلي
26 مارس ,2025
منذ سقوط نظام الأسد، شهد المكون السني في سورية تحولاً عميقاً، انتقل من كونه أكثرية واثقة إلى أقلية تعيش شعوراً متزايداً من الخوف والترقب والحذر، الأمر الذي خلق لديها وعياً طائفياً جديداً انعكس في صورة تضامن وتلاحم غير مسبوق، نابع من إحساس قوي بالتهديد الوجودي. اتّسمت ردود أفعال السنة في أحداث الساحل بالمبالغة الشديدة نتيجة تراكم الخوف والغضب من إمكانية عودة الهيمنة السابقة للأقليات، خاصة العلوية، والشعور بفقدان السيطرة والتهديد بإبادة طائفية ممنهجة. هذا الوضع أدّى إلى تلاشي الفروق التقليدية بين أبناء السنة، سواء كانت مناطقية أو أيديولوجية، فلم يعد هناك تمييز واضح بين التيارات السلفية أو الإخوانية أو الصوفية أو الإسلام التقليدي، إذ أصبح الحفاظ على الهوية السنية الشاغل الأساسي، وأصبح واضحاً للجميع أن الخلافات السابقة باتت رفاهية لا يمكن تحمّلها في هذه المرحلة الحرجة. وتجاوز الأمر حدود التيارات الإسلامية إلى التيارات السياسية الأخرى مثل الليبرالية واليسارية والعلمانية، التي اضطرت لتوحيد موقفها مع الإسلاميين نتيجة الإحساس المشترك بالخطر، ما عكس واقعاً جديداً في المشهد السياسي السوري. وبرزت الشخصية الجدلية للرئيس السوري أحمد الشرع كنقطة تقاطع مهمة بين تيارات السنة، فرغم الاختلاف حوله، فإن الرفض القاطع من الأقليات لشخصيته عزز شعور السنة بأنه يمثّل خياراً اضطرارياً لمنع عودة حكم الأقليات. كما لعب الموقف الواضح والصريح لدى بعض الأصوات في الأقليات -خاصة الطائفة العلوية والدروز، الذين رفضوا شخصية الشرع ودعوا للحماية الدولية والتعاون الضمني مع إسرائيل- دوراً كبيراً في تعزيز الشعور بالخطر لدى السنة، ودفعهم لمزيد من الالتفاف حول قياداتهم مهما كانت محل خلاف داخلي. هذا التحول في الهوية السنية بدأ يأخذ شكل هوية سياسية متكاملة، لها رموزها وأفكارها وخطابها الموحد، مما عمّق القطيعة مع المكونات الأخرى في المجتمع. وأصبح السنة اليوم أكثر حرصاً على التعبير عن هويتهم بشكل جماعي ومتماسك، مدركين أن أي تردد أو انقسام قد يعيدهم إلى مرحلة الاستضعاف والهيمنة من جديد. واختفت المنافسات التقليدية بين رجال الدين والمدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص، التي باتت تنظر إلى نفسها كجزء من كتلة واحدة في مواجهة التحديات المشتركة. حتى على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، توجه كثير من رجال الأعمال من السنة نحو التكافل الداخلي وتأسيس مشاريع مشتركة لمساندة النظام السياسي الجديد دفعاً نحو الاستقرار والاستقلالية والأمان الاقتصادي. ويظهر الجيل الجديد من الشباب السني انخراطاً أكبر في الشأن العام من الأجيال السابقة، وبسبب البيئة المشحونة بالوعي الطائفي بعد سقوط الأسد، باتت هناك خشية على مستوى النخب من تكريس الانقسام الطائفي بشكل أعمق. ويعكس استخدام السنة لخطاب المظلومية، الذي طالما كان خطاباً للأقليات تاريخياً، بوضوح عمق التحول الكبير الذي طرأ على واقعهم ومشاعرهم بعد الأحداث الأخيرة، الأمر الذي يفرض تحديات كبيرة على المجتمع السوري ويجعل الحوار الوطني الجدي ضرورة ملحة لتجاوز حالة الانقسام وبناء مستقبل أكثر استقراراً وتماسكاً.
* نقلا عن ” عكاظ”
——————————-
“أنتم القادمون من إدلب”.. من المناطقية للأسدية/ محمد السكري
2025.03.26
عقب تحرير سوريا من قبل الثوار السوريين وإسقاط نظام الأسد، بدأت تظهر في الأوساط الاجتماعية السورية في المناطق التي كان سابقاً يسيطر عليها نظام الأسد لا سيما في المحافظات الكبرى، مظاهر “الأسدية المنهزمة” من خلال اعتبار إدلب ذات هوية سياسية وثورية بالاعتماد على سردية الأسد، الذي وظف هذا الاستخدام كاستراتيجيا سياسية لشيطنة الثورة السورية ومحافظة إدلب وتصويرها كحركة متطرفة ومعقلاً للتطرف.
فعلى مدار الثورة السورية، شكّل نظام الأسد عبر ماكينته الإعلامية تصوراً عاماً وجمعيًا لدى السوريين، أنّ محافظة إدلب هي معقل للتطرف وأن كل من يعارض نظامه هو “إدلبي” بالضرورة، ومع الوقت تطوّر هذا الموقف، ليتبناه فنانون وشخصيات سياسية داعمة لنظام الأسد من أجل تأكيد ما حاول نظام الأسد فرضه كفكرة تتجاوز البعد المناطقي وتعبّر أكثر من مفاهيم سياسية صنعها استبداد الأسد بالاعتماد على مقاربة “تفكيك ما تبقى من المجتمع السوري” بعدما نجح على مدار عقود في رسم انطباعات مناطقية وطائفية عن جميع المحافظات السورية؛ ومن لا يذكر كيف سعى نظام الأسد لجعل محافظة إدلب “محافظة للشرطة السورية” من أجل تشويه سمعة المحافظة بعدما الحادثة الشهيرة بطريقة “استقبال حافظ الأسد” عبر ضربه بالحذاء.
يعتقد القاطنون في المناطق التي كان سابقاً يسيطر عليها الأسد، أنّ المعارضين لنظام الأسد على اختلاف هوياتهم الدينية والمناطقية والثقافية هم “أدالبة” بالضرورة، وهنا لم تعد “إدلب” تشير ل”هوية مكانية” وإنما كذلك “هوية ثورية”، عند محاولة التفريق بين هؤلاء الذين وقفوا مع الثورة السورية وتهجروا لإدلب أو عملوا لصالحها من المغترب عبر فرق تطوعية ومنظمات ونقابات وبين الذين قرروا دعم نظام الأسد وقطنوا في مناطق الأسد “سابقاً” وهذا لا يعني أنّ كل من بقي في تلك المناطق مؤيد لنظام الأسد، وإنما يمكن القول إنّ ثقافة تلك المناطق التي شكلها الاستبداد هي التي سيطرت على العقل الجمعي هناك بدعم وضخ كبير من قبل إعلام الأسد وشبكاته متعددة الاتجاهات.
الحقيقية، لم يشكّل النظام وحده التصور السياسي حول إدلب فقط، وإنما كذلك المجريات السياسية التي عمل عليها النظام كذلك أسهمت في بناء هذا الاعتقاد، مستفيدًا من حظوة إدلب لدى المعارضين لنظامه بكونها تحظى باهتمام ورمزية كبيرة لدى الثوار السوريين لأسباب عديدة على رأسها أنّها احتضنت كل السوريين المعارضين لنظام الأسد بعد تهجيرهم، مما جعلها “سورية الصغرى” كما يحلو لكثر تسميتها.
ومن هذه التسمية، تخرج إدلب من كونها مجرد محافظة ذات بعد مكاني، لتصبح ذات بعد رمزي عميق ومرتبط بموقف ثوري واضح “معارضة الاستبداد ونظام الأسد ومقاومته والتحضير لإسقاطه” عند هذه الفرضية من المفترض قراءة كل ما تبع من تصريحات ومواقف سياسية وشعبية واجتماعية؛ أي باعتبار إدلب ليست جغرافيا وإنما حاملاً وطنياً.
تْعارض شرائح عديدة، تحويل سوريا إلى “إدلب” ولطالما قال كثر “أن سوريا أكبر من إدلب” ولهذا التعبير جانبين، جانب محق متعلق بتوسع النطاق الجغرافي وانتصار “سوريا الصغرى” على “سوريا الأسد” بالتالي ضرورة التعاطي مع الملف السوري وفق ضرورات المرحلة الجديدة وهو موقف متعلق بإشراك الجميع، أمّا الموقف الثاني فهو يتسم ببعد مختلف ويتأرجح بين ثنائية “الثورة-الأسد” من خلال الاعتماد على الصورة النمطية التي شكلها نظام الأسد حول “المعارضين” أو “إدلب” كصورة سوداء تسيطر عليها جماعات لا تشبه الشعب السوري، أي أنّها موقفاً سياسياً أقرب للمنظومة القديمة “الأسدية” من الرغبة في بناء سوريا وفق واقعها الجديد.
تتخطى المواقف حول محافظة إدلب البعد “المناطقي”، وتتصف ببعد سياسي، مع أنّ كلا البعدين هم “ثقافة أسدية” لكن الثاني أكثر خطورةّ، بكون الأسد عمل عليه خلال آخر سنوات الثورة السورية؛ وفق ما أراد قوله حول من عارضه، عبر تصويرهم أنّهم مجرد جماعات خارجة عن القانون، يفضلون الفوضى على القانون، التمرد على النظام، القتل على السلام، هذا ما عدا النظرة الفوقية المتعلقة بالطبقية المجتمعية عند المقارنة بين المحافظات السورية بين التقليل من شأن بعضها وإهمالها وبين أخرى لطالما صورها أنّها مرجع للبرجوازية والرأسمالية السورية.
ومن هنا، أتت معارضة “إدلب” من قبل مؤيدي الأسد أو ما يمكن تسميتهم “الفلول الاجتماعية والسياسية” استمراراً لمقاربة “الأسدية” وتسليماً بالاعتقادات الماضية التي صورها الأسد لهم. ما يعني، أنّ هذه النظرة الفوقية هي ذات بعد سياسي وليست مناطقي، وأنّ غالباً من يعبر عنها هو إمّا مؤيد للأسد، أو متأثر به. بالتالي، من المهم التفريق بين الموقف المناطقي التقليدي القديم الذي بنيت عليه دراسات الهوية، وبين الموقف السياسي في نموذج إدلب الثوري، فعند التعبير عن موقف مناطقي من المحافظة لا يُقصد موقفاً مناطقياً فحسب وإنما سياسياً تجاه الثورة السورية.
وفي الغالب، يميل مؤيدو الأسد أو معارضو الثورة لاستخدامه كأسلوب وذريعة تحت بند ضرورة توسيع المشاركة السياسية أو نقد الحكومة السورية على اعتبار أنّهم أكثر خبرة من معارضي الأسد، مع أن “الأدالبة” وفق التعبير السياسي الثوري أي “معارضو الأسد” لديهم خبرات واسعة وكثر منهم دراسو خارج سوريا في أرقى جامعات العالم، ولديهم خبرات مقبولة. وفي ذات السياق، يعتقد الرافضون لهذا الموقف أنّه يحمل بعداً مناطقياً، لكن في الحقيقة هو يحمل بعداً سياسياً، فالدمشقي المعارض، والحلبي المعارض، والحموي والحمصي والدرعاوي وأبناء الساحل والسويداء هم أدالبة بالنسبة لمؤيدي الأسد، وهم من يقصدهم فلول الأسد بتوصيف “القادمون من إدلب” وليس مناطقهم الجغرافية.
تعاني سوريا الجديدة، من إشكالية كبيرة في التعامل مع التفسخ الاجتماعي الكبير الذي خلفه نظام الأسد، وتجاوز سردياته التي بناها بما يخدم مصالحه على أسس تفتيت المجتمع السوري، ولعلّ أكثر ما يجب العمل عليه خلال الفترة القادمة، تجاوز سردية الأسد وبناء سردية وطنية جديدة تعيد تعريف فترة الـ14 عاماً، كسردية وطنية وليست فقط ثورية، بكونها ثورةّ دفع لأجلها الشعب السوري الكثير، وأن إدلب هي حالة سوريا ثائرة تشبه كل السوريين وليست سوداء، وإنما كانت الجغرافيا التي احتضنت كل السوريين الأحرار، وكانت مفترق طرق من أجل ولادة سوريا الجديدة الحرّة، وانهزام الأسدية.
تلفزيون سوريا
——————————
دمشق تنتظر مواقف ناضجة في الولايات المتحدة وإسرائيل/ عدنان علي
2025.03.26
لعل أبرز وأهم اختبار يواجه الإدارة في دمشق على صعيد سياستها الخارجية، يتعلق أساسًا بالعلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، نظرًا لما تمثلانه من تحديات على مستويات عدة، وما تملكانه من قدرات للتأثير على مجريات الأمور في سوريا، بينما تبدو دمشق حيالهما منزوعة الحول والقوة، وغير قادرة حتى على اتخاذ مواقف واضحة حتى الآن لتحديد إطار هذه العلاقات.
وفي ظل شحّ في التصريحات الصادرة عن مسؤولي إدارة الرئيس دونالد ترمب، والتي قد تُقرأ منها ملامح الموقف الأميركي حيال سوريا، جاءت تصريحات مبعوث الرئيس الأميركي للشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، والتي أعرب فيها عن اعتقاده بإمكانية تطبيع لبنان وسوريا للعلاقات مع إسرائيل من خلال إبرام معاهدة سلام معها، كأوضح رسالة أميركية حتى الآن لما تنتظره واشنطن من الإدارة الجديدة في سوريا، إضافة طبعًا إلى جملة من المطالب الأخرى ذات الصبغة العمومية، والتي تتقاطع مع مطالب أوروبية وعربية، وحتى سوريا داخلية، مثل توسيع المشاركة في الحكم، واحترام حقوق الأقليات والمرأة… الخ.
ورغم أن هذا النهج، أي محاولة دفع المحيط الإقليمي للتطبيع مع إسرائيل، ليس جديدًا في السياسة الأميركية، وقد عبّرت حتى الإدارة الأميركية السابقة عن دعمها لهذا المسار، خاصة بين إسرائيل ولبنان من خلال مبعوثها إلى المنطقة عاموس هوكستين، إلا أن الجديد هو أن واشنطن ترى أن ذلك بات ممكنًا على أرض الواقع، وفق ما صرّح به ويتكوف، وذلك بسبب ضعف حزب الله جرّاء حربه الأخيرة مع إسرائيل، وكذلك سقوط نظام بشار الأسد وتراجع النفوذ الإيراني في المنطقة، وفق ما تعتقد واشنطن.
ورغم هذه المتغيرات، فإن واشنطن تدرك أن التطبيع يحتاج إلى وقت وتهيئة الظروف المناسبة، لذلك يكون مفهوماً استمرار غياب الموقف الأميركي حيال الحكم الجديد في دمشق، والتراخي في رفع العقوبات، بينما تواصل إسرائيل قصف لبنان وسوريا، بغية تهيئة الظروف لطرح مطالب سياسية محددة عليهما، تتصل كما هو واضح بالتطبيع المجاني مع إسرائيل، وإسقاط المطالب بالأراضي المحتلة “القديمة”، أي الجولان بالنسبة لسوريا، ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا بالنسبة إلى لبنان.
ورغم ما يبدو أنه توافق في الأهداف والنهج بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أنه لا يخفى أن ثمة تعارضات كثيرة بين الجانبين في الموقف المبدئي إزاء التطورات في سوريا.
فبينما تقول واشنطن إن سياستها في سوريا تركز أولًا على “مكافحة الإرهاب”، وتحديدًا تنظيم “داعش”، ويستتبع ذلك رعاية السجون التي تضم عناصر التنظيم المعتقلين في سوريا، فإن هذا الأمر لا يشكّل أية أهمية لإسرائيل.
كما أن الولايات المتحدة تسعى إلى قدر من الاستقرار في سوريا للوصول إلى حكومة قادرة على تحقيق الهدف الأول وضبط الوضع في البلاد بشكل عام، ولذلك شجعت ودفعت قوات “قسد” لتوقيع اتفاق التعاون مع الرئيس الشرعي، بينما تسعى إسرائيل إلى عكس ذلك، وتشجع “قسد” على عدم التعاون مع دمشق، وعلى تصعيد مطالبها الانفصالية، كما تشجع مكونات أخرى في الاتجاه نفسه، مثل الدروز في جبل العرب، وهي تريد بشكل عام حكومة ضعيفة في دمشق، ودولة ضعيفة في عموم سوريا.
وفي حين عبّرت واشنطن عن ترحيبها بالحكم الجديد في دمشق الذي أنهى الوجود الإيراني في سوريا، وقطع علاقاته مع حزب الله، فإن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة نسبت ذلك لنفسها، ولم تعترف بأي فضل للحكم في دمشق بهذا التطور. ومن التناقضات أيضًا، مسعى إسرائيل إلى إقناع روسيا بالإبقاء على قواعدها في سوريا لموازنة الوجود التركي هناك، بينما تريد واشنطن من الإدارة في دمشق إبعاد الروس كليًا عن البلاد.
وخلاصة القول، ما يمكن استنتاجه أن الحكومة في دمشق، والتي لم تتلقَّ على الأرجح أية عروض رسمية للتطبيع مع إسرائيل، وكانت تصريحات ويتكوف نوعًا من جسّ النبض، ما تزال في موقف الترقب بانتظار تبلور ونضوج سياسة أميركية واضحة تجاه سوريا يمكن البناء عليها. إضافة إلى أن هذه الحكومة لا تعوّل كثيرًا على ما يصدر من مواقف وتصريحات من جانب حكومة نتنياهو المأزومة داخليًا، والتي تفتح جبهات عسكرية عدة في غزة ولبنان وسوريا، ولا يمكن تالياً معرفة السياسة الإسرائيلية الحقيقية تجاه سوريا ما لم تصل إلى السلطة حكومة إسرائيلية أكثر تعقلاً من الحكومة الراهنة، التي تعيش في ذروة أوهام القوة، وتظن أن بوسعها فعل ما تريد في المنطقة دون رادع من أحد.
وهنا، ينبغي ألا نغفل عن عامل مهم لم يتم تفعيله حتى الآن في العلاقة مع إسرائيل، وهو الموقف التركي، وما يمكن أن تسفر عنه تفاهمات محتملة بين الرئيس أردوغان ونظيره الأميركي ترمب، بشأن عدد من الملفات، وفي مقدمتها الملف السوري. وفي حال نجح أردوغان في الوصول إلى هذه التفاهمات، والحصول على تفويض أميركي لإطلاق يد تركيا في سوريا، بما في ذلك محاربة تنظيم “داعش”، فإن من شأن ذلك ردع إسرائيل وفرملة سياستها الطائشة تجاه سوريا.
تلفزيون سوريا
——————————
الحاضر السوري وسؤال عمومية الحق ونسبية التعاقد/ جمال الشوفي
2025.03.26
بين طموحات ورغبات وأحلام السوريين في تحقيق دولة المواطنة والحريات والحقوق وسندها سيادة القانون والعدالة، وبين ضرورات الواقع السوري الحالي وشدة تعقيداته ومعوقاته وتحدياته، تجتاح السوريين موجات متعددة من الاختلافات تتباين في شدتها وأثرها في الحياة السياسية السورية العامة تصل لعمقها الوطني!
وأبرز ما يجتاح بعضنا هو القسوة وشدة الاجهاد الذي يقع على من يدرك الفارق بين الصورة المثالية التي نرغب بحضورها وبين زمن توقعها وحدوثها وآليات الوصول إليها، وهذا ذو ألم وشجن وتعب مضنٍ.
فجميع البشر تمتلك تصوراً عن منزل أحلامهم، لكن بناؤه يتطلب أولاً تثبيت أساساته وتمكينها. وما يثير الدهشة أن بعض من ينظر للأساسات ويقارنها بالصورة التي يطمح لها سيقول: لا ليست ما أريد! ناسياً ومتناسياً زمن التحقق والعمل المبذول للوصول للصورة التي يريد.
تبدو سوريا اليوم محط تباين واسع في مشهدها المحلي والإقليمي والدولي، فمرحلة التأسيس لم تزل دون خط الدولة والاستقرار. فالأحداث المتتالية التي تجري على الساحة السورية تشير لتعقد مشهدها العام وتحدياتها الجسام وأبرز مظاهرها:
– التشنج والتحريض الطائفي وما يرافقه من ارتكاسات وأحداث يومية تشير لعدم الرضا من جهة، ومحاولة كل جهة أو مكون سوري لاستثمار أية فرصة للنيل من الآخر المختلف عنه فكرياً أو سياسياً أو دينياً من جهة أخرى!
– بذات السياق يبرز الرفض القطعي لكل ما ينتج عن سياق السلطة السورية الجديدة سواء في قراراتها الإدارية أو في إعلانها الدستوري للمرحلة الانتقالية، أو صعوبة وتحديات بسط الأمن والأمان على مساحة الساحة السورية برمتها. ولسان حال كثير من السوريين يرددون: هذه السلطة تبحث عن الاستئثار بالسلطة وحسب كما فعل حزب البعث سابقاً!
– التهديدات الإسرائيلية المتتالية واستمرار ضرباتها الجوية لمواقع عسكرية سورية تتركز في الجنوب السوري، مترافقة مع تهديداتها بمنع وجود مواقع عسكرية سورية فيها، واستمرارها الإعلان عن حماية الأقليات السورية، بموقف يشبه ما كان يفعله النظام السوري بادعاء حماية الأقليات!
وإذ تبدو هذه المؤشرات هي خلاصة لأحداث جمة يومية تشير لما ينتاب السوريين من قلق عام، وانعكاساتها العامة تظهر بأشد صورها في البحث عن الأسس المتينة لبناء الدولة مجدداً، وبالضرورة يلقي بجانب من المعاناة التي يمر بها الكثيرون من خلال مساهماتهم في إرساء هذه الأسس وتثبيت أركانها سواء كانوا ممن هم في السلطة حالياً أو أفراداً مستقلين. فالاكتفاء بالنقد السلبي على أهميته، لكنه غير كاف ما لم يوازيه الفعل العمومي والعمل البناء للتخفيف من الآثار السلبية للمرحلة السورية الحالية.
فما كُتب وحُرر في مقالات سابقة حول ضرورة الفصل الواقعي والفكري والسياسي بين السلطة والدولة يبقى ضرورة قائمة لأي حوار أو عمل سوري اليوم وغداً، وبالضرورة المساهمة الفعلية في بناء مؤسسات الدولة من جديد لا يعني الموالاة للسلطة القائمة كما درج مفهوم الموالاة للسلطة الساقطة السابقة، ونقد مجريات الواقع الحالي والمساهمة في تعديل أخطائه لا يعني بالضرورة استعادة فكرة المعارضة المطلقة للسلطة الحالية والبحث عن خيارات انفصالية أو عدائية تجاهها.
وفي الحالتين من الضرورة التمييز بين ضرورة المرحلة الحالية وأعبائها الجسام وبين طرق ومسارات الوصول للدولة السورية التي نرغب بها مع الزمن وبالتدريج، أو ما أسميه بتوليف التباين الحاد بين الفكرة العامة وضرورتها الواقعية. فبين صورة الدولة التي نريد أو قرأنا عنها أو عاشها سوريو الاغتراب وبين الحالة السورية قيد التشكل بكل ما ينتابها من تحديات وتباينات، تجعل النفس البشرية تعاني من شدة تناقضها، يجب الإضاءة عليها بعيداً عن استهلاك المفاهيم السابقة من موالاة ومعارضة. وبالضرورة سؤال اليوم هو سؤال الأدوات والأولويات وهذا لا يعني أيداً تناسي أو تجاهل المفاهيم المثالية التي نريد تضمينها في البناء ذاته، وبالأصح العمل على تثبيت الأساسات والأسس.
الأمن والأمان والاستقرار المادي هي أولويات المرحلة الحالية السورية، وذلك ليس لأنها قاعدة هرم ماسلو للاحتياجات وحسب، بل لكونها ضرورة لكبح الفوضى وانتشار الجريمة والبحث عن مصادر للأمان والرزق المكروه. وأيضاً لأنها الأساس الذي يفتح بوابات الثقة في بناء مؤسسات الدولة وتركيز اهتمامها المباشر في المصلحة العمومية للبشر دون تمييز بينهم حسب العرق أو الدين أو الرأي والفكر أو الجنس. ويحقق أيضاً القاعدة المتينة للقدرة على التعبير عن الذات والحرية في الاختيار وليس فقط بل تحقيق الذات في معادلة الدولة- مواطن.
ربما يناقش البعض أن الثورة السورية كان عنوانها الحرية والكرامة أولاً، ولا مجال للمفاضلة اليوم بين الحاجيات المادية تلك وبين القيم المعنوية الحق هذه. وحقيقة هذا القول قيمة وطنية وإنسانية بذاتها، ولا مجال للمفاضلة بين هذه وتلك. ولكن هذه الموضوعة بذاتها تعيدنا لما نناقشه بالأساس بين إجهاد الحاضر وصورة المستقبل والهوة التي يمكن ردمها بينهما هي الأدوات وطرق الفكر والوصول.
فالحق عمومي والتعاقد نسبي، هي مقولة الواقع الراهن السوري التي يجب أن تكون عنواناً فكرياً وتصوراتياً عن الواقع الحالي والمستقبل الممكن. وهي تجسيد فعلي لمفاهيم الدولة العصرية بكل مضامينها من حرية الرأي والتعبير وحق الاختلاف وحقوق الإنسان وحق ممارسة الإيمان والتدين دون ضغوط أو اكراه أو عنف….. وعمومية الحق تعني حق الجميع أياً كان رأيه أو ثقافته أو جنسه أو دينه، وهذه ينظمها القانون العام دون تعديات أو إكراه أو إنكار، وهي هدف الثورة العام وبوصلتها المعنونة في دولة لكل السوريين، والوصول لهذا الحق هو سؤال الضرورة والواقع، سؤال الأمن والأمان أيضاً. وسؤال إنتاج وصناعة التعاقد الاجتماعي الوطني، وهذا من غير الممكن أن يكون تعاقداً بالإخضاع أو الإكراه. فالتعاقد المنشود يعني قدرة كل فرد أو جماعة أو مكون سياسي أو أهلي على التنازل النسبي عن حقه المطلق الذي يتخيله لذاته وجماعته، لصالح الحق العام، حق المواطنة دون تمييز أو إقصاء. وبالضرورة يصبح السياق العام للبناء اليوم سياق نسبية التصورات والآراء والأفكار وإطلاقية الحق العام للجميع وفق منظار الدولة لا منظار الاستئثار والاستفراد والادعاء الزائف بأحقية مطلقة لجهة على حساب الآخرين. فالأولى بناء يبحث في الأسس للوصول للصورة العامة، وهذه مسؤولية مشتركة بين السلطة القائمة وكل المكونات المجتمعية بتنوعها والحوار والتوافق أساسها. في حين الثانية تصرّ على الصورة وفرضها بديلاً عن أية صورة أخرى مختلفة، ما يهدد بعودة الاستبداد بطرق مختلفة سلطوياً أو مجتمعياً، وهذا ما لم تكن عليه الثورة أساساً، بل كانت ضده بكل تضحياتها الجسام.
في 26 من هذا الشهر تمر ذكرى وفاة سلطان الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى، وأحد رجالاتها والآباء المؤسسين لنواة الدولة السورية قبل أن تقضمها تصورات العسكر عن الاستفراد بالسلطة وقضم الدولة لمصلحتها. ولنستذكر معاً أن سلطان ورفاق دربه كان يمكنهم الاكتفاء بالإغراءات الفرنسية بدويلة على مقاس “الدروز” وجبل العرب، ومثلهم وطنيو سورية كلٌ في منطقته ويرتاحون من هموم الوطن وحريته! لكن بصيرتهم ووعيهم الفطري قادهم لمغايرة الاستسهال والذهاب لأعلى درجات المسؤولية والوعي بضرورة التعاقد على هوية الوطن وطريقة المواطنة، دون نزاع ديني أو سياسي، وهو سؤال اليوم في عمومية الحق ونسبية التعاقد وأساس البناء وسوريا والسوريين قادرون على ذلك وإن طال الزمن وكثرت التحديات.
تلفزيون سوريا
—————————————
بعد التحرير.. دمشق ممن تخاف؟/ مصعب الحمادي
2025.03.26
عدتُ إلى دمشق بعد نفي استمرّ اثنتي عشرة سنة، وككل السوريين العائدين حديثاً وجدتُ مشاعري مختلَطة بين الفرح بالحرية التي تُغلّف البلد والحزن لما آلت إليه الأوضاع من رثاثةٍ ودمار؛ دمار في الحجر، ودمار في البشر أيضاً. فقد فتكت المعاناة بالنفوس وعبث الفقر بالأمزجة وأضرّ الحرمان بالذائقة العامة، هذا فضلاً عمّا هو موجودٌ أصلاً من ركامٍ وحُطام خلّفته سنوات الحرب.
في دمشق اليوم تُباع الألبسة والغذائيات واللحوم والأدوات المنزلية وألعاب الأطفال في بسطاتٍ مُمَدّدة على الأرصفة وجوانب الطرقات بما يسدّ دروب المارّة والمركبات معاً في مشهدٍ قاتم وعبثي من الفوضى والاضطراب وغياب الدولة وانعدام الرقابة.
يترتب على كل ذلك مضارّ محتملة بالصحة العامة، وتشوّه بصري محزن في العاصمة، وأخطار وقوع شجاراتٍ مسلّحة في أية لحظة، وخصوصاً أن كثيرين يعتبرون هذا الوضع عرَضاً من أعراض التدفق البشري العشوائي من إدلب وباقي المحافظات إلى دمشق بعد التحرير، ويصل الحد بالبعض للادعاء أن دمشق مُستباحة.
هناك شعورٌ عام باليُتم السياسي. يتحدث الناس عن الفصائل ويفتقدون للدولة. لا أحد يشتاق لنظام الأسد، لكن الكل يتساءل أين هم الفاعلون الذين استلموا السلطة، ولماذا لا يتحملون مسؤولية البلاد والمواطنين كما ينبغي. لا ينكر أحدٌ أن السوريين صاروا أحراراً، ولكن مع الحرية أتى النصف الثاني من تهديد “الأسد أو نحرق البلد.”
إن دمشق مُغبَرّة شعثاء تبحث بصعوبةٍ عن نصرٍ يبدو أنه تحقق، ولكن ما من علاماتٍ كبرى تدلّ عليه بعد.
الدمشقيون منقسمون بشدّة بخصوص التغيير الذي حصل. غالبيتهم طبعاً سعداء لكن حتى هؤلاء خائفون من المجهول ويالها من مفارقة أن بعضهم يتداولون سيرة قوات “العمشات” في الجيش السوري الجديد بطريقةٍ تشبه ما تداوله الناس قبلاً عن سيرة الشبيحة وأهوالهم في عهد النظام المخلوع. من الواضح أن أحداث الساحل تركت أثراً فظيعاً عند الكل. فالشباب راحوا يبحثون في أرشيفات الأخبار والسوشيال ميديا عن مقاطع وأخبار تساعدهم في التعرف على رئيسنا الجديد، بينما سادت مخاوف بخصوص إيديولوجيات متطرفة غير متحضرة يحملها البعض ممن دخل دمشق بسلاحه. وينتشر نوعٌ من الخوف أن “العمشات” الذين “أدّبوا” أهل الساحل ممكنٌ أن يتم استخدامهم في دمشق لو دعت الحاجة.
لكن الصورة ليست دائماً هكذا محبِطة ويختلف تقييم الموقف بين شخصٍ وآخر، وخصوصاً حسب فوارق الفئة العمرية و”الحكمة الحياتية” إن صحّ التعبير. حدثتني سيدة دمشقية من باب توما في العقد السادس من عمرها قالت: “من ينظر للتغيير في دمشق من وجهة نظر أنه مسلم أو مسيحي، سنّي أو علوي فلن يجد فرقاً كبيراً، ولكن من ينظر من زاوية أنه إنسان بالدرجة الأولى سيكتشف أن ما حصل كبيرٌ وعظيم جداً.”
وفي حديثٍ صريحٍ في السياسة تضمن نقداً للإدارة الجديدة اعتبر صاحب متجر في دمشق القديمة أن الحرية مطمَح واقعي ويستحقّ التضحية وأن مجرّد حديثنا بلا خوف رغم وجود دوريةٍ للأمن العام تقف بالقرب منا هو أمرٌ عظيم ولا يُصدّق. الرجل ببساطة تذوّق الحرية ووجدها لذيذةً سائغة، وخصوصاً أن الحارة التي يسكن فيها قرب الجامع الأموي كانت تحت سيطرة مقاتلين إيرانيين وعراقيين وصفهم أنهم قمةٌ في العنف والقسوة.
لكن موظفاً في وزارة التربية عبّر لي عن دهشته لقيام الثورة من أصلها، فالأمور برأيه كانت بخير ولم يجنِ الناس من هذه الحرب إلا الفقر والحرمان ثم “ماذا حصدنا بعد ذلك؟” يتساءل الرجل قبل أن يجيب نفسه بالقول: “الحمزات والعمشات ومنع إشهار الإفطار في رمضان!”
باختصار وجدتُ أحاديث الناس في دمشق خيرَ مؤشّرٍ عن المزاج العام في البلاد. وسواء كان السوريون خائفين أم متفائلين فإن هناك أمراً واحداً مؤكداً؛ وهو أن مستقبل سوريا يتوقف على ما يفعله كل سوري من أجل الدفاع عن الحرية التي تنازع اليوم للبقاء في محيطٍ عنيف وفوضوي وغامض. شعوري هو أن سوريا تنتظر منا أفعالاً لا أقوالاً، وخصوصاً في حالة المغتربين العائدين أمثالي. ولذا فأنا أشجع كل من في الخارج على العودة ومساعدة أبناء البلد للنهوض بالأوضاع وخصوصاً جيل الثوار والنشطاء المتقاعدين الذين فرّوا بحياتهم من سنوات واكتسبوا الخبرات الثمينة في المنفى. وكذلك كل من يقدر على المساعدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. سوريا فيها نقصٌ شديد بالعنصر البشري.
قال لي شاب دمشقي عمره عشرون سنة يدرس الحقوق في جامعة دمشق: “أنا خائف من المجهول ولا أعلم كيف هو المستقبَل”.
قلت: “المستقبل هو أنت وأبناء جيلك؛ البلد بين أيديكم وفيها من الحرية ما لم نكن نحلم به. يتحدد مستقبلكم ومستقبل البلد بمقدار تمسككم بها ودفاعكم عنها”.
تلفزيون سوريا
—————————-
قرار حكومي يقيد عمل منظمات المجتمع المدني.. متابعة أم وصاية؟/ محمد كساح
26 مارس 2025
يطرح قرار وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بتقييد عمل منظمات المجتمع المدني في سوريا إشكاليات عديدة، تتعلق بشكل ونوعية وأدوات إشراف الدولة على هذا القطاع الواسع، بينما يخشى مراقبون من أن يكون تمهيدا لفرض وصاية مطلقة على المنظمات الإنسانية، ما يشكل خطرًا عليها قد يقود إلى تعطيل القسم الأكبر منها.
وينص التعميم الصادر عن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل رقم (2391)، والموجه إلى مؤسسات المجتمع المدني، على عدم مخاطبة المنظمات الدولية ووكالات الأمم المتحدة والشركاء الدوليين أو الاتحادات العربية أو التواصل معهم أو مخاطبة وزارة الخارجية والمغتربين أو تبادل وثائق المشاريع ومقترحات وخطط التعاون إلا عن طريق مديرية التخطيط والتعاون الدولي.
كما يطلب التعميم عدم إرسال أي كتاب إلى تلك الجهات، وفي حال ورود أي مراسلة أو اتصال من تلك الجهات يتوجب إعلام المديرية المعنية، مؤكدًا الحرص على وجود منسق من مديرية التخطيط والتعاون الدولي في أي اجتماع مع أي طرف من الجهات المذكورة.
ويطلب أيضًا موافاة المديرية بتقارير تتبع تنفيذ ربعية لكافة مشاريع التعاون الدولي المنفذة بالتعاون مع وكالات الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية.
ويقول الناشط المهتم بالشأن العام والتنظيم المدني ورئيس المجلس المحلي في حلب الحرة سابقًا، بريتا حاجي حسن، إن قرار وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل يطرح إشكاليات يجب الوقوف عندها نظرًا لأن المجتمع المدني في سوريا لعب دورًا رئيسيًا خلال السنوات الماضية في تقديم الخدمات وتعويض غياب الدولة في كثير من المناطق، ويضيف لـ “ألترا سوريا” أن “فرض هذا النوع من القيود دون وجود آليات شفافة وسريعة للموافقة قد يؤدي عمليًا إلى تعطيل عمل منظمات المجتمع المدني وتقويض استقلاليتها”.
ويرى حسن أنه بالرغم من أن تنظيم عمل المنظمات وضمان توافق أنشطتها مع السياسات العامة للدولة هو حق أي حكومة، غير أن “فرض وصاية مطلقة على عمل هذه المنظمات قد يعرقل جهودها ويؤثر سلبًا على قدرتها في استقطاب التمويل الدولي، مما ينعكس مباشرة على الفئات المستفيدة من مشاريعها”.
ويدعو إلى “وجود آلية تنظيمية متوازنة، تضمن الشفافية دون أن تتحول إلى أداة للوصاية أو العرقلة، بحيث يتم تسهيل إجراءات الموافقة بدلًا من تحويلها إلى عقبة إضافية أمام العمل الإنساني والتنموي”.
بدوره يرى الباحث الاقتصادي، رضوان الدبس، أن للتعميم أكثر من اتجاه، الأول إيجابي يخص تنظيم العمل الإنساني ودخول وخروج المساعدات والتعامل مع المنظمات الدولية، مؤكدًا أن “من حق الدولة الإشراف على قطاع العمل الإنساني حرصًا على مكافحة أي فساد وعلى تطبيق الشفافية والمراقبة والمتابعة الحثيثة”.
ويضيف أن “إشراف الدولة يمكن أن ينظم المشاريع ضمن القطاع وفقًا للأولويات، خلافًا لبعض الفوضى الحاصلة في هذا المجال عندما يتم تنفيذ بعض المشاريع الثانوية أو التي لا يحتاج إليها المجتمع كأولوية”.
أما عن الاتجاه السلبي في التعميم، فيشير الدبس إلى أن “أي عمل يتم تحت إشراف الدولة يكون عادة محكومًا بالروتين والبيروقراطية والتأخير في بعض الأحيان إضافة للشروط التي قد تفرضها الحكومة وتشكل عائقًا أمام عمل المنظمات خصوصًا بما يخص المشاريع التي تتضمن جوانب لها علاقة بالأمن”.
ويعتقد الدبس أن التعميم سينعكس على عمل المنظمات بشكل سلبي من ناحية التباطؤ والتأخير والرقابة المشددة، نظرًا لأن العمل المدني يتسم بمرونة أكبر خلافًا للعمل الحكومي أو الذي يتم تحت إشراف الحكومة.
ولا يتفق الدبس مع القول إن التعميم هو فرض وصاية مطلقة على منظمات المجتمع المدني، لأن الإشراف على المنظمات هو حق للدولة، لكن “الإشراف يمكن أن يكون عبارة عن متابعة وتحقق، أو تدخل صارم في عمل المنظمات، والقواعد الناظمة، التي ستصدر لاحقًا، للعلاقة بين الدولة والمجتمع المدني في سوريا ستحدد أي نوع من الإشراف يمكن أن تمارسه الدولة”.
الترا سوريا
————————–
أبرز رموز نظام الأسد الذين اعتقلهم الأمن العام السوري
26/3/2025
عقب سقوط نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، شنت الإدارة السورية الجديدة حملة أمنية لملاحقة فلول ذلك النظام والمطلوبين الذين تورطوا في جرائم حرب وانتهاكات حقوق الإنسان وإبادات جماعية ضد المدنيين منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011.
في هذا السياق اعتقلت إدارة الأمن العام عددا من الشخصيات العسكرية والأمنية التي كانت تشغل مناصب رفيعة في النظام المخلوع، ومن بينهم محمد كنجو المسؤول عن الجرائم في سجن صيدنايا، وعددا من القادة العسكريين الذين ارتكبوا جرائم ضد السوريين والفلسطينيين.
وكشفت الإحصائيات الرسمية أن إدارة العمليات العسكرية تمكنت -منذ بدء حملتها العسكرية في 26 ديسمبر/كانون الأول الماضي حتى الأول من يناير/كانون الثاني 2025- من إلقاء القبض على 587 مطلوبا ورافضا للتسوية في مختلف المحافظات السورية.
وتتنوع التهم الموجهة إليهم بين التعذيب والقتل والانتهاكات، إضافة إلى تورط بعضهم في تجارة المخدرات والأنشطة الإرهابية من خطف وترهيب وسرقة، وأتت هذه الاعتقالات في إطار محاولات السلطات السورية تفكيك الشبكات المرتبطة بالنظام السابق وحصر السلاح بيد الدولة وتحقيق العدالة للضحايا الذين عانوا من انتهاكات جسيمة طوال سنوات الحرب.
محمد كنجو “سفاح صيدنايا”
أطلقت إدارة الأمن العام عملية أمنية في 26 ديسمبر/كانون الأول 2024 بريفي طرطوس ودمشق ضد فلول النظام المخلوع، بهدف القبض على الضابط في جيش النظام محمد كنجو، أحد المسؤولين عن جرائم سجن صيدنايا.
وأثناء العملية اعترضت القوات الأمنية شقيق كنجو ومسلحين آخرين طردوا دورية أمنية من خربة المعزة، ونصبوا لها كمينا قرب القرية، واستهدفوا إحدى سياراتها، مما أدى لمقتل 14 عنصرا من قوى الأمن العام، قبل أن تعلن إدارة العمليات العسكرية إلقاء القبض على كنجو في مسقط رأسه بقرية خربة المعزة.
وُلد محمد حسن المعروف بـ”كنجو” عام 1957، وحصل على شهادة في الحقوق من جامعة دمشق، ثم التحق بالجيش وتدرج في سلك القضاء العسكري، بدءا من منصب قاضي الفرد العسكري الثاني في حلب، ثم مستشارا بالمحكمة الجنائية العسكرية في دمشق، وصولا إلى منصب النائب العام العسكري بالمحكمة الميدانية العسكرية.
وفي أثناء توليه منصبه، حاكم عددا من المعتقلين المدنيين، إلى جانب ضباط وعسكريين متهمين بمحاولات الانشقاق عن الجيش، أو بناء على خلفيات مذهبية.
ويُعد كنجو المسؤول الأول عن إصدار آلاف الأحكام بالإعدام أو السجن المؤبد، إضافة إلى السجن لفترات طويلة بحق المعتقلين، وتعد الأحكام التي يصدرها في المحكمة الميدانية العسكرية غير قابلة للطعن.
لقب كنجو بـ”سفاح صيدنايا” لكونه أبرز المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت في سجن صيدنايا، والمسؤول الأول عن الإعدامات الميدانية فيه، ويتهمه ناشطون ومعارضون وسجناء سابقون بارتكاب جرائم إعدام جماعية وأحكام تعسفية بحق آلاف السجناء في هذا السجن العسكري.
حيان ميا مسؤول الاعتقالات والمداهمات
تمكنت إدارة الأمن العام في محافظة اللاذقية في 27 ديسمبر/كانون الأول 2024 من اعتقال حيان ميا، الذي وصفته بأنه “مجرم خارج عن القانون سيئ السمعة ومسؤول عن عدد من الجرائم الكبيرة ضد السوريين”.
وأفادت وسائل إعلام محلية بأن ميا كان مسؤولا مباشرا عن عمليات دهم واعتقالات نفذتها أجهزة مخابرات النظام السوري.
وفي السنوات الأولى من الاحتجاجات الشعبية ضد النظام، أدى ميا دورا بارزا في تقديم التقارير الاستخباراتية عن المشاركين في المظاهرات والإشراف على اعتقالهم.
كما كان عنصرا في المليشيات الموالية للنظام السابق، ضمن ما يُعرف بـ”الدفاع الوطني”، وارتبط اسمه بارتكاب الجرائم في سجن صيدنايا.
وأشارت بعض الحسابات السورية على مواقع التواصل الاجتماعي إلى أن ميا تزعّم مجموعة مسلحة متهمة بتنفيذ أعمال إرهابية، إضافة إلى تورطه في تجارة المواد المخدرة.
فخري درويش مدير مكتب قائد مليشيا “لواء القدس”
أعلنت إدارة الأمن العام في الإدارة السورية في 27 ديسمبر/كانون الأول 2024 اعتقال مدير مكتب قائد مليشيا “لواء القدس” (فصيل فلسطيني مسلح موال للنظام المخلوع) فخري درويش في مدينة حلب.
ويعد درويش من الشخصيات البارزة في “لواء القدس”، الفصيل الفلسطيني المسلح الذي تأسس عام 2013 بقيادة المهندس محمد السعيد، وأسسه فلسطينيون مقيمون في مخيم النيرب للاجئين في حلب، وسرعان ما أصبح قوة عسكرية داعمة للنظام السوري.
عُرف “لواء القدس” بتورطه في انتهاكات متعددة أثناء الحرب السورية، شملت عمليات قتل وسرقة، إضافة إلى اتهامات بضلوعه في تجارة المخدرات.
شغل فخري درويش منصب مدير مكتب قائد “لواء القدس”، وأدى دورا رئيسيا في إدارة العمليات اللوجستية والمالية للفصيل، وكان همزة الوصل بين قيادته وأذرعه التنفيذية.
أوس سلوم “عزرائيل صيدنايا”
أعلنت قوات إدارة العمليات في سوريا في الرابع من يناير/كانون الثاني 2025 إلقاء القبض على أوس سلوم، المعروف بـ”عزرائيل صيدنايا”، أثناء عملية تفتيش واسعة في مدينة حمص بحثا عن المتورطين من فلول النظام السابق.
ويعد سلوم أحد أبرز السجانين المتهمين بارتكاب جرائم تعذيب وقتل في سجن صيدنايا في حكم نظام الرئيس المخلوع، وكان قد لقّب نفسه بـ”عزرائيل صيدنايا”، في إشارة إلى دوره في عمليات القتل الممنهجة داخل السجن، الذي تحول إلى رمز للقمع والتعذيب في سوريا.
وكشفت شهادات معتقلين سابقين عن فظائع ارتكبها سلوم، إذ قال المعتقل السابق مازن حمادة -الذي عثر على جثمانه في السجن- في شهادته “كان يأتينا في منتصف الليل متظاهرا بتقديم الدواء، ثم يضرب المعتقلين بعصا على رؤوسهم حتى الموت”، وأضافت الشهادات أن سلوم كان يتفنن في أساليب التعذيب وقتل المعتقلين.
محمد شلهوم مسؤول كاميرات المراقبة بصيدنايا
نقلت وكالة سانا في الرابع من يناير/كانون الثاني 2025 عن مصدر في وزارة الداخلية بالحكومة السورية أن إدارة الأمن العام ألقت القبض على محمد نور الدين شلهوم أثناء عمليات التمشيط في حمص.
ويتهم شلهوم المنحدر من بلدة تلفيتا بريف دمشق بأنه “أحد مسؤولي كاميرات المراقبة بسجن صيدنايا (في ريف دمشق)، ومن شارك بتعطيل كاميرات السجن وسرقة ملفات فيه قبل سيطرة إدارة العمليات العسكرية على المنطقة”.
وأدى شلهوم وقريبه حسان شلهوم دورا في تأمين انسحاب الحواجز التابعة للنظام السوري المخلوع المحيطة بسجن صيدنايا قبل وصول فصائل المعارضة للسجن في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024.
وأكدت المصادر أنه بعد فرار العناصر العسكرية من السجن ومحاولة المدنيين الدخول إليه، أطلق أفراد من عائلة شلهوم النار عليهم، في محاولة لحماية السجن بدلا من عناصر النظام.
وعرف عن شلهوم وقريبه أنهما كانا على صلة بعناصر من حزب الله اللبناني، وعملا في تصنيع وترويج المخدرات.
ساهر النداف قائد في الإعدامات الميدانية
أعلنت وكالة سانا أن إدارة الأمن العام ألقت القبض على ساهر النداف أثناء عمليات التمشيط بمدينة حمص في 14 يناير/كانون الثاني 2025.
وحسب الوكالة فنداف “أحد القادة الميدانيين الذين أجرموا بحق الشعب السوري، وشارك بالعديد من المجازر على طول الأراضي السورية وهو من فلول المليشيات الذين رفضوا تسليم سلاحهم ولجؤوا للاختباء بين المدنيين”.
عاطف نجيب مقتلع أظافر أطفال درعا
أفاد مصدر أمني للجزيرة بأن قوات إدارة الأمن العام التابعة لوزارة الداخلية السورية ألقت القبض في 31 يناير/كانون الثاني 2025 على العميد عاطف نجيب، الذي شغل منصب رئيس فرع الأمن السياسي بدرعا في عهد نظام الأسد، بعد أن كان متخفيا في ريف اللاذقية.
اشتهر باعتقاله 15 طفلا في مدينة درعا في مارس/آذار 2011 وتعذيبهم بسبب كتابة بعضهم شعارات على جدران مدرسة ينتقدون فيها النظام المخلوع، ولما طالبه أهالي الأطفال بالإفراج عنهم رد عليهم ردا مهينا، مما أشعل فتيل الثورة ضد حكم الأسد.
ووُلد نجيب في مدينة جبلة الساحلية، وتخرّج في الكلية الحربية، ثم التحق بجهاز المخابرات وشغل فيه مناصب عدة، أبرزها رئاسة فرع الأمن السياسي في درعا.
وتتهمه منظمات حقوقية وفصائل الثورة السورية بارتكاب جرائم قتل مروعة بحق الأطفال المطالبين بالحرية في مدينة درعا وأبرزهم حمزة الخطيب.
متورطون في مجزرة التضامن
وفي أوائل فبراير/شباط 2025 ظهر فادي صقر -وهو أحد مرتكبي مجزرة التضامن– يتجول في حي التضامن، مما دفع أهالي الحي إلى الخروج في مظاهرات غاضبة احتجاجا على عودته من دون محاسبة، وضجت وسائل التواصل الاجتماعي مطالبة بالقبض عليه.
وأعلنت وزارة الداخلية السورية بعدها بأيام القبض على 3 متورطين في مجزرة حي التضامن، وكانت قوات الأمن السورية قد نفذت عملية اعتقال في العاصمة دمشق شملت منذر الجزائري الذي يعد أحد المسؤولين عن المجزرة.
وبعد التحقيق اعترف الجزائري بمشاركة شقيقين آخرين هما سومر وعماد محمد المحمود في تنفيذ المجازر التي راح ضحيتها المئات من المدنيين.
وفي 24 مارس/آذار 2025 قال مصدر أمني سوري للجزيرة إن قوات الأمن ألقت القبض على كامل شريف العباس، أحد المسؤولين عن مجزرة التضامن بالعاصمة دمشق عام 2013 وشادي محفوظ الذي عمل مع المخابرات العسكرية والمتورط في جرائم حرب.
كما اعتقلت ماهر حديد في 24 مارس/آذار 2025، أحد عناصر مليشيا قوات الدفاع الوطني في شارع “نسرين” بحي التضامن، والمتهم بالمشاركة في ارتكاب جرائم قتل بحق المدنيين، خاصة في الحي، حيث ظهر في العديد من الصور وهو يقف وسط جثث المدنيين في الحي.
محمد الشعار وزير داخلية نظام الأسد
في الرابع من فبراير/شباط 2025 سلّم وزير الداخلية السوري السابق محمد الشعار نفسه للسلطات، وسط الحملة الأمنية التي شنتها الحكومة السورية لملاحقة فلول النظام وسحب السلاح.
ولد محمد إبراهيم الشعار عام 1950 في مدينة الحفة بريف اللاذقية غرب سوريا. وشغل منصب وزير الداخلية في سوريا بين عامي 2011 و2018، وهو أحد أعضاء ما سُمي بخلية الأزمة التي شكلها الرئيس المخلوع في بدايات الثورة على نظامه.
ارتبط اسمه بانتهاكات اتهمته بها المعارضة السورية، منها مجزرة سجن صيدنايا عام 2008، ومجزرة باب التبانة في لبنان عام 1986 عندما كان مسؤولا أمنيا فيها، كما شارك في قمع الثوار السوريين واحتجاجاتهم السلمية وفي تعذيب المعتقلين.
“أبو جعفر مخابرات” المسؤول عن حاجز المليون
تمكّن جهاز الأمن العام في ضاحية قدسيا بريف دمشق أوائل مارس/آذار 2025 من إلقاء القبض على محمد أسعد سلوم، المعروف بـ”أبو جعفر مخابرات”، والذي كان يشغل منصب مسؤول حاجز المليون في منطقة الزبلطاني بدمشق.
ويعد “أبو جعفر” أحد العناصر البارزين في إدارة المخابرات الجوية، وكان له نفوذ واسع في دمشق، خاصة عبر حاجز المليون، الذي اشتهر بفرض الإتاوات الكبيرة على المدنيين والتجار، وممارسة التضييق في حكم النظام السابق.
عدنان السيد نائب قائد “لواء القدس”
تمكن الأمن السوري في أوائل مارس/آذار 2025 من إلقاء القبض على عدنان السيد، نائب قائد “لواء القدس” في مدينة حلب، الذي قالت إنه “أحد الأذرع الإيرانية البارزة”، وذلك بعد سنوات من اتهامه بارتكاب انتهاكات بحق سوريين وفلسطينيين، إضافة إلى تورطه في تجارة المواد المخدرة.
يُعد السيد الرجل الثاني في “لواء القدس” بعد قائده محمد السعيد، لكنه أُقيل من منصبه في أبريل/نيسان 2023 بقرار من السعيد، في خطوة تزامنت مع إعلان وسائل إعلام إيرانية مسؤولية اللواء عن إطلاق صواريخ تجاه الجولان السوري المحتل.
ونقلت “مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا” أن قرار إقالته جاء على خلفية قضايا فساد، إذ اتُهم بسرقة المساعدات الإنسانية والتبرعات المالية التي دخلت إلى مخيم النيرب في حلب، إضافة إلى الاشتباه بتعامله مع جهات مشبوهة.
كما يرتبط اسم السيد بتشكيل أولى المجموعات الموالية للنظام في مخيم النيرب، إذ أدى دورا في قمع المظاهرات المناهضة للرئيس المخلوع بشار الأسد، فضلا عن مسؤوليته عن اعتقال فلسطينيين وسوريين وتسليمهم لأجهزة المخابرات.
وكان السيد قد تعرض للاعتقال من مخابرات النظام في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، إلا أن زعيم “لواء القدس” تدخّل حينها للإفراج عنه.
إبراهيم حويجة المتهم باغتيال كمال جنبلاط
ونقلت وكالة الأنباء السورية سانا عن مصدر في إدارة الأمن العام السوري في الحكومة التي تولت السلطة عقب إسقاط بشار الأسد قوله إن قوات الأمن اعتقلت إبراهيم حويجة في السادس من مارس/آذار 2025.
وقال المصدر لوكالة سانا إنه “بعد الرصد الدقيق والتحري، تمكنت قواتنا في مدينة جبلة من اعتقال اللواء المجرم إبراهيم حويجة رئيس المخابرات الجوية السابق في سوريا والمتهم بمئات الاغتيالات بعهد المجرم حافظ الأسد، منها الإشراف على اغتيال (الزعيم الدرزي اللبناني) كمال بيك جنبلاط”.
ينحدر إبراهيم حويجة من ناحية عين شقاق في منطقة جبلة بمحافظة اللاذقية، وأصبح ثاني مدير لإدارة المخابرات الجوية عام 1987 عقب الانقلاب الذي قاده حافظ الأسد عام 1970.
ارتبط اسم حويجة بقمع انتفاضة حماة عام 1982، إذ شاركت الاستخبارات الجوية في العمليات العسكرية التي وجهت ضد المعارضين في المدينة، وهو متهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إضافة إلى تدبير عمليات تصفية استهدفت سياسيين ومعارضين داخل سوريا وخارجها.
عبد الوهاب عثمان قائد مطار حماة العسكري
قال مصدر أمني للجزيرة إن السلطات السورية ألقت القبض على اللواء عبد الوهاب عثمان قائد عمليات مطار حماة العسكري في النظام المخلوع في 19 مارس/آذار 2025.
وعثمان من مواليد مدينة كفرنبل جنوبي محافظة إدلب، وكان أحد الضباط الموالين لنظام الرئيس المخلوع.
ووجهت إلى عبد الوهاب عثمان اتهامات بالمشاركة في عمليات قصف استهدفت مناطق مدنية، بما في ذلك قصف منزل عائلته في مسقط رأسه، وهي خطوة اعتبرها البعض تعبيرا عن ولائه المطلق للنظام السوري.
بشار محفوض قائد مجموعات الاقتحام
أعلنت مديرية أمن دمشق في 20 مارس/آذار 2025 إلقاء القبض على بشار محفوض بعد عملية استخبارية مطولة لأجل تحديد موقعه، ونُفذت مداهمة ناجحة أسفرت عن اعتقاله مع عدد من أفراد عصابته، إلى جانب مصادرة أسلحة ومعدات.
وكان محفوض يشغل منصب قائد مجموعات الاقتحام ومسؤول التجنيد والتدريب على الاقتحام السريع لمناطق الاحتجاجات ضد النظام السوري في “الفرقة 25” التابعة لسهيل الحسن، وكانت تعرف بعملياتها العسكرية التي تضمنت انتهاكات جسيمة، من عمليات قتل عشوائي إلى اعتقالات تعسفية.
بعد انهيار النظام السابق، استغل محفوض خبراته وشبكاته السابقة لتشكيل عصابة نفذت عمليات خطف مقابل فدية وسرقات منظمة، مستهدفة رجال الأعمال والأثرياء في دمشق وريفها.
وجهت إليه تهم بارتكاب جرائم حرب في الحرب السورية، إضافة إلى تشكيل عصابة متخصصة في الخطف والسلب بعد سقوط النظام.
وأثناء التحقيقات الأولية عقب اعتقاله، اعترف محفوض بتورطه في عمليات الخطف والسلب، مما أدى إلى تفكيك العصابة بالكامل.
عبد الكريم الحمادة المقرب من ماهر الأسد
أفاد مراسل الجزيرة بأن الأمن العام السوري ألقى القبض في 23 مارس/آذار 2025 على الضابط برتبة عميد عبد الكريم أحمد الحمادة، وهو أحد أبرز المقربين من ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري المخلوع، وضبط شحنة مخدرات كانت متجهة إلى العراق.
وحسب مسؤولي محافظة دير الزور فقد كان الضابط يتولى إدارة ملف التسوية زمن النظام السابق والتنسيق مع قيادات الحرس الثوري الإيراني.
الحمادة من سكان مدينة دير الزور وهو من عشيرة السخاني، واشتهر بقيادته عددا من العمليات العسكرية ضد فصائل المعارضة، وظهر إلى جانب نواف البشير، قائد مليشيا “لواء الباقر”.
مهند نعمان مشرف تصنيع الكبتاغون
أعلنت مديرية أمن ريف دمشق في 24 مارس/آذار 2025 اعتقال مهند نعمان ويُعد أحد المقربين من ماهر الأسد، ومن أكبر مصنّعي مادة الكبتاغون المخدّرة في سوريا.
ينحدر مهند نعمان من مدينة حرستا، وكان يشرف على عمليات تصنيع الكبتاغون في مواقع عدة داخل ريف دمشق والساحل السوري.
ومن بين أبرز تلك المواقع سفينة نقل كانت ترسو قبالة الشواطئ السورية تحت غطاء أنها معطلة وخارج الخدمة، بينما كانت تُستخدم في تصنيع الكبتاغون وتجهيزه للتصدير.
شادي محفوظ أحد المتورطين في أحداث الساحل
أعلنت مديرية أمن ريف دمشق في 24 مارس/آذار 2025 القبض على شادي عادل محفوظ، الذي شارك مع فلول النظام في استهداف القوات الأمنية والعسكرية في الساحل السوري، في السادس من مارس/آذار مما سبب توترا أمنيا وأوقع قتلى وجرحى.
وعمل محفوظ لدى شعبة المخابرات العسكرية فرع 277 زمن النظام البائد، وكان مسؤولا عن التجنيد لصالح شعبة الأمن العسكري، وهو متورط بجرائم حرب حسب مديرية أمن المحافظة.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية
—————————
مذكرات توقيف تُلاحق بشار الأسد، ما هي سيناريوهات مُثوله أمام المحكمة الجنائية الدولية؟/ هشام الجرايشة
بي بي سي
25 مارس/ آذار 2025
تنظر محكمة النقض الفرنسية في الرابع من يوليو/تموز القادم في صلاحية مذكّرة توقيف بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية صادرة بحق بشار الأسد حين كان رئيساً لسوريا وبالتالي مدى استمرار تمتّعه بحصانة، وفق ما أفاد مصدر قضائي هذا الأسبوع.
وللبتّ في صلاحية مذكّرة التوقيف ستعقد محكمة النقض وهي الهيئة القضائية العليا في فرنسا، جلسة عامة علنية.
وسيتعيّن على القضاة البتّ في صلاحية مذكّرة التوقيف الصادرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 بحق بشار الأسد في إطار هجمات بأسلحة كيميائية نُسبت إلى قواته في الخامس من أغسطس/آب 2013 في عدرا ودوما وأصيب 450 شخصا وفي 21 أغسطس/آب 2013 في الغوطة الشرقية حيث قُتل أكثر من ألف شخص بغاز السارين وفق الاستخبارات الأميركية.
وأقرّت النيابة العامة الوطنية لمكافحة الإرهاب بأنه “من المحتمل” أن يكون بشار الأسد ضالعاً في هذه الهجمات، لكنها اعترضت على الأسس القانونية لصدور هذه المذكّرة، معتبرة أن المُلاحق يتمتّع بحصانة شخصية إذ كان ما زال لدى صدورها رئيس دولة.
وتم رد طلب النيابة العامة الوطنية لمكافحة الإرهاب إبطال المذكّرة في يونيو/حزيران 2024. وقدّمت النيابة العامة الاستئنافية في باريس لائحة استئناف سيُنظر فيها في الرابع من يوليو/تموز.
في هذا التقرير نلقي الضوء على الخيارات القانونية أمام الإدارة السورية الجديدة في تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة الرئيس السوري السابق بشار الأسد على ما يُتهم به من انتهاكات خلال فترة حكمه التي امتدت لنحو ربع قرن، وكذلك مدى إمكانية خضوع المسألة لاختصاصات المحكمة الجنائية الدولية.
“ليلة الهروب”
في ليلة الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، طُويت صفحة من تاريخ سوريا استمرت قرابة خمسة عقود، مع رحيل الرئيس السابق بشار الأسد عن المشهد، تاركاً وراءه نظاماً منهاراً وفراغاً سياسياً غير مسبوق.
فبعد أيام من اختفائه، ظهر بيان وحيد منسوب إليه، نُشر عبر الحساب الرسمي للرئاسة السورية – قبل أن يتغير الحساب لصالح الإدارة الجديدة-، يحمل توقيعه من مكان لجوئه الجديد، موسكو، ألقى فيه خطاب الوداع وتلا حيثيات مغادرته التي “لم تكن من ضمن مخططاته”.
الأسد، الذي حكم سوريا تحت راية حزب البعث لعقود، ارتبط اسمه بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك “الاعتقال التعسفي، والتعذيب، والاختفاء القسري، بشكل منهجي لقمع المعارضة”، وفقاً لتقارير لجنة تحقيق دولية مستقلة تابعة للأمم المتحدة.
وقد وصفت هذه اللجنة تلك الممارسات بأنها “جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب”، مؤكدةً أنها شكلت خروقات صارخة للقانون الدولي.
دمشق تطالب بتسليم الأسد.. ومذكرة توقيف فرنسية جديدة
ومع تسلّم أحمد الشرع مقاليد الحكم كرئيس للمرحلة الانتقالية، دخلت القضية منعطفاً جديداً بعد مطالبته روسيا بشكل مباشرٍ- لأول مرة- بتسليم الأسد لمحاكمته على الجرائم التي يُعتقد أنه متورط فيها، وأن دمشق تريد من روسيا، التي دعمت الأسد خلال الحرب الأهلية في البلاد، “إعادة بناء الثقة من خلال تدابير ملموسة، مثل التعويضات وإعادة الإعمار”.
يأتي ذلك في وقت أعلن فيه مصدر قضائي أن محكمة النقض الفرنسية ستنظر في الرابع من يوليو/تموز في صلاحية مذكّرة توقيف بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية صادرة بحق الأسد.
وسيتعيّن على القضاة البتّ في صلاحية مذكّرة التوقيف الصادرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 بحق بشار الأسد في إطار هجمات بأسلحة كيميائية نُسبت إلى قواته في الخامس من أغسطس/آب في عدرا ودوما (450 مصاباً) وفي 21 أغسطس/آب 2013 في الغوطة الشرقية حيث قُتل أكثر من ألف شخص بغاز السارين وفق الاستخبارات الأميركية.
وقد أصدرت محكمة فرنسية في وقت سابق مذكرة توقيف بحق الأسد، تتعلق بمقتل مواطن فرنسي-سوري في 7 يونيو/حزيران 2017، إثر قصف منزله في مدينة درعا. وقال وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، في تعقيب له إن المذكرة “ليست مجرد خطوة قانونية، بل جزءاً من تحرك أوسع لإنهاء الإفلات من العقاب”.
وقد زار بارو بنفسه سجن صيدنايا وعاين كما يقول “فظائع جرائم نظام بشار الأسد، التي يجب ألا تمر دون عقاب”، مؤكداً أن “فرنسا حشدت جهودها، وستظل، لضمان تحقيق العدالة للسوريين”.
المذكرة الفرنسية جاءت بعد أيام قليلة على اختفاء الأسد، وهي الثانية التي تصدرها الدائرة المختصة بمكافحة الجرائم ضد الإنسانية في المحكمة الجنائية بباريس، في إطار تحقيقات موسعة حول الهجمات التي استهدفت المدنيين في سوريا، وخاصة في مدينة درعا عام 2017.
النيابة العامة الوطنية لمكافحة الإرهاب في فرنسا كانت الجهة التي دفعت باتجاه إصدار هذه المذكرة، متهمة الأسد بالتواطؤ في جرائم حرب، وتحديداً في قضية مقتل المواطن الفرنسي-السوري صلاح أبو نبوت (63 عامًا)، الذي قُتل في قصف جوي استهدف منزله في حي طريق السد بمدينة درعا، وهو مبنى كان يُستخدم كمدرسة تديرها منظمة إنسانية.
وأشارت التحقيقات إلى أن الهجوم نُفذ باستخدام براميل متفجرة ألقتها مروحيات تابعة لقوات النظام السوري.
جاء هذا التطور بعد تحقيق قضائي بدأ عقب شكوى قدمها عمر أبو نبوت، نجل الضحية، الذي اعتبر أن هذه القضية تمثل “تتويجاً لمسار طويل نحو العدالة”، وأن الخطوة تعكس استجابة القضاء الفرنسي لمطالب الضحايا السوريين.
منظر لكتابات على جدار غرفة سوداء صغيرة، تقول “أمي، أبي، أفتقدكما” وشوق الأطفال إلى منازلهم، من إدارة المخابرات الجوية، أحد مراكز التعذيب والاستجواب التي أرعبت شعب سوريا لعقود من الزمن قبل سقوط نظام بشار الأسد في دمشق، سوريا في 1 يناير/كانون الثاني 2025
وبحسب القانون الدولي الإنساني، فإن الرئيس يتحمل المسؤولية المباشرة عن سلسلة الجرائم التي ارتكبتها قواته، ومسؤول عن الجرائم التي تُرتكب تحت قيادته إذا كان على علم بها ولم يتخذ أي خطوات لمنعها أو لمحاسبة مرتكبيها.
وبعد سقوط النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، فقد الأسد الحصانة الرئاسية أو الشخصية التي كانت تمنحه حماية من الملاحقة القضائية.
ووفقاً للتحقيقات التي أجرتها دائرة مكافحة الجرائم ضد الإنسانية في المحكمة الجنائية بباريس، ثبت تورط الأسد المباشر في الجريمة، مما مهّد الطريق لإصدار مذكرة توقيف دولية بحقه.
“الأسد سيظلّ في وضع الهارب من العدالة”
أكد فضل عبد الغني، مؤسس ورئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان منذ يونيو/حزيران 2011، على أن قرار المحكمة بأنه لم يعد رئيساً، أدى إلى رفع الحصانة عنه.
ويضيف عبد الغني، الذي تحدث لبي بي سي، أن ذلك فعّل طلب ملاحقته من قِبَل جميع الدول التي لديها اتفاقيات لتبادل المطلوبين مع فرنسا، وهذا من شأنه أن يحدّ بشدة من قدرته على التنقل أو إجراء أي معاملات مالية أو قانونية على المستوى الدولي.
وأشار إلى أن الأسد يُعتبر حالياً “متهماً فاراً من العدالة”، حيث صدر بحقه طلب اعتقال رسمي من المحكمة، وهو ما يعني أنه ما لم تسلّمه روسيا، فسيظل في وضع الهارب من العدالة، وفق عبد الغني.
ويتابع: “الشخص الذي لا يواجه اتهامات جنائية يَمثُل أمام المحكمة ويدافع عن نفسه، خاصة عندما تكون المحاكمة نزيهة ومستقلة”.
ويقول إن “المحاكم الأوروبية التي تنظر في هذه القضايا تتمتع بقدر عالٍ من النزاهة والاستقلالية عن السلطة التنفيذية، وهي لا تشبه بأي شكل المحاكم التي كان يديرها نظام الأسد، والتي هي أقرب لأن تكون مسالخ بشرية تفتقر إلى أدنى معايير العدالة”.
ويشير عبد الغني إلى حجم الانتهاكات التي ارتكبها النظام السوري، واصفاً إياها بالـ “هائلة”، حيث “تجاوز عدد ضحايا الاعتقال والتعذيب في سوريا 1.3 مليون شخص، بينما يُقدّر عدد المختفين قسرياً على يد النظام بأكثر من 115 ألف شخص، وذلك وفق أدنى التقديرات المتاحة”.
وأكد عبد الغني أنه تحدث شخصياً مع القاضية المختصة وقدّم عدداً كبيراً من البيانات والشهادات، وهو ما يجعله “معنياً بشكل كبير بالقرار”.
وفيما يتعلق بموقف روسيا من محاكمة الأسد، يرى عبد الغني أن موسكو قد تتجه، بعد فترة معينة، إلى تسليمه للحكومة السورية.
ويوضح: “بالنسبة لروسيا، المصالح الاستراتيجية تأتي في المقام الأول، وهي تسعى للحفاظ على مصالحها في سوريا من خلال استخدام الموانئ وتسوية موضوع القواعد العسكرية التي تتبع لها، إضافة إلى دورها في إعادة تسليح الجيش السوري”.
ويقول عبد الغني إن تسليم روسيا للأسد سيكون بمثابة اعتذار ضمني للشعب السوري واعتراف بالجرائم التي ارتكبتها روسيا نفسها خلال الحرب.
ومع ذلك، يرى عبد الغني أنه في حالة عدم تسليم الأسد، فإن روسيا ستواجه ضغوطاً قانونية وسياسية متزايدة، فقرار المحكمة يشكل عامل ضغط كبير، بأن روسيا تؤوي مجرماً مطلوباً للمحاكمة أمام القضاء الأوروبي، وهو ما سيُلحق ضرراً إضافياً لسمعتها الدولية، حسب قوله.
أربعة احتمالات أمام المحكمة الجنائية
يتوافق حديث عبد الغني، مع رأي الباحث في القانون الدولي أسامة أبو زيد الذي قال لبي بي سي إن مذكرة التوقيف الصادرة عن القضاء الفرنسي تمثل تطوراً مهماً وتعزيزاً لمبدأ عدم سقوط جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بالتقادم، وعدم إفلات الرؤساء السابقين من العقاب بعد فقدانهم السلطة.
بالإضافة إلى ذلك، يقول أبو زيد، إن هذه الخطوة تُعدُّ تكريساً لمبدأ الولاية القضائية العالمية، مما قد يشجع دولاً أخرى على إصدار قرارات مماثلة، وهو الأمر الذي سيزيد من الضغوط على الأسد والمحيطين به.
من الناحية العملية، قد لا تؤدي المذكرة إلى اعتقال فوري للأسد، وفق أبو زيد، لكنها ستحدّ من قدرته على السفر، لا سيما إلى الدول التي تعترف بالقرارات القضائية الفرنسية، مثل دول الاتحاد الأوروبي، كما أنها تشكل ضغطاً مباشراً على روسيا، التي منحته حالياً حق اللجوء والحماية.
ويشير أبو زيد إلى أن استمرار إصدار مذكرات توقيف دولية قد يجعل هذه الحماية مؤقتة وغير مضمونة على المدى المتوسط والطويل.
ويرى أن المذكرة وضعت الأسد في عزلةٍ لها دلالة رمزية كبيرة، ويقصد بذلك “ملايين السوريين الذين عانوا العزلة واللجوء بسبب سياسات الأسد، وذهبوا لقطع البحار في رحلات اللجوء هرباً من الموت تحت التعذيب، وبالتالي فإن وضعه تحت هذه الضغوط هو جزء من عملية تحقيق العدالة، حتى لو كانت بشكل يسير”.
ورغم أن سوريا ليست طرفاً في نظام روما الأساسي، إلا أن ذلك لا يعني عدم إمكانية إخضاع الأسد للمحكمة الجنائية الدولية، ويطرح أبو زيد أربعة احتمالات يمكن من خلالها تحقيق ذلك:
إحالة الملف السوري إلى المحكمة من قبل مجلس الأمن الدولي، وهو خيار كان مستبعداً سابقاً بسبب الفيتو الروسي والصيني، لكن الظروف الحالية قد تجعل هذا السيناريو أكثر احتمالًا.
الولاية القضائية بناءً على جنسية الضحايا، فإذا كان هناك ضحايا سوريون يحملون جنسيات دول موقعة على نظام روما الأساسي، مثل فرنسا وألمانيا والسويد، فإن المحكمة قد تعتبر نفسها مختصة بالتحقيق في الجرائم التي ارتكبت بحقهم.
إحالة الجرائم من قبل دولة طرف في المحكمة، كما فعلت بنغلاديش في قضية الروهينغا ضد ميانمار، حيث استندت المحكمة إلى نظرية الجرائم العابرة للحدود، لأن التهجير القسري امتد إلى بنغلاديش، الدولة العضو في نظام روما الأساسي. وبالمثل، يمكن للأردن، الذي استقبل ملايين اللاجئين السوريين، إحالة الجرائم التي وقعت بحقهم إلى المحكمة.
فتح تحقيق من قبل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كما حدث في أوكرانيا، حيث تم فتح تحقيق دون الحاجة إلى إحالة من مجلس الأمن، ولكن بناءً على طلب من الحكومة الأوكرانية. وبالتالي، إذا انضمت الحكومة السورية الجديدة إلى نظام روما الأساسي، يمكنها الطلب رسميًا من المحكمة الجنائية التحقيق في الجرائم المرتكبة خلال فترة حكم الأسد.
ولم يستبعد أبو زيد أن تقوم دول أخرى بإصدار مذكرات توقيف مماثلة، نظراً لتزايد تطبيق مبدأ الولاية القضائية العالمية، الذي استخدمته ألمانيا لمحاكمة مسؤولين في النظام السوري، مثل أنور رسلان.
وأشار إلى أن دولاًَ مثل إسبانيا والسويد وهولندا استقبلت دعاوى من سوريين متضررين، وهو ما قد يدفعها إلى اتخاذ إجراءات مشابهة لما قامت به فرنسا.
ويرى أبو زيد أن مذكرة التوقيف الفرنسية تشكل نقلة نوعية في ملف المساءلة، مؤكدًا أن سقوط النظام لا يعني نهاية المطالبة بمحاكمة الأسد، ويضيف : “أعتقد أن السؤال لم يعد ما إذا كان بشار الأسد سيُحاكم أم لا، بل أصبح السؤال متى وأين سيحاكم”.
مصائر قادة مخلوعين بين المحاكمة والفرار
عبر التاريخ، لجأ العديد من القادة المخلوعين إلى دول أخرى بعد سقوط أنظمتهم، لكن مصيرهم اختلف وفقاً للعوامل السياسية والدبلوماسية التي حكمت المرحلة التي أعقبت فرارهم، فبعضهم جرى تسليمه لاحقاً ليواجه المحاكمة، بينما تمكن آخرون من العيش في المنفى دون أن تطالهم العدالة، وذلك بفضل حماية الدول التي لجأوا إليها ورفضها تسليمهم.
فمن جهة، هناك قادة فروا إلى دول أخرى، لكن الضغوط السياسية أو القانونية أدت إلى تسليمهم لمحاكمتهم، ومن أبرز هؤلاء تشارلز تايلور، رئيس ليبيريا السابق، الذي لجأ إلى نيجيريا بعد سقوطه عام 2003، حيث منحته السلطات هناك اللجوء السياسي، غير أن الضغوط الدولية لم تهدأ، وفي عام 2006، أجبرت نيجيريا على تسليمه، وأدين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ليحكم عليه بالسجن 50 عاماً.
وفي مشهد مشابه تكرر مع ألبرتو فوجيموري، رئيس بيرو الأسبق، الذي فرّ إلى اليابان عام 2000 بعد أن أطاحت به فضائح الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.
وبالرغم من أن اليابان، التي يحمل جنسيتها، رفضت تسليمه، لكنه في عام 2005 حاول العودة إلى المشهد السياسي عبر تشيلي، حيث اعتقلته السلطات وسلمته إلى بيرو عام 2007. هناك، خضع للمحاكمة وأدين بجرائم الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، ليقضي عقوبة بالسجن لمدة 25 عاماً.
ولم تكن هذه الحالات الوحيدة التي شهدت تسليم قادة بعد فرارهم، فمانويل نورييغا، الذي حكم بنما بقبضة من حديد، فرّ إلى سفارة الفاتيكان بعد الغزو الأمريكي لبنما عام 1989، لكنه لم يجد مخرجاً، حيث اعتقلته الولايات المتحدة وحوكم هناك بتهم تتعلق بغسيل الأموال وتهريب المخدرات.
يظهر الدكتاتور البنمي المخلوع مانويل نورييجا في صورة وزارة العدل هذه التي أصدرها مكتب المدعي العام الأمريكي في ميامي. استسلم نورييجا للقوات الأمريكية في بنما، وتم نقله إلى الولايات المتحدة، حيث يواجه اتهامات بالاتجار بالمخدرات.
لاحقاً، وبعد قضاء عقوبته، سُلم إلى فرنسا التي حاكمته بدورها، قبل يُسلم أخيراً إلى بلاده، حيث قضى أيامه الأخيرة في السجن.
ولم يتمكن سلوبودان ميلوشيفيتش، رئيس يوغوسلافيا السابق، من تفادي العدالة رغم بقائه في صربيا بعد الإطاحة به عام 2000، إذ اعتقل في العام التالي وسُلم إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، حيث واجه اتهامات بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، وتوفي في السجن عام 2006 قبل صدور الحكم النهائي بحقه.
في المقابل، هناك قادة تمكنوا من تجنب المحاكمة بعد فرارهم، بفضل توفير الدول التي لجأوا إليها الحماية ورفضها تسليمهم، ومن أبرز هؤلاء عيدي أمين، الذي حكم أوغندا بوحشية قبل أن يطاح به عام 1979، حيث فرّ أولاً إلى ليبيا، ثم استقر في السعودية، التي منحته اللجوء وظل هناك حتى وفاته عام 2003 دون أن يواجه أي محاكمة عن جرائمه.
والسيناريو نفسه تكرر مع جان كلود دوفالييه، دكتاتور هايتي، الذي لجأ إلى فرنسا بعد سقوط نظامه عام 1986، ورفضت الأخيرة تسليمه أو اتخاذ أي إجراء قانوني ضده رغم المطالبات الشعبية بمحاكمته على انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها نظامه، ليبقى حراً في منفاه حتى قرر العودة إلى هايتي عام 2011، لكنه لم يواجه أي محاكمة جادة حتى وفاته عام 2014.
أما في أفريقيا، فقد تمكن روبرت موغابي، الذي حكم زيمبابوي لعقود، من التنحي بهدوء عام 2017 بعد ضغوط داخلية، لكنه لم يواجه أي مساءلة قانونية، حيث ضمنت له القيادة العسكرية الحاكمة آنذاك العيش دون محاكمة حتى وفاته عام 2019.
—————————-
“مافيا” التهريب بين لبنان وسوريا… سقوط نظام الأسد لم يُغلق المعابر/ جنى الدهيبي
الأربعاء 26 مارس 2025
أُنجز هذا التحقيق بدعم من أريج.
بعد مرور أكثر من عقد على تهجيرهم القسري، عاد سكان مدينة القصير السورية ليجدوا ديارهم أشبه بالخراب، تُمزِّقها ندوب المعارك. لكنّ الاكتشاف الأكثر إثارة لم يكمن في الدمار وحده، بل في شبكة الأنفاق السرية ومخازن الأسلحة المخبأة، التي كشفت النقاب عن فصل جديد من فصول الصراع الذي شهدته المدينة.
في حزيران/ يونيو 2013، تحولت القصير إلى ساحة مواجهة دامية بين الفصائل المسلحة وجيش النظام السوري المدعوم بقوات حزب الله، انتهت المعركة بسيطرة الجيش على المدينة؛ ما أدى إلى تهجير سكانها وتحويلها إلى ثكنة عسكرية مغلقة.
ورغم سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024، ظلت شبكات النفوذ العسكري الاقتصادي تُحكِم قبضتها على المنطقة. فالمعابر غير الشرعية، على امتداد الحدود السورية اللبنانية، تواصل عملها بنشاط، حتى وإن كانت تحت سيطرة وجوه جديدة. التغيير السياسي لم يمس جذور منظومة التهريب عبر المعابر غير الشرعية، التي تُغذيها عوامل متشابكة؛ من ضعف الرقابة، وتحالفات المصالح بين المهربين وقوى النفوذ.
“أبو طلحة”… الوجه الجديد لشبكة قديمة
يؤكد (ع.ص)، أحد سكان القصير أن المدينة “مدمرة بنسبة تتخطى 85%، ومعظم مرافقها الأساسية خارج الخدمة”. لكنّ الأكثر إثارة في روايته هو ما اكتشفه السكان بعد انسحاب حزب الله، حيث عُثر على مخازن أسلحة تابعة للحزب في مواقع مثل وادي حنا.
الوجه البارز في المشهد الآن هو شخصية تُلقب بـ”أبو طلحة”، يدعي العمل ضمن فريق الأمن العام بالإدارة السورية الجديدة، ويُسهل عمليات التهريب؛ ولا سيّما تهريب الأسلحة. يحمل الرجل الجنسيتين اللبنانية والسورية، وينحدر من منطقة “الجوسية” الحدودية، التي تضم أحد أبرز المعابر الخمسة الرابطة بين سوريا وقرى القاع اللبنانية.
ووفق (ع.ص)، أحد سكان القصير، لا يقتصر نشاط “أبو طلحة” على تهريب الأسلحة، بل يمتد إلى سلع أخرى مثل المازوت والخردة والمواد الأساسية النادرة في سوريا. كما يعمل على بناء تحالفات مع عشائر وأحزاب مؤثرة على جانبي الحدود، سعياً لتثبيت هيمنته على الشبكة.
وادي خالد… رحلة إلى قلب اقتصاد الظل
في قرى وادي خالد النائية، حيث تتداخل الحدود بين لبنان وسوريا في تضاريس جبلية وعرة، يعمل كثيرون في “التهريب”. من بين هؤلاء، التقينا “أبو أحمد ورياض خليل”، اللذين يجمعهما الميلاد في المنطقة ذاتها، والانخراط في عالم لا يعترف بالحدود السياسية.
لم يكن أبو أحمد (اسم مستعار) يخطط ليكون حلقة في شبكة تهريب معقدة؛ فقد عمل لخمس سنوات مع منظمة إنسانية براتب 600 دولار أمريكي، قبل أن تُنهي خدماتها فجأة في منطقته. يقول الرجل الأربعيني: “بحثتُ عن عمل بلا جدوى”. اتجه بعدها للتهريب الذي شمل الألواح الشمسية والمعدات الطبية والمواد الغذائية، من بيروت وطرابلس إلى حمص ودمشق، قبل أن يتوسع إلى “تهريب البشر”. يضيف أبو أحمد: “أستقبل مكالمات من عائلات سورية تريد عبور الحدود، أتفق مع وسطاء على الجانبين”.
في المقابل، ينظر رياض خليل إلى عمله في التهريب باعتباره تجارة لا مفر منها في المناطق الحدودية. تخرج في الجامعة عام 2011، لكنّ شهادته الجامعية لم تكن طوق النجاة من البطالة. يقول عن ذلك: “لا أحب التهريب”.
جغرافيا الفوضى… حدود بلا معنى
كانت وجهتنا إلى منطقة وادي خالد التي تضم 23 قرية ويديرها اتحاد بلدياتها المكون من تسع بلديات و26 مختاراً، ممثلين بنائبين في البرلمان اللبناني، بحسب الشيخ أحمد، رئيس بلدية العماير.
خلال أكثر من عقد مضى، ظلت منطقة وادي خالد نافذة لعمليات التهريب بمختلف أشكالها، ومسرحاً للجوء عشرات الآلاف من السوريين إلى لبنان، عبر المعابر البرية غير الشرعية، بحثاً عن ملاذ آمن من الحرب التي اندلعت في سوريا منذ عام 2011.
وادي خالد ليس سوى حلقة في سلسلة حدودية تمتد لنحو 375 كيلومتراً بين لبنان وسوريا، تتحول فيها الجبال والوديان إلى “معابر متنقلة”. خلال زيارة ميدانية للمنطقة في أيلول/سبتمبر 2024 (قبل ثلاثة أشهر من سقوط الأسد)، وثّقنا الكثير من التفاصيل والخبايا.
تبدو قرية “منجز” لوحة زرقاء تشير إلى “طريق حمص”، وقاعة مهجورة تحمل عبارة “قاعة المغادرة إلى سوريا”، كشاهد على زمن كانت فيه الحدود مجرد خطوط وهمية.
ويُمثّل حاجز “شدرا” نقطة التفتيش الأخيرة التابعة للجيش اللبناني، حيث تُفحص الهويات بدقة، لكن بعد تجاوز الحاجز تختفي الرقابة.
أما “نورة التحتا”، فهي قرية حدودية تُراقَب من تلة مطلة على “تل كلخ” السورية. هنا، التقطت كاميراتنا مشاهد سرية لرجال وامرأة يعبرون الوادي بتوجيه من “مرشد”.
وفي منجز، يصدح صوت الشاحنات ذهاباً وإياباً نحو سوريا، ورائحة المازوت المسكوب على الأرض، تفوح في المكان بأكمله.
تدخل هذه الشاحنات عادة بصورة نظامية؛ وهي واحدة من الأدوات التي كانت تستخدم واجهة للتهريب.
في هذا المكان، التقينا بالشاب محمد أحمد القاسي، ابن منطقة العبودية، الذي يقول إن التهريب جزء من يومهم، مع الأصوات المسموعة لرصاص الجيش اللبناني خلال مطاردة المهربين.
عشائر العمائر: الحدود “تجارة” وليست تهريباً
داخل قرية العماير الحدودية بوادي خالد، تتداخل البيوت والعائلات التي تحمل الجنسية اللبنانية والسورية، حيث هناك يتلاشى مفهوم “الحدود”. دراجات نارية تنقل البضائع بين القرى، وشباب يعبرون الجبال بسلاسة وكأنهم يتجولون داخل سوق محلي. تحكم العشائر اللعبةَ بقوانينها التي لا تعترف بالحدود، بل تعدها معابر طبيعية للتجارة والعلاقات الاجتماعية.
في لقاء مع الشيخ أحمد، رئيس بلدية العماير، وأحد شيوخ عشيرة “عرب العتيق”، رفض ربط النشاط الحدودي بكلمة “تهريب”، قائلاً: “لدي أقارب بالقرى السورية المجاورة، الفارق الوحيد أنني أحمل الجنسية اللبنانية وهم يحملون السورية؛ علاقتنا تقوم على المصاهرة والصداقات وتبادل التجارة، وهذا التشابك الجغرافي والديمغرافي يجعل من الصعب على أي دولة أن تمنع تهريب البضائع”.
بحسب الشيخ أحمد، فإن اقتصاد هذه القرى يعتمد على تجارة غير قانونية، كمصطلح بديل للتهريب. كما أن النشاط الحدودي يشكل حاجزاً ضد انحراف الشباب، وعملهم في التهريب يحول دون تحولهم إلى لصوص أو مدمنين، وفق الشيخ.
يضيف: “العمل بالتهريب هو عمل الشباب، وبينهم جامعيون ومن كانوا في الجيش أو قوى الأمن، ثم تركوا عملهم وأصبحوا يعملون بالتهريب”.
الجيش اللبناني… تحديات لوجستية وجبال لا تعترف بالحدود
على امتداد 450 كيلومتراً من الحدود البرية للبنان مع فلسطين وسوريا، من الناقورة جنوباً إلى العريضة شمالاً، يواجه الجيش اللبناني معضلة جيوسياسية معقدة. طبيعة جبلية وعرة تجعل من مهمة ضبط الحدود أشبه بـ”محاربة الريح”. تمر هذه الحدود عبر مناطق مثل رميش ومارون الراس وراشيا الوادي والمصنع وعرسال والقاع والهرمل، حيث تتحول التضاريس إلى حليف رئيسي للمهربين.
مسار التهريب
وبحسب بيانات رسمية من الجيش، يُقدَّر طول الحدود الشمالية الشرقية مع سوريا بنحو 340 كيلومتراً، تُغطيها أفواج عسكرية متخصصة مدعومة بآليات مراقبة متطورة.
تنتشر هذه الأفواج على طول حدود لبنان الشمالية (من العريضة وصولاً إلى وادي خالد)، والشرقية (من الهرمل وصولاً إلى جبل الشيخ).
في مراسلة مع الجيش اللبناني، أجابنا عبر الإيميل عن بعض أسئلتنا المطروحة بشأن التهريب عبر المعابر البرية غير الشرعية بين لبنان وسوريا. كما زودنا بمجموعة فيديوهات توثق القبض على سوريين، كانوا يحاولون العبور إلى لبنان بطرق خطيرة وغير آمنة، بواسطة المهربين. بعض الفيديوهات كانت صادمة؛ فبعضهم كانوا ينامون داخل صناديق الشاحنات الخلفية وفي محركاتها، والبعض الآخر في أقنية المازوت.
وزادت عمليات التهريب عبر المعابر غير الشرعية للسوريين، بعد عام 2015، بحسب الجيش اللبناني.
في 15 نيسان/أبريل 2019، صدر قرار المجلس الأعلى للدفاع بتفويض الأمن العام اللبناني لترحيل كل سوري يدخل إلى لبنان بطريقة غير شرعية، وتبعه قرار تنفيذي من الأمن العام اللبناني بتاريخ 13 أيار/مايو 2019. وقال الجيش اللبناني في بيان إن تدهور الأوضاع الاقتصادية في سوريا، أدى إلى موجة جديدة من النزوح السوري باتجاه لبنان.
المعابر المتنقلة… رصد خريطة الانتشار عبر الحدود اللبنانية السورية
في العشر سنوات الأخيرة، كان الحديث يدور عن وجود أكثر من 130 معبراً برياً غير شرعي بين لبنان وسوريا. ومع ذلك، أفاد مصدر في الجيش اللبناني أن الحدود تُعد جميعها معبراً واحداً، يضم مئات النقاط المتحركة لعمليات التهريب.
في منطقة البقاع، بحسب المصدر، يوجد نحو 53 معبراً مع عدد أكبر من المعابر في الشمال، رصدها الجيش اللبناني عبر الأبراج ونقاط المراقبة والكمائن.
أبرز 12 معبراً -وفق المصدر، وقد سبق أن ضبطها الجيش اللبناني بين الشمال والبقاع- تشمل معبر الكنيسة، وقرحة، والعبيدان، والواويات، والعميري، والحج عيسى في البقعية، بالإضافة إلى معابر “قاصف أبو بكر”، وحسن نمر نصار الدين، ومنجد الهق، وحيدر مخيبر ناصر الدين، وجسر ركان الحج حسن، ومعبر محمد شفيق الحاج حسن.
ومع ذلك، فإن هناك معابر تفتقر لأي وجود أمني لبناني، وأبرزها سبعة معابر جبلية غير نظامية في المنطقة؛ تشمل “خط البترول”، و”الجسر الغربي”، و”أبو جحاش”، و”عبيدان”، و”عويشات”، و”المعاجير”، و”وادي الواويات” ومعبر “قرحة”، وفقاً للشيخ أحمد، رئيس بلدية العماير.
القضاء اللبناني وصراع التصنيف… هل يُعَدّ تهريب الحدود اتجاراً بالبشر؟
تُبرِز قضية تهريب المهاجرين في لبنان إشكالية في أداء القضاء وحدود دوره، لا سيّما في ما يتعلق بالأحكام الصادرة بحق مُهرّبي الحدود، العاملين على امتداد الخطوط اللبنانية السورية، رغم قلّة عددهم مقارنة بحجم النشاط. وفي هذا الإطار، يُلاحظ أن المادة 668 من قانون العقوبات اللبناني (المُشار إليها محليّاً باسم “الغش بالمهاجرة”) تُعد المرجعية القانونية الوحيدة المُعتمدة في قضايا الهجرة غير النظامية. لكنّ هذه المادة لا تُغطي جميع تعقيدات الظاهرة، بل تنطلق من منظور ضيّق لا يستوعب أبعادها المُتشعبة.
ويعامل القضاء اللبناني قضايا الهجرة غير الشرعية معاملة “جرائم الاتجار بالبشر”، وذلك على الرغم من غياب نصوص قانونية واضحة تُجرم هذا الفعل تحديداً. وتشترط المحكمة توافر ثلاثة أركان لتصنيف القضية اتجاراً بالبشر؛ وهي أن تكون وسيلة غير مشروعة وهدفاً استغلالياً، بالإضافة إلى وجود ركن الاستغلال نفسه. لكنّ الواقع العملي يُظهر تبايُناً في تطبيق هذه المعايير؛ لأن المحكمة إذا صنّفت الفعل “اتجاراً بالبشر”، فإن العقوبة لا تقل عن الحبس خمس سنوات، باعتبارها جريمة جنائية. لكنّ بعض الأحكام الصادرة بحق المُدانيين تقتصر عقوبتها على الحبس مدة تتراوح من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات فقط، باعتبارها “جنحة دخول البلاد خلسة”.
أزمة الملاحقة القضائية… بطء سوق المهربين إلى المحكمة
في مقابلة مصوّرة لوزير العدل اللبناني السابق، هنري خوري، أواخر آب/أغسطس 2024 (أثناء توليه منصبه)، نفى الوزير الاتهامات الموجّهة إلى القضاء بالتساهل في إصدار الأحكام، مؤكداً ضرورة تسريع محاكمة الموقوفين.
واستناداً إلى الأرقام التي قدّمها، كانت حركة سوق الموقوفين في بيروت خلال شهري أيار/مايو وحزيران/يونيو 2024 على النحو التالي:
أيار/ مايو: سِيق 112 موقوفاً، في حين لم يُسق 128 موقوفاً.
حزيران/ يونيو: ارتفع عدد الذين سيقوا إلى 153 موقوفاً، في حين لم يُسق 138 موقوفاً.
ويرى خوري أن العقبة الأساسية في ضبط حركة المهربين تتمثل في بطء سَوق الموقوفين إلى المحكمة من قبل القوى الأمنية، باعتبارها الجهة المسؤولة عن إحضارهم للمحكمة.
الفرقة الرابعة
طوال فترة حكم الأسد، كانت للفرقة الرابعة التابعة للجيش السوري بقيادة ماهر الأسد، اليد العليا في التسيّب الأمني على الحدود اللبنانية السورية، وتسهيل نشاط شبكات التهريب مقابل “إتاوات وخوات”.
وبحسب معلومات جمعناها خلال العمل على التحقيق، كان السماسرة والمهربون في سوريا يتولون تجميع السوريين، عند نقطة محددة للانطلاق بالمركبات، ثم يتولى السائقون تسوية وضعهم مع العسكريين من الفرقة الرابعة، مقابل رشى لتسهيل عبورهم.
مصدر أمني لبناني فضّل عدم الكشف عن هويته، يقول إن أنشطة التهريب انتشرت على الحدود اللبنانية؛ من البقاع الغربي حتى السلسلة الشرقية، مروراً بعرسال ووصولاً إلى القاع والهرمل، وحتى آخر عكار والعريضة، طوال فترة حكم نظام السوري.
هذه المناطق جميعها، “كانت مسرحاً للتهريب بما فيها تهريب المخدرات والكبتاغون، حيث انتشرت المصانع على الحدود بسبب صعوبة الوصول إليها، وفي لبنان كان هناك عدد قليل من المصانع الصغيرة”.
أما في سوريا، فهناك مصانع كبيرة قادرة على إنتاج ملايين الحبوب يومياً.
وكانت الفرقة الرابعة التابعة للجيش السوري السابق، بحسب المصدر، “تتولى تسهيل تجارة المخدرات، وكانت هناك مصانع على الحدود اللبنانية السورية مثل مصنع حسن دقو الشهير، الذي تربطه علاقة بعدد كبير من الأطراف اللبنانية”.
حسن دقو، مواطن يحمل الجنسيتين اللبنانية والسورية، ولُقب بـ”ملك الكبتاغون”، حققت معه شعبة المعلومات اللبنانية في شهر نيسان/أبريل 2021.
وبحسب معلومات حصلنا عليها من مصدر قضائي اطلع على التحقيقات مع دقو، وهو شاب ثلاثيني، يقول: “لديه معامل لإنتاج الكبتاغون وتقع في السلسلة الشرقية بالقرب من معربون (في بعلبك)”.
المثير للاهتمام بحسب المصدر المسؤول، أن معمله كان جزء منه يقع في سوريا والجزء الآخر في لبنان؛ ما يصعب الوصول إليه من قبل القوى الأمنية اللبنانية.
وما حصل، أن القضاء في لبنان، تعرض لضغوط من معظم الأطراف السياسية التقليدية التي كانت تربطها مصالح مشتركة بدقو.
وسبب توقيفه المباشر، “لم يكن بسبب المخدرات، بل بسبب شراء بدلات للجيش اللبناني القديمة -250 بدلة بالتحديد- لتسليمها لأشخاص بعينهم، ما أدى إلى توقيفه”.
أثناء التحقيق معه، “بدا أن القضاء يتعامل مع شبكة واسعة من الأطراف المهتمة بالتهريب على الحدود اللبنانية السورية، لقد استفاد الجميع بطريقة أو بأخرى من عمليات التهريب”.
ما بعد سقوط النظام… التهريب على الحدود اللبنانية السورية
كشف سقوط النظام السوري وجهاً آخر كان معروفاً عن واقع التهريب على الحدود اللبنانية السورية، لكنّ الاستقصاء عنه كان مسألة صعبة للغاية، بسبب تتداخل السياسية وسيطرة حزب الله على أجزاء كبيرة من الحدود، لتهريب الأسلحة من إيران عبر سوريا إلى لبنان، ومن سوريا إلى لبنان. وكانت مدينة القصير السورية، “لغز الحكاية”.
طوال الحرب الإسرائيلية الأخيرة (2023-2024) على لبنان، تعرضت القصير لعدة ضربات إسرائيلية، في دلالة إضافية على أهميتها؛ عبر استهداف مخازن وأسلحة لحزب الله، كما أعلن الجيش الإسرائيلي عدة مرات.
بعد أسابيع من سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، برز حدث لافت على الحدود اللبنانية السورية: “أحبطت الإدارة الجديدة في سوريا محاولة تهريب مجموعة كبيرة من الأسلحة والصواريخ في طريقها إلى لبنان، عبر معابر غير شرعية”.
هذا الحادث كان دلالة على “تاريخ طويل” من عمليات تهريب الأسلحة، على طول الحدود الشمالية الشرقية بين لبنان وسوريا.
مختصر مسار المعارك
تعد القصير حلقة وصل بين ريف لبنان الشمالي وريف حمص الجنوبي، وتبعد نحو 15 كيلومتراً عن الحدود مع لبنان، حيث تفصلها سهول متداخلة.
هذه المنطقة كانت ولا تزال مسرحاً لتهريب الأسلحة، خاصة بعد اندلاع الحرب في سوريا عام 2011؛ ما جعلها أبرز بوابة استراتيجية للحرب.
فكيف تتم عملية تهريب الأسلحة؟
وبحسب منير الربيع، رئيس تحرير جريدة المدن الإلكترونية، كان التهريب على الحدود اللبنانية السورية مسألة متاحة ومباحة منذ ما قبل “حافظ الأسد” إلى ما قبل الحرب السورية وبعدها، وصولاً إلى الفترة الزمنية الحالية.
لكنّ اندلاع الثورة السورية وسيطرة حزب الله، تسبّبا في “إذابة الحدود بشكل كامل”، وتلاشت كل الإجراءات الأمنية القائمة بين لبنان وسوريا، وفُتحت طرق ومعابر جديدة، وفق الربيع.
ويضيف: “بعض هذه الطرق والمعابر حُوّلت إلى معابر رسمية لاحقاً، وهذا التداخل الجغرافي والسياسي والعسكري من قبل حزب الله فتح الحدود على مصراعيها، لتنامي عمليات التهريب بأشكالها المختلفة”.
“ولاحقاً، تحولت المنطقة الحدودية بين لبنان وسوريا إلى مصنع عالمي لصناعة وتهريب المخدرات وتجارتها”.
الرئيس السابق للمحكمة العسكرية في لبنان، منير شحادة، سبق أن تابع بالمحكمة كثيراً من ملفات التهريب وشبكات المهربين بين لبنان وسوريا: “الحدود من مزارع شبعا إلى المصنع باتت تحت السيطرة الإسرائيلية، ما أوقف عمليات التهريب هناك، أما من المصنع إلى الشمال، فالتهريب مستمر بسبب الأوضاع غير المستقرة في سوريا، وحل الأجهزة الأمنية القديمة وتشكيل أجهزة جديدة، ما فاقم من نشاط التهريب لعصابات تزعم انتماءها لفصائل مختلفة كهيئة تحرير الشام”.
النافذون على الحدود
حقّقت سوريا “الأسد” مكاسب سياسية وأمنية، من حالة الانفلات على الحدود مع لبنان، منذ عقود.
وبحسب منير الربيع، رئيس تحرير جريدة المدن الإلكترونية، فإن “الدافع الأساسي هو تهريب السلاح لحزب الله باعتبار تلك المناطق كانت خط إمداد أساسياً واستراتيجياً لصالح الحزب، وبالتالي كان كل شيء مباحاً تحت هذا العنوان، ويستفيد منه الحزب بالمعنى المالي والاقتصادي، كما يستفيد منه الآخرون والجهات التي تعمل لصالح الحزب، بمعنى تهريب الأسلحة”.
لكنّ حزب الله، بحسب العميد منير شحادة، لا يعتمد على الأسلحة المُهربة عبر المعابر غير الشرعية، بل عبر طرق أخرى. يقول: “قصفت إسرائيل أكثر من مرة المعابر غير الشرعية في الجبال بين لبنان وسوريا، لكنّها لم تقضِ على سبل حزب الله في تهريب السلاح”.
أما منطقة القصير، التي كانت تحت سيطرة حزب الله قبل سقوط الأسد، صارت اليوم تحت سيطرة الإدارة السورية الجديدة.
وأضاف شحادة: “المقاومة ليست بحاجة إلى أسلحة فردية كالكلاشينات والبنادق… وعمليات تهريب الأسلحة بالنسبة لحزب الله، يجب أن تكون حرزانة، مثل تهريب صواريخ بالستية وطائرات مسيرة ومواد تصنيع، وليس تكليف بشر للعبور بالأودية السحيقة، من أجل بنادق ليست حرزانة”.
تواصلنا مع الإدارة السورية الجديدة للتعليق على ما ورد بالتحقيق، ودورها في عملية ضبط الحدود السورية اللبنانية، لكننا لم نتلقَ رداً حتى تاريخ النشر.
رصيف 22
————————–
القنبلة السلفية والسلم الأهلي في سوريا/ ياسين الحاج صالح
تحديث 27 أذار 2025
لا تمر بضعة أيام دون توتر موضعي في بعض مناطق البلد بسبب تدخلات سلفيين، بعضهم مسلحون ومن قوى الحكم الحالي، في أوجه من حياة السوريين الاجتماعية. الأمثلة متكاثرة، هنا بعضها. تعرضت دورية مسلحة لفنانين شبان صادفتهم في فضاء عام يصورون شيئاً عن الشهيد باسل شحادة. عناصر الدورية رفضوا وصف باسل بالشهيد لأنه غير مسلم، وحطموا صورة له، وتصرفوا بالجملة كميليشيا طائفية مستعلية دينياً ومستقوية بالسلاح (لمن لا يعلم، كان باسل المنحدر من أسرة مسيحية دمشقية قد تخلى عن دراسة السينما في أمريكا وعاد إلى سوريا للمشاركة في الثورة، وقتل في حمص في قصف للقوات الأسدية استهدف سيارته، وكان في الثامنة والعشرين وقت استشهاده). وجال غير مرة دعاة سلفيون في أحياء ذات أكثرية مسيحية في دمشق في سيارات تبث أناشيدهم بمكبرات الصوت، وتدعو إلى الإسلام مثلما يُعرِّفه هؤلاء الدعاة. وآخر تلك الحوادث جرت في حي الدويلعة المختلط السكان، وقد تكفل شبان مسيحيون ومسلمون بصرف الدعاة. وبعد أقل من شهر من سقوط النظام كان دعاة سلفيون، واحد منهم على الأقل غير سوري، ينظمون مسابقة دينية دعوية في مدينة جبلة الساحلية، استفزت السكان الذين بينهم نسبة لا بأس بها من العلويين. وهدد أحدهم طفلاً بالفلقة إن لم يحفظ القرآن.
يدافع موالون للعهد الجديد في سوريا عن الحق في الدعوة السلمية إلى الإسلام، ويقارنون ذلك بحرية الدعوة الدينية في أوروبا. هل هذا وجيه؟ ليس بين الدعاة والمبشرين الدينيين في أوروبا، والأنشط بينهم شهود يهوه وجماعات مسيحية أصغر، وبين الدولة أي التباس؛ وهم لا يستفيدون من حماية خاصة، ولا يستهدفون جماعات دينية مغايرة (المسلمين مثلاً) ليست آمنة تماماً على نفسها، وفي بلد تتملك قطاعات من سكانه خشية مشروعة من الاضطهاد الديني. ثم أن حرية الدعوة أو التبشير الديني في أوروبا هي جزء من الحريات الدينية التي تشمل حرية عدم الاعتقاد الديني، وحرية تغيير الاعتقاد الديني، والحق في الحيرة أو تعليق الحكم في الشأن الديني، وهذا مع حق مكفول للمعنيين في جميع الأحوال بأن يعبروا عن أفكارهم ومعتقداتهم في المجال العام. المقارنة ليس وجيهة بالتالي، ومن يصر عليها مطالب بأن يدافع عن كل هذه الحريات الدينية في سوريا كي يكون متسقاً مع نفسه.
والواقع أن قطاعات السكان المتحفظة على التنطُّع السلفي في سوريا لا تقتصر على مسيحيين أو علويين أو غير مسلمين سنيين، بل تشمل قطاعات من الأخيرين كذلك. الإسلام السني في سوريا متنوع، وغير سلفي في أكثريته. السلفية أخذت بالانتشار في تسعينيات القرن الماضي، ومعها نزعة اجتماعية بالغة المحافظة، وميل قوي إلى التكفير. وبعد الثورة تواطأت شروط داخلية، تمثلت بخاصة مع ديناميكية تجذر وتشدد وعسكرة وأسلمة انتشرت في البيئات السنية التي تعرضت لعنف تمييزي من جهة الحكم الأسدي، مع شروط خارجية، تمثلت أساساً في وجود خميرة جهادية في العراق المجاور، ثم في دعم شبكات سلفية خليجية، أقول تواطأت هذه الشروط الداخلية والخارجية من أجل تسهيل لقاء السلفية والسلاح، لنحصل على طيف متنازع سياسياً (لكن قليل التمايز فكرياً) من سلفية جهادية أممية وسلفية مجاهدة محلية. هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، عرضت تحولاً يبدو غير مكتمل من السلفية الجهادية إلى السلفية المجاهدة، لكن تكوينها الأصلي لا يزال حاضراً وفاعلاً سياسياً عبر جهاديين أجانب، يقدر عددهم بنحو 5000، وقد شاركوا في مذابح العلويين في الساحل في وقت أبكر من الشهر الجاري.
وبكل تنويعاتها، السلفية ليست الإسلام السني السوري، بل قطاع منه، وافد بقدر كبير من خارج البلد، أو وليد شروط بالغة القسوة من الإفقار السياسي ثم من العنف التمييزي الإبادي بعد الثورة السورية. والعلاقة بين السلفيين واللاسلفيين تنطوي سلفاً على توترات مهددة للسلم الأهلي بقدر لا يقل عما يتصل بمخاوف الجماعات غير المسلمة السنية. قبل حين شكا أمام مسجد من مدينة حماه من تدخل سلفي في صلاة وتدين المؤمنين في مسجده وحيّه. ويبدو أنه جرى إحلال أئمة سلفيين محل ائمة سابقين في مساجد في العديد من مناطق البلد، وينسب لهؤلاء الأئمة الجدد أنهم دعوا الناس للجهاد وقت تفجر العنف في الساحل، وأن لهم ضلعاً بالتالي في مذابح العلويين.
يتجاوز الأمر اليوم أسلمة المسلمين، النهج الذي سار عليه الإسلاميون في الثورة السورية، والذي ينسخ نهج تعريب العرب البعثي، ويتحكم بتعريف الإسلام مثلما تحكم الحكم البعثي بتعريف العرب على نحو يجعل منهم، الإسلاميين والبعثيين، التعبير الوحيد، الأصلح والأصح، عن الإسلام أو العروبة. نقول يتجاوز الأمر اليوم نسق أسلمة المسلمين إلى تسليف السنيين، دفعهم نحو ما سماه الإمام الحموي «تدين نجدي»، ينزع نحو تبديع أو تكفير الممارسات الدينية المحلية، المتشكلة تاريخياً واجتماعياً. هذا لا يؤدي إلى قلاقل سياسية واجتماعية فقط، ولا إلى مخاطر تطال «السلم الأهلي» فقط، وإنما هو مفقر روحياً ودينياً، في مجتمع تعرض لإفقار مديد على هذين المستويين، ويحتاج بالأحرى إلى احترام ما استطاع تنميته في نفسه من روح وقيم رغم كل شيء. مقابل صور التدين المحلي، وليست كلها صوفية بالمناسبة، وغير قليل منها فقهية تقليدية محافظة، السلفية هي المذهب الإسلامي الأقل روحانية، والأكثر تقيداً بشكليات وتفاصيل قيافية وسلوكية وتعبدية جف منها النسغ الروحي. وهي لا تدافع عن حق في الوجود إلى جانب غيرها، بل عن استحقاق للسيطرة على غيرها، لا يمكنه إلا أن يكون مقوضاً للدولة والمجتمع.
وإنما لأن الأمر يتصل بنسق مجرب معلوم مسبقاً، نسق أسلمة المسلمين، فإنه لا يبعد لتسليف السنيين أن يصير سياسة معتمدة إن لم يواجه بمقاومات تضبطه. أمثلة التسليف المذكورة فوق تبدو تكوينية، تتصل بتكوين الفريق المسيطر الجديد، على نحو ينفي كونها «أخطاء فردية»، ويقربها من مسالك منهجية. وإذا كنا نتردد بعض الشيء في الكلام على الصفة المنهجية لتلك المسالك فلأن تكوين المسيطرين الجدد يبدو أقل تجانساً وانسجاماً، وأكثر تنافراً وتجريبية، من أن يسمح بسلوك منهجي على هذا المستوى الدعوي أو غيره. على أنه يسمح سلفاً بالخشية من قنبلة سلفية موقوتة، من شأن انفجارها أن يودي بـ«السلم الأهلي»، وربما بالبلد المزعزع الأركان أصلاً.
آخر ما تحتاجه سوريا بعد الأبد الأسدي وتركته الثقيلة، وبعد نحو 14 عاماً من القسوة والدمار، وبينما يعاني 90 في المئة من السوريين من الفقر، هو أن يُزجّ المجتمع السوري في معارك إيديولوجية ودينية. وآخر ما تحتاجه كذلك استقطابات حادة إضافية تفاقم من تهتك نسيجها الاجتماعي المتهتك أصلاً. تحمل النزاعات الدينية والطائفية والإثنية في داخلها خطر الإبادة على نحو رأينا تحققاً مفزعاً له في الساحل قبل أسبوعين فحسب. الأصح هو نقل الصراعات من الحقل الديني الذي تكون في مطلقة ولا تقبل الحل مثلما نعرف من تاريخنا وتواريخ غيرنا، إلى الحقل السياسي والحقوقي حيث تكون نسبية وقابلة لمعالجات ناجعة. الأصح كذلك توجيه الطاقات المحدودة في اتجاه الدفاع عن الحقوق المهددة والحريات الهشة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية البائسة. وربما يستفرغ السلفيون طاقتهم الفائضة في تأمين موارد لمساعدة الفقراء وإيواء المشردين، في تحسين شروط العيش الدنيوي لملايين السوريين، بدل الانشغال بالمصير الأخروي لغيرهم.
كاتب سوري
القدس العربي
———————–
عودة إلى مفهوم العلمانية/ كمال عبد اللطيف
27 مارس 2025
شيطن السجال السياسي مفهوم العلمانية، وحوّلها مفردةً غير مرغوب فيها، رادفها بالإلحاد، واعتبر أنها تُخفي مواقف مُدمّرة لروح الإسلام وقيمه، كما اعتبر أنها تروم نسخ تجارب داخل المجتمعات المسيحية، وأنه لا علاقة لها بفضاءات التديّن الإسلامي. ونتصوّر أن مختلف هذه النعوت والمعطيات نعثر عليها في سجالات الفكر السلفي مع تيّارات الفكر النهضوي التحديثية، الناشئة والمتجدّدة في فكرنا المعاصر. ومن أجل تخطّي (وتجاوز) تركة المواقف الشائعة في ثقافتنا السياسية عن العلمانية وموضوع الدين والدولة، يلزمنا الإقرار، أوّلاً، بأن مفهوم العلمانية لا يرتبط بدلالة نهائية مغلقة، إلا في أذهان الذين ينطلقون من رفضه، في وقتٍ نرى فيه أن استخدامه في ثقافتنا السياسية اليوم يُعدّ مناسبةً لإعادة النظر فيه، أي إعادة إنتاجه في ضوء أسئلة المجال السياسي المحلّي في تحوّلاته، وأسئلة المجال السياسي الذي تبلور في إطاره، في صيرورته المتواصلة وأسئلته الجديدة، وهو ما يؤدّي، بالضرورة، إلى تركيب معطياتٍ كثيرة نفترض أنها تدعم بعض دلالات المفهوم، وتتجاوز بعض معانيه لحساب عملية في الفكر، قادرة على توليد دلالاتٍ جديدة، مستوعبة متغيّرات المجال السياسي في أبعاده المختلفة.
ليست علاقة السياسي بالديني رياضية، ولا يمكن تحويلها علاقةً حسابيةً مغلقة. إنها مجالٌ قابلٌ للتفكير والتشظي بصور وأشكال لا يمكن حصرها، كما أن معانيها المتناقضة قابلة للاستثمار الرمزي من القوى السياسية المتصارعة في داخل المجتمعات البشرية، وفي وقائع التاريخ هنا وهناك، من الأدلة ما يثبت (ويؤكّد) ما نحن بصدده. صحيح أن المفاهيم تُراكِم معطياتٍ نظريةً وتاريخيةً محدّدة، لما يمكن أن نطلق عليه ثوابت الدلالة وأسس المعنى (بل أصله)، إلا أن هذه الثوابت تكون، في مجال المفاهيم السياسية، مشحونةً بمعانٍ قابلة دائمة للتطوير والتحوير والتبدّل، أي قابلة لبناء أصل يتجاوز الأصول، أصل يسكت عن الأصول القديمة، أو يبني بدائلها، وخاصّة عندما تحصل متغيّراتٌ حاسمة في التاريخ، فيصبح مبدأ المراجعة مطلباً ضرورياً، لتجنّب دوغمائيات الفكر، التي تحوّل المفاهيم أوثاناً، وتنقلها من عاملٍ مساعدٍ على حسن إتقان التفكير إلى عائق من عوائقه.
في ضوء هذا التصوّر المبدئي والعام، حاولنا التفكير في بعض أسئلة مفهوم العلمانية في الخطاب السياسي العربي، وقد سمح هذا التصوّر بتجاوز مجرّد استدعاء المفهوم بحمولته الأنوارية المركّبة والمتناقضة، أي بالمعاني التي استقرّ عليها في فكر القرن الثامن عشر، واتجهنا إلى إعادة النظر في معانيه المتعدّدة، بهدف تحيينها، وتعيين قسماتها الجديدة، في ضوء المتغيّرات الحاصلة في التاريخ العام.
يمكن الإشارة هنا إلى أن التفكير في العلمانية، في مجال التداول السياسي العربي، يتطلّب توسيع دائرة السجال السياسي، ليشمل ثلاثة مجالات كبرى مترابطة فيما بينها، إلا أنها تتطلّب جهداً في البحث، ينظر إليها مؤقّتاً بصور مستقلة، يتعلّق الأمر بالمجالات الكبرى الآتية: التفكير في السياسي والتفكير في إعادة بناء النظر السياسي، ثمّ التفكير في علاقات الديني بالدنيوي. تترابط المجالات المذكورة فيما بينها، وتنفتح، في الآن نفسه، على أسئلةٍ لا حصر لها، فلا يمكن التفكير في العلمانية واستخدامها في مجال الصراع السياسي خارج دائرة التفكير في السياسي، وبالذات في استقلال المجال السياسي عمّا عداه، فلم يعد المجال السياسي في الفكر السياسي الحديث مرهوناً بالأخلاق ولا بقيم التعالي، كما أنه أصبح يعي علاقاته المعقّدة بالطوباوي والتاريخي، أن له اليوم قواعد وأصولاً يرتبط بها وترسم معالمه الكبرى. وهو يتطوّر ضمن آليات نظرية وتاريخية خاصّة.
ويتطلّب ما يتعلّق بمجال النظر السياسي في الفكر العربي التفكير في نقد المنظومات المرجعية المهيمنة، منظومات الحداثة، ومنظومات التراث، إضافة إلى مواصلة العناية والاهتمام بعلاقات التصوّرات السياسية بالوقائع، وعلاقات الوقائع بالتصورات والمفاهيم السياسية، وداخل هذه الدائرة ينبغي التفكير في علاقات السياسي بالديني، علاقة المقدّس بالتاريخ في أبعاده المختلفة، علاقة الإنسان بالطبيعة والمجتمع، إذ يُفصل السياسي عمّا عداه، ونتصوّر أن هذا الفصل ارتبط ويرتبط بمختلف ثورات المعرفة والسياسة والتقنية، كما حصلت وتحصل في عالمنا المعاصر.
عندما نفتح سؤال العلمانية على ما ذكر أعلاه، نفتحه في العمق على سؤال الحداثة السياسية، بمختلف إنجازاتها، وبمختلف الإشكالات التي ما فتئت تطرحها في قلب عمليات تحوّلها المتواصلة. وهنا يجد الموضوع فضاءه الفكري التاريخي المناسب، فيمكن أن تتشكّل التطوّرات، وتُبنى المعاني والدلالات القادرة على استيعاب ما جرى ويجري، والدفع به في السياق المساعد في تطوير النظر السياسي العربي.
لا يمكن إذاً التفكير في مفهوم العلمانية في الفكر السياسي العربي خارج إطار التفكير في الإشكالات النظرية والتاريخية، المرتبطة بموضوع كيفيات انغراس الحداثة السياسية في واقعنا وفي فكرنا، ففي هذا الإطار بالذات، ومن خلاله، نستطيع تعميق النظر في المفهوم. لقد انخرط العالم العربي منذ ما يزيد على قرنين في مسلسل التحديث في مستوياته المختلفة، وظلّ طوال القرنَين المنصرمَين يحاول بناء ما يُكسبه شرعية الفاعل المنفعل، والمنفعل الفاعل، في ما انخرط في إنجازه كرهاً وقسراً، وبفعل متطلّبات التاريخ التي تتجاوز القسر والإكراه، إذ يساهم الوعي التاريخي الناشئ والمتطوّر في مراكمة المعطيات، ودمج الثقافات، وتوحيد الأزمنة، وبناء المرجعيات والأصول الجديدة. وقد آن الأوان، بعد المعارك الخاسرة كلّها، في مستوى الذهنيات والوجدانيات، وفي مستوى الواقع، أن تُحوَّل تجاربنا السياسية، رغم عنفها المادي والرمزي، تجاربَ قادرةً على إعادة تركيب عناصر القوة المطلوبة كلّها، من أجل بناء مجالنا السياسي، وإعادة بناء نظرنا داخله بالصورة التي تجعلنا ننشئ تصوّرات جديدة، لكيفيات استمرار تقاطع المقدّس بالتاريخ، تصوّرات قادرة على استيعاب أسئلة اللحظة التاريخية الراهنة بمختلف أبعادها. وفي هذا المستوى بالذات من التفكير نستحضر مبدأ العقلانية، كما نستحضر تجارب التاريخ، فتنشأ أسئلة جديدة، وتلوح في أفق المفهوم دلالات جديدة، نكون معنيين بالتقاطها واستيعابها، لنطوّر المفهوم في ضوئها، وبهذه الطريقة نتخلّص من وثن المفهوم والمفهوم الوثن، لنُركّب ونبني المفهوم السياسي التاريخي المنفتح على أسئلة الماضي وأسئلة الحاضر، ولعلّنا هنا بالذات نكون قد بدأنا نتكلّم لغةً يفهمها الجميع، لغة السياسة والتاريخ.
العربي الجديد
————————-
دمشق وموسكو خطوة جديدة إلى الأمام/ بشير البكر
27 مارس 2025
تتمسك روسيا بمواقعها القليلة المتبقية في سورية، وتقدم مقابل ذلك العديد من الإغراءات للسلطات السورية، كي لا تواجه مصير إيران، التي اجتُث نفوذها السياسي ووجودها العسكري والأمني والاقتصادي، بالتزامن مع سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي. وفي العلاقة الحالية بين دمشق وموسكو تنشط الديبلوماسية الروسية على عدة مستويات للإبقاء على الحرارة قائمة مع سورية، رغم أن روسيا خسرت بعد سقوط النظام دورها السياسي والأمني والاقتصادي في البلاد. ولم يبق لها على الأرض سوى قاعدة حميميم العسكرية الواقعة في ريف مدينة اللاذقية الساحلية، والتي فقدت الوظيفة السابقة لها داخل سورية وخارجها، وباتت خاضعة في عملها لقوانين الدولة السورية.
صفحة جديدة بين دمشق وموسكو
لم تتبع موسكو خطى إيران وتنأ عن دمشق وتعادي السلطات الجديدة، بل تعمل على بناء علاقات ذات طبيعة مختلفة عما كان عليه الأمر مع نظام الأسد، تعتمد على تبادل المصالح. كما خطت عدة خطوات في سبيل إغلاق صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة. من أجل ذلك كثفت الاتصالات على أعلى المستويات، فيما بادر الرئيس فلاديمير بوتين، في فبراير/شباط الماضي، إلى الاتصال هاتفياً بالرئيس السوري أحمد الشرع، مؤكداً دعمه لوحدة وسيادة سورية، واستعداد موسكو لتقديم المساعدة الاقتصادية والإنسانية. لهذا الغرض أوفد إلى دمشق ميخائيل بوغدانوف، مساعد وزير الخارجية والسفير الأسبق في سورية، الذي عقد عدة لقاءات تناولت العديد من الملفات الحساسة. كما نقل إلى القيادة الروسية طلبات وأسئلة السلطة السورية في ما يخص ملفات كالأضرار التي خلفها التدخل العسكري الروسي بسورية، ووضع الرئيس المخلوع بشار الأسد في موسكو، ومستقبل الوجود العسكري الروسي في منطقة الساحل السوري.
بعد نحو أسبوعين من أحداث الساحل السوري، بعث بوتين، وتحديداً في 20 مارس/آذار الحالي رسالة إلى الشرع، أثارت تساؤلات حول توقيتها ومضمونها، لا سيما أنه نادراً ما يقوم بذلك. ودرجت العادة على اعتماد قنوات أخرى للتواصل مع رؤساء الدول، منها إرسال موفدين عنه يبلغون رسائل مكتوبة أو شفوية، وفي ذلك جانب من الاعتداد بالنفس، والتعامل بأسلوب رئيس دولة عظمى. في الوقت ذاته، من المتعارف عليه أن يوجه الرؤساء رسائل لنظرائهم، إما في المناسبات الوطنية أو للتهنئة بالتنصيب أو نجاح الانتخابات أو استفتاء ما وأحياناً للتعبير عن التضامن والتعاطف في حالات الكوارث، وما إلى ذلك. إلا أنه لم يسجل وقوع أي حدث أو مناسبة من هذه في سورية قبل الرسالة، ما يعكس أهمية سورية وما تمر به في هذا الوقت، بالنسبة لروسيا. رسالة بوتين إلى الشرع، والتي أعلن عنها الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، كما جاء في وكالة تاس، “أعرب فيها عن دعمه للجهود الرامية إلى استقرار الوضع في البلاد بأقرب وقت ممكن، بما يخدم ضمان سيادة سورية واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها”. وأكد على “استعداد روسيا المستمر لتطوير التعاون العملي مع القيادة السورية بشأن جميع القضايا المدرجة على جدول الأعمال الثنائي، وذلك من أجل “تعزيز العلاقات الروسية السورية الودية”.
ترى مصادر سورية مطلعة أن توقيت الرسالة على صلة بالأحداث الطائفية التي شهدها الساحل السوري، وتداول بعض وسائل الإعلام لأنباء مجهولة المصدر، عن دور روسي في دعم تحرك فلول النظام، خصوصاً ماهر الأسد شقيق الرئيس المخلوع. وحسب أكثر من قراءة، أراد بوتين من وراء توجيه الرسالة، تحقيق أكثر من هدف. تبدأ هذه الأهداف من نفي الصلة بأحداث الساحل، وعدم السماح لشخصيات من النظام السابق بالعمل من روسيا لتقويض الاستقرار في سورية، بمن في ذلك بشار الأسد، والالتزام بدعم وحدة واستقرار سورية في ظل دعوات التقسيم ومحاولات إثارة الاضطرابات بتشجيع من إسرائيل وإيران. وفي الختام النية لوضع أسس علاقات جيدة بين دمشق وموسكو تقوم على معالجة ملفات الماضي، وتعزيز المصالح المشتركة.
في طليعة الأسباب التي تدفع موسكو للاحتفاظ بعلاقات جيدة مع دمشق، أن سورية البلد الوحيد في الشرق الأوسط، الذي لا يزال يحتفظ بحضور روسي عسكري ويرتبط باتفاقات على هذا المستوى من خلال قاعدة حميميم، وميناء طرطوس، الذي يقدم خدمات للأسطول العسكري في حوض البحر الأبيض المتوسط. وتدرك روسيا أهمية الموقع السوري، سواء بالنسبة لدورها في الشرق الأوسط، أو لقواتها المنتشرة في عدة بلدان أفريقية. وحسب تقديرات عسكرية توفر قاعدة حميميم وحدها قرابة نصف الكلفة المادية للجهد الروسي في أفريقيا، وتختصر الزمن والمسافة في الوقت ذاته لقواتها.
العلاقات بين دمشق وموسكو قديمة العهد، تعود إلى بداية ستينيات القرن الماضي، وهي تنقسم إلى مرحلتين. الأولى عبارة عن شراكة كاملة، سياسية وعسكرية واقتصادية، استمرت حتى سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991. واعتمدت سورية على الاتحاد السوفييتي في تسليح جيشها، وبناء المطارات والطرق والسدود وسكك الحديد والمصانع واستخراج النفط، ولم يتغير الوضع كثيراً بعد ذلك في المرحلة الثانية من العلاقة بين دمشق وموسكو. بدأت تلك المرحلة مع انتخاب بوتين رئيساً (2000) وعادت العلاقات بين البلدين إلى زخمها القديم. أصبح اعتماد النظام السوري مع رئاسة بشار الأسد على موسكو، أساسياً بعد الثورة (2011)، ما تجلى في التدخل العسكري الروسي المباشر لحماية النظام من السقوط في عام 2015.
مصالح متبادلة
يتقاطع الصراع الدولي والإقليمي من حول سورية، مع المصالح السورية الروسية المشتركة، وهذا ما يُبقي موسكو حاضرة بقوة كطرف أساسي، لا يمكن بأي حال من الأحوال، إسقاط دورها. يعزز من ذلك أنها تحتفظ بتفاهمات قديمة حول الملف السوري مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد عملت الأطراف الثلاثة مجتمعة، وكل طرفين على حدة، على أساس قواعد اشتباك لا تزال سارية المفعول، حتى في حال انكفاء الدور الروسي بعد سقوط الأسد. وجاءت رسالة بوتين للشرع، بعد مكالمة الرئيس الروسي مع نظيره الأميركي دونالد ترامب، بيوم واحد فقط. حسب معلومات إعلامية جرى تداولها، فإن الرئيسين ناقشا الوضع في سورية وخطوات الحكم الجديد بعد سقوط الأسد، وسبل تحقيق الاستقرار في البلاد. وتميل بعض القراءات إلى اعتبار الموقف الروسي إيجابياً، ومشجعاً لواشنطن حول مسألة رفع العقوبات المفروضة على سورية.
قوات روسية في القحطانية ـ الحسكة، 8 أكتوبر 2022 (دليل سليمان/فرانس برس)
عدم صلة موسكو بأحداث الساحل، وحصر الدعم الخارجي لها (بحسب ما تم تداوله) بطهران، يساعد في تبريد الأجواء بين دمشق وموسكو. كما يفتح الطريق إلى مباحثات، يتم فيها وضع كل طرف لأوراقه على الطاولة. من جانب السلطة بسورية هناك عدة ملفات ثقيلة تحتاج إلى تسوية قبل النقاش بالتوصل إلى اتفاقات جديدة، ما يعني أن التفاهمات السابقة بشأن قاعدة حميميم وميناء طرطوس سارية المفعول في حدها الأدنى، ما يفسر وصول شحنات نفط روسية إلى سورية. الملف الشائك هو مشاركة روسيا في الحرب إلى جانب النظام السابق، والذي أسفر عن قدر كبير من الضحايا البشرية والتهجير والتدمير. تشترط سورية ضرورة إقرار موسكو بالمسؤولية المادية والأخلاقية، والاعتراف بالجرائم التي ارتكبتها قواتها، وتقديم كل ما يترتب على ذلك، من التعويض إلى الاعتذار.
والملف الثاني الذي يبدو أكثر تعقيداً من السابق، يتعلق بطلب تسليم بشار الأسد، ومن لحق به من أركان نظامه، واستعادة الأموال التي نهبها من الخزانة العامة، وكل ما يعود للدولة السورية. وحسب التسريبات التي صدرت عن أوساط إعلامية قريبة من موسكو، فإن الشرع ناقش هذه النقاط مع بوتين في المكالمة بينهما، لكن الجانب الروسي ليس في وارد التجاوب مع المطالب السورية. أبرز نقطة خلاف بين دمشق وموسكو تتعلق بتسليم الأسد شخصياً، وقد توافق موسكو على تسليم بعض الضباط لكنها تعتبر الأسد خطاً أحمر في الوقت الراهن. أفاد بذلك بعض الإعلاميين المقربين من الرئاسة الروسية، لكن هذا لا يعني أن موسكو لن تسلم الأسد حين تتلقى ثمناً غالياً لذلك. أما بصدد دفع تعويضات عن التدمير الذي ألحقه القصف الروسي، فإن النقطة قابلة للنقاش، وثمة من يرجح بأن موسكو يمكن أن تقدم مساعدات في إعادة تأهيل البنى التحتية تقوم بها شركات روسية تابعة للدولة، وهو أمر يناسب السلطات السورية في هذه المرحلة.
أما من طرف روسيا فهناك عدة طلبات، منها تسديد الديون المترتبة على النظام السابق، والوفاء بالاتفاقيات الاقتصادية، والإبقاء على قاعدة حميميم نقطةَ ارتباط لروسيا مع قواتها في أفريقيا، واستضافة الأسطول الروسي في ميناء طرطوس. ويبدو من ردات الفعل الأولية أن الدولة السورية تتعامل ببراغماتية مع ذلك، في ظل عدم وجود بدائل لديها بسبب استمرار العقوبات الدولية. والعقوبات إحدى الأوراق التي تعمل موسكو على استثمارها، ومن المرجح أنها ستكون أهم الدوافع المحفزة للتقارب والتفاهم بين دمشق وموسكو.
العربي الجديد
——————————
نظريات كيسنجر في رؤية إدارة ترامب حول سوريا/ مهيب الرفاعي
الخميس 2025/03/27
يعدّ هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي ومستشار الأمن القومي الأسبق، أحد أبرز مهندسي السياسة الخارجية الأميركية خلال السبعينيات، حيث لعب دوراً حاسماً في إعادة تشكيل خارطة التحالفات الإقليمية بعد حرب أكتوبر 1973. وتركّز تأثيره في سوريا بشكل خاص من خلال استراتيجية الدبلوماسية المكوكية، التي اعتمد فيها على جولات مكوكية بين العواصم العربية وتل أبيب لتحقيق تسويات تصب في مصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل. وجد كيسنجر في نظام حافظ الأسد مدخلًا إلى سوريا بعد حرب أكتوبر 1973، إذ كانت الولايات المتحدة معنية بضمان عدم تصعيد المواجهة بين إسرائيل والدول العربية المجاورة للأراضي الفلسطينية، لا سيما سوريا ومصر؛ وكانت واشنطن تخشى انزلاق المنطقة إلى مواجهة عسكرية جديدة أو دخول الاتحاد السوفيتي كلاعب أكثر تأثيراً في الصراع، في ظل توجه حافظ الأسد نحو السوفييت على حساب المعسكر الغربي، بصفقات تسليح واستشارات عسكرية وأمنية ونماذج حوكمة اقتصادية. ولهذا أطلق كيسنجر جهوده الدبلوماسية لاحتواء الوضع وإرساء قواعد تفاوض تضمن بقاء الولايات المتحدة اللاعب الرئيسي في الشرق الأوسط. بعد انتهاء القتال رسمياً، بدأ كيسنجر جولات دبلوماسية بين دمشق وتل أبيب والقاهرة، حيث نجح في التوصل إلى اتفاق فصل القوات على الجبهة السورية في 31 أيار/مايو 1974، والذي نص على انسحاب إسرائيلي محدود من أجزاء من مرتفعات الجولان التي احتلتها عام 1967، وإقامة منطقة عازلة تحت إشراف قوات الأمم المتحدة لمنع الاحتكاك المباشر بين القوات السورية والإسرائيلية وتقع بين خطي “برافو” و”ألفا” في القنيطرة؛ مع ضمان التزام سوري تام بوقف أي عمليات عسكرية ضد إسرائيل.
نظريات كيسنجر
شكل هذا الاتفاق مكسباً لإسرائيل، حيث عزز أمن حدودها الشمالية مع سوريا وضمن استمرار تفوقها العسكري في المنطقة دون الحاجة إلى مواجهة جديدة. أما من وجهة نظر سوريا فقد كان الاتفاق بمثابة حل مؤقت أكثر منه انتصاراً، حيث استمرت إسرائيل في احتلال الجولان دون حل نهائي للقضية، لتستمر حالة الهدوء حتى عام 2011 وقيام الثورة السورية التي أعادت ترتيب العلاقات في الجنوب السوري، ليتعقد المشهد في المنطقة بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024.
كانت إحدى أهم استراتيجيات كيسنجر التي كان لها أثر طويل الأمد، هي فصل المسارات التفاوضية بين سوريا ومصر، فقد أدرك أن التفاوض مع الدولتين ككتلة واحدة سيمنح العرب قوة تفاوضية أكبر، لذا حرص على إبرام اتفاق فك الارتباط مع مصر أولاً في كانون الثاني/يناير 1974، مما أدى إلى استعادة مصر لقناة السويس وبدء تقاربها مع واشنطن وتأخير المفاوضات مع سوريا، لإضعاف موقفها التفاوضي وجعلها في وضع أضعف مقارنة بمصر. هذا الفصل أدى لاحقاً إلى عزلة سوريا عن عملية السلام، خاصة بعد أن وقّعت مصر معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، مما جعل دمشق تفقد حليفاً رئيسياً في المواجهة مع إسرائيل وبقيت لوحدها دون اتفاق سلام علني مع إسرائيل.
وعلى الرغم من أن فترة كيسنجر في وزارة الخارجية انتهت في 1977، والتي حصل فيها على امتيازات استثنائية من الرئيس نيكسون، إلا أن نظرياته وتأثير سياساته استمر لسنوات طويلة، وشكلت سياسات “خطوة بخطوة” و”التفكيك والتركيب” والدبلوماسية المكوكية” و”بناء الجسور” معالم السياسة الأميركية التي تلت حكمه، لا سيما في التعامل مع ملفات الصين، الاتحاد السوفييتي والشرق الأوسط. هدف كيسنجر من خلال تأطير السياسة الخارجية الأميركية إلى تعزيز الدور الأميركي كوسيط رئيسي في الشرق الأوسط، مع إقصاء الاتحاد السوفيتي من المعادلة تدريجياً، وترسيخ فكرة التسويات الجزئية بدل الحلول الشاملة، مما أدى إلى استمرار الأزمة السورية-الإسرائيلية لعقود دون حل نهائي وجذري، إذ استعمرت إسرائيل الجولان، وبقيت متطلعة نحو أي خطأ من نظام الأسد للانقلاب على اتفاق فض الاشتباك 1974.
ركزت رؤية هنري كيسنجر للدبلوماسية العالمية على الواقعية السياسية، وتوازن القوى، والانفراج الاقتصادي والسياسي والدبلوماسية العامة وأساليب القوة الناعمة التي تروق لمجتمع الشرق الوسط عموماً. لكن ما يهمنا هنا هو أن نهج إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الثانية يتلاقى بشكل أو بآخر مع هذا النهج ومبادئ السياسة الخارجية التي أسس لها في التعاطي مع الحالة السورية ووجودها في المنطقة.
رؤية ترامب الجديدة
تنطلق إدارة ترامب من مبدأ توازن القوى والتحالفات البراغماتية، إذ أنها تحاول أن تشارك في رسم معالم سوريا الجديدة وتأهيلها لتكون مع المسار الغربي عند التعامل مع الشرق الأوسط عموماً ومع دول جوار إسرائيل خصوصاً، وفق مجموعة مطالب إذا حققتها حكومة دمشق الحالية فإن واشنطن ستقترب منها خطوات أكثر، مع رعاية خاصة لوضع الرئيس أحمد الشرع، الذي أسقطت واشنطن قرار ملاحقته. أظهرت واشنطن رغبة واضحة في الحوار السياسي مع إدارة الشرع، مع موافقة إقليمية على رأسها الرياض وأنقرة؛ ففي واقع عالم متعدد الأقطاب لا تهيمن عليه قوة واحدة، كثيراً ما يعكس نهج ترامب في السياسة الخارجية هذا التوجه، من خلال سعيه إلى إعادة تقييم التحالفات بناءً على المصالح الاستراتيجية بدلاً من الالتزامات الأيديولوجية، في محاولة لكسب جميع الأطراف في سوريا الجديدة والدخول في وساطات براغماتية تخدم الصالح العام الأميركي وتحقق “انتصارات” لحلفاء واشنطن في سوريا.
أعطى ترامب قوات سوريا الديمقراطية فرصة للتعاون مع إدارة دمشق عبر توقيع اتفاق تاريخي في آذار/مارس الجاري، في خطوة لتعزيز دور حلفاء واشنطن في مرحلة ما بعد الأسد، ودمج قواتها مع قوات الإدارة الجديدة وتقديم ضمانات أمنية من الجانبين، مع محاولات حثيثة لجعل الجيش السوري ممتداً ومسيطراً على جميع الأراضي السورية. ما تستفيده واشنطن من ذلك هو أنها تعزز نفوذها في سوريا بعد أن كان مقتصراً على مجموعة قواعد في البادية والمنطقة الشرقية، في ظل تمدد روسي وإيراني وهو ما لم تكن واشنطن ترغب فيه، وضمان عدم وقوع البلاد مرة أخرى في يد تنظيم “داعش” ومواليه من الفصائل المتشددة. في المقابل يمكن أن تقدم واشنطن لدمشق تسهيلات اقتصادية ودبلوماسية وتسهل تدفق المساعدات من الدول المانحة، وتخفيف أعباء العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا منذ حكم نظام الأسد، بما يضمن سلاسة التعاملات المصرفية والعلاقات الاقتصادية التي ستؤدي بالنتيجة إلى تحسين مستويات الأمن والحريات في البلاد. سياسة الانفتاح الاقتصادي والسياسي تجاه الإدارة الجديدة مغايرة تماماً لسياسة الضغط على إدارة نظام الأسد، وهو ما كانت واشنطن تمارسه منذ سبعينيات القرن الماضي لإقناع دمشق بالاتجاه غرباً، واستخدمت هذه الأساليب الناعمة لتغيير مواقف نظام الأسد بما يعس براغماتية وفكر كيسنجر لضمان استمرار سطوة واشطن في المنطقة، وضمان استمرارية المنفعة المتبادلة للتحالفات. ونلاحظ هذا التعاطي مع التحالفات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال اتفاقيات أبراهام التي أبرمتها إدارة ترامب الأولى، والتي سعت إلى إعادة تشكيل هياكل السلطة في الشرق الأوسط من خلال التقريب بين دول الخليج العربية وإسرائيل، ومواجهة النفوذ الإيراني بشكل غير مباشر – على غرار جهود كيسنجر لاحتواء الاتحاد السوفيتي من خلال إشراك الصين.
الانفراج والتواصل الاستراتيجي مع الخصوم
هدفت سياسة الانفراج التي انتهجها كيسنجر مع الاتحاد السوفيتي والصين إلى تخفيف التوترات من خلال الدبلوماسية المدروسة بدلاً من المواجهة الأيديولوجية، وبينما انخرط ترامب في حرب تجارية مع الصين وروسيا، فقد ترك أيضاً مجالاً للتفاوض، تماماً كما فعل كيسنجر في موازنة علاقاته مع الخصوم، ليتجنب بذلك المواجهة العسكرية المباشرة على الرغم من وجود عدة ملفات تستدعي المواجهة العسكرية كما في ملف جزيرة تايوان وملف حرب أوكرانيا بالنسبة لروسيا. وبذلك، فقد فضل ترامب النفوذ الاقتصادي والعقوبات على التدخل العسكري إذ اعتمدت حملة “الضغط الأقصى” التي شنها ترامب على إيران أيضاً بشكل كبير على العقوبات الاقتصادية بدلاً من التدخل العسكري، مما يعكس تفضيل الإدارة الحالية للضغط السياسي والاقتصادي على الخصوم لإخضاعهم وتقويض حكمهم. أما في سوريا، فقد أعدت إدارة ترامب الأولى حقيبة عقوبات قاسية على نظام بشار الأسد بموجب “قانون قيصر” الذي صادق عليه في كانون الأول/ديسمبر 2019، رداً على وحشية نظامه بحق المعتقلين والشعب السوري عموماً.
بعد سقوط نظام الأسد، اتخذت واشنطن اتجاهاً مغايراً نحو الحكومة الجديدة في دمشق، وأبدت رغبتها في رفع تدريجي للعقوبات ضمن حزمة “الترخيص العام” الخاصة بمعاملات الطاقة والخدمات التي من شانها أن تساعد الحكومة على إدارة البلاد، بحيث يسمح للحكومة أن تستأنف معاملات الخدمات الحيوية مع الدول المانحة؛ وتسهيل الحوالات الشخصية للأفراد غير المشمولين بأي عقوبات سابقة. هذا التوجه مهم جداً لجذب الإدارة الجديدة ودعم عملية سياسية شاملة. بالنتيجة ما يهم أميركا هو تحقيق رؤيتها الاقتصادية والسياسية في المنطقة وفق مبادئ “السلام الاقتصادي”.
الدبلوماسية والتفاوض
تسعى الإدارة الجديدة في دمشق إلى تحقيق اعتراف دولي وإقليمي بشرعيتها، واضعةً الولايات المتحدة بوابةً أساسية لهذا الاعتراف، وهو ما قد يتطلب تقديم تنازلات سياسية وأمنية تصبّ بالمحصلة في مصلحة واشنطن. في هذا السياق، برزت محاولات الرئيس الشرع للاقتراب من الغرب عبر خطاب يطمئن المجتمع الدولي، داعياً إلى تعاون أمني قد يفتح الباب أمام تطبيع تدريجي معها لا سيما في الحديث عن ملفات حماية الأقليات والاندماج السياسي والاقتصادي، والحريات، والتعددية الحزبية، والنقابية. وقد لاقت هذه التوجهات صدى إيجابياً في أروقة الإدارة الأميركية، التي سارعت إلى التعامل معه كحليف محتمل، محاولةً تسويقه كطرف سياسي مشروع لدى الدول الغربية وهذا ما شجع دولة مثل ألمانيا أن تعيد فتح سفارتها بتمثيل دبلوماسي عالٍ.
إلا أن ما تقدّمه الولايات المتحدة تحت مسمى الدعم والتعاون لا يعدو كونه إعادة إنتاج لسياسة التبعية، حيث تفرض إدارة ترامب رؤيتها على الحلفاء عموماً لضمان تنفيذ أجنداتها الاستراتيجية، وتزداد هذه الرؤية وضوحاً، إذ يرى ترامب “الحلفاء” مجرد أدوات لتنفيذ هذه الرؤية، وهو نهج اتبعه مع دول كبرى مثل ألمانيا واليابان وأوكرانيا، مما يطرح تساؤلات حول كيفية تعامله مع سوريا التي تمرّ بمرحلة ضعف سياسي واقتصادي.
في إطار بحثه عن دور إقليمي، تبنى الرئيس الشرع الموقف الأميركي تجاه القضايا المحورية في المنطقة، مقدماً نفسه إلى حد ما كضامن للمصالح الغربية، سواء الأمنية في الحرب على “داعش” والإرهاب والاتفاق مع “قسد” لترسيخ ملامح أمنية جديدة لملف شرق الفرات أو الاقتصادية كالتعديلات المالية وتنفيذ وعود اقتصادية أو السياسية التي تشمل التعددية الحزبية والحريات وغيرها.
على المستوى الإقليمي، تتحرك الإدارة السورية الجديدة وفق منطق براغماتي إيجابي يهدف إلى تثبيت سلطتها داخلياً وتفعيل دورها الخارجي واستعادة موقع سوريا في المنطقة والمجتمع الدولي التي كانت منخرطة فيه، من خلال توسيع نفوذ قادتها في مؤسسات الدولة، وسعيها إلى رفع العقوبات الأميركية، وفي مقدمتها “قانون قيصر”، بغية إنعاش الاقتصاد السوري. لكن هذه الحسابات تصطدم بتحديات كبرى، أبرزها التنافس الإقليمي والدولي على النفوذ في سوريا، خاصةً من قبل تركيا والإمارات والسعودية والكيان الإسرائيلي الذي يتوغل جنوب البلاد بشكل يومي ويقوم بعمليات مداهمة واعتقال وقتل مدنيين سلميين.
وفي ظل هذه التعقيدات، قد تجد الإدارة الأميركية نفسها أمام خيارين: إما تقليص انخراطها السياسي في الملف السوري، تاركةً الساحة لحلفائها الإقليميين كما لمّح ترامب سابقاً، أو محاولة إيجاد توازن بين المصالح المتضاربة، وهو ما قد يتم على حساب الشعب السوري وتطلعاته لا سيما فيما يتعلق بمسألة بناء دولة جديدة وتوحيد الصفوف والرغبة بضم الجميع تحت راية الدولة السورية الجديدة.
يعطي نهج الواقعية السياسية لإدارة ترامب الأولوية للاستقرار الاستراتيجي على الاعتبارات الأخلاقية والقيمية والإيديولوجية مهما كانت طبيعة التحالف، ويركّز على توازن القوى الكبرى بدلاً من التدخلات الإنسانية. تعامل ترامب مع سوريا من خلال نهج توازن القوى إذ أنه سابقاً قد تجنب المواجهة المباشرة مع الأسد على عكس إدارة أوباما الذي أصر على فكرة مفادها أن على الأسد أن يرحل وجرى تسليح المعارضة السورية من خلال غرفة موك في الأردن وتم نقل الجنود الأميركيين إلى شرق سوريا لتسهيل العملي العسكري في البلاد، بينما انتقل ترامب إلى خطط العقوبات وتقويض أي عمل سياسي من شأنه أن يديم الأسد، وكانت مشاركة إدارة ترامب في العمل العسكري ضد نظام الأسد مشاركة عسكرية محدودة إذ أمر ترامب بشن ضربتين صاروخيتين على سوريا (2017 و2018) رداً على هجمات كيميائية، لكنهما كانتا رمزيتين أكثر من كونهما جزءاً من تدخل عسكري شامل؛ وهو نهج يشبه تفضيل كيسنجر لاستخدام القوة التكتيكية المحدودة بدلاً من التدخلات الموسعة.
بعد سقوط نظام الأسد، عمل ترامب على نقل العبء إلى القوى الإقليمية في العمل مع سوريا وشجّع ترامب تركيا ودول الخليج على تولي زمام الأمور في سوريا، وهو ما يتماشى مع رؤية كيسنجر بأن على القوى الكبرى السماح للجهات الإقليمية بإدارة صراعاتها الخاصة وإنقاذ تحالفاتها، وإعادة صياغة قواعد العمل المشترك للمرحلة المقبلة. وإذ يعتبر ترامب أن الصراع في سوريا لا يخدم المصالح الأساسية لأميركا على المدى القريب، لكنه لا يريد التفريط بهذا الملف لصالح الروس والإيرانيين الطامعين في جعل سوريا أشبه بحديقة خلفية لأعمالهم العسكرية ضد الغرب؛ لا سيما وأن إدارة ترامب ركزت على السيطرة على الموارد في شرق سوريا، وخاصة حقول النفط، بحيث استغلال الأصول الاقتصادية بدلاً من الانخراط في إعادة إعمار الدولة.
جدّية التنفيذ والضبابية
رغم الرسائل الإيجابية من الإدارة السورية الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، ورغم قدرة واشنطن على إجراء وساطات في سوريا، ظل الموقف الأميركي غامضاً ومتردداً. ويعود ذلك إلى مخاوف واشنطن من الدور الذي تلعبه هيئة تحرير الشام، المصنفة إرهابية، في الحكومة الجديدة. وقد انعكس هذا القلق في تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو ورفض واشنطن التوقيع على “إعلان باريس” بشأن سوريا. كما أن إدارة ترامب تضم شخصيات معادية للحركات الإسلامية، مما يزيد من تحفظها تجاه دمشق.
الملاحظ أن واشنطن اتبعت أسلوب الدبلوماسية غير المباشرة، معتمدة على حلفائها مثل الاتحاد الأوروبي وتركيا والسعودية وقطر لإدارة العلاقة مع سوريا دون تقديم اعتراف رسمي. وشمل ذلك ضغوطاً أميركية على “قسد” للتوصل إلى اتفاق مع الحكومة السورية. كما أشارت تقارير إلى وجود تواصل أمني وعسكري خفي بين الطرفين، ما يعكس اهتمام واشنطن بالحفاظ على نفوذها في سوريا دون التورط المباشر في هذا الملف كونه ليس من أولوياتها المباشرة، لا سيما في ظل انشغال إدارة ترامب بملفات أخرى، مثل الأزمة الأوكرانية والعلاقات مع الروس. وعليه، فقد ربطت واشنطن أي اعتراف بالحكومة السورية الجديدة بمدى قدرتها على تحقيق تمثيل سياسي شامل، رغم ترحيبها بسقوط الأسد، فإنها لا تزال تراقب أفعال الإدارة الجديدة، محذرة من أن الدستور المقترح يمنح الرئيس صلاحيات واسعة. وهذا الغموض الأميركي يعكس مخاوف سياسية وأمنية، بالإضافة إلى رغبة واشنطن في إبقاء نفوذها في سوريا عبر حلفائها الإقليميين.
المدن
—————————
طبيب ناجٍ من “صيدنايا” فُرض عليه علاج زملائه…بأدوات بدائية
الخميس 2025/03/27
في شهادة مروعة ضمن بودكاست “دفين” الذي يبثه “تلفزيون سوريا” روى الطبيب السوري محمد حمزة، الناجي من “سجن صيدنايا العسكري”، تفاصيل صادمة عن ثماني سنوات قضاها في سجون النظام، شهد خلالها مجازر جماعية وتعذيباً ممنهجاً يصل إلى حد الإبادة.
واعتُقل حمزة، وهو طبيب تخدير خريج “جامعة دمشق” العام 2004، في العام 2012 من داخل مستشفى الجامعة، بعد استدعائه من قبل المخابرات العسكرية، ليبدأ رحلته في جحيم السجون السورية من “فرع فلسطين” حيث خضع لتعذيب شديد، قبل أن يرحل إلى “سجن صيدنايا العسكري” المعروف باسم “المسلخ البشري”.
وروى حمزة تفاصيل الحياة داخل السجن، حيث كان التعذيب جزءاً من الحياة اليومية: ضرب متواصل وتعليق “شبح”، وصعق كهربائي وإهانات طائفية ودينية، وتجريد المعتقلين من مقومات الحياة، وأكد أن السجناء منعوا من الماء لعدة أيام، وأجبروا على شرب بولهم، واصفاً ظروف الاحتجاز بأنها كانت غير إنسانية تماماً حيث أصيب كثير من السجناء بالأمراض الجلدية أو فقدوا حاسة السمع مع اضطرابات عصبية وجوع دائم. وأكد أن إدارة السجن كانت تدرب السجانين على التعذيب، ما يعكس الطابع الممنهج لهذه السياسات.
وتحدث الطبيب الناجي كيف أجبر السجناء على الزحف بدل المشي، واستخدام عبارات إذلال عند الحديث، مثل قول “سيدي” بعد كل جملة، كما كان الطعام يقدم ملوثاً، وأحياناً من دون ملاعق أو صحون، بل يؤكل عن الأرض، وروى كيف جرد السجناء من الأسماء واستبدلت بالأرقام، بهدف طمس الهوية وتكريس الإذلال.
ورغم كونه معتقلاً، فُرضت على الطبيب حمزة مهمة معالجة السجناء المرضى والمصابين، وأُجبر على القيام بعمليات أولية من دون أدوات طبية مناسبة، مثل شق البطن أو وقف النزيف أو فتح مجرى تنفسي، باستخدام أدوات بدائية ومن دون تخدير، وكان يخلع الأسنان ويجري عمليات إسعافية داخل المهجع.
وتعامل حمزة مع آلاف المرضى خلال سنوات اعتقاله، وتوفي كثيرون منهم بين يديه، وروى كيف في إحدى الحالات، توفي سجين نتيجة نزيف حاد، فعوقب هو بالضرب والإذلال، وقال أن السجانين كانوا يحملونه مسؤولية الوفاة رغم افتقاره لأي أدوات أو مساعدة. ووصف كيف كان يشعر أحياناً بالذنب لإنقاذ حياة سجين، لأنه يعلم أن هذا المعتقل سيعود مجدداً إلى التعذيب، كما عانى من صراع نفسي دائم بين ضميره المهني كطبيب ورغبته في النجاة.
طبيب عالج آلاف السجناء يروي أهوال صيدنايا – محمد حمزة | بودكاست دفين
وأحد أكثر مشاهد الرعب التي عاشها حمزة كانت مجزرة وقعت العام 2014، عندما تم تصفية نحو 360 معتقلاً خلال ساعات، عبر التعذيب أو الإعدام المباشر، وروى كيف أجبر السجناء على فرش أرضية المهاجع بجثث الضحايا التي تركت أياماً.
وأشار حمزة إلى أن التعذيب كان مترافقاً مع شتائم دينية وطائفية، وحرمان من ممارسة طقوس العبادة والدين، واستذكر حالة طفل من إدلب توفي تحت التعذيب لأنه كان يقرأ القرآن، كما روى كيف كان يسمع أصوات تعذيب نساء وأطفال في أجنحة مجاورة، وهو ما كشفته مقاطع الفيديو التي انتشرت بعد فتح أبواب السجن، وخروج نساء وأطفال من بعض الزنزانات.
وذكر الطبيب أنه رأى عناصر من الشرطة العسكرية يصورون عمليات التعذيب والإعدام داخل السجن باستخدام كاميرات فيديو، لكنه لم يعرف ما إذا كانت تستخدم لأهداف أمنية أم للمتعة والتوثيق الشخصي، وهذه الرواية تتقاطع مع تقارير سابقة أفادت بأن بعض آمري السجن، قاموا ببيع بعض مقاطع التعذيب داخل السجن في “دارك ويب”، ولم يتم التأكد من تلك المعلومات بعد.
وأُطلق سراح حمزة بعد 8 سنوات من دون محاكمة عادلة، عبر “عفو” صادر عن المحكمة الميدانية العسكرية العام 2020، وتحدث الطبيب أنه حتى لحظة الإفراج، ظل يعتقد أن نهايته ستكون الإعدام، وعندما تم استدعاؤه فجأة ونُقل إلى خارج السجن في شاحنة مغلقة، ظن أن الرحلة الأخيرة نحو الموت قد بدأت، ولم يصدق نجاته إلا بعد اجتيازه بوابة السجن.
وتتقاطع شهادة حمزة مع ما وثقته منظمة العفو الدولية “أمنستي” في تقريرها العام 2017 بعنوان: “المسلخ البشري: إعدامات جماعية وإبادة في سجن صيدنايا”، والذي خلص إلى أن ما يجري داخل السجن يرقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية، كما تتطابق روايته مع صور “قيصر” التي سربت آلاف الجثث لضحايا التعذيب في السجون السورية.
المدن
—————————-
علويون في دمشق… عين على الساحل وعين على الهجرة/ ملاذ الزعبي
27.03.2025
لا تغيب نبرة خيبة الأمل العميقة عن حديث رولا أسد، التي تشير إلى أنها باتت تتردّد بقول اسمها علناً، وإلى إحساسها بالمرارة من أن كل نشاطها المدني والصحافي خلال الثورة وقبلها لا يشفع لها، ضاربة مثلاً بما حصل مع الناشطة المعارضة والمعتقلة السابقة خلال الثورة هنادي زحلوط، التي فقدت ثلاثة من أشقّائها بعملية إعدام ميداني.
كان التوجّس والريبة واضحين على وجوه أفراد العائلة التي استقبلتني في حيّ “المزّة 86” في دمشق. الحيّ الفقير المختلط الذي تقطنه غالبية علوية، بات محطّ الأنظار في العاصمة، بالتزامن مع الأحداث والمجازر التي شهدتها مناطق في الساحل السوري.
حيّ “المزّة 86” أُنشئ برعاية رفعت الأسد، ليكون مقرّ عناصر سرايا الدفاع التي كان يقودها في الثمانينيات وعائلاتهم، ثم تحوّل إلى ما يشبه سكناً رخيصاً لفئة كبيرة من الضبّاط وعائلاتهم من الطائفة العلوية، لكنه لا يقتصر عليهم اليوم، خاصة مع استقرار أو نزوح عائلات إلى الحيّ من مناطق مختلفة على مر السنين.
وصلتُ إلى بناء العائلة بعد عبور أزقة ضيقة وغارقة في العتمة، رافقتني في زيارتي سيدة علوية تقطن المنطقة نفسها، وما إن أعادت تأكيد الثقة بي، حتى بدأت الأسرة الصغيرة تدريجياً تبث شكاواها وتعبّر عن مخاوفها.
لم يُخفِ علاء وهو موظّف في القطاع العام، قلقه البالغ من وصول الهجمات إلى حيّه، بخاصة مع تواتر الأخبار من بانياس حيث تُقيم عائلته الممتدة، وبدء سقوط قتلى من أقاربه المباشرين. يستذكر اللحظة التي قرأ فيها خبر مقتل اثنين من أبناء أخواله في مدينة بانياس ويسرد بعض التفاصيل التي عرفوها لاحقاً، ومنها أن المهاجمين أعدموا الشابين وكسروا الجهاز الخلوي الخاص بزوجة أحد القتيلين، وسرقوا ما تملكه من ذهب وأموال على مرأى من الأطفال.
كان هذا المشهد جزءاً من الانتهاكات التي شهدها الساحل السوري منذ السادس من الشهر الحالي، والتي شملت مقتل المئات من المدنيين العلويين على يد قوّات تابعة للحكومة السورية، بالإضافة إلى العشرات من عناصر الأمن العام بعد هجوم لفلول نظام بشار الأسد.
“الرعب سيطر علينا”، يُوضح الرجل الأربعيني المتحدّر من قرية بابلوطة في ريف محافظة طرطوس، كيف بدأت تتشكّل ردود الفعل عند علويي العاصمة، وباتت المشاعر منقسمة بين محاولة متابعة آخر أخبار الأقارب في الساحل من جهة، وتتبّع الشائعات في دمشق من جهة أخرى، ويقول: “الناس هنا خافت وبدأت العائلات تجتمع مع بعضها بينما ترك البعض بيوتهم”، مشيراً إلى أنهم بدأوا بقراءة أخبار عبر “فيسبوك” تدعو إلى تصفية العلويين، ما زاد من المخاوف بشأن هجوم على تجمّعاتهم السكنية في العاصمة، خاصة مع ورود أنباء عن اعتداءات متفرّقة في بعض المناطق.
تتدخل قريبته ميساء في الحديث لتروي بدورها كيف عاشت بداية الهجمات على أقاربها، تقول إن ابنة خالتها اتّصلت بها هلعةً لتخبرها أن عمليات التمشيط تنتقل من بناء إلى آخر، قبل أن تتلقّى منها اتصالاً ثانياً تقول فيه إن العائلة نجت من الهجمات الانتقامية، وإن من نفّذ التمشيط كان يريد اعتقال الأب المسنّ قبل أن يتركه بعد رجاءات حارّة، موضحة العبارة بالعامية: “بسنا إجريّاتن يتركوه”.
تتابع السيدة الثلاثينية أن عائلتها المباشرة كانت في قريتها نعمو الجرد، حيث اتّصل بها شقيقها مودّعاً “إذا إلنا نصيب بنلتقي”، لكن عمليات التمشيط لم تصل هذه القرية، بينما واصلت هي متابعة مقاطع الفيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي طيلة أيام الأحداث.
تشتكي ميساء، وهي موظّفة في القطاع العام كذلك، من غياب القانون الواضح الذي يمكن الاستناد عليه، بحسب تعبيرها “تهمتنا العظيمة أننا علويون… كل علوي متّهم بأنه فلول نظام”.
تدعو والدة علاء المسنّة بالفرج بمداخلة عابرة بلهجتها الساحلية، وتلفت إلى أن عمليات القتل بحقّ العلويين تحصل على اعتبار أنهم “بيئة حاضنة” لنظام بشار الأسد، وتقول إن “الجوع خلّى الشباب يلحقوا الضبّاط”، في إشارة منها إلى الهجمات التي شنّتها مجموعات موالية للنظام السابق في السادس من آذار/ مارس في بعض مناطق الساحل، وهي الهجمات التي أسفرت عن مقتل العشرات من أفراد الأمن العام والمدنيين، والتي كانت شرارة الهجمات الانتقامية اللاحقة.
“السلطات تُناقض نفسها”
يستعيد أفراد الأسرة المتجمهرون في غرفة المعيشة الصغيرة بعض لحظات اليوم الأول من الهجمات: النداءات التي انطلقت من المساجد داعية إلى النفير العام، والتعزيزات على الحواجز المحيطة بالحيّ، الأحاديث عن حمل شبّان في المناطق المجاورة للسلاح استعداداً لهجمات محتملة.
يخشى مهيار، أحد أفراد الأسرة، وهو عنصر سابق من رتبة دنيا في أحد الأجهزة الأمنية، من تجدّد ما حدث، سواء في المحافظات الساحلية أو حمص أو دمشق، ويرى أن السلطات “تُناقض نفسها”، مؤكّداً عدم الثقة “بأي أحد اليوم”، ويتساءل “على أي أساس يُجمع السلاح من العلويين فقط وليس من جميع المدنيين؟”.
تطرح الصحافية السورية رولا أسد السؤال نفسه، وتعتبر أن هذا التعامل الخاص يحمل سمات “تمييزية وطائفية”، لافتة إلى انتشار السلاح وفلول النظام في كل أرجاء البلاد، هذا عدا وجود السلاح بيد فصائل عسكرية وجماعات أهلية متفرّقة، سواء لدى “قوات سوريا الديمقراطية” التي يقودها الكرد، أو الفصائل المنتشرة في محافظة درعا، أو المجموعات الدرزية المسلّحة في السويداء، إضافة إلى فصائل “الجيش الوطني” في أرياف حلب.
“وصلني فيديو لشخص مقتول وكان يُشبه أخي كثيراً، أغلقته فوراً واتّصلت بأختي للتأكد من هوّية القتيل”.
“كان يُشبه أخي”
سبق لرولا أسد المولودة في دمشق وتنحدر من ريف جبلة، أن شاركت في النشاط المعارض لنظام الأسد من مكان إقامتها في هولندا، وساهمت في أسيس شبكة الصحافيات السوريات وشغلت منصب المديرة التنفيذية للشبكة لسنوات، وهي ترفض إضفاء معنى خاص على السلاح الموجود في منطقة الساحل دوناً عن باقي المناطق السورية.
صادف وصول أسد في زيارة إلى سوريا اليوم الثاني من الهجمات في الساحل، خطّتها الأصلية كانت تقضي بالذهاب لزيارة الأهل فور وصولها، قبل أن يحول تطوّر الأحداث دون ذلك بالطبع. تسترجع أسد بعض اللحظات العصيبة، كمتابعة الفيديوات الواردة والاتّصالات التي لا تتوقّف مع أفراد الأسرة المتوزّعين على مناطق عدة. كانت تخشى مشاهدة أفراد من عائلتها قتلى في المقاطع المصوّرة: “وصلني فيديو لشخص مقتول وكان يُشبه أخي كثيراً، أغلقته فوراً واتّصلت بأختي للتأكد من هوّية القتيل”.
وتقول الصحافية السورية: “أصبح كل شيء مستباحاً، القتل، والسرقة، والذل، والتعفيش، والتكسير”، متابعة أن أيّاً من أخوتها الذكور لم يكن جزءاً من الأجهزة العسكرية والأمنية للنظام السابق، ومع ذلك لم يكن ذلك كافياً للاطمئنان عليهم بسبب انتشار “القتل على الهوّية”.
تشرح أسد بعضاً مما عاشه أفراد أسرتها خلال أيام المجازر، مثل اضطرار أبويها المسنّين للاختباء خارج المنزل في مناطق نائية، وصعوبة تأمين المسلتزمات لأفراد الأسرة المنتشرين في الأحراش المجاورة، والمهمّات التي باتت مُلقاة على عاتق شقيقتها بوجود طفلة رضيعة لا يتجاوز عمرها ثلاثة أسابيع، هذا بينما كانت محاولات التواصل مع الأمن العام “مخيّبة للأمل” ومن دون جدوى.
“عدم ثقة مطلقة بالدولة”
في منزل ثانٍ في حيّ “المزّة 86″، تؤكّد هدى وجود “حالة عدم ثقة مطلقة بالدولة”، معربة عن خشيتها من خلق “ذرائع لاستهداف المنطقة”، وتوضح “لا آمن نفسي ولا أولادي، ولا أضمن مستقبلنا مع هؤلاء”، قاصدة السلطات السورية الجديدة.
تعمل هدى وزوجها في إحدى المؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة، وتنحدر من قرية الربيعة في ريف محافظة حماة، بينما يقطن أفراد من أسرتها في أرياف جبلة واللاذقية. تسترجع السيدة الخمسينية بدورها بعض ما عاشه أقاربها في الساحل، وتروي قصصاً عن هروب مستمر لعائلتي شقيقتيها من حيّ إلى آخر، ومن المدينة باتجاه الريف، ومن الريف باتجاه الأحراج والأماكن الوعرة.
تحبس هدى دموعها عندما تتحدّث عن فترات انقطاع الاتّصالات، وعن طلبات متكرّرة من أقاربها بعدم الاتّصال بهم ليلاً، خشية أن تكشف رنة الخلوي أو إضاءته مكانهم خلال الاختباء، وتعجز عن وصف مشاعرها بدقّة، إذ تتراوح بين “العجز الكامل حيث سقف الطموحات أن لا نسمع بوفاة أحد”، والقلق الذي تحوّل إلى رعب مع حالات “التصفية الطائفية”، وصولاً إلى “الغضب”.
ورغم الاستقطاب الطائفي الحادّ الذي تشهده سوريا عموماً، فإن المشهد في بيئات العمل كان متبايناً من مكان لآخر، فبينما تؤكّد هدى أن العديد من زملائها من السنّة بادروا للاتّصال بها والاطمئنان عليها، بما يشمل في إحدى الحالات دعوة لاستضافة الأسرة في منزل بعيد خشية أي تصعيد قد تشهده منطقة المزّة، يتأسف علاء أن أصدقاءه المقرّبين لم يقدّموا له التعزية علناً خلال الدوام، خشية أن يتعرّضوا إلى مضايقات، مكتفين بعبارات مواساة ملتبسة وغير واضحة، بل إن زميلة له من بانياس فقدت شقيقها خلال الهجمات لم تجرؤ على الإفصاح عن ذلك علناً، وفق ما يقول، هذا بينما توقّف زميل آخر عن العمل مطلقاً بعد مقتل أخويه في جبلة: “خسر شابين… شو بدّه بالدوام”.
يستغل عامر، شقيق هدى الذي كان جزءاً من المؤسسة العسكرية، الحديث العام عن أوضاع علويي دمشق ليشتكي من عدم قدرته على إيجاد أي عمل بعد حلّ الجيش، ويلفت إلى رفض العديد من أرباب الأعمال تشغيل أي من حملة ورقة التسوية المؤقتة خشية “وجع الرأس”، على حدّ تعبيره.
وقد يكون ذا دلالة كبيرة أن أصادف في أسرتين صغيرتين أربعة عاملين في القطاع العام وعضوين سابقين في الأجهزة الأمنية والعسكرية، وما يعنيه ذلك من تشابك الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ودور الطائفة العلوية خلال فترة الحكم الأسدية المديدة، وتعقيد الأوضاع التي ورثتها سوريا ما بعد الأسد.
وخلال النقاش، تحدّث أفراد الأسرتين عن أعداد مهولة من القتلى خلال المجازر الأخيرة بقناعة تامة، تصل في بعض الأحيان إلى ٣٠ ألف قتيل، رغم عدم وجود أية أرقام موثّقة لغاية الآن صادرة عن أي من المنظّمات الحقوقية المحلية والدولية تتجاوز حاجز الألفي ضحية.
ماذا بعد؟
إن كان الإحساس بالاستهداف والتمييز مشتركاً بين جميع من تحدّثت معهم، فإن الحلول المقترحة لما حدث والتوجّهات المستقبلية لهم كأفراد، اختلفت من شخص لآخر، فعلاء مثلاً دعا إلى محاسبة جادّة وحقيقية لمرتكبي الانتهاكات، معتبراً أن العلويين “مدّوا أيديهم للدولة” التي عليها أن تجمع السلاح من الجميع، وأن تقوم بوظائفها وواجباتها لأن “الناس لم تعد تمشي بالطريق من الخوف”.
بيد أن المحاسبة ليست الكلمة الأكثر شيوعاً بين العلويين عند النظر إلى ما قد سيأتي، في مقابل صعود لافت لمفردتين شاعتا بين أوساط سورية أخرى في سنوات الثورة، وهما “اللجوء” و”الحماية”، من دون أن يفتح الاستخدام المتكرّر لهذه المصطلحات الباب لإعادة تفكير عميق بما جرى في البلاد ما بعد العام ٢٠١١، حيث تكرّرت على ألسنة من قابلتهم عبارات تشير إلى مسؤولية بشار الأسد الحصرية عما جرى، وعدم الرغبة في إجراء مراجعات أو نقاشات مسؤولة، بشأن عمليات القتل الجماعي والتهجير والتجويع التي شهدتها البيئات الثائرة على النظام السابق.
تقول هدى بوضوح إنها تريد حماية دولية “حتى لو أتت من طرف إسرائيل”، رغم أن خطاب النظام البعثي السابق جاهر بمعاداتها لعقود، ورغم أن نظام الأسد كان جزءاً من “محور الممانعة”، وهي الدولة التي سبق للسوريين أن خاضوا معها حروباً كبرى، والتي ما تزال تحتل قسماً من الأراضي السورية، ولم تتوقف عن شنّ غارات جوّية على مناطق في طول البلاد وعرضها قبل سقوط نظام الأسد وبعده، كما سبق لناشطين سوريين في سياق الثورة، أن تظاهروا في آذار/ مارس في عام ٢٠١٢، تحت عنوان “التدخل العسكري الفوري”، حيث طالبوا بفرض حظر للطيران وإقامة منطقة عازلة.
بدورها، لا تمانع ميساء دوراً خارجياً لحماية العلويين، وإن كانت تخشى تدخّلاً دولياً يقتصر على مناطق الساحل “دون تأمين حياتنا في دمشق”، أما فيما يتعلّق بالهجرة فلا تتأخّر في تقديم إجابة قاطعة وفورية: “أي فرصة تطلّعني برا البلد لن أتردّد باغتنامها”، وهو ما تذهب إليه هدى كذلك: “هاجسنا الآن البحث عن دولة تستقبلنا كلاجئين”.
ويرحّب مهيار “بأي حل، سواء كان الهجرة أو الحماية الدولية”، مشدّداً على أنه لم يفكّر في ذلك مسبقاً، وأنه كان يأمل في البقاء في بلده وعيش “حياة كريمة” قبل أن يصبح الوضع “مأساوياً”.
لا تغيب نبرة خيبة الأمل العميقة عن حديث رولا أسد، التي تشير إلى أنها باتت تتردّد بقول اسمها علناً، وإلى إحساسها بالمرارة من أن كل نشاطها المدني والصحافي خلال الثورة وقبلها لا يشفع لها، ضاربة مثلاً بما حصل مع الناشطة المعارضة والمعتقلة السابقة خلال الثورة هنادي زحلوط، التي فقدت ثلاثة من أشقّائها بعملية إعدام ميداني.
درج
——————————
“غرفة استخباراتيّة” في الأردن بالتعاون مع الشرع لمواجهة “داعش”/ رنا الصبّاغ
27.03.2025
تتّفق الدول المشاركة على ضرورة التعاون لمكافحة تنظيم “داعش”، عسكرياً وأمنياً وفكرياً مع تصاعد التهديدات، من خلال تبادل المعلومات الاستخبارية بطريقة ممنهجة.
تستعدّ المملكة الأردنية لاستضافة غرفة عمليات أمنية إقليمية على أراضيها، بمشاركة تركيا وسوريا والعراق ولبنان، لتشكيل آلية لمحاربة “تنظيم الدولة الإسلامية” في سوريا، بعد رصد تحرّكات لإعادة هيكلة التنظيم الذي استغل فرار الأسد والفراغ الأمني لإعادة التموضع في المنطقة، كما انتشر تسجيل نسب إلى التنظيم فيه تحذير للإدارة الجديدة في سوريا، وتنبيهات حول شكل الحكم الذي ستتبعه “الفصائل”.
هذه الغرفة الاستخبارية العسكرية والمخابراتية، ستشكّل جزءاً من محور تصدٍّ وقائي يشمل دول الطوق مع سوريا، التي يعمل قادتها الجدد على بناء منظومة عسكرية واستخبارية، بعد حلّ المؤسّسات السابقة، لضمان الأمن والاستقرار وصدّ احتمالات إقدام التنظيم على أعمال إرهابية داخلياً وخارجياً.
مهامّ “الغرفة الاستخباراتية”
تتضمّن استراتيجية الغرفة وضع آليات تقسيم المهمّات من خلال تبادل المعلومات الاستخبارية والأمنية، بين دول الجوار السوري المرتعبة من إمكانية عودة نشاط “داعش”، وهذا ما أكّدته خمسة مصادر دبلوماسية وأمنية مطّلعة على الملف، تحدّثت إلى “درج” بشرط عدم كشف هوياتها لحساسية الموضوع.
المصادر الخمسة رفضت تحديد مكان الغرفة داخل المملكة المحاذية لجنوب سوريا على امتداد 375 كيلومتراً، كما أحجمت عن تحديد موعد إطلاق الخليّة أو مصدر/ مصادر تمويلها وهيكليتها التنظيمية، لكن سيعمل فيها ضبّاط جيش ومخابرات من تركيا والأردن ولبنان والعراق وسوريا.
تُحاكي الاستراتيجية قيد الإعداد أيضاً، سيناريوهات محتملة للتعامل مع حاضر ومستقبل المنطقة في حال عاد تنظيم “داعش” للظهور، خصوصاً مع عدم وجود عدد دقيق للمقاتلين في البادية السوريّة، وتلويح قوات سوريا الديموقراطيّة بعد سقوط الأسد، بإمكانية فرار بعض العناصر من مخيمي الهول وروج، حيث يعتقل آلاف من مقاتلي التنظيم وعائلاتهم، وازداد هذا الخطر بعد إعلان ترامب إيقاف تمويل USAID ما أضعف تمويل المؤسسات المسؤولة عن حماية المخيمات وتأمينها.
تتمحور الاستراتيجية أيضاً، حول هيكلية تنسيق أمني استباقي ضد “داعش”، في حال اندلعت فوضى، وإذا فشل النظام السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع في ضبط الأمن والأمان، وتمثيل مكوّنات البلاد جميعها، وبخاصة الكرد.
المصادر أشارت أيضاً إلى لقاء قادة ومديري مخابرات الدول الخمس، الشهر المقبل في تركيا، لوضع اللمسات الأخيرة على المخطّط.
الدواعش في سوريا
على الرغم من دحر تنظيم “داعش” ، لكن ما زالت خلايا نائمة منتشرة في البادية السوريّة، إذ وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان نحو 200 هجوم للتنظيم عام 2024، قتل فيها أكثر من 600 شخص.
غالبية القيادات والهياكل الرئيسة لـ”داعش”، تتمركز في سوريا وليس العراق، رغم أن العراقيين يشكلّون نسبة في هرمية قياداته، وينتشر التنظيم المسلّح في البادية السورية وأرياف دير الزور والرقّة وحمص.
يُشير تتبّع نشاط التنظيم، إلى أنه أعاد هيكلته حتى قبل سيطرة الشرع وحلفائه على دمشق، بعد خلع نظام الأسد بين ليلة وضحاها، واستهدف قوات “قسد” الكردية، وتشكيلات النظام السابق وميليشيات مرتبطة بإيران.
إضافة إلى العناصر المسلّحة، تشكّل عائلات وأطفال الدواعش المحشورين في مخيمات الهول والباغوز مصدر تهديد آخر، وأزمة دبلوماسيّة- دوليّة، بسبب رفض العديد من الدول الأوروبية استعادة مواطنيها ومحاكمتهم على أراضيها، علماً أن بينهم نساء وأطفال يواجهون مستقبلاً مجهولاً.
وخلال الأسابيع الفائتة، تسلّلت عناصر أخرى من السجون والمخيّمات الخاضعة لسيطرة “قوّات سوريا الديمقراطية” خارج المخيّم، فيما تستمرّ قوى الأمن الداخلي في إحباط محاولات هروب مقاتلين وعائلاتهم.
وتخشى دول الإقليم من عودة “داعش” لاقتحام السجون، مستغلّاً الفوضى الأمنية على غرار هجمات 2022، على سجن غويران في الحسكة، حيث لا عدد واضح للمساجين الذين هربوا من مصادر مستقلة بعد المعركة التي قتل فيها نحو 100 سجين وعشرات من قوات سوريا الديموقراطيّة..
فكرة المركز
طرحت تركيا الفكرة على الأردن، خلال زيارة كسر جليد قام بها وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي برفقة رئيس هيئة الأركان المشتركة ومدير المخابرات العامة، بعد شهر على سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر.
تلك الزيارة استهدفت فتح حوار يقلب صفحة الماضي المتوتّر، ويشقّ طرقاً للاتفاق على التحدّيات الاستراتيجية لأمن البلدين وسائر المنطقة، بعد إزاحة نظام الأسد الذي وقف ضد “داعش”، وحقّق حداً أدنى من الاستقرار لدول الجوار، بحسب المصادر.
في السنوات الأخيرة لم تتعاون الأجهزة السيادية في تبادل المعلومات، بسبب عدم الثقة في الأجندات السياسية المتباعدة بين تركيا والأردن، بحسب مصدرين، أحدهما أمني، والآخر دبلوماسي.
وفي اجتماع لاحق في عمّان مطلع آذار/ مارس، أقنعت عمّان أنقرة باستضافة “الخلية الأمنية”، وضمّ الاجتماع وزيري خارجية الأردن وتركيا مع وزراء الدفاع ورؤساء هيئات الأركان ومديري أجهزة المخابرات. أعقب المسار الثنائي، اجتماعات موسّعة لمناقشة الموضوع مع نظرائهم في سوريا والعراق ولبنان.
أحد الدبلوماسيين يقول إن “الأردن الذي استضاف الاجتماع الخماسي بعد اللقاء الثنائي، وجد نفسه في وضع قوي لانتزاع ربح ملموس يتمثّل في استضافة غرفة العمليات المشتركة”.
يصبّ ذلك في محاولة الأردن وغالبية دول “الاعتدال العربي السني”، لإبعاد دمشق عن فلك أنقرة في المشهد الجديد، الأهمّ في المعادلة قيد التنفيذ أن الأردن لا يرتبط بأدوات التأثير الإيراني الأمني والسياسي في المنطقة كما العراق ولبنان.
لكنّ دبلوماسياً يمثّل أحد الأطراف المشاركة في المشروع، يشكّك في فرص نجاح المبادرة بقيادة الأردن وتركيا، لأنها قائمة على تكتيك مرحلي وليس استراتيجي، وهناك تاريخ بين الأردن وتركيا وسوريا والعراق من أخذ موقف علني واحد، ثم العمل سراً ضد بعضهم بعضاً.
كما أن العلاقات بين سوريا والعراق حيث تُسيطر إيران على المشهد السياسي، تستعيد عافيتها، لكن الشكوك مستمرة لأن طهران تُعادي نظام الشرع الذي أزاح نفوذها في دمشق، ناهيك بتهم موجّهة إلى طهران بالمسؤولية عن محاولات عدّة لزعزعة نظام الشرع.
يرى الدبلوماسي ذاته في مقابلة مع “درج” أن “التوافق بين المصالح المختلفة لن يدوم، إذ إن الزواج بين هذه الأطراف مبنيّ على أساس مصلحي، لأن الاستقرار والأمن لا يزالان على المحكّ، ولا أحد يعرف مستقبل الحكّام الجدد في سوريا، وشكل البلاد” المنقسمة عملياً بين مناطق ذات غالبية سنية ودرزية وعلوية وكردية.
القافلة تسير رغم المخاوف
تتّفق الدول المشاركة على ضرورة التعاون لمكافحة تنظيم “داعش”، عسكرياً وأمنياً وفكرياً مع تصاعد التهديدات، من خلال تبادل المعلومات الاستخبارية بطريقة ممنهجة.
هناك انقسام في المواقف حول التعامل مع مساجين وأسر “داعش” كأفراد، والجهة التي ستؤول إليها مهمّة الإشراف عليهم. الأردن لا يريد استعادة مواطنيه وتقديمهم للمحكمة. تركيا لا تريد بقاءهم تحت إدارة “قسد” التي تشكّل مصدر تهديد لتركيا، بحسب المصادر. وعلى الأرجح سيتمّ وضع السجون والمنشآت تحت إدارة الحكومة الجديدة في حال استطاعت تثبيت أركان حكمها، ناهيك بعرقلة الدول الأوروبية عودة مواطنيها الموجودين في المخيّمات، وتركهم لمصير مجهول.
ستُطرح الخطّة المتكاملة وآليات العمل حين الانتهاء منها وإقرارها، على الولايات المتحدة الأميركية لكسب تأييدها، قبول واشنطن مهمّ لإنجاح الخطّة، بخاصة أن الإدارة الجديدة لم تُبلور بعد موقفاً نهائياً للتعامل مع الشرع، بحسب المصادر.
دبلوماسي ثالث يقول إن الإدارة الأميركية الجديدة، لم تسمِّ بعد غالبية الشخصيات التي ستُشرف على الملف السوري، وسط مخاوف من سحب قوّاتها من سوريا والعراق، للتركيز على الشأن الداخلي، بل قال أحد المصادر الدبلوماسية لـ”درج” بوضوح: “لغاية اليوم تنخرط أميركا أمنياً مع الشرع وتتجاهله سياسياً”.
مصالحات مرتقبة
بإنهاء حالة العداء مع حزب “العمال الكردستاني” النشط في سوريا، قد تنفتح أنقرة على “قسد”؛ حلفاء واشنطن في جهود مكافحة الإرهاب، بذلك يمكن توسيع المبادرة الإقليمية لتشمل الفصائل الكردية المسلّحة في العراق وسوريا، التي لديها خبرة واسعة في محاربة “تنظيم الدولة الإسلامية”، حال قوّات أحمد الشرع.
بعد مجازر الساحل السوري، وقّع الشرع مع قائد قوّات “قسد” مظلوم عبدي اتفاقاً يقضي بدمج المؤسّسات الأمنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية الكردية في إطار الدولة السورية الجديدة. تطبيق الاتفاق لن يكون سهلاً، بخاصة أنه جاء بضغط أميركي مباشر وليس لرغبة لدى الموقّعين.
الولايات المتحدة تقود التحالف الدولي ضد “داعش” بمشاركة 77 دولة عربية وأجنبية، ومنذ إطلاقه في 2014، ساهم التحالف الدولي مع القوّات العراقية في انتزاع سيطرة التنظيم الإرهابي على المناطق التي انتهكها في العراق وسوريا.
غرفة التنسيق المزمع إنشاؤها، غير مرتبطة بخليّة استخبارية غربية أخرى تقع على مشارف عمّان، وستكون مكلّفة بجمع المعلومات حول تحرّكات “داعش” وأخواتها وتحليلها ومشاركتها مع التحالف الدولي.
فوائد مشتركة
قبول الخطة دولياً يحمل قيمة استراتيجية مضافة للأردن، الذي يشترك بأطول حدود مع سوريا، وتركيا أيضاً التي تلعب دوراً أساسياً في سوريا الجديدة.
يقول أحد الدبلوماسيين إن استضافة غرفة العمليات، تمنح عمّان فرصة لرسم دور جديد كضامن لأمن المنطقة واستقرارها، وصدّ لـ”داعش” في حال انسحبت أميركا من سوريا، كذلك في حال انقلبت إدارة ترامب على الأردن، وأوقفت دعمها المالي والاقتصادي والعسكري الحيوي لاستقرار المملكة، إذا لم يؤيّد صفقة دونالد ترامب لحل القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار.
في الوقت ذاته، تعزّز أنقرة دورها كقوّة إقليمية ضد “داعش”، من خلال المبادرة، من دون أن تجلس خلف المقود، وتخلق هلعاً بين دول كبيرة في نواة التحالف الدولي، بعضها يشكّك في حقيقة دور تركيا بالاستناد إلى تهم سابقة لها، بمساعدة “داعش” على التحرّك والعبور بين سوريا والعراق.
إضافة إلى ذلك، تتّهم تركيا بتسهيل تحويل الأموال لدعم الجهاديين في سوريا، بما يُخفي تتبّع مصدرها ووجهتها النهائية، لكن تركيا نفت تلك المزاعم مراراً.
كما تساعد الغرفة الشرع في كسب شرعية دولية عبر دخول إدارته في مشروع إقليمي لمواجهة “داعش”، بالإضافة إلى جهود الدعم الاستخباري الثنائي بين الإدارة الجديدة ومؤسسات سيادية غربية، وفي حال استقرّ الوضع في سوريا، بإمكان عمّان وأنقرة المشاركة في تدريب قوّات نخبوية في الجيش الجديد قيد التأسيس لمحاربة “داعش”. خصوصاً أن خلفية الشرع وطواقمه السلفية الجهادية الخبيرة في لوجستيات التنظيم الإقصائية ومداخله ومخارجه، تُساند الجهد العربي والدولي لمحاربة “داعش”.
كما تمتلك الإدارة الجديدة في سوريا خبرة أيضاً في رصد مواقع انتشار تنظيم “داعش” وطرق تمويله، منذ تمدّده في سوريا والعراق مطلع العقد الماضي، قبل انكفائِه تحت مطرقة تحالف عربي دولي ضد الإرهاب.
في المقابل، ثمّة قلق في الإقليم حيال الوضع الهش والمتقلّب في سوريا، خطر وقوع مخزونات أسلحة متقدّمة في أيدي إرهابيين، وتخشى دول المنطقة والغرب من تحوّل هذا البلد النازف إلى حاضنة جديدة للإرهاب أو الانتقام.
الأمم المتحدة تؤكّد هذه المخاوف، إذ ذكر المسؤول الأممي فلاديمير فورونكوف قال إن الوضع المتقلب في سوريا “يثير قلقا كبيراً” وأضاف” أن منطقة البادية السورية مازالت تستخدم كمركز للتخطيط العملياتي الخارجي لداعش ومنطقة حيوية لأنشطته”، ونوه إلى أن “42,500 فرد، بعضهم له صلات مزعومة بتنظيم داعش، لا يزالون محتجزين. ويشمل ذلك 17,700 مواطن عراقي و16,200 مواطن سوري، فضلا عن 8600 مواطن من بلدان أخرى”.
درج
——————————-
سوريا والتجربة الألمانية/ محمد برو
2025.03.27
في 8 مايو 1945، دخل قرار استسلام القوات النازية حيز التنفيذ، معلنًا نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث خرجت ألمانيا من هذه الحرب مدمَّرة في بنيتها التحتية والعسكرية والصناعية، وبعدد هائل من الضحايا، واقتصاد لا يقوى على النهوض.
وفي 8 ديسمبر 2024، انهار نظام بشار الأسد بهزيمة مدوية أدهشت الغالبية العظمى من المتابعين، وخلف الأسد بعد فراره بلدًا منهكًا مدمَّرًا يعشعش الفساد في كل ركن من أركانه، وبخزينة مركزية لا تكفي لإنارة شوارع دمشق لأسبوع واحد.
علاوة على بنية اجتماعية وإنسانية متهتكة، قد فعلت فيها سنون الحرب أسوأ أفعالها، حيث خلّف هذا النظام عبر حرب مدمرة شنها على الشعب السوري بشكل ممنهج مئات الآلاف من القتلى والمختفين قسريًا، وعشرات الآلاف من المعاقين، ومئات الآلاف من الشباب المدمن على المخدرات والفساد بشتى صنوفه.
خرجت ألمانيا من الحرب وهي مقسمة إلى أربع مناطق نفوذ: أميركية، روسية، فرنسية، وبريطانية، ثم ما لبثت أن انقسمت إلى شطرين: شرقي وغربي.
انجلى مشهد السقوط الأخير لنظام الأسد عن سوريا مقسمة إلى عدة مناطق نفوذ، لم تتوحد بعد في قبضة السلطة الجديدة، إضافة إلى انتشار الفصائل المسلحة غير المنضبطة، وشيوع السلاح خارج سيطرة الدولة، الأمر الذي خلق بيئة فاسدة لتفشي الانتقام والجريمة بمختلف أنواعها.
حظيت ألمانيا وسائر أوروبا بمشروع مارشال لإعادة الإعمار، بينما تنتظر سوريا الجديدة رفع العقوبات التي ستفتح بوابة المعونات اللازمة وتتيح للاستثمارات الأجنبية والعربية الدخول إلى الأرض السورية البكر التي تحتاج إلى جميع أنواع الاستثمارات، والتي تعد بعوائد ربحية مغرية. في التجربة الألمانية، كانت هناك إرادة دولية، وأميركية بالمقام الأول، لإعادة إعمار أوروبا وألمانيا على وجه الخصوص، بينما تصطدم الرغبات الدولية والعربية المعلنة اليوم بقرار العقوبات الأميركي، والذي كان من المفترض أن يُشهَر في وجه نظام الأسد المجرم، بينما هو اليوم مسلط على رقاب السوريين الأبرياء والفقراء.
فوق كل هذا، هناك ضغط إسرائيلي وإيراني ومن دول أخرى لإعاقة إعادة الإعمار في سوريا، الأمر الذي لم تعانِ منه ألمانيا بعيد الحرب العالمية الثانية. في ألمانيا، قامت الدولة الوليدة بتطبيق سياسة محاربة النازية ومحو آثارها في المجتمع الألماني.
أما في سوريا، فهناك تغوّل سرطاني لأنصار النظام السابق يهيمن على جميع مفاصل المؤسسات الحاكمة والخدمية بشكل مثير للسخرية، حيث تجد الآلاف منهم يمتلكون أكثر من وظيفة في أكثر من مؤسسة في آنٍ واحد، مما أسهم بشكل مريع في تفتيت الاقتصاد الوطني والإخلال بتوزيع الدخل بين الموالين والصامتين، بينما لم يكن للمعارضين وجود إلا في المنافي أو المقابر أو المعتقلات.
كذلك عمدت الحكومة الألمانية إلى سلسلة من الإجراءات التي تحاكي، بمصطلحات اليوم، ما يُسمّى بالمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، فقد قدمت محاكم نورمبرغ، التي كانت بقيادة وإشراف الحلفاء، عشرات الضباط من مجرمي الحرب النازيين إلى المحاكمات، وتمت إدانة كثيرين منهم ومعاقبتهم بما يتناسب مع حجم جرائمهم. في مضمار التعليم والثقافة، حاربت كل ما يمتّ إلى المفاهيم النازية والتاريخ النازي والرموز النازية، وجرّمت تداولها أو الدفاع عنها.
واليوم، ومع أهمية تطبيق هذه المقاربة من عدالة متأخرة ومحدودة، ستصطدم القرارات التي ستُصدر بهذا الخصوص بمقاومات من أطراف سورية ما تزال تدافع عن مجرمي الحقبة الأسدية، بل يتطاول بعضهم بشكل مذل ليطالب باعتبار القتلى الموالين لنظام الإجرام والإبادة “شهداء” شأنهم شأن الضحايا، وهذا ما لم يقله أحد في تاريخ الجريمة والانحطاط.
سيكون للتعليم وتوجيهه في هذا الخصوص معركة أخرى بين مؤيدين ومعارضين، ولكن لن تتعافى سوريا، ولن تختفِ الاحتقانات الطائفية بين طائفة الأسد وعصاباته وطائفة السوريين الضحايا ما لم تأخذ العدالة الانتقالية مجراها. وإن التغاضي عن جرائم بعضهم سيشرّع لأهالي الضحايا الانتقام فرديًا ممن قتل واغتصب ونهب واعتقل، وهذا باب كبير للخراب والفساد إن تُرك على عواهنه. وستكون من أولويات المهمة والمسؤولية التعليمية والإعلامية التركيز على الحقوق والمواطنة كمعيار وحيد للنظر إلى أي سوري من أي منبت كان، وبناء قيم الحرية والعدالة، وتمكين دور المجتمع المدني، لأنه الأقدر والأقرب لعموم السوريين، ولأنه في الغالب يحمل رسائل إيجابية تستنهض الهمم والقيم والعمل من أجل الآخرين.
قامت ألمانيا في السنوات التالية للحرب بسلسلة واسعة من الإصلاحات السياسية والقانونية، كانت بمنزلة الرافعة والداعمة لتبني اقتصاد السوق، الذي أسهم بشكل سريع وكبير في نهضة ألمانيا الحديثة وتصدرها، في زمن قياسي، قائمة الدول الاقتصادية الأولى في العالم. واليوم، أمام السوريين تحدٍّ كبير في السير على نهج مقارب يُحدث تغييرًا سياسيًا واقتصاديًا وقانونيًا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الممكنات المتاحة أمام سوريا وإدارتها السياسية محكومة بالإطار العربي، وأنظمته ذات الهوامش المحدودة في الحريات، والتي لن ترحب بأي نظام يتجاوز محدودياتها وأطرها المرسومة، وفي قدرة الشعب على ممارسة دوره الرقابي الذي يحمي الدولة والسلطة من الشطط والتغوّل.
لدى سوريا جملة من الموارد، في مقدمتها الزراعة، وبعض المعادن، وطرق العبور الدولية، وربما مستقبلًا خطوط الغاز العابرة، والتي تُشكّل بمجملها رافعة مساعدة في تعافي الاقتصاد السوري وتحركه نحو الاستقرار في مستقبل قريب. كل هذا يُغري الكتل المالية لدى دول صديقة، ورجال أعمال سوريين وعرب، بالمغامرة باستثمارات تعد بالنجاح، إن حُصّنت بحزمة من القوانين الداعمة.
كل ما سبق قوله يعتمد بالدرجة الأولى على تصدير عاجل لقوانين تساعد على التعافي السريع، وصولًا إلى دستور تستقر عليه البلاد، وعلى صيغ وممارسات تشاركية في جميع مفاصل السلطة والحكم تنصف المقصيين القدماء وتطمئن الآخرين. وإن كان هذا صعب المنال إلى حدّ كبير، فإن انتزاع الامتيازات ممّن كانوا يحوزونها باطلًا – وهم كثيرون إلى درجة مخيفة – نذير برفض عنيف واضطرابات ربما شهدنا بعضًا منها في الأسابيع المنصرمة. وتبقى المهمة شديدة الوعورة، لا بد معها من تحمّل آلام التغيير البطيء حُكمًا وضرائبه، فـسوريا والسوريون اليوم ينهضون من دركات الهاوية السوداء.
تلفزيون سوريا
————————–
إلى عُمَر الحَمد.. المُهم أن تنتمي سوريا إِليك/ مضر رياض الدبس
2025.03.27
كلُّ ما أعرفه عن عُمَر الحَمد هو ما كَتَبَهُ إليَّ في رسالةٍ قصيرة، خَفيفة الظل على الفيسبوك، قال فيها إنه شابٌ من دير الزور، تُعجبه كتاباتي، وترك في الرسالة نفسها سؤالًا من نوع الأسئلة المُدهش الذي يُغري المرءَ على التفكير، وطَلَب مني رأيًا فيه. السؤال بتعبيرات عُمَر هو الآتي: “كوني شخصًا مُغتربًا، غادر الوطن منذ الطفولة بسبب ظروف الحرب، برأيك، هل تزيد الغربة من الشعور بالانتماء إلى الوطن أم لا؟”
إذا جاز لي أن أقول رأيًا شخصيًا، أبدأ بالقول إن جلُّ ما كنت أفعله بالكتابة في الموضوع السوري، هو محاولة مستمرة في أن أضع سؤالًا صحيحًا، يُمهِّدُ لسؤالٍ آخر، مؤمنًا أن هذا يؤدي إلى بناء خط سياسيٍ وفكري. واعتقدت دائمًا أن فنَّ بناء السؤال أهمُّ من الإجابات، لأن السؤالَ الصحيح في الزمان الصحيح، يُوجِّهُ جُهودَنا كلَّها إلى البحث عن الإجابات المُفيدة، والدقيقة، ويسهم في امتلاك مشكلاتنا، وهذه المُلكيَّةُ كانت الأهم في المرحلة السابقة (ولا تزال)؛ فكنت أشعر دائمًا أن على السوري في هذه الأيام أن يُجاهد كي لا يُفكِّر نيابةً عن الآخرين، وأن يمتلك مُشكلاته بدقة؛ فمشكلات دول الإقليم لا تعنيني عند الكتابة عن سوريا، إلا بالقدر الذي تؤثر فيه في سوريا، ومشكلات العالم كذلك الأمر، ومشكلات الأيديولوجيات، مثل القومية العربية، والقومية الكردية، والأممية البروليتارية، والأمة الإسلامية، وغير ذلك.
كتبت لعُمر، بعد أن اختبرتُ مُتعةَ السؤال الذي اهتدى إليه: “إنّه سؤالٌ مدهش”، وهذا كان شعوري بحق. لقد رأيت أن عُمَر اشتغل في منطقة الأسئلة المُفيدة، في الزمان الملائم، وأبدع. ما كنت أعنيه بـ “المدهش”، أنه سؤالٌ متقدِّمٌ ومتفوقٌ، وفي زمانه الملائم، هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى، أنه مثالٌ أنموذجي للقدرة على امتلاك مشكلاتنا. قلتُ لعُمَر يومها إنني أعده بالتفكير في السؤال، ولكن لا أعده بالإجابة، وكنت، بوعدي له، أعد نفسي أيضًا ألَّا أحرمها متعة التفكير في سؤالٍ مدهش كهذا. أردت أن يكون سؤالُ عُمَر المُبدِع موضوعَ تفكيرٍ في سوريا الجديدة الآن، وهو سؤالٌ لا يزال ينتمي إلى حزمةِ غير المفكر فيه بدقةٍ؛ ففي حدود علمي لم نفكر كثيرًا في الانتماء، ولم نقترب كثيرًا من مجموعة الأسئلة التي تدور في فلك هذه المقولة المُكثفة دلاليًا (مقولة الانتماء). وأيضًا مسألة أخرى مُهمة، وهي أن سؤالَ عُمَر المدهش، يضعنا أمام الحقيقة المختبئة في وضوحها، وهي أن هذا البلد يعمل الآن بنصف طاقته السياسية، فنصف أبنائه الناجين موزعون بين مريضٍ ومقيمٍ في الخارج، هذا إن افترضنا أن الفقراء لديهم القدرة الكاملة على العمل السياسي في مثل هذه الحالات.
بدأ عُمَر سؤاله بـ “هل”، قال: “هل تزيد الغربة الانتماء”؟ وربما أرادَ إجابةً واضحة بنعم أو لا. ولكن رأيتُ أن أُبَّدِل التمرين قليلًا، باستخدام أداة الاستفهام “كيف”: كيف ننتمي إلى سوريا؟ ثم كيف ينتمي إلى سوريا شابٌ ترك البلد واغترب، في بداية الحرب، وأكثر ما كان يأتي من هذا البلد أخبارُ المجازر والتعذيب والموت؟ أتصور عُمَر الآن شابًا في مقتبل العمر بعيدًا يراقب الفرح، والأمل، والألم، والذكريات، والصراعات، والتجاوزات، والنقاشات، والتنظيرات، والعفو، والانتقام، وكل هذا المشهد السوريالي الذي يأتيه بوساطة الشاشات، ووسائل التواصل الاجتماعي؛ فكيف ينتمي؟
ثم تمرينٌ آخر: مَن ينتمي إلى سوريا؟ ومَن انتمى إليها أصلًا منذ 14 عامًا، أو منذ 54 عامًا؟ لا تعني “مَن” هنا شخصًا بعينه، أو مجموعة أشخاص بعينهم، بل تعني الـ “مَن” أن نُوسّع مساحة التفكير أبعد من ماهية الانتماء، التي تبدأ بسؤال الـ “ما هو”، إلى الـ “مَن”: مَن هو المُنتمي، لأن كلًا منّا ينتمي على هواه وبطريقته، فتصير الـ “من” أفضل وأدق.
ومجموعةٌ أخرى من الأسئلة التي يصنعُها سؤالُ عُمَر المُدهش: متى ننتمي؟ هل وجودنا في المكان شرطٌ للانتماء؟ ثم كيف ينتمي البعيدون، اللاجئون؟ لماذا يجب أن ننتمي؟ هل حقًا علينا أن ننتمي؟ والأهم، ماذا لو لم ينجح البعيدون كلُّهم في الانتماء، وخصوصًا الشباب الصغير منهم؟ الشباب كانوا أطفالًا في 2011، لا يعرفون من الحكاية السورية إلا أن أحدًا بدأ بقتل أصدقائهم، ودمَّر بيوتَهم، ومدارسهم، وقتل آبائهم، ولذلك فإن سردية الثورة لا تنتمي إليهم.
لنجعل الأمور بسيطة أكثر، سأحكي الحكاية الآتية، كي نتخيلها ونعيشها. لو أن طفلًا يعيش سعيدًا، مستقرًا، في بيتٍ جميلٍ، ثم فجأةً شهد البيتُ جرائم قتلٍ، وشهد الطفل دمًا، ثم نجا، وتدبَّر أمرَ رحيله من البيت، وذهب مع الناجين للعيش في مكانٍ آمن. هناك وجدَ حياةً جديدة، وربما دعمًا نفسيًا، وبدأ مسيرة حياته في التعليم واللعب مثل بقية الأطفال العاديين، إلى أن صارَ شابًا. وفجأةً قيل له إن المجرمين رَحلوا، وأن البيتَ آمنٌ، وهو لك مرةً أخرى. يجعله هذا الخبر يشعر بسعادةٍ كبيرة لهزيمة المجرمين، وقد يشعر يشيءٍ من العدالة أيضًا، ويحتفل لذلك، ولكن مع نهاية الاحتفال تعود به الذاكرة إلى هذا البيت الأول: ويسأل هل أستطيع فعلًا العيش في هذا المكان مرةً أخرى، هل يمكن أن أعيش في مسرح الجريمة، حتى وإن كان آمنًا وأنا متأكدٌ أن المجرمين لن يعودوا، وأن آثار الدماء زالت، وأن البيتَ صار نظيفًا، وأننا نصبغ جدرانه من جديد، ونُغيِّر أقفال الأبواب، وشكل الشبابيك، وما إلى ذلك.
في الحقيقة، مع كل الترميم، لن يعيش الإنسان العادي في هذا البيت إلا مُكرهًا، فالنفوس المكسورة لا تُرمم قريبًا من مسارح الجرائم. سيُفضِّل العيشَ مع من نجا من العائلة، لكن في بيتٍ جديد، لا يُذكِّرُهُ ولا يَضغط على نفسه، ويعذبها، وينبش فيها الألمَ. ما أردت أن أقوله بوساطة هذه الحكاية هو أن بناء سوريا الجديدة (نقصد البناء سياسيًا، بطبيعة الحال) لا يكفِ للشعور بالانتماء في حالة عُمر، بل ما يحتاج جيلُ عُمَر إليه هو بناء سوريا من جديد. وثمة فرقٌ كبيرٌ بين الأمرين، ففي حالة سوريا الجديدة، يكون الجديد بالنسبة لمن شهد حضور المجزرة، مُعرَّفًا بدلالة قديمٍ من النوع المكروه عندهم، ومن النوع الذي يعرفون أنَّه سببُ غيابهم (القسري أو الإرادي)، وأي جديدٍ لا يستحق اسمه إلا بموجب مقارنة بهذا القديم، وهذا لن يقنعهم بشيء، لأنه يتضمن بالضرورة ذكرى لا يريدون سماعها، أو حضورها في مستقبلهم مرةً أخرى. بعبارةٍ أخرى: هم جاهزون لتقبُّل فكرة وطنٍ من جديد، وهم لم يفعلوا شيئًا في غربتهم أكثر من تطوير هذه الموهبة. وأما التجديد، والترميم، فلن يعني لهم شيئًا على مستوى الانتماء. أتصور لن يقنعهم إلا شيءٌ ينتمي إليهم بالمعنى السياسي، وهذا أهم من أن ينتموا هم إليه، وسابق على ذلك.
بالمختصر: لن ينتمي عُمَر إلَّا إلى سوريا تنتمي إليه، ومُعرَّفة بدلالته، وبدلالة دافعه الداخلي الذي جعله يُسائِل انتماءه إلى سوريا في غربته. يعني ذلك بُمجمله أن سوريا، إن أرادت أبناءَها من جديد، ينبغي أن تكفَّ عن تأسيس نفسها بوصفها دولة قومية على غرار الدول الأوروبية في مرحلةٍ سابقة، بل أن تعني شيئًا على غرار الولايات المتحدة وكندا، حيث لا تعني مقولة القومية شيئًا في مراحل التأسيس، وحيث من المُمكن أن يصير المرءُ أميركيًا بسرعة، مثلما حدث مع المُفكِّرة الألمانية حنة أرندت التي لجأت إلى فرنسا هربًا من هتلر، ثم إلى الولايات المتحدة. في فرنسا سألت صديقةً لها: كم يحتاج المرء ليصير فرنسيًا؛ فأجابتها صديقتها: جيلين أو ثلاثة. وأما في الولايات المتحدة فالموضوع مختلف، ويصير المرء أميركيًا بسرعة، لأن البلد ببساطة قد أسسه الآباء المؤسسون من جديد من دون قومية.
لنفكِّر في المسألة كالآتي: الوطنُ منهلٌ ضروريٌ للإنسان كضرورة الماء للخيل. أي أن ضرورته وظيفيةٌ، ما دام موجودًا، ووجوديةٌ ما دام مسلوبًا، أو جافًا غيرَ صالحٍ. وقولٌ آخر يكتمل به هذا القول، وهو: لا يكون الوطنُ منهلًا، ما لم ينهل منه جمعٌ من الناس؛ فالمَنهل يأخذ صفته من العطاء، ولا يكون إن لم يُعطِ؛ فكينونته في العطاء، أو لا يكون كما هو. والعطاء لا يعيش وحيدًا، بل لا يكون إلا بالتزامن مع الأخذ، ومن دونه يصير نياتٍ طيبة، لا محل لها في الواقع؛ فالوحدة بين البشر وأوطانهم كالوحدة بين الخيل والمناهل: هي مرتعٌ خصيب لكينونة كلٍ منهما، ومن ثم هي حرية كلٍ منها ورسالة وجوده. ولا يتم الاستقلال الذاتي (استقلال الإنسان، واستقلال الأوطان) إلا بهذه الوحدة، بوصفها تكاملٌ بين العطاء والأخذ.
ولنتقدّم أكثر في تحديد ماهية هذا النوع من الوحدة الوطنية، نتوقف قليلًا عند صورةٍ فلسفيةٍ إبداعيةٍ نظمها أبو العلاء المعرّي.
يقول: “إذا اشتاقت الخيلُ المناهلَ أعرضت عن المَاءِ فاشتاقت إليها المَناهلُ”.
يضعنا أبو العلاء الجميل في مساحةٍ مفهومية أخرى، هي “الشوق”؛ فالخيل إذا اشتاقت إلى المناهل أعرضت عن الماء، وإذا أعرضت الخيل عن الماء (عن الوِرد) ستشتاق إليها المناهل، فهي مناهلٌ لأن خيلًا تنهل منها. ومن دون هذا “الأخذ”، تفقد اسمها الذي تستحقه بفعل العطاء. وشوق كلٍ منهما إلى الآخر هو شوقٌ إلى ذاته أيضًا، وإلى أن يمارسَ فعلًا يستمد وجودَه منه. فهو شوقٌ إلى الذات، ولكن التعبير عنه يتم بشوقٍ إلى الآخر، أو يُترجَم حبُّ الذاتِ والشوقُ إليها بحبِ الآخرِ والشوقِ إليه. فالمناهل تشتاق إلى ذاتها، وتُعبِّرُ عن هذا الشوق بالشوق إلى الخيل، لأنها معنى وجودها مرتبطٌ بأن تُعطيه الماء. هذا الشوق هو التعبير الأمثل عن التكامل الذي يؤدّي إلى الاستقلال، وهو نوعٌ من الحب أيضًا. هذه هي علاقة البشر بالأوطان: تكاملٌ بالاستقلال، وشوقٌ كشوقِ الخيل إلى المناهل. وما الانتماء إلا هذا الشوق المُتبادل.
لنتمعّن بهذه الصورة أكثر: يزدادُ الشوقُ إلى الذي يكون بعيدًا عنَّا، فتشتاقُ الخيلُ إلى المنهل عندما لا تُدرِكه، أي هي بشوقها له تشتاقُ إلى ما فيه، وإلى الذي يُعطيه، تَشتاق إلى فِعلها المدموج بكينونتها: وهو أن تنهل منه. هي، بعبارة دقيقةٍ، تشتاق إلى الحميمي الذي بينهما. وما أن تشتاق إليه، حتى يدرك هو الآخر أنه لن يكون من دون أن يعطيها، فيشتاق إلى ذاته شوقًا إليها، لأنها هي التي تجعل منه شيئًا موجودًا، أو نقول إنها تُصيّرهُ كينونة.
الزمان السوري الآن زمانُ الانتماء بموجب هذا الاشتياق، وفيه لن تكون سوريا إلا بوجود هذا النوع من الاشتياق: شوقٌ إلى ذواتنا التي لا نجدها إلا به، شوقٌ وجودي لأجل الحياة، وليس غراميًا لأجل الصبابة. هو اشتياقنا إلى “الحميمية الوطنية”؛ فالوطنية سهلة التحصيل في أي مكان، لكن الحميمية لها شكلٌ سوري فحسب، هي، باعتقادي، الدافع الذي يقبع خلف سؤال عُمر، وسببه.
ولنسأل أنفسنا إذًا: إذا كانت الخيل تنهل الماءَ من المناهلِ، ومن هذا النَهل تنبثق كينونةُ كليهما؛ فما الذي ننهله من الوطن، لكي نكون ويكون؟ أو ما هو ماء الوطن الذي نشتاق إليه، ويشتاق إلينا الوطنُ إذا أعرضنا عنه؟ ما هي الحميمية الوطنية؟
تستند فكرة الوطن الحميمي إلى فكرة الحرية، وتستند الأخيرة إلى الاختلاف؛ فالحميمية الوطنية هي الوسط (الـ “ما بين”)، حيث يقيم الحضوران: حضورُ البشر، وحضورُ الوطن، أحدهما من أجل الآخر ومن خلاله، ولا ينصهران انصهارًا من شأنه أن يضيع فيه كل شيء، بل يشكلان وحدةً (حيث يمكن للحميمي أن يكون). وتظهر حميمية الاقتران في هذا المِفصَل: مِفصَل الـ “ما بين”: أي في الاختلاف. وللاختلاف هنا المعنى الأعظم والأهم، لأنه مادة الوسط الذي، نحوه ومن خلاله، يكون الوطنُ والبشرُ حالةً واحدة. ولذلك، الاختلاف هو ماء الوطن الذي نشتاق أن نشربه. وبالاختلاف تكتمل ماهية الوطن بوصفه وطنًا، وبه يكتمل تفتح الإنسان بوصفه إنسانًا، وبالاختلاف يتمفصل البشر بالوطن. هكذا لم يعد الاختلاف تمييزًا بين موضوعات مختلفة كما نقوّمها في تصوراتنا، أو تمييزًا بين كردي وعربي، أو إسلامي وعلماني، أو بقارة وشعيطات؛ ولم يعد سببًا للكراهية كما نراه اليوم، بل هو مادة الإنسان والوطن والجماعة. هو الذي يجعل الأفراد والجماعات والأوطان تكون (بما للكينونة من وجودٍ، وبما فيها من معانٍ للوجود). وتتعدى مقولةُ الاختلاف مقولةَ التمايز، لأنها بعدٌ مهم من أبعاد الوطن والجماعة على حدٍ سواء. تأسيس سوريا من جديد يعني تأسيسها على أساس هذا الاختلاف.
نعود إلى المعرّي الجميل، واستنادًا إلى تفكيره الرائع في البيت السابق، يمكن أن نقول: إذا اشتاقت الناس إلى الأوطان، أعرضوا عن تدبير الاختلاف، فتشتاق إليهم الأوطان.
ولك عزيزي عُمر، إن شئت، أن تُكمل هذا النسق في التفكير، ولكن كن حذرًا؛ فالمعرّي ما إن بدأ هذا النمط من التفكير حتى دخل في خانة التكفير! والتكفير في زماننا ليس بالضرورة أن يكون إسلاميًا كما يُقال، بل في الأغلب لن يكون كذلك، ولكنَّه سيكون تكفيرًا أيديولوجيًا. وفي هذا السياق أقول لك: إن الانتماء للوطن يعني بالضرورة كُفرًا بالأيديولوجيات كلها؛ فالحميمية يصنعها العاديون، وهم غير المؤدلجين.
بهذا النص السريع، أقول إنني بدأت بتنفيذ ما وعدتك به: التفكير في سؤالك. وكما قلت لك: لا أعد أنني سأجد الإجابة عنه، ولكنِّي قد أقول لك مُجيبًا بحذر: لن تنتمي يا عُمَر إلى سوريا إلا إذا نجح السوريون بأن يجعلوا سوريا تنتمي إليك: أي أن تُعرِّف البلدُ ذاتَها بدلالتك أنت، وبدلالتي أنا، وبدلالة كلِّ إنسانٍ عادي فيها مثلنا. لذلك، عش حياتك، وانتمي إلى حيث أردت، فليس مُهمًا أن تنتمي أنت إلى سوريا في غربتك، المهم أن تنتمي سوريا إليك.
تلفزيون سوريا
———————–
حول مرحلة اقتصادية انتقالية في سوريا/ د. عبد المنعم حلبي
2025.03.27
بقيت سوريا منذ ثلاثة عقود تعيش حالة من التخبط والضبابية طويلة الأمد في السعي لتحديد الهوية الاقتصادية للدولة، وتحديد النهج الاقتصادي المعتمد مع القطاع الخاص والسوق ودورهما في الاقتصاد الوطني، وبالنتيجة مع المجتمع ككل، بما فيه مؤسساته المدنية بأنواعها المختلفة.
الإدارة السورية الجديدة أعلنت عن نيّتها باعتماد اقتصاد السوق الحر، ولكن من الواضح أن إنجاز هذا النظام ضمن الحالة السورية يتطلب شبكة معقدة من الخطط وبرامج العمل وآليات التنفيذ والتقييم والمراقبة، ويلقى ممانعة مرتبطة بمخاوف ومخاطر الوقوع في الفوضى والفساد واسع النطاق.
ولتخفيض تلك المخاطر والمخاوف الأخرى، يتطلب العمل على وضع مقاربة ونهج اقتصادي واضح ومتدرج في المبادئ والأهداف وآليات العمل، وذلك بما يتوافق والنظرية الاقتصادية، وفي إطار مرجعية قانونية كافية، وأيضاً بكل ما يتعلق بوسائل التنفيذ على الأرض، بما يسهل على الدولة والقطاع الخاص وأطراف السوق ومؤسسات المجتمع المدني التحرك وفق خريطة طريق واضحة، وصولاً إلى ترسيخ هوية اقتصادية حرة محددة ومُنظَّمة وقابلة للاستمرار.
ولأن تحقيق ذلك يتطلب جهوداً وتمويلاً ودعماً وإرشاداً مؤسساتياً دولياً وإقليمياً ووطنياً هائلاً، ويتطلب حتماً فترة زمنية قد تمتد لأكثر من عقد، قد لا يمكننا اختصارها على حساب عدم حشد وتوظيف ما يلزم لتأمين وصول آمن ومتدرج بالدولة والمجتمع والسوق إلى حالة النظام الاقتصادي الحر الفاعل والفعال، فإنه يمكننا هنا أن نطرح فكرة سحب صفة الانتقالية المطبقة في الإطار السياسي إلى الإطار الاقتصادي أيضاً، لنحاول تقديم طرح عملياتي، وبما يسمح به المقام، بعيداً عن الوقوع في حلقة مفرغة من التنظير والجدليات المثارة وتوقعات ردود الأفعال الاستباقية، بحيث نفترض أن يصبح المطلوب عملياً لإدارة الاقتصاد الوطني خلال السنوات القليلة المقبلة هو مجموعة من المبادئ والقواعد، يتم بها رسم هوية اقتصادية مؤقتة، استرشادية، ترتكز عليها عملية تمرير القوانين المنسجمة مع استراتيجية التحول الاقتصادي، وصولاً لإصدار وتطبيق القرارات التنفيذية لأية وزارة أو مؤسسة عامة أو شركة.
ولتكون أيضاً بمنزلة نقاط علاَّم للقطاع الخاص في تفاعله الإيجابي مع جميع تلك القوانين والقرارات، وإبراز ملامح دوره الريادي المُخطط له، وربما اختباره وتقييمه أيضاً. وهي بطبيعة الحال نوع من المبادئ المرجعية التي يمكن الاستناد إليها من قِبل مؤسسات المجتمع المدني في تمثيل مصالح مختلف الشرائح الاجتماعية، والدفاع عنها، والمساهمة في تقديم المساعدة للشريحة أو الشرائح الأكثر احتياجاً وتأثراً خلال عملية التحول.
هذه المبادئ والقواعد لا بد أن تُبرِزَ دور الدولة الاقتصادي باعتبارها دولة الرعاية والقانون، التي يجب عليها -كما نؤكد مراراً- أن تقف مع مواطنيها، وتكون حاضرة معهم في حياتهم المعيشية، بالعمل على تأمين الخدمات العامة في التعليم والصحة والكهرباء والمياه، بأسعار تتناسب مع المستويات العامة للدخول.
وتعمل على تأمين تكافؤ فرص العمل وفق متطلبات التحصيل العلمي والمهارات العملية، وتكفل حقوقهم الأساسية في التأمين والضمان الاجتماعي.
وتعمل على حماية المستهلك من عمليات الغش والاحتكار، ومراقبة تدفق مختلف السلع والخدمات بالأسعار المتناسبة مع الجودة، وتكفل حماية المُنتَج المحلي الذي يمتثل منتجوه لمعايير الجودة، وتطبيق قوانين العمل وتأدية المستحقات الضريبية. ببساطة هي مبادئ وقواعد شرعية الدولة وسيادتها الداخلية في الإطار الاقتصادي.
القطاع الخاص والذي ستكون المرحلة الانتقالية مرحلة تجريبية لمدى قدرته على لعب دور الريادة في الاقتصاد الوطني، سيكون هو المسؤول عن تطبيق آلية عمل السوق، بمراقبة حكومية ومن مؤسسات المجتمع المدني، مع احترام تام لقواعد المنافسة الحرة. كما ينبغي له أن يلعب دوره في دعم الحكومة والمجتمع، مقابل الاستفادة من المزايا الجمركية على مستورداته والضريبية على أرباحه وصادراته. حيث يتم وضع قواعد واضحة لتقييم الدور الاجتماعي لمختلف المؤسسات والشركات الخاصة في إطار دعم الأنشطة المجتمعية والبلدية بأنواعها، وكذلك الدعم المباشر لمؤسسات المجتمع المدني بالتنسيق مع الجهات الحكومية المختصة.
أما بالنسبة للمبادئ والقواعد التي يُفضل على مؤسسات المجتمع المدني الالتزام بها فهي تلك التي ستغطي الفضاء البعيد عن إمكانات الحكومة ومساهمات القطاع الخاص، ولا ينبغي على الإطلاق أن يلعب دوراً منافساً لهما، فيما يتعلق باستقطاب المهارات والكفاءات النوعية، أو المزاحمة على التمويل الأجنبي. ولكن يُمكن للأحزاب والنقابات والمؤسسات الإعلامية ومراكز الأبحاث أن تُعطى كامل الحقوق الاقتصادية والتسهيلات بالاستثمار وتقديم الدعم الاجتماعي، ضمن ضوابط النظام العام وحماية أمن الدولة والمجتمع.
وعلى نطاق السياسات الاقتصادية، فإن العمل على تحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي يقتضي –مبدئياً- تثبيت سعر صرف الليرة السورية ضمن الأمدية المنظورة والمتوسطة، ومواجهة التضخم عبر سياسة نقدية انكماشية بمعدل فائدة توازني مرتفع، وسياسة مالية توسعية من جانب العرض عبر تخفيض النسب الضريبية، لكن مع السعي الجاد لتأمين العدالة الضريبية، والعمل على إعادة توزيع الدخل، سواء من خلال مساهمات القطاع الخاص المجتمعية التي تحدثنا عنها، أو من خلال العمل الحكومي المباشر في برامج مكافحة الفقر، وتمويل مُيسَّر للمشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر، وتوجيهها بالدرجة الأولى لمشاريع الترميم وإعادة التأهيل السكني، ثم لمختلف المهن والحرف المحلية وصغار الكسبة، ولا سيما المشاريع الشبابية.
أما التمويل المتوسط فيمكن أن يكون مُركَّزاً على دعم المشاريع الزراعية، وكذلك مشاريع الصناعات التحويلية التي تعتمد على مدخلات زراعية وطنية، سواء عبر المصارف العامة أو في إطار المصارف الخاصة التقليدية والإسلامية، مع العمل على توسيع العلاقة الخاصة مع مجموعة البنك الدولي بتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
ويُفضل أن يتم توجيه كل أشكال التمويل الوطنية والخارجية إقليمية كانت أو دولية إلى المشاريع ذات الكثافة العالية لليد العاملة لتخفيض معدل البطالة، بينما تكون المشاريع الكبرى ممولة ذاتياً، بما فيها المشاريع الناتجة عن خصخصة مؤسسات وشركات عامة، على أن تكون المشاريع الكبرى محصورة ضمن صيغة الشركات المساهمة المغفلة العامة، في إطار قانونين عصريين للشركات والاستثمار، يقضيان نهائياً على أي مظاهر بيروقراطية، ويمكن أن يُحصر لصالحها مجال الاستثمار السكني والتطوير العقاري، وكذلك الاستثمار في البنى التحتية بإشراف وتعاون مع المؤسسات الحكومية والبلدية، وتحت إشراف هيئة عامة لإعادة الإعمار.
قد يُلاحظ أن المبادئ الأساسية المشار إليها قريبة من مبادئ نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي، وهذا أمر طبيعي، كمرحلة اقتصادية انتقالية، إلا أن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن قواعد العمل المقترحة على مستوى السياسات الاقتصادية النقدية والمالية والتمويلية والتجارية، هي افتراضية ومبررة اقتصادياً على مستوى كل قاعدة على حده، من حيث الغاية والأثر وفق الإمكانات المتاحة ومبدأ الأولويات الاقتصادية، إلا أنها تبقى في إطار المقترحات القابلة للدراسة والبحث على مستوى التطبيق المتزامن والكلي لها، وهي بطبيعة الحال قواعد قابلة للتغيير وفق النتائج الاقتصادية المتحققة على الأرض، وكذلك التطورات المتلاحقة بخصوص عودة اللاجئين، وتدفق استثمارات السوريين، وواقع الدعم الخارجي، وبالتأكيد ودائماً تطور ملف العقوبات الأميركية، ولا سيما عقوبات قيصر. أما عن طريقة اعتماد هذه المرحلة الاقتصادية الانتقالية وفق هذه المبادئ والقواعد أو غيرها، فلا بد أن يتم بصيغة تشريعية مناسبة، حيث يجب وضعها من قبل لجنة تشريعية اقتصادية خبيرة ومختصة أكاديمياً، ومناقشتها وإصدارها في إطار المجلس التشريعي المؤقت المُنتظر. كما يمكن إلحاقها بتعليمات تنفيذية وزارية بإشراف لجنة اقتصادية حكومية، وتحت رقابة المجلس التشريعي واطلاعه.
تلفزيون سوريا
—————————–
أي حكام دمشق السابقين يستلهم الشرع تجربته؟/ مصطفى الأنصاري
بعد أن شكلت أزمة “الساحل” اختباره الأول في دمشق… مسؤول أميركي “إما أنه ممثل بارع أو أن لديه شخصية كالإسفنجة تمتص التجربة والسياق” وتعمل وفق ما يتطلب الموقف
الأربعاء 26 مارس 2025
في التاريخ الإسلامي يضرب المثل بـ”شعرة معاوية” للدلالة على الدهاء السياسي والقوة الناعمة. معاوية بن أبي سفيان أول خلفاء بني أمية، حكم من دمشق (661-680م) مستخدماً المفاوضات والتحالفات والتكتيكات الدبلوماسية لتوطيد سلطته في ظل انقسامات حادة بعد الفتنة الكبرى. كان معاوية رمزاً للقائد الذي يفضل السيطرة عبر الذكاء والمرونة، متجنباً المواجهات المباشرة كلما أمكن، كما في تعامله مع الحسن بن علي لتجنب حرب أهلية جديدة.
في المقابل، يشار إلى “سيف يزيد” كرمز للقوة الخشنة والعنف الحاسم. فيزيد بن معاوية هو الخليفة الأموي الثاني (680-683 م)، أيضاً من دمشق اشتهر باستخدام القوة العسكرية لقمع الخارجين على حكمه، كما في واقعة كربلاء ضد الحسين بن علي، وفي هجومه على المدينة المنورة “موقعة الحرة”. رغم إرثه العريق كجزء من الخلافة الأموية، فإن أسلوب يزيد العنيف جعله مثار جدل، معتمداً على الحسم بدلاً من نهج والده الذي اتسم بالمرونة والحكمة، على ما أثاره خروجه على الخليفة علي بن أبي طالب من جدل وسجال بين المدارس الإسلامية حتى اليوم.
أحمد الشرع الذي يقود سوريا اليوم من دمشق يجمع بين هذين الرمزين في مسيرته. في ماضيه كـ”أبومحمد الجولاني” كان أقرب إلى “سيف يزيد”، حيث قاد “جبهة النصرة” بقوة عسكرية صلبة، مستخدماً الهجمات الانتحارية والتكتيكات الجهادية لمواجهة نظام الأسد. لكن مع صعوده إلى الرئاسة بعد ديسمبر (كان الأول) 2024، بدأ يتخذ نهج “شعرة معاوية”، معتمداً على الدبلوماسية والعلاقات العامة، والوعود بالعدالة الانتقالية لتوحيد سوريا وكسب التأييد الدولي.
“مفكر منهجي” أو ممثل بارع
وتقول الدبلوماسية الأميركية بربرا ليف التي كانت أول السياسيين الدوليين الذين قابلوه مباشرة في دمشق “وجدته مفكراً منهجياً للغاية مع درجة عالية من البراغماتية”، وأضافت أنه لم يتضح بعد إلى أي مدى لا تزال خلفيته الجهادية تشكل آراءه كزعيم لبلد محرر حديثاً يبحث بشدة عن الاعتراف والدعم الدوليين. وتضيف “إما أنه ممثل بارع أو أن لديه شخصية كالإسفنجة تمتص التجربة والسياق الذي يشكل البيئة الأوسع وتعدل تفكيره وفقاً لذلك”.
ظن كثر أن الزعيم السوري الجديد تجاوز مرحلة الاختبار الصعبة، إلا أن انتفاضة الساحل السوري مطلع مارس (آذار) بتحريض من فلول نظام الأسد والأحداث المريعة التي شهدتها مدنه ضد قوى الأمن المحسوبة على دمشق وبعض الأبرياء الذين راحوا ضحية انتقام الخارجين عن القانون، كل ذلك أعاد الحديث عن شخصية الشرع وقدره الذي أحوجه إلى أن يكون دائماً لاعباً بسيفين في وقت واحد، بشعرة معاوية وسيف يزيد ابنه.
إذ رغم مواجهة قواته الانتفاضة بصرامة بالغة، سريعاً ما تلفت إلى الآثار الدولية الإنسانية التي أججت الغضب الدولي ضده، وهو النادي الذي بالكاد يتقبله، فتدبر صفقة سريعة مع الأكراد في الشمال ووقع اتفاقاً مع “قسد”، على نحو لربما فاجأ حتى مجلس الأمن الذي عقد جلسة سرية بدعوة أميركية- روسية بهدف التنديد بأحداث الساحل ضد العلويين، إلا أن بيان الجلسة تأخر كثيراً، وجاء مخففاً كثيراً عما كان يعتقد في بداية الأمر، بفضل الصفقة التي أطفأت نيران الغضب.
“مسك العصا من النصف”
وتشير صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن الشرع يظهر عبر تاريخه كشخصية مزدوجة. في مرحلته الأولى كقائد هيئة تحرير الشام، يعتمد في بعض محطاته على القوة الخشنة، حيث سيطر على إدلب بالقوة العسكرية وأطاح الأسد عبر هجوم عسكري خاطف.
لكن تحول الشرع إلى رجل دولة يرتدي البدلات الرسمية، ويسعى لإقناع العالم بديمقراطية محتملة حتى وإن كان الإعلان الدستوري الذي كشف النقاب عنه أخيراً مدد الفترة الانتقالية لخمسة أعوام وخلا من أي إشارة لمحاسبة الرئيس، فإنه يعكس جانباً من البراغماتية والدهاء السياسي الذي يتعامل به مع التحديات على طريقة “مسك العصا من النصف”، أو شعرة معاوية، سلفه الأول في حكم دمشق، الذي كان دهاؤه مضرب الأمثال.
زيارته إلى السعودية في فبراير (شباط) الماضي للقاء ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، واستقباله وفوداً من أوروبا والولايات المتحدة وروسيا، تظهر قوة ناعمة تهدف إلى إعادة ضبط علاقات سوريا الإقليمية بعيداً من محور إيران. تنظيمه “مؤتمر حوار وطني” ودمج الفصائل في جيش وطني يشبه تكتيكات معاوية في بناء التحالفات لتجنب الصراعات الداخلية.
في المقابل كان سلفه بشار الأسد الذي حكم سوريا منذ 2000 حتى سقوطه في ديسمبر 2024، مثالاً معاكساً مع تنشئته في بيت حكم ودراسته في الغرب، فقد ورث دمشق كمركز قوة إقليمية، لكنه فشل في لعبة التوازنات التي أدارها والده، عبر التوفيق بين نهج معاوية ويزيد، مما أفقده الحكم وجعله منبوذاً من شعبه.
في البداية، حاول الأسد تقليد معاوية إذا صح التعبير عبر تحالفات مع إيران و”حزب الله” مع اتصال خجول بجواره العربي، معتمداً على دبلوماسية القوة الناعمة للحفاظ على نظامه، لا سيما عند الاستجابة لقرار أممي دفعه لسحب قواته من لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري 2005. لكنه، مع اندلاع الاحتجاجات في 2011 لجأ إلى “سيف يزيد” بقمع وحشي، مدمراً مدناً مثل حلب وحمص، من دون مرونة لاحتواء المعارضة، أو استجابة لمطالب الإصلاحات التي نصحته بها أطراف مقربة وأخرى إقليمية ودولية.
هذا الاختلال جعل الأسد عاجزاً عن الحفاظ على التوازن الضروري لبلد محوري مثل سوريا، التي تقع على مفترق طرق جيوسياسية وحضارية. فشله في استخدام القوة الناعمة لكسب تأييد شعبه، أو القوة الخشنة بذكاء لضبط الفوضى، أدى إلى عزلته دولياً وانهيار نظامه أمام هجوم الشرع. في المقابل، يدرك الشرع أن التوازن بين السيف والشعرة ليس رفاهية، بل ضرورة لقيادة سوريا في منطقة مضطربة ومجتمع دولي يراقب بحذر.
“معاوية الشرع” يواجه اختباراً
التطورات الدولية تضع الشرع في موقف يتطلب توازناً بين السيف والشعرة. التوغلات الإسرائيلية في جنوب سوريا، واستفزازات الدروز، فضلاً عن “داعش” الذي يعلن مناصبته العداء، كلها تستدعي رداً حاسماً قد يدفعه لاستخدام “سيف يزيد” للدفاع ذات يوم عن السيادة كما فعل في الساحل، لكن اعتماده على الدعم الغربي والخليجي لرفع العقوبات وإعادة الإعمار يجبره على نهج معاوية الناعم، عبر تجنب تصعيد عسكري قد يغضب حلفاء محتملين مثل الولايات المتحدة، التي لا تزال تصنف جماعته إرهابية، رغم تسهيلها الوفاق مع “قسد”.
علاقته بالسعودية تظهر هذا التوازن بوضوح. تحالفه مع الرياض التي ترى فيه بديلاً لنفوذ إيران يعكس دهاء معاوية في استغلال الخصومات الإقليمية. لكن إذا فشل في ضبط الفصائل المتمردة أو طمأنة إسرائيل، قد يضطر إلى العودة إلى أسلوب يزيد، مما يعرض شرعيته الدولية للخطر.
وقد قال لمجلة “الإيكونوميست” في مقابلة نشرت هذا الشهر الماضي “إذا كانت الديمقراطية تعني أن الشعب يقرر من يحكمه ومن يمثله في البرلمان، فإن سوريا تسير في هذا الاتجاه، نعم”، في إشارة إلى أن رهانه على الشرعية في حكم دمشق مرهون بعوامل متداخلة، إلا أن تعاطيه مع تلك العوامل قياساً بتاريخه الشخصي تظهر قدراً عالياً من المرونة حتى في مواد الدستور الذي لم يختلف كثيراً عن الدساتير العربية الأخرى، فهو لم يعط الإسلاميين ما أرادوا وهو الحكم القطعي بالشريعة الإسلامية، ولا العلمانيين والأقليات ما ينشدون من القانون المدني الصرف.
التحديات الداخلية تعكس هذا التناقض أيضاً، فتوحيد الفصائل المتنوعة يتطلب قوة يزيد لفرض الانضباط، كما في إعلانه دمجها في جيش وطني، لكنه يحتاج إلى مرونة معاوية لإرضاء العلمانيين والإسلاميين على حد سواء. مخاوف الأقليات (العلويين والمسيحيين) من هيمنة إسلامية تستدعي نهجاً ناعماً لتهدئتهم، لكن أعمال العنف الطائفي المبلغ عنها قد تدفعه لاستخدام القوة الخشنة للسيطرة مجدداً، مما يعزز تلك المخاوف.
اقتصادياً، الاعتماد على الدعم الخارجي يجعل الشرع أقرب إلى معاوية، حيث يحتاج إلى مفاوضات دبلوماسية لرفع العقوبات وجذب الاستثمارات. لكن إذا تأخر هذا الدعم، قد يضطر لفرض سياسات قاسية داخلياً، مما يعيدنا إلى أسلوب يزيد.
تحريك الإرث الدمشقي
مثل معاوية ويزيد، يرتبط الشرع بدمشق كمركز لسلطته بوصفه أحد أبنائها، ويستمد شرعيته من إرث ديني وسياسي. كمعاوية، يسعى لتأسيس نظام جديد في ظل فوضى ما بعد الحرب، وكيزيد يواجه تحديات تتطلب الحسم. لكن في عالم اليوم، حيث الديناميكيات الدولية والإقليمية معقدة، يحتاج الشرع إلى أكثر من سيف أو شعرة، يحتاج إلى إبداع مزيج جديد يناسب سوريا القرن الـ21.
من المفارقات أن صعود الشرع يتزامن مع إعادة إحياء سيرة معاوية في مسلسل ضخم تبثه قناة “أم بي سي” السعودية في 2025، يصور معاوية كأحد ملوك العرب العظام، وهو الذي جعل دمشق عاصمة عالمية، وهو ما يبدو متوازياً مع طموح الشرع لإعادة بناء سوريا كدولة حديثة، استهل عصره فيها بالصلاة كالفاتحين في الجامع الأموي، مما يعني أن استلهام التجربة الأموية حاضر في ذهنه، أكثر من بقية التجارب الإسلامية المتعددة الأخرى.
هذه المفارقة تضيف بعداً رمزياً لصعود الشرع، فبينما يعرض معاوية على الشاشات كبطل تاريخي، يحاول الشرع تطبيق دروسه عملياً في دمشق، مدعوماً من السعودية ودول عربية وغربية عدة، ترى فيه أداة لمواجهة إيران، باستثناء إسرائيل التي بدا أن وصول الشرع إلى حكم سوريا أوقعها في الفخ، فهي لم تطرد إيران من حدودها ليحل فيها نظام، جربت مثله في غزة، على حد قول المحللين الإسرائيليين.
وفي هذا الصدد سألت “اندبندنت عربية” الباحث السوري حسام جزماتي الذي تخصص في دراسة الشرع، فعد أن مخاوف إسرائيل لا تزال شديدة من جماعة الشرع، ولذلك فإن بناء الثقة معها قد يكون أهم شيء تحتاج إليه دمشق. ويضيف، “تل أبيب لا يبدو أنها ترى الشرع في حد ذاته مشكلة وإنما الذين معه من ذوي الخلفيات الجهادية، لا يمكنها الثقة بهم”.
تغيرت ولاءات الشرع مرات عديدة خلال الحرب. جاء إلى سوريا من العراق بدعم من “داعش”، لكنه انفصل عن الجماعة لاحقاً. تعهد الولاء لـ”القاعدة” قبل أن يعلن انفصاله عنها أيضاً في 2016. جماعته الأصلية، جبهة “النصرة”، قاتلت وحاربت وحلفت مع متمردين آخرين على مر السنين وأعادت تسمية نفسها مرتين، لتصبح “هيئة تحرير الشام” في 2017. منذ ذلك الحين، ركز الشرع على حكم شمال غربي البلاد وقمع المتطرفين الذين يعتقد أنهم يخططون لهجمات خارج سوريا.
“تمسكه بالبقاء مخيف”
ونقلت “نيويورك تايمز” عن عروة عجوب، وهو مرشح دكتوراه في جامعة مالمو في السويد يدرس “هيئة تحرير الشام”، أن تاريخ الشرع يشير إلى أنه لم يسترشد بمعتقدات صلبة بقدر ما كان سعياً وراء السلطة. “لقد تغير كثيراً، وهو صادق في هذا التغيير”، قال عجوب “من ناحية، هناك براغماتية مشجعة تعطيك بعض الأمل. لكن من ناحية أخرى، المسافات التي هو مستعد للذهاب إليها للبقاء في السلطة مخيفة”.
ولا يختلف كثيراً في هذا التقييم عن جزماتي الذي سألته “اندبندنت عربية” عن تقييمه لتوجهات الشرع وهو الذي تتبع خطواته في التنشئة وإلى العراق والسعودية حتى إدلب وبعد ذلك دمشق، فقال “الشرع الذي يراه الناس هو نفسه الشخص الحقيقي، وليس يمثل. الرجل يريد السلطة، ومستعد لتقديم أي شيء يمكنه منها. لكنه ذكي يصعب خداعه دائماً”، في إشارة إلى أنه يصعب توريطه في لعبة أجنبية ظاهرها أنها تمكنه ولكنها تطيحه.
ومع أن نقاشات مجلس الأمن الأخيرة أظهرت تذمر الروس من تعاطي النظام الجديد في دمشق مع تركة الأسد في الجيش والموظفين، إلا أن الطرف الذي يرى محللون سياسيون مثل السعودي هشام الغنام أنه الأكثر جدية في إفشال تجربة الشرع هو إسرائيل “فتل أبيب ومن والاها ما تركت باباً ولا طريقاً في واشنطن إلا سلكته للتحريض على الحكم الجديد في سوريا وإفلاسه وعزله عن العالم، ما أيضاً يلتقي مع مصالح المحور الإيراني”. أما روسيا فإنها أبدت المخاوف من تكرار تجربة العراق في سوريا حين سرح الأميركيون الجيش العراقي، مما يفتح الباب لفوضى تخرج البلاد عن السيطرة.
وكان بعض الفارين من الانتهاكات في الساحل السوري، لجأوا إلى القاعدة السورية في طرطوس، مما جعل موسكو شاهدة عن قرب الفواجع الإنسانية، التي أعادت إلى السوريين والمجتمع الدولي جرائم الأسد. غير أن النظام الجديد تعهد التحقيق ومحاسبة المتورطين مهما كان انتماؤهم.
مع خروج سوريا من تحت أنقاض الصراع، فإن مستقبلها هي والشرع الذي يحكمها يعتمد على الكيفية التي سيعبر بها حقل ألغام الضغوط الداخلية والخارجية. والاختبارات الحالية لن تحسم فقط مستقبل البلاد، بل أيضاً مكانها في الشرق الأوسط الذي يخضع لإعادة ترتيب عميقة.
ويرجح تحليل مجلة “منارة” الصادرة عن كامبريدج البريطاني أن مسار سوريا نحو عصر جديد “لا يبدو مختلفاً عن ماضيها المروع، بالنظر إلى الاضطرابات الهائلة والتحديات المعقدة التي لا تزال تواجهها”، وأن الأعوام المقبلة هي التي ستحدد ما إذا كانت قادرة على تحويل نفسها بصورة مثمرة إلى لاعب إقليمي أكثر استقراراً ونشاطاً، أو ما إذا كانت ستظل مقيدة بظل تاريخها العنيف.
“الساحل” ليس التحدي الأكبر
وفي هذا السياق يقر المحلل السياسي السوري غسان إبراهيم في حديث مع “اندبندنت عربية” أن الوضع في سوريا معقد للغاية، وأن “حله ليس سهلاً بسبب تصادم الأطراف وانتشار الكراهية والطائفية”، مشيراً إلى أن هذه المشكلات تحتاج إلى وقت لمعالجتها ولا يمكن التعامل معها بالاستعجال. وأوضح أن الرئيس الشرع يتعامل مع الأوراق الداخلية بهدوء، “إذ يدرك أن التسرع لن يثمر عن نتائج إيجابية، باستثناء ملف الأكراد الذي سارع في التعامل معه لإرسال رسالة واضحة للغرب بضرورة الانسحاب من سوريا وترك الشأن السوري للسوريين”.
وأضاف إبراهيم أن التحديات الأمنية في الساحل “ليست كبيرة نظراً إلى قلة المقاتلين، إلا أن الاستعجال في معالجتها قد يؤدي إلى تسلل جماعات متطرفة وارتكاب جرائم تورط النظام”. كما أشار إلى أن قضية الدروز ليست مقلقة، فهم لا يمتلكون هدفاً انفصالياً ولا قوة عسكرية تهدد الاستقرار، مما يجعل الملف قابلاً للحل التدريجي.
وأوضح المحلل السوري أن التحدي الأكبر يكمن في التعامل مع الملفات الخارجية، بخاصة مع الدول غير المتوافقة مع النظام، إذ إن استمرار العقوبات يؤدي إلى غياب إعادة الإعمار ويثير استياء داخلياً نتيجة عدم تحقيق الوعود بتحسين الوضع الاقتصادي والخدمات. ومن هنا، يركز الشرع على تصفية هذه الملفات الخارجية باعتبارها المفتاح لرفع العقوبات، مما يعكس طبيعة “عقلية الشرع” البراغماتية في إدارة المشهد السوري.
المجلة
————————
إشكالية العلاقة بين السلطة والطائفة العلوية/ أحمد عسيلي
انطلقت الأسبوع الماضي أعمال مؤتمر “بروكسل” لدعم سوريا في إعادة الإعمار، بمشاركة وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، وقد ألقى وزيرنا الإشكالي كلمة أثارت ردود فعل متفاوتة في الشارع السوري، خاصة إشاراته إلى العلاقة بين السلطة وإحدى الأقليات من جهة، وبين الأغلبية والأقليات الأخرى من جهة ثانية. هكذا قالها دون أي تحديد للمسميات، حرفيًا، “فقد أدت 54 عامًا من حكم الأقلية إلى تهجير أكثر من 15 مليون سوري وسقوط مليون شهيد وقمع الأغلبية والأقليات الأخرى على حد سواء”.
اتُهم وزير الخارجية بعدها أنه تبنى تسمية الحكم العلوي لحقبة الأسد (لم يقلها صراحة)، وأنه تخلى عن دوره كوزير خارجية لكل الشعب، وخاطب العلويين (أو بعضهم) كحكم سابق وليس كمواطنين كاملي الحقوق، ليعود إلى السطح نقاش طويل حول هوية الحكم الساقط في سوريا، ومسؤولية الطائفة عنه.
بداية، يجب أن نشير إلى أن إشكالية العلاقة بين الدكتاتور ومجموعته الدينية أو العرقية ليست حكرًا على العلويين فقط، بل جاءتهم كالقدر المحتوم دون أي اختيار من أبناء الطائفة، فوصول شخص ما إلى السلطة واعتماده على “أناسه” قصة مكررة في دكتاتوريات المنطقة كلها، عاشها السنة من أهل تكريت مع صدام، وقبيلة القذاذفة مع معمر القذافي، ودكتاتوريات كثيرة أخرى، بل ربما تكون حالة العلويين أخف هنا، لأن بشار هرب ولم يتابع الصراع من مناطق طائفته كما كان يتوقع الكثيرون (تابعها غيره)، على عكس صدام الذي وجد في جنوب تكريت، والقذافي الذي ألقي القبض عليه بالقرب من سرت مسقط رأسه.
بالعودة إلى الخلاف في تحديد تلك العلاقة، ولفهم أسبابها بشكل أفضل، يمكننا تفكيكها إلى أربعة خيوط متشابكة في هذه القضية، غالبًا ما نخلط عن قصد أو دونه بينها:
الأول هو خيط واقعي حيادي، يستلزم البحث في تلك العلاقة بشكل نزيه من خلال الأرقام والأحداث المجردة، وهي مهمة الدارسين الأكاديميين الذي يجب أن تتوفر فيهم شروط الحيادية لأبعد حد، ويمكننا أن نعتمد على مراكز أبحاث مستقلة من أجل ذلك، وسنطلق على هذا الخيط اسم الحقيقة.
الخيط الثاني هو طريقة عيش السوريين لتلك الحقبة، طريقة نظرتهم لها وذكرياتهم عنها وحولها ونقاشهم لها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم “الحقيقي”، فقد ميز أستاذنا في التحليل النفسي جاك لاكان بين الحقيقة والحقيقي (réal et le réalité la)، وشرح بشكل مسهب الرابطة بينهما، فالحقيقة هي تلك الموجودة خارج إطار الذات، أما الحقيقي، فهو ما تدركه الذات عن الحقيقة، ليصبح حقيقتها هي، تعيشه بكل تداعياتها الحياتية، بمعنى آخر، الحقيقي هو الحقيقة بعد وصولها لذواتنا واستقرارها فيه بشكلها الجديد، وبعد التغيرات التي خضعت لها في الجهاز النفسي، فالنفس البشرية بطبيعة الحال ليست مثالية، ويمكن أن ترتكب الكثير من الأخطاء المعرفية في صوغ حقيقتها، أحيانًا يكون الخطأ المعرفي ناتجًا عن خلل في المعلومات المقدمة لنا (وهي كثيرة في الحالة السورية) وأحيانًا يكون الخطأ في استقرائها نتيجة اضطراباتنا النفسية أو ميلنا الذاتي.
بكل الأحوال، لا يمكننا أن ننكر أن معظم، إن لم يكن جميع السوريين، عاشوا حقبة الأسد كحقبة سيطرة طائفة علوية، هذا الحقيقي (بمعنى real le) الذي عاشه الناس على الأقل، ربما لا تكون الحقيقة (réalité la) إذا أخضعناها للدراسة والتحليل.
لكن فكرة أن الساحل كان الخزان البشري الأكبر لعائلة الأسد هي حقيقة، وأن معارضي النظام السابق كانوا ينالون بشكل عام قبولًا بل واحترامًا اجتماعيًا (وإن كان خفيًا) في كل المجتمعات، بينما يتعرضون للنبذ في المجتمع العلوي هي أيضًا حقيقة.
بالمقابل، فإن وجود عدد كبير من المستفيدين والداعمين لهذا النظام من كل الطوائف هي أيضًا حقيقة، ووجود شبيحة ومجرمين سنة ومسيحيين ومن كل الأطياف أيضًا حقيقة.
أما الخيط الثالث، فهو التداعيات النفسية للموقف من تلك العلاقة، وربما أوضحها هذه الأيام هذا الاستقطاب الطائفي الذي وصل إليه المجتمع حتى طبقة النخبة، ووصل للقطيعة في بعض المراحل، وإحساس الخذلان الذي أصاب الجميع، ومطالبة البعض للطائفة ككل بالاعتذار أو إجراء نقد ذاتي، وإحساس البعض بالغبن خاصة المعارضين العلويين، مع هذه البجاحة التي يتعامل بها بعض المؤيدين السنة وإحساسهم بعدم حاجتهم لأي تبرير أصلًا. كل هذا غيض من فيض تلك التداعيات النفسية، وسنعود إليها كثيرًا في الأسابيع المقبلة.
الخيط الرابع، والأهم في موضوعنا هذا، هو الجانب السلوكي، وخاصة سلوك السلطة، وهو ما يلعب الدور الأهم في استقرار المجتمع، ودفعه لاتباع سلوكيات مماثلة، فمهما كانت الحقيقة التي توصلنا لها، أو حقائقنا التي نعيشها، أو حتى وضعنا النفسي، يجب أن تتعامل السلطة بحيادية مع كل ذلك، وتبقى على مسافة واحدة من الجميع، وتجربة العراق ما زالت ماثلة أمامنا، ففكرة اجتثاث “البعث” والتي كانت بأحد الأشكال اجتثاث السنة من المشاركة في الحكم، كانت بداية الانحدار داخل المجتمع العراقي وبداية انتشار الجريمة ومن ثم الحرب الأهلية، بل يمكننا القول إن هذه السياسة كانت مسؤولة عن ظهور “داعش”، وقد تتبع ذلك بشكل منهجي ودقيق الباحث العراقي فالح عبد الجبار في كتابه “دولة الخلافة، التقدم إلى الماضي” فمعظم قيادات “داعش” هم ضباط سابقون في جيش صدام، لقوا دعمًا أو سكوتًا أو تواطؤًا من المجتمع المحلي نتيجة سياسة الإقصاء التي تعرض لها السنة بعد سقوط النظام، وبالتأكيد نحن لا نرغب بـ”داعش علوية” ولا “أبو بكر بغدادي علوي”، لذلك يجب عدم اتباع نفس سلوك القيادة الشيعية المتطرفة التي تسلمت الحكم بعد صدام.
أعتقد أن الشرع والقيادة الحالية واعية لكل ذلك، وتحاول تجنبه، لكن تبقى مهمتنا كمجتمع تذكير تلك القيادة بضرورة التعامل مع الجميع كمواطنين لهم نفس الحقوق والواجبات، المجرم فقط من يحاكَم وبشكل فردي، وإلا فإن تجارب الشعوب جميعها تخبرنا أن طريق الانتقام الأعمى هو طريق الهلاك التام للجميع.
———————
====================
====================
واقع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا تحديث 27 أذار 2025
تحديث 27 أذار 2025
————————–
لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي
دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وأحمد الشرع
——————————–
اتفاق بين قوات سوريا الديمقراطية وحكومتي بغداد ودمشق لتسليم آلاف من عناصر “داعش”
2025/03/26
أفادت مصادر سورية وعراقية متطابقة لـ”عربي بوست” أن قوات سوريا الديمقراطية، المعروفة باسم “قسد”، توصلت إلى اتفاق مع كل من الحكومة السورية الجديدة وحكومة العراق لتسليم عناصر تنظيم “داعش” من الجنسيتين السورية والعراقية المحتجزين لديها إلى دمشق وبغداد.
وأوضحت المصادر أن مفاوضات تسليم العناصر السورية إلى الإدارة السورية الجديدة واجهت أزمات كبيرة، خاصةً في شهر ديسمبر/كانون الأول 2024، بعد أن رفضت قوات سوريا الديمقراطية تسليم عناصر داعش السوريين إلى دمشق، ووضعت شروطاً لذلك.
لكن بعد نجاح الإدارة السورية الجديدة في إبرام اتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية قبل أسابيع، وأعلن كل من الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع ومظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية، توقيعهما اتفاقاً جديداً، فقد كان ملف داعش من جملة الملفات التي تم الاتفاق حولها، حسب قول مصادر سورية قريبة من “قصر الشعب” لـ”عربي بوست”.
سجون قوات سوريا الديمقراطية
يوجد في شمال شرق سوريا قرابة 27 سجناً تحت إدارة قوات سوريا الديمقراطية، تضم أكثر من 40 ألف سجين من أكثر من خمسين جنسية عربية وغربية، وذلك وفقاً لمصدر سوري يعمل في اللجنة الإعلامية للقوات الكردية السورية.
ويُعتبر سجن “غويران” في مدينة الحسكة أكبر هذه السجون، حيث يضم نحو 5000 سجين، بينهم مقاتلون أجانب من جنسيات متعددة.
وقد أشارت مصادر سورية لـ”عربي بوست” إلى ظهور تطورات هامة في الآونة الأخيرة في الملف الأمني في شمال سوريا، خاصةً في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
إذ تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى الخروج من شمال شرق سوريا، ومن ثم تريد إغلاق ملف داعش بشكل كامل، حتى لا تضطر إلى العودة مجدداً إلى المنطقة للتصدي للتنظيم إذا ما عاود نشاطه مجدداً.
كذلك، فقد شهدت الأيام الماضية ظهور “نشاط ملحوظ لكنه قليل” لبعض عناصر داعش التي استهدفت قوات سوريا الديمقراطية، وهي التحركات التي تخيف قوات سوريا الديمقراطية وتدفعها للتعاون مع الأطراف السورية والعراقية لإغلاق ملف داعش بالكامل.
تسليم داعش للعراق
كانت المفاوضات بين قوات سوريا الديمقراطية والعراق، حسب مصادر عراقية، قد بدأت منذ فترة طويلة، ولم يعيقها شيء رغم الأحداث التي شهدتها سوريا، حيث جرت المفاوضات بين الحكومة العراقية وقوات سوريا الديمقراطية، بوساطة أمريكية، لتسليم معتقلي داعش من الجنسية العراقية إلى السلطات العراقية.
وأسفرت المفاوضات عن تسليم حوالي 3000 عنصر عراقي من عناصر داعش إلى السلطات العراقية خلال شهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 2024.
ومع التقدم في التفاوض بين الطرفين، رعت أمريكا اتفاقاً جديداً بين قوات سوريا الديمقراطية وبين الحكومة العراقية، وذلك خلال الشهرين الماضيين، حيث يقضي الاتفاق الجديد بتسليم 13 ألف عنصر من تنظيم داعش يحملون الجنسية العراقية إلى الأجهزة الأمنية العراقية.
وشمل الاتفاق، الذي لم يقتصر على تسليم عناصر داعش العراقيين فحسب، أطرافاً أخرى، مثل الإدارة السورية الجديدة التي لعبت دوراً مهماً في هذه العملية، حيث شاركت الإدارة السورية الجديدة كأحد الأطراف في التفاوض بين قوات سوريا الديمقراطية والحكومة العراقية وأمريكا.
وتسعى قوات قوات سوريا الديمقراطية إلى تسليم كافة عناصر داعش من الجنسية العراقية إلى الحكومة العراقية، وفق المصادر العراقية التي تحدثت لـ”عربي بوست”. وقد أشارت المصادر إلى أن سجن غويران هو أحد أكبر السجون في شمال شرق سوريا، وبه آلاف السجناء من العراقيين الذين ينشطون في تنظيم داعش.
قالت المصادر إن السلطات العراقية قامت بتجهيز عشرات الزنازين في سجون داخل بغداد من أجل احتجاز كل عناصر داعش القادمين من سجون قوات قوات سوريا الديمقراطية، وقد حققت مع العناصر التي استقبلتها في السابق.
وأوضحت المصادر أن الحكومة العراقية أفرجت عن عشرات الأشخاص الذين ثبت أنهم ليس لهم علاقة بداعش وتم اعتقالهم وحبسهم في سجون قوات سوريا الديمقراطية بدون وجه حق، وتسعى الحكومة العراقية في الوقت نفسه إلى أن تضمن عدم تأثير “الوافدين الجدد على أمن العراق”.
كشفت المصادر العراقية أن السلطات العراقية لن تفرج عن أي عنصر عراقي تم استلامه من جانب قوات سوريا الديمقراطية، وقد ثبت أنه “عضو فاعل” في تنظيم الدولة، ولكن سوف تخضعهم جميعاً لمحاضرات وجلسات في السجون في محاولة منها لإثنائهم عن الاستمرار في مسار التنظيم مرة أخرى داخل العراق.
وقالت المصادر إن المفاوضات التي تمت استهدفت نقل الآلاف من عناصر داعش الموجودين في سجن مخيم الهول، وهو مخيم يقع في شمال شرق سوريا، وتحديداً في محافظة الحسكة.
أنشئ المخيم في الأصل لإيواء اللاجئين العراقيين خلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، لكنه تحول لاحقاً إلى مركز احتجاز ضخم، يضم آلاف الأشخاص، أغلبهم من عائلات مقاتلي تنظيم داعش بعد هزيمته في 2019.
فيما يُقدر عدد اللاجئين العراقيين في مخيم الهول ومناطق أخرى بحوالي 18,000 شخص، تم تسجيل أكثر من 10,000 منهم ضمن قوائم الراغبين في العودة إلى العراق، وتم تسليم هذه القوائم إلى الوفود العراقية التي زارت المنطقة.
التفاوض بين قوات سوريا الديمقراطية والإدارة السورية
تزامناً مع مفاوضات قوات سوريا الديمقراطية مع الحكومة العراقية وبإشراف أمريكي، شهدت العلاقة بين قوات سوريا الديمقراطية وبين حكومة أحمد الشرع الجديدة مسارين للتفاوض.
حيث بدأت قوات سوريا الديمقراطية مفاوضات مع الإدارة السورية الجديدة لنقل عدد من عناصر داعش إلى سجون دمشق وحلب، وذلك بعد رحيل بشار الأسد مباشرة، وذلك حسب المصادر التي تحدثت لـ”عربي بوست” من قوات سوريا الديمقراطية.
في البداية، رفضت قوات سوريا الديمقراطية تسليم أي من عناصر داعش إلى النظام السوري، إلا بعد التوصل إلى اتفاق شامل يضمن تحقيق مطالبها، ويحصل بموجبه الطرف الكردي على كل ما يريد من الجانب السوري مقابل تسليم العناصر السورية من داعش.
لكن مصادر سورية قالت إن اتفاقاً جديداً جرى النقاش حوله بين الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع وقوات سوريا الديمقراطية، من أجل ترتيب استلام دمشق عناصر سورية من تنظيم داعش، موجودين في سجون تشرف عليها قوات سوريا الديمقراطية.
إذ تم التوصل إلى اتفاق بين قوات سوريا الديمقراطية والإدارة السورية الجديدة على تسليم بعض هؤلاء المعتقلين إلى دمشق، خلال الأسابيع القليلة المقبلة. هذه الخطوة جاءت ضمن الجهود المبذولة لإعادة ترتيب العلاقات بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام السوري، التي شهدت توترات كبيرة في السنوات السابقة.
في المقابل، قالت المصادر إن واشنطن لعبت دوراً كبيراً في رعاية المفاوضات بين “قوات سوريا الديمقراطية” والإدارة السورية الجديدة، إذ إن هناك رغبة من الجانب الأمريكي في إغلاق ملف سجون داعش في سوريا بشكل نهائي.
أوضحت مصادر سورية قريبة من وزارة الإعلام أن الاتفاق الذي تم بين الإدارة السورية الجديدة وبين قوات سوريا الديمقراطية بخصوص تسليم عناصر داعش من السوريين إلى دمشق يشوبه قلق من جانب حكومة دمشق الجديدة خشية “ألا تلتزم به قوات سوريا الديمقراطية في الفترة المقبلة”.
وأشارت المصادر إلى أن الإدارة السورية الجديدة تتخوف من أن تلجأ قوات سوريا الديمقراطية، في حال حدوث أي خلاف بينهما، إلى تسريح بعض عناصر تنظيم داعش والإفساح لهم للتحرك إلى دمشق والمدن الأخرى من أجل القيام بعمليات ضد الأمن السوري أو حتى ضد المواطنين السوريين، مما يعقد معه المشهد السوري من جديد.
وقال المصدر إن الطرف السوري “يتواصل مع الإدارة الأمريكية” دون أن يشير إلى الطرف الذي يتم التواصل معه، للتأكيد على ضرورة أن ترعى واشنطن التزام قوات سوريا الديمقراطية بكل ما جاء في الاتفاق الخاص بتسليم عناصر “داعش” من السوريين إلى الإدارة السورية الجديدة.
أما بخصوص أعداد السوريين داخل سجون قوات سوريا الديمقراطية، فقد قالت المصادر لـ”عربي بوست” إن الإدارة السورية الجديدة لم تتسلم بعد القوائم النهائية بأسماء وأعداد عناصر داعش من السوريين، الموجودة لدى قوات سوريا الديمقراطية.
لكنه أشار إلى أن الإدارة السورية الجديدة تتحدث حول خمسة آلاف عنصر سوري داخل تنظيم داعش، موجودين داخل سجون قوات سوريا الديمقراطية، وهي نسبة تقريبية لدى دمشق.
عربي بوست
————————–
لماذا تثير ملامح اتفاق عسكري بين تركيا وسوريا المخاوف؟/ فراس فحام
26/3/2025
في وقت تسابق فيه الإدارة السورية الجديدة الزمن لاستكمال عملية دمج الفصائل المسلحة لتنضوي جميعها تحت وزارة الدفاع، يتصاعد الحديث عن قرب التوصل لاتفاق لتأطير التعاون العسكري السوري التركي، الذي قد يشمل تدريب الجيش السوري الجديد وتزويده بالأسلحة وتأسيس قواعد عسكرية تركية على الأراضي السورية.
وفي مطلع مارس/آذار الجاري، أعلنت السفارة التركية في دمشق مباشرةَ الملحق العسكري المقدم حسين غوز مهامه، مؤكدة على “التعاون العسكري الوثيق مع الشقيقة سوريا”.
في هذا التقرير، نستعرض مواطن التعاون العسكري التركي السوري المرتقب، وتداعياته على تقاطع أو تضارب المصالح مع أطراف إقليمية ودولية في هذا الصدد.
مواقع عسكرية مشتركة
وفقا لمعلومات حصل عليها موقع الجزيرة نت من مصادر تابعة لوزارة الدفاع السورية، فمن المتوقع تأسيس مواقع عسكرية مشتركة بين الجيشين التركي والسوري في مناطق مختلفة.
ومن المرجح أن تشمل هذه المواقع قواعد جوية شمالي البلاد وشرقيها ووسطها، أبرزها مطارات منغ ودير الزور وتيفور وتدمر، وستكون مخصصة لعمليات التدريب والتطوير للقوات السورية، بموجب اتفاقية منتظرة بين الجانبين، مما يعني أن الغارات الإسرائيلية الأخيرة ربما تعبر عن قلق وتحذير استباقي من مثل هذه الخطوات.
وفي 20 مارس/آذار الجاري، أرسل الجيش التركي بالفعل قافلة عسكرية إلى مطار منغ شمال مدينة حلب، ومن المنتظر أن يكون هذا المطار أول قاعدة مشتركة بين أنقرة ودمشق.
وكشفت صحيفة حرييت التركية عن إمكانية تزويد أنقرة الجيش السوري بمنتجات صناعتها الدفاعية المتطورة في إطار التعاون العسكري مع سوريا، بالإضافة إلى إيفاد مستشارين عسكريين أتراك إلى سوريا من أجل المساهمة في إعادة هيكلة الجيش السوري.
الاتفاقية المشتركة المحتملة بين أنقرة ودمشق ستلبي مصالح الطرفين، حيث تعكف الإدارة السورية على إعادة إنشاء جيش البلاد بعد انهيار الجيش السابق الذي كان يدين بالولاء لبشار الأسد.
بالمقابل، فإن لأنقرة مصلحة في تعزيز حضورها في الساحة السورية للتعامل مع توجساتها الأمنية، وهذا ما أكده وزير الخارجية التركي حقان فيدان منتصف فبراير/شباط الماضي عقب توقيع الاتفاق بين قوات سوريا الديمقراطية “قسد” والحكومة السورية، إذ أشار إلى أن بلاده ستراقب عن كثب تنفيذ الاتفاقية خشية وجود “بعض الألغام المزروعة” التي ستظهر في المستقبل.
ولم تستبعد المصادر العسكرية في دمشق أن تشمل المواقع العسكرية المشتركة مع الجانب التركي نشر طائرات مسيرة، مثلما فعله الجيش التركي في القواعد التي أسسها في مناطق سيطرة الحكومة الليبية غربي البلاد.
وتسعى أنقرة منذ مطلع العام الحالي لإدماج الجيش السوري الجديد ضمن تحالف إقليمي رباعي يشمل إلى جانبها كلا من سوريا والأردن والعراق، ومن المفترض أن يركز هذا التحالف على منع عودة تنظيم الدولة الإسلامية، بالتوازي مع تواتر تقرير عن رغبة الإدارة الأميركية في الانسحاب من سوريا.
ومنذ الأسبوع التالي لسقوط بشار الأسد، أعلن وزير الدفاع التركي يشار غولر استعداد بلاده لتوفير التدريب العسكري للإدارة السورية الجديدة إذا رغبت في ذلك.
تعاون متصاعد منذ 2016
لا يُعد هذا التعاون العسكري حديث العهد، فقد برز في وقت سابق من خلال دعم الجيش التركي فصائل المعارضة المسلحة السورية، خاصة خلال العمليات التي استهدفت تنظيم الدولة و”قسد”.
وكان شهر أغسطس/آب 2016 شهد أول توغل عسكري تركي بري داخل الأراضي السورية لتقديم المساندة لفصائل من المعارضة ضد تنظيم الدولة ضمن عملية حملت اسم “درع الفرات”.
وقد تمكنت حينها فصائل المعارضة بإسناد تركي من السيطرة على مواقع مهمة في ريف حلب الشمالي، بعد أن تقلصت مساحات سيطرة المعارضة أمام تنظيم الدولة وقوات قسد التي توغلت شمال حلب تحت غطاء الطيران الروسي.
وفي 2018، دعم الجيش التركي إطلاق فصائل المعارضة السورية عملية عسكرية ضد “قسد” تحت مسمى “غصن الزيتون”، أفضت إلى السيطرة على منطقة عفرين.
وتبعها بعد أكثر من عام عملية “نبع السلام” التي استحوذت من خلالها فصائل المعارضة على مواقع مؤثرة في الرقة، ونتج عن العمليتين المذكورتين في المحصلة النهائية تقطيع أوصال الممر الذي كان تحت سيطرة “قسد” على امتداد الحدود التركية.
ومع مرور الوقت، أسست الفصائل التي شاركت في العمليات المدعومة من الجيش التركي ما عرف بـ”الجيش الوطني السوري”، الذي ضم أكثر من 20 فصيلاً متوزعين على 3 فيالق.
كما دعم الجانب التركي تأسيس 8 ألوية في محافظة إدلب من فصائل المعارضة السورية أطلق عليها تسمية “الألوية الرديفة”، حيث نشر الجيش التركي عشرات النقاط العسكرية شمالي غربي سوريا بالتنسيق والتعاون معها.
مباحثات مع إدارة ترامب
وصف الممثل الخاص للرئيس الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف الاتصال الهاتفي الذي جمع دونالد ترامب مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منتصف الشهر الحالي بأنه كان “رائعا” و”هناك أشياء إيجابية قادمة”.
وفي هذا السياق، علم موقع الجزيرة نت من مصادر دبلوماسية في واشنطن أن النقاشات التركية مع الإدارة الأميركية تسعى لتفادي سيناريو إطلاق إدارة ترامب يد روسيا في الملف السوري مجددا، مقابل عقد تفاهمات بين موسكو وتل أبيب تضمن مصالح الأخيرة، لأن الجانب التركي لا يرحب بعودة النفوذ العسكري الروسي إلى سوريا بعد أن تم تقليصه عقب سقوط الأسد.
بالمقابل، تسعى تركيا لتنسيق نشاطها العسكري في سوريا مع إدارة ترامب، خاصة فيما يتعلق بمكافحة تنظيم الدولة، وتولي الإشراف على السجون التي يحتجز فيها الآلاف من المتهمين بالانتساب للتنظيم.
وبالفعل، لا تخفي روسيا رغبتها بالعودة إلى المشهد السوري، وهو ما يتجلى في الرسالة التي وجهها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى نظيره السوري أحمد الشرع عبّر فيها عن دعمه الجهود الهادفة إلى استقرار الوضع في البلاد، مؤكدا استعداد موسكو للمشاركة الفاعلة في تعاون عملي مع دمشق، وتعزيز العلاقات الروسية السورية التي لطالما اتسمت بالود والتفاهم المتبادل، على حد قوله.
وبحسب المصادر، فإن إسرائيل هي الأخرى تبذل جهودها لدى الجناح السياسي في الإدارة الأميركية للتصعيد ضد إدارة دمشق لمنعها من تكريس سلطها، وتضييق مساحة التعاون بين دمشق وأنقرة.
وكان ترامب قبيل توليه الرئاسة رسميا، أشار -في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2024- إلى أن تركيا ستمتلك قدرة التحكم في مجريات الأحداث في سوريا من خلال علاقتها مع الفصائل المسلحة التي سيطرت على سوريا عن طريق “عملية غير ودية”.
إسرائيل المتضرر الأبرز
نقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن مصادر أمنية في الـ23 من الشهر الجاري تزايد الخشية في تل أبيب من مواجهة مباشرة مع تركيا في سوريا، مشيرة إلى أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عقدت مشاورات لبحث التطورات في سوريا.
وبحسب المصدر، فإن الجيش السوري يسعى لترميم قواعد عسكرية وقدرات صاروخية، بالإضافة إلى وجود اتصالات سورية تركية لنقل مناطق قرب تدمر إلى الجيش التركي مقابل دعم لدمشق.
وأشارت المصادر إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بينامين نتنياهو يطلب من مستشاريه التأكيد عبر وسائل الإعلام أن المواجهة مع تركيا في سوريا قادمة.
ومن الواضح ارتفاع الهواجس الإسرائيلية من التعاون التركي السوري، حيث شن الطيران الإسرائيلي موجة جديدة من الهجمات الجوية على مواقع سورية يوم 22 مارس/آذار الجاري، شملت قواعد جوية وسط سوريا أبرزها مطارا تدمر وتيفور في منطقة تدمر بريف حمص.
وإذا أقامت تركيا قاعدة في ريف حمص، فإن المسح الراداري لهذه القواعد قد يصل إلى هضبة الجولان المحتلة.
وتزايدت في الآونة الأخيرة تحذيرات المحللين الأمنيين الإسرائيليين من اندلاع حرب بالوكالة بين أنقرة وتل أبيب على الأراضي السورية.
ومنذ سقوط الأسد، أوضحت إسرائيل رغبتها في الاعتماد على الأقليات في سوريا وخاصة الأكراد والدروز، فيما يبدو أنه خيار إستراتيجي للحفاظ على التوازن في مواجهة تحالف تركيا وقطر مع الإدارة السورية الجديدة.
المصدر : الجزيرة
———————————
مزدوجات الهوية السورية: حروب أهلية أم تسويات حقيقية؟/ موفق نيربية
تحديث 27 أذار 2025
هناك حرص شديد بين السوريين- معظمهم- على مختلف مشاربهم وخلافاتهم، على الامتناع عن وضع عصيّ في عجلات السلطة الجديدة، التي خلّصتهم من النظام الأسدي الفظيع، وعلى الحذر في إبداء الملاحظات النقديّة أيضاً. لكنّ نجاح شباب المجتمع المدنيّ السوري في إنهاء ما سُمّي بمؤتمر الحوار الوطني بسلاسة، وغربلة آراء الموجودين خلال سويعات قليلة، مع مراعاة «أهل الدار» وعقليتهم السياسية، التي تعرّضت إلى عمليّة تأهيل كبيرة، من حيث كانت، إلى حيث ينبغي من التكيّف السياسي، لدخول دمشق من دون ردّ فعل عاصف دولي وإقليمي.. وربّما محلّي.
إلّا أن صدور «الإعلان الدستوري» على شكله الذي ظهر به، والمعارك والمجازر في منطقة الساحل وجبالها، أضافا توتّراً ملحوظاً على علاقات السلطة المنتصرة خارجياً وداخلياً، مع أن الأمرين لا تجمعهما سلّة واحدة بالتأكيد، لأنّ الأوّل عرضة للنقاش والجدال، والتعديل والإحالة إلى مشروع الدستور الدائم على الأقلّ، والثاني يحفر عميقاً في الوحدة الوطنية، ويخرج أحشاءها إلى العلن، وأخطارها إلى الأفق المنظور.
يعيش كثير من السوريين حالة إنكار مستدامة، يرفضون فيها من يطرح أيّ شيء يمتّ إلى مزدوجات الهويّة السورية. تلك حالة موروثة من «النهضة القومية» و»الصحوة الإسلامية»، أو ممّا حولهما، عندما كان اسم الإثنيْات والطوائف يثير حساسية ورفضاً مقيماً، ونذكر القول المأثور المتكرّر» لم نكن هكذا، لم نكن نعرف أن هنالك مختلفين، وكنّا أحباباً كلّنا معاً». كان الذي يذكر كلمة «الطائفية» يُتّهم بالطائفية فوراً، حكماً مبرماً غير قابل للنقض: تابو مكتمل الأركان. لدينا مزدوجة «كردي – عربي»، التي تعاظم حجمها وعمقها بالتدريج مع الزمن، ابتداءً من عصر» النهضة العربية» الثانية في العصر الناصري – البعثي خصوصاً، عندما استنهض ذلك «القومية الكردية»، وتشكّلت الحركة السياسية الكردية، وتهيّأت لها عدّة وجبات من التغذية المضادّة، في الإحصاء العام، الذي أسقط جنسية عدد مهم من كرد سوريا، وفي الحرب على كرد العراق التي تطوّع بعث الشام بتقديم العون لها.
وبقيت أجواء الانعزال سائدة حتى ربيع دمشق، ثم انتفاضة مارس/آذار 2004، وانخراط الكرد مع الآخرين في حركة واحدة مع تشكيل تحالف دمشق. كانت الحماسة « الوحدوية» تزداد في أيام النهوض واليقظة، والانعزالية في أيّام الركود والتفسّخ. وفي أيّام الثورة، ظهر انقسام كردي واضح، بين طرف يستلهم التجربة السياسية الكرديّة في العراق، وآخر يستلهم تلك في تركيا. وأصبح لدينا في سوريا « مجلسا وطنيا» و»مجلس سوريا الديمقراطية». حالياً هنالك ذروة في المشاعر المتعارضة، لم تتعارض مع احتفالات باهرة بتوقيع اتفاق بين السلطة الحالية وقسد. ويتراوح الوضع ما بين طبول حربٍ تزيد من حدّتها السياسات التركية بالغة الحساسية، وتباشير وفاقٍ ونجاح في التسوية.
في أقصى الجنوب الغربي، هنالك خصوصية في درعا، وخصوصية أشدّ تبلوراً في السويداء ما بين درزيْتها و» السنّية» السورية، التي تضاعفت يقظتها عدّة مرات بعد نجاحات هيئة تحرير الشام. هنا دور مهمّ للقرب من الجولان وإسرائيل، التي ترى في بعض دروز إسرائيل باباً مهمّاً للتدخّل في الشؤون السورية، لتحقيق تغيير إضافي، يجعل من جنوب دمشق كلّه منطقة منزوعة السلاح، تتخيّلها ستكون «صديقة» أكثر من الآخرين، وحاجزاً يمنح الأمن الاستراتيجي لها ويحصّنها من أسباب خوفها وقلقها المرضيّ الدائم. ومن الطبيعي أن يشعر بعض الدروز السوريين في السويداء وجبل الشيخ، وحتى في جرمانا – ضاحية دمشق- بشيء من الحصانة بسبب ذلك، لكنّ ذلك يصطدم بميول وطنية رفيعة، موروثة من أيّام تولّي سلطان الأطرش قيادة الثورة السورية ضدّ الفرنسيين، وذلك فخر لا ينساه الدروز الفخورون بطبعهم. وقد ظهر هذا الميل طاغياً في أكثر من عام من الاعتصام الدائب في ساحة الكرامة، الحالة التي أدّت إلى تنشيط الوطنية السورية/الثورية في كلّ البلاد. تحتدم تفاعلات هذه المزدوجة بقوة حالياً، وتشكّل تحدّياً آخر لمشروع سوريا الجديدة التي تجهد للخروج إلى العالم.
المزدوجة الثالثة التي شعلت سوريا والعالم بشكلٍ خاص مؤخّراً هي العلوية- السنّية بدورها، وهي مزدوجة عايشت نظام الأسد الأب والابن، ونمت في عهدهما، بسبب انتماء تلك العائلة نفسها، وتركيبة الطائفة الفقيرة التي عزّز الأسدان انطلاقها نحو الجيش وأجهزة الأمن، من خلال حجب إمكانيات التطوّر «العادي» من أمامها، كما أصبح متداولاً الآن.
هنالك حدّة وخصوصية بارزة في هذه المزدوجة، تَزِرُ» فيها الطائفة العلوية أوزار النظام الساقط، الذي عاش طويلاً على القمع والطغيان والمجازر، التي كانت ذروتها في حماة 1982، وفي سجون تدمر وصيدنايا، والحجم الهائل/المليونيّ للقتل والتدمير والتشريد في الخمسة عشر عاماً الأخيرة، الأمر الذي وقع معظمه على السنة كنوع.. مع أن بعضه وقع على العلويين أيضاً، بما يجمعهم مع الشعب العاديّ كلّه حين تعرّض للفقر والحاجة إلى الخبز والأمان، وبما هم عليه من» خيانة» لفضل الأسدين عليهم. بعد تهاوي نظام الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، ورغم هروب القادة معظمهم، تحصّن البعض في الجبال، واحتمى آخرون بالقاعدة الروسية، وبدأوا كما يبدو بالحشد والتحضير لمحاولة استعادة السلطة، ولو في منطقة الساحل وجبالها وحسب: أولئك هم «الفلول» كما تسمّيهم السلطة ومعظم الناس – من كلّ الطوائف- في الأسبوع الأوّل تحرّك هؤلاء واختطفوا عناصر من القوى الأمنية والعسكرية وقتلوا العديد منهم، مّا أدّى إلى الإحساس بالخطر والاستفزاز، ودفع إلى النفير والاستنفار، وتدفّق قوى غير منضبطة، رغم أنّ نواتها معروفة التركيب والمرجعية من دون لبس.. وكانت النتيجة وقوع مجازر بشعة بالمدنيين خصوصاً في القرى والبلدات.
تمكّن ذلك المسار من وضع البلاد أمام المزدوجة الأشدّ خطورة والأكثر جراحاً، الأمر الذي أخرج القيح المتراكم المكتوم إلى المشهد بين السوريين وأمام العالم… رغم الجهود الكبيرة التي تعمل على «كتم» انبثاق ذلك القيح، وتخميد نداءات الثأر والانتقام من جهة، وصرخات المظلومياّت المتقابلة.
في النتيجة الآن، أصبحت كلمة» التقسيم» عادية أكثر، وتُناقش وسوف تُناقش لاحقاً. وليس سهلاً على الإطلاق مواجهة تلك الحالة المتفجّرة، والسلطة الحالية تعيش آلام الولادة، وتجهد لتأمين قوت الشعب، الذي أصبح سوريا كلّها بعد أن كان إدلب وحدها، ولبناء دولةٍ انهار الجزء الأكبر والأهمّ منها.. والأصعب هنا مواجهة تحدّي التحوّل من عقلية كانت إرهابية، إلى عقلية مدنية وحديثة ومتكيّفة مع العالم المنشغل بأمور أخطر كما هو الآن، ومع المنطقة التي تعصف فيها همومها الكبيرة حاليّاً. لكنّ هنالك بعض الضوء أيضاً، الخافت لكن الموجود أيضاً. ذلك صحيح رغم أنه لا يمحو الأخطار الداهمة، ولا يستطيع وحده مواجهة المدّ ولا الوقائع كلّها. لا يستطيع أيضاً مواجهة فيض اليقين الذي أصاب جزءاً أو أجزاءً مهمة من النخب السورية، وأبقى بعضهم بعيداً لم ينخرط في العملية السياسية الجارية في داخل البلاد، ينتظر أن تستقيم بذاتها، أو بفعل القوى الخارجة عنها.
جاء ذلك الضوء من اتفاق أحمد الشرع ومظلوم عبدي، على وحدة البلاد وتوحيدها، وعلى إشارات بسيطة إلى المسار الواجب سلوكه في المفاوضات الصعبة المقبلة. يشير ذلك أيضاً إلى أن طريق التسويات هو الوحيد الذي يمنع القطار المُثقل بأحماله من الخروج عن السكة. وليته يساعد كلّ السوريين على تفهّم كون الحروب الأهلية والتفتت واقعاً ينتظرهم من دون التسويات، وأن التسويات مستحيلة من دون التنازلات والتنازلات المقابلة.
*كاتب سوري
القدس العربي
————————
سوريا: تحركات عسكرية أميركية تؤشر لانسحاب مفاجئ/ مصطفى محمد
الخميس 2025/03/27
كشفت مصادر سورية لـ”المدن”، عن قيام “التحالف الدولي” بقيادة واشنطن، بسحب مصدات أسمنتية من قاعدة تل بيدر غربي الحسكة، عبر شاحنات عراقية، معتبرة أن الخطوة مقدمة لانسحاب أميركي “مفاجئ” من سوريا، من المحتمل أن يتم بحثه خلال الزيارة المرتقبة التي سيجريها وزير الخارجية التركية هاكان فيدان إلى الولايات المتحدة، وهي أول زيارة في عهد الرئيس دونالد ترامب.
وتعد قاعدة تل بيدر من أكثر القواعد الأميركية “حيوية” في سوريا، وهي مجهزة لهبوط المروحيات القتالية.
وأكد مصدر مراقب لـ”المدن”، أن قوات “التحالف الدولي” بدأت في الآونة الأخيرة، بنقل معدات غير قتالية من غالبية القواعد في شمال شرقي سوريا، منها قاعدة تل بيدر، وقاعدة الشدادي جنوبي الحسكة.
وأشار المصدر إلى قيام طائرات شحن أميركية بنقل معدات من قاعدة الشدادي إلى شمالي العراق في الأسبوع الماضي، وأضاف أن “التحركات هذه تؤشر إلى وجود خطة لتقليص الوجود العسكري في سوريا تدريجياً”.
هذه المعلومات أكدها مدير شبكة “الخابور” إبراهيم الحبش لـ”المدن”، وهي الشبكة المختصة بنقل الأخبار من المنطقة الشرقية، وقال: “رصدنا حركة شاحنات (عراقية) محملة بكتل أسمنتية، خرجت من قاعدة تل بيدر نحو العراق”.
مقدمة لانسحاب “وشيك”؟
وكان الحديث عن انسحاب أميركي من سوريا قد تزايد بعد المعلومات التي كشفتها شبكة “إن بي سي نيوز” الأميركية، في شباط/فبراير الماضي، نقلاً عن مسؤولين دفاعيين في وزارة الدفاع الأميركية، حول إعداد الأخيرة خطط لسحب كافة القوات الأميركية من سوريا، خلال فترة تتراوح بين 30 إلى 90 يوماً.
جاء الاتفاق الذي وقعه الرئيس السوري أحمد الشرع مع مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في 10 آذار/مارس الجاري، والضغط الأميركي لإنجازه، ليعزز الاعتقاد أكثر أن واشنطن تحضر الأرضية لسحب قواتها من سوريا.
ويتوقع الكاتب والسياسي الكردي علي تمي، أن تسحب الولايات المتحدة قواتها من سوريا قريباً، ويستند في ذلك على “إبلاغ واشنطن لقسد، أن الولايات المتحدة قد تسحب قواتها في أي وقت تراه مناسباً”.
ويضيف لـ”المدن”، أن المعطيات هذه دفعت “قسد” إلى التوقيع على الاتفاق مع الحكومة السورية، وقال: “الأرجح أن يتم ترتيب صفقة الانسحاب خلال زيارة هاكان فيدان إلى واشنطن الثلاثاء، علماً أن الزيارة جاءت بطلب من الرئيس الأميركي دونالد ترامب”.
وقبل أيام، دعت الولايات المتحدة الإدارة السورية إلى تشكيل حكومة “مدنية” تجمع كل الأطراف السورية، ليبدو أن واشنطن تريد الانتهاء من كل التفاصيل التي تمهد لدمج “قسد” بالدولة السورية قبل الانسحاب من سوريا، وسط قراءات عن زيادة التنسيق الأميركي- التركي في سوريا، لمنع ظهور الجماعات المتطرفة في سوريا.
انسحاب “مفاجئ”
ولا يستبعد الكاتب والمحلل السياسي فراس علاوي، أن تقدم الولايات المتحدة على اتخاذ قرار “انسحاب مفاجئ” من سوريا، ويقول: “حالياً، لا توجد مؤشرات عسكرية للانسحاب، لكن احتمال الانسحاب المفاجئ يبقى وارداً”.
وبما يخص التحركات العسكرية في القواعد الأميركية، يقول لـ”المدن”: “في العادة يقوم الجيش الأميركي بسحب معدات من بعض القواعد، والأمر يشبه إعادة الانتشار”.
المدن
————————
====================
====================
عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 27 أذار 2025
تحديث 27 أذار 2025
————————–
لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي
التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة
———————————
دروز سورية ومهمّة البحث عن الزعيم الوطني/ يحيى الأوس
26 مارس 2025
تواجه الطائفة الدرزية في سورية تحدّيات مصيرية عديدة. إحداها خلو الساحة الدرزية من شخصية وطنية من خارج المؤسّسة الدينية، تمتلك القدرة على التأثير ولعب دور وطني من أجل امتلاك موقعٍ وازنٍ في أوساط الدروز لمواجهة انجرار الطائفة وراء زعامتها الدينية التي برز دورها في السنوات الأخيرة راعية للحراك الشعبي ضد نظام الأسد، قبل أن تنكفئ في دور وخطاب مذهبي يكاد يكون مغلقاً.
وبعيداً عن تفسير أساب هذا النكوص في خطاب المرجعية الدينية وتخندقها المذهبي الذي لا تتحمّل مسؤوليته وحدها، بل الإدارة السورية الجديدة أيضاً، يبدو الوضع الراهن في السويداء وباقي المناطق السورية التي يسكنها الدروز على صفيح ساخن، وأحوج ما يكون إلى شخصية وازنة قادرة على كسر احتكار القرار الدرزي من مشيخة العقل، أو على الأقل المشاركة فيه، بغية تصدير خطاب درزي وطني مقنع وجامع، يعيد ترتيب الولاءات إلى الوطني أولاً.
المشهد الوطني الذي صدّرته السويداء في السنتين الأخيرتين على وجه التحديد، من خلال ساحة الكرامة، يهدّده النسيان. ويواجه النشطاء المدنيون الذين حملوا على عاتقهم الهم الوطني خطر التهميش. ولكي يستمرّوا، لا بد من إعادة الاعتبار إلى شعارات (وروح) ساحة الكرامة التي كانت واحة أمل لأحرار سورية من شمالها إلى جنوبها. ويعدّ هذا تحدّياً حقيقياً في ظل تردٍّ عام في بلاد تغرق اليوم في مواجهاتٍ وانتهاكاتٍ طائفيةٍ وانتقاميةٍ كارثية، فتزيد من عزلة الدروز والأقليات بشكل عام، بل وتعمّق مخاوفهم من القادم.
ليس ظهور مرجعية درزية وطنية جامعة تحظى بالاحترام في محافظة السويداء، على غرار الزعيم الوطني اللبناني كمال جنبلاط، بالأمر المستحيل، مع وجود تيار مدني وطني عريض يفتقد حالياً الرأس، لكنه يبحث عن ممثليةٍ واعيةٍ قادرةٍ على احتضانه والتعبير عنه وعن شعاراته. ليس فقط من أجل دحض حملة التخوين الشديدة التي لم يسبق لهذه الطائفة أن واجهتها لجهة اتساعها وعلانيتها، ولكن من أجل تجنّب الانجرار إلى مزيد من الانغلاق، ومن أجل قطع الطريق على الأصوات النشاز التي خرجت في الأسابيع الأخيرة منادية بالخلاص الذاتي، أيا كان مصدره، بعد أن أفقدتها الأوضاع الراهنة وضيق سبل العيش بوصلتها.
بالتأكيد، لن تكون المشيخة الدرزية التي تسيّدت الموقف منذ سنوات في السويداء مطمئنةً لظهور أي زعامة جديدة تنازعها امتيازاتها، وتختلف معها في إدارة الأزمة. وربما ستحاول قطع الطريق عليها، وخاصة أن الفرصة مؤاتية أمام هذه المرجعية الدينية اليوم، ليس فقط لاستعادة دورها المأمول ممثلاً وحيداً لدروز سورية (الثقل البشري الأكبر للدروز في الدول الأربع، سورية ولبنان وفلسطين والأردن)، ولكن لاستعادة دورها المذهبي العابر للحدود السورية إلى الدول التي فيها أبناء الطائفة، وهو الدور الذي حُرمت منه طوال عقود من حكم البعث والأسديْن.
صحيحٌ أن استعادة الموقع الطبيعي للمرجعية الدينية لعامّة الدروز في الدول الأربع لم تكن إحدى الهواجس التي تشغل بال مشيخات العقل المتعاقبة في السويداء منذ زمن بعيد لأسباب مختلفة، بعضها سياسي وبعضها موضوعي، بفعل الفرقة الجغرافية والانتماءات الوطنية لكل طائفةٍ على حدة، لكن السنوات الأخيرة مكّنت مشيخة العقل في السويداء من تخليص نفسها من هيمنة السلطة السورية عليها، وشكّلت حضوراً قائماً بذاته منفصلاً عن وعاء السلطة الذي حُشرت فيه قسراً في السابق، بل مناوئاً ومتحدّياً لها. وهي إن استمرّت في هيمنتها على الشأن العام في السويداء سيكون من الصعب إعادتها إلى أماكن عبادتها والاكتفاء بدورها الديني التقليدي، والخطر أنها، بقصد أو بدونه، تُكَرِّس سلطة رجال الدين أمراء حرب صغاراً.
في ظل استحالة استحضار زعامةٍ على غرار الزعامة التاريخية للقائد الوطني سلطان باشا الأطرش ووفاة ابنته منتهى الأطرش التي كان يعوّل عليها لعب دور ما بحكم إرث والدها وبحكم موقفها الوطني الناصع، تبدو الزعامات المحلية الراهنة عاجزةً عن ملء الفراغ حتى اللحظة. ومن خلفها يبدو المشهد العام في السويداء أكثر ضبابيةً من قبل. وريثما يتمكّن من ينادون بعدم ترك الحبل على الغارب لرجال الدين من بلورة مرجعية جديدة ذات شأن، سوف تبقى مشيخة العقل في السويداء السلطة الأكثر نفوذاً وتحكّماً بمجريات الأمور فيها.
لا تجد المرجعية الدينية اليوم نفسها مستقلةً عن أي سلطة سياسية سابقة أو حالية وحسب، بل هي حالياً في حلٍّ من أي صيغة تمثيلية كان معمولاً بها سابقاً، الصيغة التي كانت تحتكرها الزعامة التقليدية الدرزية الجنبلاطية، ناهيك عن تجرّؤ من هم دونها بكثير عليها من أمثال وئام وهاب.
ستشهد الأيام المقبلة تكثيفاً خطيراً للهوية الدرزية لأسباب وذرائع مختلفة، وهي متواترة مع تكثيف لكل الهويات الأقلوية في سورية، سيرى بعضهم فيها ضرورة لحماية الطائفة واستمرارها، وسيرى آخرون فيها ضرورة لعدم فقدان دور الدروز التاريخي في سورية، لكن الأهم أن يتمكّن عقلاء الطائفة من وضح حدٍّ للانزياح المتواصل لهذه الهوية من الفضاء الوطني إلى الحيز الطائفي الضيق.
العربي الجديد
——————————-
النزاع الطائفي في سورية مصلحة إسرائيلية/ عاطف أبو سيف
27 مارس 2025
تحاول إسرائيل التدخّل في الملفّ الطائفي في سورية بزعمها الحرص على بعضهم أمام بطش بعضهم الآخر، وربّما التصريحات التي صدرت عن قادة الحكومة الإسرائيلية منذ سقوط نظام عائلة الأسد، والتهديد بالتدخّل عسكرياً لحماية الدروز في جنوب سورية، من أيّ بطش محتمل من أجهزة الدولة، تعكس تلك الرغبة التي لا علاقة لها بالطبع بحُبّ إسرائيل ورغبتها الحقيقية في حماية أحد، بقدر ما هي تعبيرٌ صريحٌ عما تمليه النزعة التوسّعية للتدخّل في الشأن السوري الداخلي، فالأمر لا علاقة له بمصالح الطائفة الدرزية ولا بحقيقة أنها تتعرّض لمضايقات أم لا من أجهزة الدولة الجديدة، بل مرتبط أكثر بأن إسرائيل تريد أن يكون لها دور في صياغة المعادلة السورية الجديدة بعد سقوط الأسد، وربّما في الأقرب إليها، الجنوب السوري. وعليه، سيكون التدخّل بحجّة حماية الطائفة الدرزية مدخلاً “إنسانياً” لتطلّعات استعمارية بحتة. لا يقتصر التدخّل الإسرائيلي (ولن يقتصر) على مزاعم حماية الدروز مثلاً، بل سيمتدّ إلى طوائف أخرى. ثمّة حديثٌ عن الطائفة العلوية مثلاً بعد القتل في الساحل، وتصريحات إسرائيلية تعبّر عن القلق ممّا جرى هناك، إلى جانب ما يثار (وأيضاً بلا دليل) عن تواصلٍ إسرائيلي مع أكراد سورية، مثلما كان يُشاع في السابق عن التواصل مع أكراد العراق. والمؤكّد أن كثيراً من هذه الأخبار تفبركها إسرائيل لتكون مدخلاً لنزوع الآخرين للتواصل معها طلباً للحماية من البطش.
وإسرائيل، منذ وُجدت، لم تتوان عن التدخّل في الشؤون العربية الداخلية، وفي تغذية النزعات العرقية والطائفية في أيّ دولة عربية تجد إسرائيل طريقاً إلى تفاصيل صراعاتها الداخلية. ونجحت في بعض الأحيان، وفشلت في أحيان أخرى، لكنّها اعتبرت التدخّل عبر نافذة الطائفية والعرقية، في مجتمع عربي تسعى حكومات دوله إلى تقديمه جسماً متجانساً، أمراً ممكناً، وفعلت ذلك باستمرار. تمكّن هذه النافذة إسرائيل من تشتيت انتباه الدولة وإحداث أزمات مختلفة لها، وربّما التأثير في سياساتها. إلى جانب ذلك كلّه، تسعى الماكينة الإعلامية الصهيوينة في الخارج إلى توظيف ذلك للطعن في شرعية الدولة الوطنية وحكّامها في المنطقة العربية، من مدخل إنساني وحقوقي. هذا يشمل بلداناً كثيرةً مثل مصر والعراق والجزائر والسودان (دور إسرائيل في دعم المتمرّدين في جنوب السودان وصولاً إلى الانشقاق) والصومال وإريتريا. بشكل عام، ارتكز مكوّن أساس من السياسة الخارجية الإسرائيلية على فكرة التدخّل في شؤون الدول الأخرى لجني مكاسب من هذا التدخّل. وليس الدور الإسرائيلي في أفريقيا خافياً على أحد، ويكاد تدخّل إسرائيل وعلاقتها، حتى مع الدول الإسلامية، يفوق تدخّل الدول العربية؛ وتتذكّرون الصراع على حضور إسرائيل المؤتمر الأفريقي. ولكن، مرّة أخرى الوضع في سورية مختلف بشكل كامل، فتدخّل إسرائيل في سورية يهدف إلى إضعاف الدولة الجديدة التي تتلمّس طريقها نحو البقاء بعد أكثر من نصف قرن من حكم عائلة الأسد، في بلاد أنهكتها الحروب الداخلية 13 سنة.
وبالعودة إلى تدخّل إسرائيل في الملفّ السوري، تحدّثت عن استجلاب عمّال من جنوبي سورية للعمل في المستوطنات في الجولان. كما أن الحديث عن زيارة رجال دين دروز من سورية المقامات في الداخل أثار نقاشاً طويلاً، رغم أن الفيديوهات التي انتشرت لم تكن من الزيارة، بل ضمن طقوس دينية سابقة في مقام النبي شعيب، كما أن الزيارة لم تكن موضع ترحاب من مرجعيات كثيرة. ومع ذلك، يصحّ القول إن إسرائيل تعمل جاهدةً من أجل ترجمة تطلّعاتها في البقاء في جنوب سورية وعدم الانسحاب من المناطق التي احتلّتها حديثاً، بل التمدّد أكثر هناك باستخدام ذرائعَ إنسانية. لا توجد أزمة، لكن إسرائيل تبرع في خلق الأزمة من أجل أن تكون جزءاً من الحلّ، أو أن يطلب منها أن تتدخّل من أجل أن تساهم في إيجاده.
ثمّة حضور أقوى لكبار الضبّاط الدروز في الجيش الإسرائيلي، ولكن أيضاً هذا لا علاقة له بالأمر، فالموضوع لا يعدو إضعافاً للدولة الجديدة، ومحاولةَ تحقيق مكاسبَ إضافيةٍ تتمثّل في تثبيت احتلال المزيد من الأراضي. ومع ذلك، يظلّ السؤال الدرزي في فلسطين من الأسئلة التي غفلت عنها الحركة الوطنية الفلسطينية، وأخذ الكلّ بجريرة بعضهم، رغم أن أبرز رموز أدب المقاومة العربي والفلسطيني، أقصد سميح القاسم، ينتمي إلى الطائفة الدرزية، كما أن للطائفة دوراً في الحركة الوطنية الفلسطينية قبل النكبة، والقصور في معالجة السؤال الدرزي تتحمّل مسؤوليته جزئياً الحركة الوطنية الفلسطينية. ويجب أن لا يغيب عن بالنا أن الدروز في فلسطين يعانون مصادرة الأراضي وكروم الزيتون مثل بقيّة سكّان القرى العربية. المقصد أن الانجرار وراء الخطاب الإعلامي الإسرائيلي في توصيف الأشياء يضرّ كثيراً.
لننتبه أيضاً إلى النقاش بشأن الملفّ الكردي، تظهر بعض الأخبار تعاون إسرائيل مع أكراد سورية، وكأنّ أكراد سورية كانوا ينتظرون على أحرّ من الجمر أيّ إشارةٍ من تلّ أبيب لفتح هذه العلاقة غير الموجودة. والقائل بذلك ينسف تاريخ توءمة وكفاحٍ مشترك بين الأكراد والعرب، ومساهمات أساسية للأكراد في الدفاع عن الدولة الإسلامية وتثبيت أركانها. يريد القائل بذلك لنا أن ننسى شهداء الثورة الفلسطينية من أكراد سورية وأكراد العراق، وقتالهم في صفوف فصائل الثورة.
أيضاً، كانت إسرائيل من تحدّثت عن محور سنّي في مقابل محور شيعي في العقدَين الماضيَين، ووضعت نفسها، بل نصّبت نفسها مكوّناً أساساً من المحور السُّني. وفي سبيل ذلك، غذّت التوجهات الطائفية في المنطقة، وحاولت إيجاد وضع تشعر به الدول السُّنية بأنها تتعرّض لتهديد وجودي من بعض القوى الشيعية، وتحديداً إيران. ومن ثم، تتشاطر تلك الدول مع إسرائيل الحاجة إلى حماية وجودها من هذا التهديد الشيعي. والحلّ؟… يكمن في “التعاون المشترك بين الدول السُّنية وإسرائيل لمواجهة النفوذ الشيعي”.
اختفى هذا الحديث مع انسحاب إيران وانكماشها، وتراجع حزب الله وانحسار دوره في لبنان، وبدأت إسرائيل التركيز في الملفّ السوري، لأن الدولة السورية يجب أن تظلّ مشغولة بنفسها، ويجب أن تواجه الأزمات من دون توقّف، حتى تظلّ ضعيفةً ولا تقوى على بناء قدراتها، فسورية الضعيفة والمفكّكة مصلحة إسرائيلية، وسورية التي تتقاتل طوائفها مصلحة إسرائيلية، وسورية العاجزة عن أن تكون دولة مواطنيها مصلحة إسرائيلية، لأن إسرائيل يمكنها “أن تساعد هؤلاء في التخلّص من بطش الدولة”.
أزمة الدولة العربية إصرارها على حماية التجانس في المجتمع من دون حاجتها إلى ذلك. ومن ثم، يقع بعضُ الغبن على كثير من مكوّنات المجتمع المتعدّد التي تتميّز بخصوصية عرقية، أو لغوية، أو دينية، فالدولة الحديثة ليست دولة عرق نقي، وليست دولة طائفة من دون أخرى. وفي ذلك تفقد الدولة طاقاتٍ كثيرة، وتعمل لقمعها من أجل أن تقدّم نفسها على هيئة واحدة، فيما يقوم مفهوم الدولة على العلاقة التعاقدية بين “مجتمع المواطنين” وبين أجهزة الحكم، وأساس هذا العقد الاجتماعي، يحدّد قائمة الواجبات وسلّة الحقوق، وليس العرق ولا الطائفة ولا المذهب. والدولة السورية الحديثة إذا أرادت أن تتجنّب الوقوع في الفخ الكبير، الذي يشكّله السؤال الطائفي والعرقي لأيّ دولة ضعيفة ومفكّكة وآيلة للسقوط مثل الحالة السورية، عليها أن تبحث بجدّية عن بناء دولة المواطن، الدولة التي يعيش فيها جميع مواطنيها سواسية من دون تمييز، ومن دون تفضيل مجموعة على أخرى، وتنظر إلى التنوّع الطائفي (سُنّي وشيعي وعلوي ومسيحي ودرزي)، وإلى وجود الأكراد، بوصفهما ثراءً كبيراً ومصدرَ قوة للمجتمع وللدولة، ويُمنح الجميع فرصاً متكافئة في كلّ شيء، من دون منع شيء من لغة وثقافة وهُويَّة عن أحد. فأساس الدولة هو أن يشعر الجميع أنه ينتمي إليها، فالأسد رغم حكمه أكثر من 50 عاماً لم يجد من يبكي عليه بعد رحيله، حتى من عملوا معه. والأكثر أهمية أن مثل هذا الفهم يحمي الدولة من التفكّك، ويقطع الطريق على إسرائيل في محاولاتها المساس بمكونات المجتمع السوري.
العربي الجديد
————————–
جنوب سورية: اشتباك أول مع الاحتلال في ريف درعا/ محمد أمين
26 مارس 2025
مع استمرار الاعتداءات الإسرائيلية والتوغلات البرية في الجنوب السوري، تفتح تطورات الساعات الأخيرة وتحديداً تصدي مجموعة من الشبان لقوة إسرائيلية حاولت التوغل في قرية كويا في منطقة حوض اليرموك في ريف درعا الغربي، في أول اشتباك من نوعه، وما رافقه من قصف أدى إلى استشهاد سبعة مواطنين، الباب أمام إمكان ظهور حركة مقاومة شعبية للاحتلال الإسرائيلي، في ظل عدم قدرة الجيش السوري الجديد على المواجهة، بعدما استغلت تل أبيب الأوضاع التي تمرّ بها سورية إثر سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي لاحتلال مساحات إضافية من الأرض السورية، وتدمير جل المقدرات العسكرية للبلاد التي بقيت بعد هروب الأسد وانفراط عقد جيشه وأجهزته، والسعي لتحويل الجنوب السوري إلى منطقة منزوعة السلاح مع الإعلان عن أنها لن تسمح للجيش السوري بالانتشار جنوب العاصمة دمشق.
اشتباك ريف درعا
وروى أحد المواطنين الذين شاركوا في صد العدوان الإسرائيلي، وهو شاب يبلغ من العمر 25 عاماً من بلدة كويا، وطلب عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، لـ”العربي الجديد” تفاصيل ما جرى في ريف درعا قائلاً إنه “عندما شاهد أبناء البلدة الآليات الإسرائيلية تقترب من الوادي، خرجنا نحن الشباب لنمنعهم من التقدم نحو بيوتنا. لم يكن معنا سوى أسلحة فردية وعصي وإرادتنا، لكنهم فتحوا النار علينا دون رحمة. رأيتُ ابن بلدتي علي يسقط أمامي بعد أن أصابته رصاصة في الصدر وحاولنا إنقاذه، لكن القصف اشتد، واضطررنا للانسحاب تحت وابل النيران. الدورية انسحبت وتراجعت إلى ثكنة الجزيرة وتل الأحمر وأعطوا السكان مهلة ساعتين لإخلاء البلدة وبدأوا بقصفها بالمدفعية”. وتابع: “الناس فروا خوفاً على أطفالهم. نحتاج إلى مساعدة طبية عاجلة، فالجرحى كثيرون، ولا يوجد أطباء كافون”.
كما قالت أم أحمد، وهي من أبناء بلدة كويا في ريف درعا لـ”العربي الجديد”، إنه “بعد دقائق من بدء الاشتباكات، بدأت القذائف تسقط على البلدة. هربنا إلى حقل قريب، لكن القصف لم يتوقف. حفيدي الصغير أصيب بالرعب، وانهار وسقط أرضاً، ولم نستطع نقله إلى المستشفى لأن الطرق غير آمنة”. وناشدت الإدارة في دمشق كي ترسل مساعدات طبية، فالوضع كارثي.
من جهتها، ذكرت شبكة “درعا 24” أن قوة من الجيش الإسرائيلي حاولت صباح أمس الثلاثاء التوغل في قرية كويا عبر الوادي في ريف درعا ما أدى إلى اشتباكات عنيفة مع شبان من القرية تصدوا لها وأجبروها على التراجع. وأفادت شبكات إخبارية محلية، منها “تجمع أحرار حوران”، بأن سبعة مدنيين استشهدوا وأصيب آخرون جراء القصف المدفعي الإسرائيلي على قرية كويا، مع حركة نزوح واسعة للأهالي إلى البلدات والقرى المجاورة. وبحسب الشبكة، فإن القصف المدفعي الإسرائيلي انطلق من مواقع الجيش الإسرائيلي في ثكنة الجزيرة القريبة من الحدود السورية مع هضبة الجولان المحتلة، بالتزامن مع تحليق طائرات استطلاع وحوامات عسكرية. وتعد هذه الثكنة التي سيطرت عليها تل أبيب بعد يومين من سقوط الأسد، نقطة انطلاق للقوات الإسرائيلية لتنفيذ عمليات توغل في الأراضي السورية.
وأكد محافظ درعا أنور طه الزعبي، وفق ما نقلت عنه وكالة “سانا”، أن “انتهاكات جيش الاحتلال الإسرائيلي واعتداءه المتكرر على الأراضي السورية دفعت مجموعة من الأهالي إلى الاشتباك مع قوة عسكرية حاولت التوغل في بلدة كويا في ريف درعا الأمر الذي أدى إلى تصعيد من قبل جيش الاحتلال بالقصف المدفعي، والقصف بالطيران المسير، ما أسفر عن وقوع ضحايا في صفوف المدنيين”. كما قالت وزارة الخارجية السورية في بيان إن “قرية كويا تعرضت خلال الساعات الماضية لقصف مدفعي وجوي إسرائيلي مكثف استهدف الأحياء السكنية والمزارع، ما أسفر عن استشهاد ستة مدنيين، مع احتمال ارتفاع العدد نتيجة الإصابات الخطيرة واستهداف المناطق الزراعية”. ودعت إلى فتح تحقيق دولي حول الجرائم المرتكبة بحق الأبرياء وحول الانتهاكات الإسرائيلية، موجهة أبناء الشعب السوري إلى التمسك بأرضهم ورفض أي محاولات للتهجير أو فرض واقع جديد بالقوة، مؤكدة أن هذه الاعتداءات لن تثني السوريين عن الدفاع عن حقوقهم وأرضهم.
في المقابل، قال الجيش الإسرائيلي إن قواته “رصدت عدداً من الإرهابيين الذين أطلقوا النار في اتجاهها في جنوب سورية وقامت القوات بالردّ على إطلاق النار، وقام سلاح الجو بضرب الإرهابيين”، مشيراً إلى وقوع إصابات. وأضاف بيان الجيش الإسرائيلي أنه “في وقت سابق، ضرب الجيش الإسرائيلي القدرات العسكرية التي كانت لا تزال في القواعد العسكرية السورية في تدمر وتيفور”، والأخيرة تقع قرب مطار تيفور أكبر المطارات العسكرية في سورية. وهذه المرة الأولى التي يستشهد فيها هذا العدد من المدنيين منذ بدء الاعتداءات الإسرائيلية في جنوب سورية ولا سيما في محافظتي درعا والقنيطرة، ما يفتح الباب أمام عدة سيناريوهات، منها ظهور حركة مقاومة شعبية في ظل عدم قدرة الجيش السوري الوليد على المواجهة.
وشرح الناشط الإعلامي يوسف المصلح، في حديث مع “العربي الجديد”، أن قرية كويا في ريف درعا تبعد نحو ثلاثة كيلومترات عن خط وقف إطلاق النار وفق اتفاق “فك الاشتباك” المبرم عام 1974 وأطاحت به إسرائيل أخيراً، مؤكداً أن هناك تخوفاً من توغل قوات إسرائيلية في القرية ومحيطها خلال الأيام المقبلة.
وتعليقاً على الاعتداءات المستمرة على جنوب سورية، رأى المحلل العسكري العميد مصطفى فرحات، في حديث مع “العربي الجديد”، أن نظام الأسد المخلوع “كان حامياً للكيان الصهيوني طيلة أكثر من نصف قرن، لذا قامت إسرائيل باستهداف كل ما بقي من القدرات العسكرية السورية”. وتابع: “على الرغم من أن البنية العسكرية السورية مدمرة بنحو 90%، إلا أن الكيان الصهيوني يخشى من التغيير الذي حدث في سورية والذي سيؤدي إلى المطالبة بكل الأراضي السورية المحتلة منذ عام 1967 وهذا الأمر يؤرق تل أبيب. الجبهة السورية لم تعد آمنة بالنسبة لإسرائيل بعد سقوط الأسد”. كما رأى فرحات أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حاول زرع فتنة من خلال اللعب بورقة الأقليات في سورية وخصوصاً الطائفة الدرزية. وأشار إلى أن لكل فعل “رد فعل مقابلا”، معرباً عن اعتقاده أن الاعتداءات الإسرائيلية لن تبقى دون رد من قبل السوريين إلى أمد مفتوح.
أهداف إسرائيلية في سورية
وظلت الجبهة السورية مع إسرائيل ساكنة منذ عام 1974 على الرغم من الاعتداءات المتكررة التي كانت تطاول كل المنشآت العسكرية السورية سواء قبل عام 2011 أو أثناء سنوات الثورة السورية ضد النظام المخلوع الذي لم يكن يبدي أي رد فعل عسكري على هذه الاعتداءات. ومن الواضح أن إسرائيل تتخوف من انتشار الجيش السوري الجديد في المواقع التي كانت تشغلها قوات النظام المخلوع، لذا أعلنت أنها لن تسمح لهذا الجيش بالانتشار جنوب دمشق، في مسعى لتحويل هذا الجنوب إلى منطقة منزوعة السلاح. وتحاول الإدارة السورية الجديدة تجنّب الانجرار نحو مواجهة غير متكافئة عسكرياً مع الجانب الإسرائيلي، من شأنها زعزعة الاستقرار الهش في البلاد، وهو ما يغري تل أبيب للاستمرار في الاعتداءات وتوسيع نطاقها الجغرافي، حيث لا قوة ردع تقف في طريقها. ولا تنحصر الاعتداءات الإسرائيلية في الجنوب السوري، فلا يزال الطيران الإسرائيلي يواصل استهداف مقرات عسكرية كانت تتبع لقوات النظام المخلوع خصوصاً في ريف حمص وسط البلاد.
ورأى المحلل السياسي المختص بالشأن الإسرائيلي خالد خليل، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “تغييرات جذرية طرأت على طبيعة الاعتداءات الإسرائيلية على سورية بعد سقوط نظام الأسد، لجهات الشدة والوتيرة والخسائر”. ولفت إلى أن سقوط نظام الأسد “فاجأ إسرائيل وقد كان حليفاً غير معلن لها”، معرباً عن اعتقاده أن إسرائيل “تحاول استغلال ما جرى في سورية لفرض واقع أمني جديد يوفر جبهة آمنة وهادئة كما كانت طيلة 50 عاما تحت ذريعة حماية حدودها. ورأى أن تل أبيب “تحاول خلق مكانة جيوسياسية لها في المنطقة في ظل تشكل معادلة أمنية جديدة وطيّ صفحة التنافس الإقليمي بين إسرائيل وإيران”، مضيفاً: إسرائيل تريد تكريس نفسها بالقوة ورسم معادلات أمنية مناسبة لها من خلال تفوقها العسكري، خصوصاً في الساحة السورية التي لطالما اختبرتها. واعتبر خليل أنه لا يمكن عزل ما يجري في الجنوب السوري من اعتداءات عن الأوضاع الداخلية في إسرائيل، مضيفاً: نتنياهو يحاول الخروج من فشله في قطاع غزة عبر تصدير الحرب إقليمياً وهذا ما يحدث في لبنان وسورية. وتابع: يبدو أنه يريد التصعيد في جنوب سورية لمواجهة مشاكل داخلية مع الشارع الذي يضغط لاستعادة الأسرى لدى حركة حماس في غزة، ومع الحكومة ومع المستشارة القضائية لحكومته، فضلاً عن المعارضة الإسرائيلية. وأوضح ان هناك تقارير إسرائيلية تشير إلى أن تل أبيب “تريد منطقة سيطرة بعمق 16 كيلومتراً و60 كيلومتراً منطقة نفوذ داخل الأراضي السورية”، مضيفاً: أعتقد أن على دمشق تحصين جبهتها الداخلية وتوسيع دائرة التمثيل والمشاركة في السلطة لخلق تحالفات إقليمية تساعد في إيقاف الاعتداءات الإسرائيلية ودفع تل أبيب للانسحاب من المواقع التي احتلتها بعد الثامن من ديسمبر الماضي.
وكان نتنياهو قد طالب في فبراير/شباط الماضي بجعل جنوب سورية منزوع السلاح بشكل كامل، محذراً من أن حكومته لن تقبل بوجود القوات الأمنية التابعة للسلطات الجديدة في سورية قرب حدودها. وفي كلمة ألقاها الرئيس السوري أحمد الشرع خلال القمة العربية الطارئة في القاهرة في مارس/آذار الحالي، حثّ المجتمع الدولي على “الضغط على إسرائيل للانسحاب الفوري من الجنوب السوري”.
إلى ذلك دانت الخارجية الأردنية في بيان توغل الجيش الإسرائيلي وقصفه بلدة كويا، معتبرة ذلك “خرقاً فاضحاً للقانون الدولي، وانتهاكاً صارخاً لسيادة ووحدة سورية، وتصعيداً خطيراً لن يسهم إلا بمزيد من الصراع والتوتر في المنطقة”. وأكدت “رفض المملكة المطلق، واستنكارها للاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على أراضي الجمهورية العربية السورية، في خرق واضح لاتفاقية فك الاشتباك للعام 1974 بين إسرائيل وسورية”. وحذرت من “مغبة تفجر الأوضاع في المنطقة”، مجددة تأكيد “وقوف المملكة مع سورية الشقيقة وأمنها واستقرارها وسيادتها”. كما دانت حركة حماس في بيان “بأشد العبارات العدوان الصهيوني الهمجي الذي استهدف أحياءً سكنية في قرية كويا”، معتبرة هذا العدوان “تصعيداً خطيراً للانتهاكات الصهيونية بحق سورية وشعبها، وجريمة حرب جديدة تضيفها حكومة الاحتلال الفاشي إلى سجلها الدموي، وتكشف عن نياتها الإجرامية المبيّتة تجاه سورية والشعب السوري”.
———————————
هجمات درعا والمطارين بالميزان الإسرائيلي.. ممنوع بناء قوة سورية/ حلمي موسى
26/3/2025
في إطار نظرية الأمن القومي الإسرائيلية الجديدة التي تم تطويرها بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول والقاضية بمنع تراكم المخاطر على طول الحدود وعرضها يهاجم الجيش الإسرائيلي بين حين وآخر مواقع داخل الأراضي السورية في الجنوب والوسط والشمال. وكانت آخر هذه الهجمات قصف بلدة كويا قرب مدينة درعا وتهجير الكثير من سكانها وقتل وجرح العشرات فيها. وجاءت الهجمات الأخيرة، وفق الرواية الإسرائيلية، بعد “رصد محاولات أولية من قبل النظام الجديد في سوريا لإعادة بناء البنية التحتية العسكرية بعد سقوط نظام الأسد”. وفي إطار هذه الهجمات تم قصف مطارين وطائرات ومدرجات ومواقع عسكرية واقتحام بلدات وإجراء تفتيشات واعتقالات.
ومعروف أن إسرائيل ترفض المنهج السائد في العالم الذي يتعامل مع النظام السوري الجديد على قاعدة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ودفعه نحو إنشاء دولة موحدة بعيدا عن الاقتتال والتشرذم. وفي هذا السياق عملت إسرائيل وبشكل علني من أجل تقسيم سوريا وإنشاء دويلات طائفية وقومية فيها لمنعها من استعادة دورها ومكانتها الإقليمية. ونظرت باستهجان حتى إلى الدور الأميركي الذي سهل اتفاق الجيب الكردي في الشمال مع النظام الجديد على الانضواء تحت راية الدولة السورية. كما ترفض إسرائيل التحالف القائم بين هذا النظام والحكومة التركية وترى في التعاون العسكري بين الجانبين مقدمة لخطر جوهري جديد. ورأت سوريا في الأحداث المؤسفة والدامية في الساحل السوري فرصة لإفلات زمام الأمور وتوجيه الكل السوري نحو حرب طائفية تكون هي المستفيدة الأولى منها والقادرة على الظهور بمظهر الحامي الفعلي للأقليات الدينية والمطالب باعتراف العالم بذلك.
تعزيز منهج
وحاولت إسرائيل عبر توغلها في الأراضي السورية تشكيل نوع من الحماية للدروز في جبل العرب على أمل تشجيعهم على الانفصال أو على الأقل توفير قاعدة للتوتر الدائم في المنطقة. كما وسعت احتلالها للمنطقة العازلة في هضبة الجولان جنوبا نحو روافد نهر الأردن في سهل حوران نحو الحدود الأردنية. وأعلنت عبر وزير حربها إسرائيل كاتس أن تواجدها، خصوصا في جبل الشيخ السوري، ليس مؤقتا وإنما هو دائم. وأملت من خلال ذلك تعزيز منهج تفكيك الدولة السورية وتوجيهها نحو الاندثار والغياب.
وفي ليلة الثلاثاء هاجم الجيش الإسرائيلي وفق بيان صادر عنه قدرات عسكرية متبقية في محيط قاعدتي تدمر و”تي 4″ (T4) العسكريتين في سوريا. وهاجم سلاح الجو أي محاولة لنقل منظومات الأسلحة أو إعادة تأهيلها، كما فعل في قاعدة “تي 4” (T4) وتدمر ضد منظومات أسلحة متبقية من جيش الأسد. في الوقت نفسه، نفذت قوات المشاة والمدرعات والهندسة التابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي غارات على الأراضي السورية في الجنوب. وقال مصدر عسكري رفيع المستوى إن الهدف من هذه الغارات هو “ضمان عدم نمو الأعشاب المحلية”.
وكانت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أجرت عدة مناقشات في الأسبوع الفائت بشأن موضوع الجبهة الشمالية والعمليات التي تجري في جميع أنحاء سوريا -بما في ذلك محاولات النظام السوري الجديد-لاستعادة البنية التحتية العسكرية مثل بطاريات الدفاع الجوي والصواريخ والقذائف في الجزء الجنوبي من سوريا-. وجرى التأكيد على أن الموقف العام في المؤسسة الأمنية هو أنه من أجل الحفاظ على التفوق الجوي لإسرائيل والسماح بحرية العمل، يجب إحباط أي محاولة من هذا القبيل أو الكشف عن الأسلحة المتقدمة. وبناء على ذلك يتم تنفيذ هجمات في قلب الأراضي السورية لتدمير تلك الأنظمة أو محاولات أي عناصر معادية التمركز فيها.
قصف كويا
وقد استنكرت الخارجية السورية “العدوان الإسرائيلي المستمر على الأراضي السورية، الذي شهد تصعيدا خطيرا في قرية كويا بريف درعا الغربي”. وقال بيان صادر عنها إن قرية كويا تعرضت لقصف مدفعي وجوي مكثف استهدف الأحياء السكنية والمزارع، مما أسفر عن استشهاد 6 مدنيين، مع احتمال ارتفاع العدد نتيجة الإصابات الخطيرة واستهداف المناطق الزراعية. وشددت على أن التصعيد يأتي في سياق سلسلة من الانتهاكات التي بدأت بتوغل القوات الإسرائيلية في محافظتي القنيطرة ودرعا، ضمن عدوان متواصل على الأراضي السورية، في انتهاك صارخ للسيادة الوطنية والقوانين الدولية. وطالبت بفتح تحقيق دولي حول الجرائم المرتكبة بحق الأبرياء وحول الانتهاكات الإسرائيلية.
وطبيعي أن من يطمح إلى تفكيك سوريا لا يرتاح لا للقبول العربي للنظام الجديد ولا للقبول الدولي وخصوصا الغربي. وبضمن ذلك فإنه غير مرتاح للموقف الأميركي الذي يحاول إقامة علاقات مشروطة بهذا النظام. وتصر إسرائيل على أن الغرب والعالم مخدوعون بالنظام الجديد انطلاقا من واقع أن الرئيس الحالي، أحمد الشرع، هو في الأصل جهادي ينتمي إلى تنظيم القاعدة قبل أن يلتحق بجبهة النصرة ويقوم لاحقا بتشكيل هيئة تحرير الشام. وهي ترى في كل هذه المنظمات جماعات إرهابية لا يغير من طبيعتها وطبيعة قائدها خلعه البزة العسكرية وارتداؤه بزة رسمية. ورغم مصالح الدول المختلفة مع سوريا لم تتردد إسرائيل في إبداء الاعتراض والتحفظ على سلوك كل الدول الغربية، وخصوصا أميركا وألمانيا وفرنسا، تجاه النظام الجديد في سوريا.
وتبدي إسرائيل قلقا واضحا إزاء التبني التركي للنظام الجديد والعلاقة التي أنشأتها مع زعيمه، أحمد الشرع. ومرارا ألمحت إسرائيل إلى مخاوفها من اندلاع صراع مباشر لها مع تركيا بسبب سوريا. ورغم أن إسرائيل استغلت الانهيار السريع لنظام الأسد وسارعت لتدمير أكبر قدر من القدرات العسكرية الإستراتيجية السورية بهدف منع النظام الجديد من السيطرة على الأصول الإستراتيجية فإنها ظلت تخشى إعادة بناء هذه الأصول. وتبدو تركيا حاليا صاحبة المكانة الأوفر حظا للعب دور مركزي في إعادة بناء أصول إستراتيجية جديدة لصالح هذا النظام. ولذلك تشيع بأن التحالف التركي السوري يتحول إلى أن يغدو “مصدر القلق الحقيقي”. وربما من أجل منع هذا الخطر أو تقليصه سعت لدى الإدارة الأميركية من أجل بقاء القواعد العسكرية الروسية على أمل أن تشكل توازنا مع الوجود التركي. ولكن ثمة من يرى أن التعبير الإسرائيلي عن المخاوف من تركيا ينبع أصلا من رغبة اليمين الإسرائيلي في إبقاء الصراع ساخنا على كل الجبهات وإحلال الخطر التركي مكان الخطر الإيراني لاحقا.
الخطوط الحمراء
وهكذا فإن الهجمات العسكرية الإسرائيلية على أهداف ومناطق مختلفة في كل أرجاء سوريا تحقق غايات مختلفة ومتنوعة يمكن تلخيصها بالآتي: أولا وقبل كل شيء رسم ما تسميه بالخطوط الحمراء والإصرار على إزالة كل ما تعتبره خطرا أوليا يمكن أن يتراكم ويغدو خطرا جوهريا. وفي هذا السياق تحاول ضرب كل تحرك أو انتقال عسكري على الحدود السورية اللبنانية والسورية العراقية. وتحاول زيادة تأمين الحدود السورية الأردنية خصوصا في ظل ما تدعيه من احتمال نشوء ترتيبات قد تساعد في توتير الجبهة الأردنية الإسرائيلية.
وثانيا، تحاول إسرائيل وبكل ما تمتلك من قوة منع تركيا من محاولة إعادة بناء الجيش السوري بإشراف أو بمعدات تركية. وثمة من يعتبر أن الهجمات الأخيرة على تدمر وقاعدة T4 تقع في هذا السياق حيث تم تدمير معدات جديدة عبارة عن حاملات جند مدرعة من تركيا. وكانت القناة 12 في التلفزيون الإسرائيلي قد أشارت إلى أن مهاجمة المطارين قرب تدمر هي رسالة لتركيا بأن إسرائيل لن تسمح لتركيا بنشر قوات على شاكلة الانتشار الروسي. وحسب المراسل العسكري للقناة، نير دفوري فإن “هذا الهجوم على المطارات بمثابة إشارة للأتراك: لا تحاولوا أن تكونوا مصدر تهديد ومصدر احتكاك آخر”.
وثالثا، تحاول إسرائيل عبر الضربات المتلاحقة في سوريا إظهار أنه ليس أمام النظام الجديد من سبيل لحماية نفسه سوى إسرائيل. وبالتالي فإن نظرية تجنب الصدام مع إسرائيل السائدة حاليا في دمشق ليست كافية في نظر تل أبيب وينبغي تكريسها باتفاقات سياسية ترسخ هذه الفكرة ووفق الشروط الإسرائيلية. وليس صدفة أنه تواترت في الفترة الأخيرة تصريحات على لسان مسؤولين أميركيين حول فرص توسيع الاتفاقات الإبراهيمية لتشمل أيضا لبنان وسوريا.
مفتاح الأمن
وقد حاول العميد (احتياط) أمير أفيفى، رئيس ما يسمى بـ”الأمنيين”، تلخيص ما يجري في مقابلة مع “معاريف” أن “مفتاح أمن إسرائيل هو الحفاظ على حرية عمل الجيش الإسرائيلي الكاملة في جميع أنحاء سوريا ولبنان من أجل منع تعزيز قوات جولاني وحزب الله والحفاظ على منطقة عازلة في جنوب لبنان ومرتفعات الجولان السورية والتي ستكون منزوعة السلاح”. “إلى جانب ذلك، بناء تحالفات مع الدروز والأكراد في سوريا، وربما حتى مع المسيحيين في لبنان الذين يخشون سقوط لبنان في أيدي قوات الجولاني”.
ويشير أفيفي حتى إلى سيناريو قد يخدم فيه النفوذ الروسي المتجدد في المنطقة المصالح الأمنية لإسرائيل: “إسرائيل مهتمة أيضًا برؤية روسيا مهيمنة مرة أخرى في المنطقة العلوية على طول الساحل السوري من أجل التأثير على قدرة تركيا على دخول سوريا والاقتراب من إسرائيل”، كما يوضح. “إن قدرة الروس على التواجد في سوريا تعتمد على نهاية الحرب في أوكرانيا”. وفي الختام، يؤكد أفيفي أنه “في ظل هذا الواقع الديناميكي في الشمال، يجب على إسرائيل أن تبقى حاضرة في لبنان وسوريا”. وحسب قوله فإن هذا هو السبيل الوحيد لضمان أمن حدود البلاد ومنع تقوية أعدائها.
المصدر : الجزيرة
———————————-
مزدوجات الهوية السورية: حروب أهلية أم تسويات حقيقية؟/ موفق نيربية
تحديث 27 أذار 2025
هناك حرص شديد بين السوريين- معظمهم- على مختلف مشاربهم وخلافاتهم، على الامتناع عن وضع عصيّ في عجلات السلطة الجديدة، التي خلّصتهم من النظام الأسدي الفظيع، وعلى الحذر في إبداء الملاحظات النقديّة أيضاً. لكنّ نجاح شباب المجتمع المدنيّ السوري في إنهاء ما سُمّي بمؤتمر الحوار الوطني بسلاسة، وغربلة آراء الموجودين خلال سويعات قليلة، مع مراعاة «أهل الدار» وعقليتهم السياسية، التي تعرّضت إلى عمليّة تأهيل كبيرة، من حيث كانت، إلى حيث ينبغي من التكيّف السياسي، لدخول دمشق من دون ردّ فعل عاصف دولي وإقليمي.. وربّما محلّي.
إلّا أن صدور «الإعلان الدستوري» على شكله الذي ظهر به، والمعارك والمجازر في منطقة الساحل وجبالها، أضافا توتّراً ملحوظاً على علاقات السلطة المنتصرة خارجياً وداخلياً، مع أن الأمرين لا تجمعهما سلّة واحدة بالتأكيد، لأنّ الأوّل عرضة للنقاش والجدال، والتعديل والإحالة إلى مشروع الدستور الدائم على الأقلّ، والثاني يحفر عميقاً في الوحدة الوطنية، ويخرج أحشاءها إلى العلن، وأخطارها إلى الأفق المنظور.
يعيش كثير من السوريين حالة إنكار مستدامة، يرفضون فيها من يطرح أيّ شيء يمتّ إلى مزدوجات الهويّة السورية. تلك حالة موروثة من «النهضة القومية» و»الصحوة الإسلامية»، أو ممّا حولهما، عندما كان اسم الإثنيْات والطوائف يثير حساسية ورفضاً مقيماً، ونذكر القول المأثور المتكرّر» لم نكن هكذا، لم نكن نعرف أن هنالك مختلفين، وكنّا أحباباً كلّنا معاً». كان الذي يذكر كلمة «الطائفية» يُتّهم بالطائفية فوراً، حكماً مبرماً غير قابل للنقض: تابو مكتمل الأركان. لدينا مزدوجة «كردي – عربي»، التي تعاظم حجمها وعمقها بالتدريج مع الزمن، ابتداءً من عصر» النهضة العربية» الثانية في العصر الناصري – البعثي خصوصاً، عندما استنهض ذلك «القومية الكردية»، وتشكّلت الحركة السياسية الكردية، وتهيّأت لها عدّة وجبات من التغذية المضادّة، في الإحصاء العام، الذي أسقط جنسية عدد مهم من كرد سوريا، وفي الحرب على كرد العراق التي تطوّع بعث الشام بتقديم العون لها.
وبقيت أجواء الانعزال سائدة حتى ربيع دمشق، ثم انتفاضة مارس/آذار 2004، وانخراط الكرد مع الآخرين في حركة واحدة مع تشكيل تحالف دمشق. كانت الحماسة « الوحدوية» تزداد في أيام النهوض واليقظة، والانعزالية في أيّام الركود والتفسّخ. وفي أيّام الثورة، ظهر انقسام كردي واضح، بين طرف يستلهم التجربة السياسية الكرديّة في العراق، وآخر يستلهم تلك في تركيا. وأصبح لدينا في سوريا « مجلسا وطنيا» و»مجلس سوريا الديمقراطية». حالياً هنالك ذروة في المشاعر المتعارضة، لم تتعارض مع احتفالات باهرة بتوقيع اتفاق بين السلطة الحالية وقسد. ويتراوح الوضع ما بين طبول حربٍ تزيد من حدّتها السياسات التركية بالغة الحساسية، وتباشير وفاقٍ ونجاح في التسوية.
في أقصى الجنوب الغربي، هنالك خصوصية في درعا، وخصوصية أشدّ تبلوراً في السويداء ما بين درزيْتها و» السنّية» السورية، التي تضاعفت يقظتها عدّة مرات بعد نجاحات هيئة تحرير الشام. هنا دور مهمّ للقرب من الجولان وإسرائيل، التي ترى في بعض دروز إسرائيل باباً مهمّاً للتدخّل في الشؤون السورية، لتحقيق تغيير إضافي، يجعل من جنوب دمشق كلّه منطقة منزوعة السلاح، تتخيّلها ستكون «صديقة» أكثر من الآخرين، وحاجزاً يمنح الأمن الاستراتيجي لها ويحصّنها من أسباب خوفها وقلقها المرضيّ الدائم. ومن الطبيعي أن يشعر بعض الدروز السوريين في السويداء وجبل الشيخ، وحتى في جرمانا – ضاحية دمشق- بشيء من الحصانة بسبب ذلك، لكنّ ذلك يصطدم بميول وطنية رفيعة، موروثة من أيّام تولّي سلطان الأطرش قيادة الثورة السورية ضدّ الفرنسيين، وذلك فخر لا ينساه الدروز الفخورون بطبعهم. وقد ظهر هذا الميل طاغياً في أكثر من عام من الاعتصام الدائب في ساحة الكرامة، الحالة التي أدّت إلى تنشيط الوطنية السورية/الثورية في كلّ البلاد. تحتدم تفاعلات هذه المزدوجة بقوة حالياً، وتشكّل تحدّياً آخر لمشروع سوريا الجديدة التي تجهد للخروج إلى العالم.
المزدوجة الثالثة التي شعلت سوريا والعالم بشكلٍ خاص مؤخّراً هي العلوية- السنّية بدورها، وهي مزدوجة عايشت نظام الأسد الأب والابن، ونمت في عهدهما، بسبب انتماء تلك العائلة نفسها، وتركيبة الطائفة الفقيرة التي عزّز الأسدان انطلاقها نحو الجيش وأجهزة الأمن، من خلال حجب إمكانيات التطوّر «العادي» من أمامها، كما أصبح متداولاً الآن.
هنالك حدّة وخصوصية بارزة في هذه المزدوجة، تَزِرُ» فيها الطائفة العلوية أوزار النظام الساقط، الذي عاش طويلاً على القمع والطغيان والمجازر، التي كانت ذروتها في حماة 1982، وفي سجون تدمر وصيدنايا، والحجم الهائل/المليونيّ للقتل والتدمير والتشريد في الخمسة عشر عاماً الأخيرة، الأمر الذي وقع معظمه على السنة كنوع.. مع أن بعضه وقع على العلويين أيضاً، بما يجمعهم مع الشعب العاديّ كلّه حين تعرّض للفقر والحاجة إلى الخبز والأمان، وبما هم عليه من» خيانة» لفضل الأسدين عليهم. بعد تهاوي نظام الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، ورغم هروب القادة معظمهم، تحصّن البعض في الجبال، واحتمى آخرون بالقاعدة الروسية، وبدأوا كما يبدو بالحشد والتحضير لمحاولة استعادة السلطة، ولو في منطقة الساحل وجبالها وحسب: أولئك هم «الفلول» كما تسمّيهم السلطة ومعظم الناس – من كلّ الطوائف- في الأسبوع الأوّل تحرّك هؤلاء واختطفوا عناصر من القوى الأمنية والعسكرية وقتلوا العديد منهم، مّا أدّى إلى الإحساس بالخطر والاستفزاز، ودفع إلى النفير والاستنفار، وتدفّق قوى غير منضبطة، رغم أنّ نواتها معروفة التركيب والمرجعية من دون لبس.. وكانت النتيجة وقوع مجازر بشعة بالمدنيين خصوصاً في القرى والبلدات.
تمكّن ذلك المسار من وضع البلاد أمام المزدوجة الأشدّ خطورة والأكثر جراحاً، الأمر الذي أخرج القيح المتراكم المكتوم إلى المشهد بين السوريين وأمام العالم… رغم الجهود الكبيرة التي تعمل على «كتم» انبثاق ذلك القيح، وتخميد نداءات الثأر والانتقام من جهة، وصرخات المظلومياّت المتقابلة.
في النتيجة الآن، أصبحت كلمة» التقسيم» عادية أكثر، وتُناقش وسوف تُناقش لاحقاً. وليس سهلاً على الإطلاق مواجهة تلك الحالة المتفجّرة، والسلطة الحالية تعيش آلام الولادة، وتجهد لتأمين قوت الشعب، الذي أصبح سوريا كلّها بعد أن كان إدلب وحدها، ولبناء دولةٍ انهار الجزء الأكبر والأهمّ منها.. والأصعب هنا مواجهة تحدّي التحوّل من عقلية كانت إرهابية، إلى عقلية مدنية وحديثة ومتكيّفة مع العالم المنشغل بأمور أخطر كما هو الآن، ومع المنطقة التي تعصف فيها همومها الكبيرة حاليّاً. لكنّ هنالك بعض الضوء أيضاً، الخافت لكن الموجود أيضاً. ذلك صحيح رغم أنه لا يمحو الأخطار الداهمة، ولا يستطيع وحده مواجهة المدّ ولا الوقائع كلّها. لا يستطيع أيضاً مواجهة فيض اليقين الذي أصاب جزءاً أو أجزاءً مهمة من النخب السورية، وأبقى بعضهم بعيداً لم ينخرط في العملية السياسية الجارية في داخل البلاد، ينتظر أن تستقيم بذاتها، أو بفعل القوى الخارجة عنها.
جاء ذلك الضوء من اتفاق أحمد الشرع ومظلوم عبدي، على وحدة البلاد وتوحيدها، وعلى إشارات بسيطة إلى المسار الواجب سلوكه في المفاوضات الصعبة المقبلة. يشير ذلك أيضاً إلى أن طريق التسويات هو الوحيد الذي يمنع القطار المُثقل بأحماله من الخروج عن السكة. وليته يساعد كلّ السوريين على تفهّم كون الحروب الأهلية والتفتت واقعاً ينتظرهم من دون التسويات، وأن التسويات مستحيلة من دون التنازلات والتنازلات المقابلة.
*كاتب سوري
القدس العربي
————————
دمشق تنتظر مواقف ناضجة في الولايات المتحدة وإسرائيل/ عدنان علي
2025.03.26
لعل أبرز وأهم اختبار يواجه الإدارة في دمشق على صعيد سياستها الخارجية، يتعلق أساسًا بالعلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، نظرًا لما تمثلانه من تحديات على مستويات عدة، وما تملكانه من قدرات للتأثير على مجريات الأمور في سوريا، بينما تبدو دمشق حيالهما منزوعة الحول والقوة، وغير قادرة حتى على اتخاذ مواقف واضحة حتى الآن لتحديد إطار هذه العلاقات.
وفي ظل شحّ في التصريحات الصادرة عن مسؤولي إدارة الرئيس دونالد ترمب، والتي قد تُقرأ منها ملامح الموقف الأميركي حيال سوريا، جاءت تصريحات مبعوث الرئيس الأميركي للشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، والتي أعرب فيها عن اعتقاده بإمكانية تطبيع لبنان وسوريا للعلاقات مع إسرائيل من خلال إبرام معاهدة سلام معها، كأوضح رسالة أميركية حتى الآن لما تنتظره واشنطن من الإدارة الجديدة في سوريا، إضافة طبعًا إلى جملة من المطالب الأخرى ذات الصبغة العمومية، والتي تتقاطع مع مطالب أوروبية وعربية، وحتى سوريا داخلية، مثل توسيع المشاركة في الحكم، واحترام حقوق الأقليات والمرأة… الخ.
ورغم أن هذا النهج، أي محاولة دفع المحيط الإقليمي للتطبيع مع إسرائيل، ليس جديدًا في السياسة الأميركية، وقد عبّرت حتى الإدارة الأميركية السابقة عن دعمها لهذا المسار، خاصة بين إسرائيل ولبنان من خلال مبعوثها إلى المنطقة عاموس هوكستين، إلا أن الجديد هو أن واشنطن ترى أن ذلك بات ممكنًا على أرض الواقع، وفق ما صرّح به ويتكوف، وذلك بسبب ضعف حزب الله جرّاء حربه الأخيرة مع إسرائيل، وكذلك سقوط نظام بشار الأسد وتراجع النفوذ الإيراني في المنطقة، وفق ما تعتقد واشنطن.
ورغم هذه المتغيرات، فإن واشنطن تدرك أن التطبيع يحتاج إلى وقت وتهيئة الظروف المناسبة، لذلك يكون مفهوماً استمرار غياب الموقف الأميركي حيال الحكم الجديد في دمشق، والتراخي في رفع العقوبات، بينما تواصل إسرائيل قصف لبنان وسوريا، بغية تهيئة الظروف لطرح مطالب سياسية محددة عليهما، تتصل كما هو واضح بالتطبيع المجاني مع إسرائيل، وإسقاط المطالب بالأراضي المحتلة “القديمة”، أي الجولان بالنسبة لسوريا، ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا بالنسبة إلى لبنان.
ورغم ما يبدو أنه توافق في الأهداف والنهج بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أنه لا يخفى أن ثمة تعارضات كثيرة بين الجانبين في الموقف المبدئي إزاء التطورات في سوريا.
فبينما تقول واشنطن إن سياستها في سوريا تركز أولًا على “مكافحة الإرهاب”، وتحديدًا تنظيم “داعش”، ويستتبع ذلك رعاية السجون التي تضم عناصر التنظيم المعتقلين في سوريا، فإن هذا الأمر لا يشكّل أية أهمية لإسرائيل.
كما أن الولايات المتحدة تسعى إلى قدر من الاستقرار في سوريا للوصول إلى حكومة قادرة على تحقيق الهدف الأول وضبط الوضع في البلاد بشكل عام، ولذلك شجعت ودفعت قوات “قسد” لتوقيع اتفاق التعاون مع الرئيس الشرعي، بينما تسعى إسرائيل إلى عكس ذلك، وتشجع “قسد” على عدم التعاون مع دمشق، وعلى تصعيد مطالبها الانفصالية، كما تشجع مكونات أخرى في الاتجاه نفسه، مثل الدروز في جبل العرب، وهي تريد بشكل عام حكومة ضعيفة في دمشق، ودولة ضعيفة في عموم سوريا.
وفي حين عبّرت واشنطن عن ترحيبها بالحكم الجديد في دمشق الذي أنهى الوجود الإيراني في سوريا، وقطع علاقاته مع حزب الله، فإن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة نسبت ذلك لنفسها، ولم تعترف بأي فضل للحكم في دمشق بهذا التطور. ومن التناقضات أيضًا، مسعى إسرائيل إلى إقناع روسيا بالإبقاء على قواعدها في سوريا لموازنة الوجود التركي هناك، بينما تريد واشنطن من الإدارة في دمشق إبعاد الروس كليًا عن البلاد.
وخلاصة القول، ما يمكن استنتاجه أن الحكومة في دمشق، والتي لم تتلقَّ على الأرجح أية عروض رسمية للتطبيع مع إسرائيل، وكانت تصريحات ويتكوف نوعًا من جسّ النبض، ما تزال في موقف الترقب بانتظار تبلور ونضوج سياسة أميركية واضحة تجاه سوريا يمكن البناء عليها. إضافة إلى أن هذه الحكومة لا تعوّل كثيرًا على ما يصدر من مواقف وتصريحات من جانب حكومة نتنياهو المأزومة داخليًا، والتي تفتح جبهات عسكرية عدة في غزة ولبنان وسوريا، ولا يمكن تالياً معرفة السياسة الإسرائيلية الحقيقية تجاه سوريا ما لم تصل إلى السلطة حكومة إسرائيلية أكثر تعقلاً من الحكومة الراهنة، التي تعيش في ذروة أوهام القوة، وتظن أن بوسعها فعل ما تريد في المنطقة دون رادع من أحد.
وهنا، ينبغي ألا نغفل عن عامل مهم لم يتم تفعيله حتى الآن في العلاقة مع إسرائيل، وهو الموقف التركي، وما يمكن أن تسفر عنه تفاهمات محتملة بين الرئيس أردوغان ونظيره الأميركي ترمب، بشأن عدد من الملفات، وفي مقدمتها الملف السوري. وفي حال نجح أردوغان في الوصول إلى هذه التفاهمات، والحصول على تفويض أميركي لإطلاق يد تركيا في سوريا، بما في ذلك محاربة تنظيم “داعش”، فإن من شأن ذلك ردع إسرائيل وفرملة سياستها الطائشة تجاه سوريا.
تلفزيون سوريا
——————————
إيران و”تعمد” خلق الفوضى في الجنوب السوري/ صبحي فرنجية
دور النافخ في بيت النار
27 مارس 2025
تجددت الهجمات الإسرائيلية على محافظة درعا صباح الثلاثاء 25 مارس، مستهدفة بلدة كويا غربي درعا، ما تسبب في مقتل سبعة مدنيين، وإصابة عدد من الأشخاص بجروح متفاوتة. ويأتي هذا القصف بعد أسبوع من هجمات مماثلة على محافظة درعا استهدف المنطقة ما بين اللواء 132 ومنطقة مساكن الضاحية غربي درعا. الجانب الإسرائيلي برر هجماته بأن قواته تعرضت لإطلاق نار من قبل مسلحين في بلدة كويا، دون وقوع إصابات في صفوف الجيش الإسرائيلي، بحسب ما ذكرت هيئة البث الإسرائيلية.
وبحسب مصادر محلية تحدثت معها “المجلة”، فإن الأهالي في المنطقة سمعوا أصوات إطلاق نار في بلدة كويا، ليتبعه قصف مكثف من قبل الجانب الإسرائيلي، إلا أن المصادر أكدت أنها لم تتمكن من معرفة الجهة التي أطلقت الرصاص، هل هو رصاص إسرائيلي أم رصاص مسلحين في المنطقة. وأضافت المصادر أن خلايا الميليشيات الإيرانية يمكن لها أن تلعب دور النافخ في بيت النار، خصوصا وأن الاستقرار في المنطقة لا يخدم مخططاتها الساعية لخلق بيئة مواتية لإنشاء خلايا جديدة لها في الجنوب السوري.
وتبذل إيران في الآونة الأخيرة جهودا لإعادة مد خطوط التواصل والدعم مع مجموعات كانت تتبع لها وتعمل معها لسنوات في سوريا، وتحديدا في درعا وحوض اليرموك، والمنطقة القريبة من الحدود السورية العراقية والسورية اللبنانية، في الوقت الذي أكد فيه مسؤول في جهاز الأمن العام بدمشق لـ”المجلة” أن الحكومة السورية تدرك أن إيران لن تُسلم بخسارتها في سوريا، وأن الأمن العام بدأ بتشكيل فرق رصد ومتابعة في عدة مناطق سورية حيوية منها الجنوب السوري، في محاولة لمنع إيران من إعادة إنتاج مجموعات جديدة تتبع لها. وكان لافتا أن وكالات تابعة لإيران نشرت في الثالث من مارس/آذار الجاري أخبارا عن تشكيلٍ جديد يُسمى “المقاومة الإسلامية في سوريا- أولي البأس” حيث من المرجح أن يكون هذا التشكيل هو المظلة التي ستعتمدها الماكينة الإعلامية الإيرانية لزعزعة الواقع الأمني الهش في سوريا.
أموال إيرانية إلى درعا وتحضيرات تنظيمية
مصادر خاصة قالت لـ”المجلة” إن مجموعات صغيرة في منطقة اللجاة بدرعا وطفس وقرى أخرى تسلمت أموالا أتت من شخصيات مرتبطة بـ”حزب الله” اللبناني، بهدف إعادة تشكيل ولاءات جديدة لـ”الحزب” والمشروع الإيراني في الجنوب السوري، والترويج إلى أن هذه التشكيلات سيكون هدفها مواجهة التوغل الإسرائيلي في الجنوب السوري ومقاومته، وبحسب المصادر فإنه يتم إخبار “العناصر المحتملين” بأنه في الوقت الراهن لا توجد أي أوامر لبدء عمليات ضد الوجود الإسرائيلي، بل ستكون المرحلة متسمة بـ”الترقب والتنظيم، بانتظار الفرصة المناسبة لبدء التحرك الميداني”.
وحصلت “المجلة” على معلومات من مصادر خاصة تُفيد بأنه ومنذ شهر ونصف تقريبا وصلت مبالغ كبيرة إلى درعا (تتجاوز 200 ألف دولار) إلى شخصيات متصلة بالميليشيات الإيرانية سابقا، موضحة أن هذه الشخصيات كانت تعمل مع كمال الحسين القيادي التابع لـ”حزب الله” اللبناني الذي قُتل على يد مجموعة محلية في شهر أغسطس/آب من العام الماضي في قرية الجسري بالقرب من اللجاة، ميليشيا لواء الهادي سابقا والتابعة لـ”حزب الله” اللبناني، وشخصيات أخرى كانت على صلة مباشرة بالحاج ولاء المسؤول عن “حزب الله” اللبناني في الجنوب السوري سابقا.
النفوذ الجديد الموالي لإيران في الجنوب ما زال في مرحلة الإنعاش، والمرحلة الحالية هي مرحلة “تشكيل المجموعات ليتم لاحقا استخدامها في تنفيذ عمليات أمنية تشمل اغتيالات وتفجيرات، بهدف إثارة الفوضى، ومحاولة التحضير لعمليات تستهدف الوجود الإسرائيلي في ريف القنيطرة وأطراف منطقة حوض اليرموك بريف درعا الغربي لخلق توتر أكبر بين الحكومة الجديدة والجانب الإسرائيلي”، بحسب ما أفاد عنصر كان يتبع لميليشيا “الغيث” التابعة للفرقة الرابعة و”حزب الله” اللبناني في حديثه لـ”المجلة”.
في مطلع مارس/آذار الجاري، تداول ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي فيديو منسوبا لمجموعة في طفس توعدت باستهداف الوجود الإسرائيلي في الجنوب السوري، وبحسب المعلومات التي حصلت عليها “المجلة” من مصدر حقوقي في درعا فإن هذه المجموعة غير مرتبطة بأي فصيل معارض في الجنوب السوري، ولا تتبع للجان المركزية أيضا، وتوقعت المصادر أن تكون هذه المجموعة عبارة عن “مجموعة أونلاين”، وهذا أسلوب اتبعته إيران وميليشياتها كثيرا لخلق مظلة محلية يتم تحميل النشاطات الإيرانية عليها، وشبّه المصدر هذه المجموعة ومجموعة “المقاومة الإسلامية في سوريا” بمجموعة نشطت على الفضاء الإلكتروني خلال السنة الماضية وهي “المقاومة الإسلامية في العراق” التي تبنت عمليات ضد المصالح الأميركية في العراق وسوريا، في حين أن الذي كان يُنفذ العمليات هي ميليشيات تابعة لإيران في سوريا والعراق (فاطميون، زينبيون في سوريا، كتائب حزب الله في العراق).
وبحسب المصدر الحقوقي، المتابع لنشاط الميليشيات الإيرانية في درعا منذ سنوات، فإنه “لا يزال هناك الكثير من العناصر المرتبطين بالنظام السابق والميليشيات الإيرانية في درعا، وهؤلاء يمثلون قنابل موقوتة يمكن أن تكون قادرة على إحداث فوضى كبيرة، والتسبب في تدخل إسرائيل بشكل واسع سواء بريا أو من خلال تنفيذ غارات جوية قد تستهدف مناطق مدنية”، مشيرا إلى أنه مساء 21 مارس “قامت القوات الإسرائيلية الموجودة في سرية الجزيرة قرب بلدة معرية بحوض اليرموك بإطلاق قنابل مضيئة في سماء حوض اليرموك، والمعلومات تشير إلى أنه كان هناك تخوف لدى إسرائيل من تسلل عناصر مجهولين قد يقومون بتنفيذ هجمات ضدها في المنطقة”.
دمشق تعتبر نفوذ إيران “تهديدا مباشرا للأمن القومي”
قيادي في وزارة الدفاع السوري بدرعا أكد أن الحكومة السورية تعتبر “أي ميليشيا تتبع لإيران هي تهديد للأمن القومي السوري، وأي مجموعة أو شخص يثبت تعامله أو تواطؤه مع إيران هو عميل وستتم محاسبته”، وأضاف في حديثه لـ”المجلة”: “التعاطف مع إيران أصبح شبهة في الجنوب السوري، لأن النظام البائد ما كان ليوغل في الدم السوري لولا الدعم الذي قدمته له إيران، والكل يعلم أن الميليشيات الطائفية التابعة لإيران كانت تؤجج النعرات الطائفية وتنتهك الدم السوري، وحتى الآن نحن نحصد النتائج السلبية لأفعال هذه الميليشيات”.
وبحسب القيادي فإنه “يتم اتخاذ خطوات عملية لمنع وجود أي بؤر تابعة لإيران، لأن وجود أي نفوذ إيراني في الجنوب سيكون وبالا على المنطقة، حيث يمكن أن تستغل إيران هذه البؤر لخلق صراعات بين الحكومة الجديدة وإسرائيل، أو إحداث فتن داخلية سورية كما حدث في الساحل”، وتابع: “التعويل الرئيس بالإضافة إلى قوة الحكومة الجديدة وخطواتها لمواجهة نفوذ إيران، هو على وعي الشعب السوري، كما أن هناك ملفات في الأمن العام تُعنى بمواجهة النفوذ الإيراني، وفي حال ورود أي معلومات عن وجود أشخاص يعملون مع إيران يتم التحري عنهم والتحرك فورا لإيقافهم”.
في السياق ذاته، قال مصدر مسؤول في الأمن العام بدمشق في حديث لـ”المجلة” إن الحكومة السورية الجديدة تولي اهتماما بالغا لمواجهة أي نفوذ إيراني في سوريا، على مستوى تهريب المخدرات وإنتاجها، وعلى المستوى العسكري المُتمثل في تشكيل خلايا جديدة أو دعم خلايا قديمة تابعة لها هدفها زعزعة جهود إرساء الاستقرار في سوريا.
وأكد المسؤول أن “جهاز الأمن العام قام بتشكيل فرق تحرٍ ورصدٍ معنية بمتابعة أي نشاطات إيرانية في سوريا، هذه المجموعات تجمع المعلومات وتراقب عن كثب أي محاولة إيرانية لإعادة نفوذها في سوريا، وقد قمنا خلال الأسابيع الماضية بأكثر من عملية اعتقال في درعا ودير الزور وحمص والساحل السوري لمجموعات وأفراد يعملون لخدمة المشروع الإيراني الهادف إلى نشر الفوضى في سوريا”.
إيران لإبقاء الحد الأدنى من النفوذ
بعد سقوط النظام السوري، بالتزامن مع انهيار قوة “حزب الله” اللبناني أمام الضربات الإسرائيلية التي أطاحت بقادة الصف الأول لـ”الحزب” في سوريا ولبنان وعلى رأسهم الأمين العام السابق لـ”حزب الله” حسن نصرالله، تحاول إيران إبقاء نفوذٍ لها في ثلاث مناطق سورية حيوية، عند الحدود السورية العراقية، حيث تنتشر اليوم مجموعات تابعة لقوات “الحشد الشعبي” العراقي، و”كتائب حزب الله”، وبقايا الميليشيات الإيرانية التي كانت في دير الزور، والمنطقة الثانية هي الحدود السورية اللبنانية المُطلة على جبال القلمون وحمص والساحل السوري والتي ينتشر فيها “حزب الله” اللبناني وفلول النظام السابق، والمنطقة الجنوبية بالقرب من الحدود السورية-الإسرائيلية، والحدود السورية-الأردنية.
إيران تريد الحفاظ على الحد الأدنى من النفوذ حاليا في سوريا، لخدمة مصالحها الاقتصادية (المخدرات)، والعسكرية (تمرير السلاح إلى لبنان وإدارة مجموعات لتنفيذ مخططاتها في سوريا وإبقاء حالة الصراع مستمرة)، كما أن إيران ومن خلال تشكيل خلايا لها في سوريا يمكن أن تعيد نفسها إلى ساحة التفاوض مع الحكومة السورية والدول الإقليمية لتحصيل مكاسب اقتصادية وسياسية على مبدأ “الهدوء له ثمن”.
المجلة
——————————
المقاومة الشعبية بوجه العدوان الإسرائيلي على سورية… هل هي واقعية؟/ محمد أمين
27 مارس 2025
تعلو أصوات عربية ودولية رافضة للاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب السوري ومحاولة فرض واقع جديد بالقوة العسكرية، لكنها لا تترجم إلى أفعال أو ضغوط على الاحتلال، فيما تواصل الحكومة السورية سياسة التحذير من مخططات الاحتلال، وسط اعتبار البعض أن خياراتها محدودة وتقتصر على الجانب السياسي أو تغذية مقاومة شعبية لمواجهة العدوان الإسرائيلي على سورية الذي يستهدف دفع السكان إلى ترك بيوتهم وأراضيهم وخاصة في ريف درعا الغربي.
ويذهب البعض إلى القول إن المقاومة الشعبية أكثر الخيارات واقعية لمواجهة العدوان الإسرائيلي على سورية على غرار ما جرى أول من أمس، بعد محاولة قوة إسرائيلية التوغل في قرية كويا بريف درعا الغربي، والتي جوبهت بمقاومة شعبية، تبعها ارتكاب الاحتلال مجزرة، فيما تسبب القصف الإسرائيلي بموجة نزوح من المنطقة.
ودعت غالبية الدول الأعضاء في مجلس الأمن، خلال جلسة وُصفت بـ”العاصفة”، عقدت الثلاثاء الماضي، إسرائيل إلى احترام السيادة السورية وسلامة أراضيها والانسحاب إلى منطقة “فض الاشتباك” التي حددتها اتفاقية ظلت سارية 50 سنة، قبل أن تطيحها تل أبيب بعد سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي. وأجمعت ثلاث دول دائمة العضوية في مجلس الأمن (فرنسا، الصين، وروسيا)، على إدانة العدوان الإسرائيلي على سورية والمتواصل منذ الثامن من ديسمبر الماضي، وطالبت إسرائيل بالانسحاب من الأراضي السورية التي احتلتها أخيراً “دون تأخير”، في موقف من شأنه الضغط على الجانب الإسرائيلي الذي احتل أراضي سورية جديدة يخطط للبقاء طويلاً بها، ولا يزال يستند إلى دعم وتبرير أميركي لكل جرائمه.
وفي السياق، قال المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، غير بيدرسن، خلال إحاطة قدمها إلى أعضاء مجلس الأمن، إن الجانب الإسرائيلي يواصل هجماته على مناطق مختلفة من سورية، وهو يقوم ببناء بعض النقاط في المنطقة العازلة، معتبراً ذلك انتهاكاً لاتفاقية فض الاشتباك الموقعة في عام 1974. وأشار إلى أن “تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بالبقاء في سورية” مثيرة للقلق، داعياً مجلس الأمن إلى ضمان وفاء إسرائيل بالتزاماتها، وأن يكون وجودها مؤقتاً، وأن تحترم “سيادة سورية وسلامة أراضيها ووحدتها واستقلالها”. وفي السياق، صدر العديد من الإدانات من دول عربية، أبرزها قطر والسعودية والأردن، للاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب السوري والتي “تحاول تقويض الأمن والاستقرار في سورية”.
وارتكب الجيش الإسرائيلي الثلاثاء الماضي مجزرة بحق مدنيين في قرية كويا بريف درعا الغربي، من بينهم أطفال ونساء، بعد محاولة توغل من قوة إسرائيلية جوبهت بمقاومة شعبية. وخلقت هذه المجزرة موجة نزوح من المنطقة، دفعت وزارة الخارجية السورية، في بيان، للدعوة إلى “فتح تحقيق دولي بشأن الجرائم الإسرائيلية”، ومطالبة السوريين بـ”التمسك بأرضهم ورفض أي محاولات للتهجير أو فرض واقع جديد بالقوة”.
جنود إسرائيليون في الجولان، 27 فبراير 2025 (جلاء مرعي/فرانس برس)
تقارير عربية
جنوب سورية: اشتباك أول مع الاحتلال في ريف درعا
وتبدو الخيارات أمام الحكومة السورية محدودة لمواجهة العدوان الإسرائيلي على سورية ومحاولات تحويل المنطقة الواقعة جنوب دمشق، والتي تضم ثلاث محافظات هي درعا، والسويداء، والقنيطرة، إلى مجال نفوذ منزوع السلاح والسيادة السورية، لمصلحة تل أبيب. وتعوّل هذه الحكومة على الضغط الإقليمي والدولي الدبلوماسي لتشكيل جبهة رفض سياسية عريضة في مقابل جبهة عسكرية إسرائيلية يبدو أنها بصدد توسيع نطاق العدوان والاعتداءات، والبقاء إلى أمد طويل في الأراضي السورية. في المقابل، عقدت قيادة المنطقة الشمالية في جيش الاحتلال جلسة تقييم للوضع، أمس الأربعاء. وتنظر دولة الاحتلال إلى ما حدث على أنه “أخطر حادثة” في الجولان السوري المحتل، منذ سقوط نظام الأسد، وسيطرة جيش الاحتلال على بعض المناطق خلف الحدود في الهضبة.
خيارات رسمية وشعبية لمواجهة العدوان الإسرائيلي على سورية
ورأى المحلل العسكري العميد عبد الله الأسعد، في حديث مع “العربي الجديد”، أن هناك “خيارات رسمية وأخرى شعبية” لمواجهة العدوان الإسرائيلي على سورية الذي بدأ يطاول العمق الجغرافي السوري. وقال: “الحكومة تستخدم حالياً الخيار الدبلوماسي والتوجه إلى مجلس الأمن والمنظمات الدولية لوضع حد للعدوان الإسرائيلي”. ورأى أن على الحكومة “إطلاق يد الشعب السوري لمقاومة العدوان الإسرائيلي”، مضيفاً: “أهالي درعا لا يمكن أن يتركوا أرضهم لإسرائيل وهم مستعدون لتشكيل مقاومة كبيرة للحفاظ على أراضيهم. لدى الأهالي السلاح والحماس لمقاومة القوات الإسرائيلية”.
وكانت تل أبيب بدأت تدخلاً برياً وجوياً في سورية بعد يومين من سقوط نظام الأسد، ونفذت أكبر حملة قصف جوي في تاريخها، طاولت أغلب المواقع العسكرية السورية، في خطوة عكست مخاوف تل أبيب من سقوط نظام حافظ على هدوء الجبهة معها 54 عاماً. ويبدو أن الاستفزازات الإسرائيلية تهدف إلى جر الإدارة السورية الجديدة للدخول في نزاع عسكري معها، وفق الباحث العسكري ضياء قدور، الذي رأى، في حديث مع “العربي الجديد”، أن إسرائيل “تسعى إلى دفع دمشق للتورط في حرب مفتوحة معها، مما يسمح لها باستغلال ذلك لتحقيق مزيد من التوسع والسيطرة في المنطقة، خاصة على الأراضي السورية”. وتابع: “تضغط إسرائيل عسكرياً وسياسياً بهدف زعزعة استقرار النظام السوري وخلق تبريرات لدورها المتصاعد في المنطقة”.
ورأى قدور أن تركيا وإسرائيل “تتسابقان لملء الفراغ الأمني في سورية”، مشيراً إلى أن أنقرة “تواصل تعزيز نفوذها العسكري والتكنولوجي في الشمال السوري، لا سيما مع نشر رادارات ومنظومات تركية في مطار منغ (في ريف حلب الشمالي)، ما عزز مخاوف لدى الجانب الإسرائيلي من نفوذ عسكري متزايد في سورية. وأعرب عن اعتقاده أن أحد أهم الخيارات الاستراتيجية المتاحة للحكومة السورية “هو تعزيز العلاقات العسكرية مع حلفائها، بما في ذلك تركيا، التي تمثل قوة كبيرة في حلف ناتو”، مضيفاً: “هذا التحالف قد يشكل عامل قوة في مواجهة التحديات الأمنية التي تفرضها إسرائيل”.
احتقان شعبي في درعا
وبرأيه يصبح خيار المقاومة الشعبية “أكثر واقعية”، في ظل “الاحتقان الشعبي في درعا أو المناطق المجاورة” نتيجة العدوان الإسرائيلي على سورية، مضيفاً: “أعتقد أنه يمكن للمقاومة الشعبية المستندة إلى الدعم المحلي أن تشكل قوة ردع فعالة ضد أي محاولات إسرائيلية للتمدد أو فرض واقع جديد في المناطق المحتلة، فضلاً عن أنها من وسائل الضغط على المجتمع الدولي لردع إسرائيل”. ورأى أن “هذه المقاومة يجب أن تتسم بالوحدة والتنسيق الجيد مع القوى المحلية والحكومية”، مضيفاً: “التحديات كبيرة، خاصة مع عدم استقرار الحكومة السورية كلياً على المستوى الداخلي، إذ سيحتاج أي تحرك شعبي إلى تنسيق كبير وخطة استراتيجية واضحة لضمان نجاحه والتأكد من عدم تعرض المدنيين السوريين للخطر والانتقام الإسرائيلي”.
وفي السياق، أعرب الباحث السياسي، مؤيد غزلان، في حديث مع “العربي الجديد”، عن اعتقاده أن موجة الإدانات للاعتداءات الإسرائيلية على سورية “تعبر عن اهتمام المجتمع الدولي باستقرار سورية والمنطقة”، مضيفاً: “معادلة الأمن الدولي التي تحققت بفضل هزيمة المحور الإيراني والمليشيات التابعة له مكسب دولي صلب لكنه بات مهدداً حقاً بسبب العدوان الإسرائيلي على سورية”.
وبرأيه، فإن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين “نتنياهو الذي يتبع سياسة العداء الدائم لدول الجوار يهدد الأمن الإقليمي الذي حققته دمشق بعد إسقاط نظام الأسد”، مشيراً إلى أن التنديد الدولي لوحده “لن يجدي نفعاً إن لم يتبعه ضغط حقيقي بوجوب التوقف عن التدخل في الشؤون السورية”، موضحاً أن “هذا التدخل سيجلب الفوضى للمنطقة بأسرها لتعود إيران وتدعم التطرف المتستر بمحور الممانعة الزائف من جديد، وتندثر عندئذ كل مكتسبات انحسار المحور الإيراني ومحور حزب الله من المنطقة”.
وأعرب عن اعتقاده بأن استمرار السياسة الاستفزازية من جانب إسرائيل “سيدفع بسورية إلى عقد تحالفات دفاعية مع دول حليفة لتحاول ردع هذا العداء اللامبرر”. وبرأي غزلان، إن سياسة دمشق تقوم على “عدم استعداء أي دولة من دول الجوار”، مضيفاً: “لن تكون سورية منصة انطلاق لأي فصائل تقوض الأمن الإقليمي أو تعيق منهج سياسة الأولويات التي سنها الشعب السوري وحكومته في هذه المرحلة، والمتضمنة التعافي الاقتصادي وعودة المهجرين وإعادة الإعمار”. وتساءل: “هل المجتمع الدولي مستعد لموجة نزوح سورية جديدة في حال استمر العدوان الإسرائيلي على سورية؟ وهل سيسمح بعودة الفوضى وأذرع إيران إلى المنطقة تحت ذريعة المقاومة والممانعة على أكتاف السياسة العنجهية لنتنياهو؟
—————————
ما هي أهداف إسرائيل في الجنوب السوري؟… قراءة في التصعيد على درعا وكويّا/ محمد سليمان
سياسة نحن والحقوق الأساسية سوريا
الأربعاء 26 مارس 2025
ليست المرة الأولى التي يقف فيها أهالي درعا أمام اختبار وجودي، ولا المرة الأولى التي يُترك فيها المدنيون بلا درع سوى إرادتهم. فبين كل ضربة عسكرية وقرار تهجير، وبين كل محاولة لفرض واقع جديد، هناك ما لا يمكن كسره: ذاكرة المكان، ووجوه الشهداء التي تتحوّل إلى نقاط مضيئة في سماء الجنوب السوري، وإرادة الناس الذين يعرفون أنّ بيوتهم ليست مجرد جدران، بل خطوط حمراء ترسم حدود البلاد.
في الوقت الذي تزداد فيه الأوضاع توتّراً في مدينة درعا، والجنوب السوري عموماً، تواصل إسرائيل تنفيذ خطواتها في التوسّع العسكري والسياسي على حساب الأراضي السورية، محاولةً فرض واقع جديد عبر التهديدات المستمرّة ضد المدنيين والمقاومة المحلية. ومع محاولاتها ترسيخ وجودها في المنطقة، يظلّ الأهالي في درعا والمناطق المجاورة ثابتين في مواقفهم الرافضة لأيّ وجود إسرائيلي، متسلّحين بحقهم في الأرض والكرامة، ومتنبّهين إلى أنّ التهجير يعني احتلالاً دائماً لأرضهم.
ماذا حصل في بلدة كويّا؟
في حديث إلى رصيف22، يشرح الصحافي معتز حشيش، ابن مدينة درعا، عن التصعيد الخطير الذي شهدته بلدة كويّا (تُكتب أيضاً كويّة)، حيث قتل الجيش الإسرائيلي اثنين من المزارعين بدمٍ بارد، ما أدّى إلى اندلاع اشتباكات وتصعيد عسكري واسع النطاق.
في وادي كويّا، المنطقة الواقعة في وادٍ مقابل قوات إسرائيل التي تمركزت عند نقطة “الجزيرة” (مدخلها إلى ريف درعا الغربي)، التي احتلّتها إسرائيل بعد انهيار نظام الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، وبينما كان مزارعان يتّجهان إلى أرضَيهما، بحسب ما يؤكد حشيش، حاملَين سلاحاً شخصياً لحماية نفسيهما، فوجئا بدورية إسرائيلية يبدو أنها بدورها فوجئت بوجودهما أيضاً وشعرت بالخطر.
وقف الطرفان وجهاً لوجه، يُضيف حشيش، وحاولت الدورية الإسرائيلية انتزاع سلاحيهما، لكنّ المزارعَين رفضا، و”هنا جاء الردّ الإسرائيلي بإطلاق النار المباشر، ما أدّى إلى استشهادهما على الفور”. بعد ذلك، حاولت الدورية الانسحاب باتجاه البلدة، لكن الأهالي تصدّوا لها بالسلاح، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من التصعيد.
يقول حشيش، إنّ الجيش الإسرائيلي لم يكتفِ بإطلاق النار، بل ردّ بقصفٍ مكثفٍ من الدبابات المتمركزة في سرية الجزيرة، وهي القاعدة العسكرية التي بنتها إسرائيل بعد احتلالها النقطة السورية. لم تتوقّف العمليات عند هذا الحدّ، إذ أطلقت القوات الإسرائيلية طائرات مُسيّرةً قصفت كل تجمّعٍ للأهالي كان يظهر في المنطقة.
وأسفر القصف، بحسب المعلومات الأوّلية الموثوقة، عن مقتل ست ضحايا، بالإضافة إلى أكثر من عشرة جرحى، بينهم نساء وأطفال. كما تسبّبت الهجمات في حركة نزوح واسعة، حيث فرّ معظم سكان كويّا من البلدة منذ ساعات الصباح، خوفاً من استمرار القصف والتصعيد.
استفزازات متواصلة وتصعيد ممنهج
من جهته، يقول الناشط سمير سليفيني، ابن مدينة درعا، إنّ القوات الإسرائيلية ومستوطنين إسرائيليين لم يتوقّفوا عن الاستفزازات، حيث يدخلون القرى ويخرجون منها بحرية، ويمنعون السكان من الوصول إلى أراضيهم أو حصاد محاصيلهم. ووفق سكان البلدة، فإنّ هذه السياسات ليست جديدةً، لكنها ازدادت شراسةً عقب حادثة قتل أحد الرعاة قبل نحو أسبوع، حيث استهدفت قوات إسرائيل قطيعه، ما أدّى إلى نفوق نحو 100 رأس من الأغنام، في رسالة واضحة مفادها أنّ الأرض لم تعُد لأهلها.
يضيف سليفيني، أنّ الوضع الأمني في المنطقة يزداد تعقيداً، وأنّ المنطقة مكشوفة أمام طائرات الاستطلاع الإسرائيلية التي لا تهدأ منذ إسقاط النظام، مبيّناً أنّ إسرائيل تعتمد على تقنيات المراقبة المتطوّرة، ما يجعل أيّ تحرّك مكشوفاً لها ومهدداً بالقمع الفوري.
إسرائيل تستعدّ للبقاء
يكمل سليفيني، أنّ إسرائيل لا تتعامل مع المناطق التي دخلتها في سوريا باعتبارها مناطق وجود مؤقّت، بل تعمل على ترسيخ وجودها فيها، حيث بدأت قوات إسرائيل بإجراء إحصاء سكاني موسّع، عبر تسجيل السكان في القرى واحدةً تلو الأخرى، في خطوة تذكّر بالأساليب التي استخدمتها في احتلالات سابقة.
بجانب ذلك، شهدت المنطقة تدفّقاً غير مسبوق لـ”المساعدات الإنسانية”، ما عدّه البعض محاولةً لشراء الولاءات أو تهدئةً للسكّان الغاضبين. لكن الأخطر، بحسب ما يشدّد عليه متابعون، هو بدء إسرائيل بتوظيف أبناء المناطق المحتلة حديثاً ضمن أراضيها، برواتب عالية، في محاولة لاستقطابهم اقتصادياً.
ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها
ماذا تريد إسرائيل من الجنوب السوري؟
يقول حشيش، إنّ إسرائيل تواصل تعزيز وجودها العسكري في المنطقة، حيث تسعى في الأساس إلى جعلها منزوعة السلاح بالكامل. وفي الريف الغربي لدرعا، باتت القوات الإسرائيلية تدخل إلى قرى عدة وتخرج منها بشكل متكرّر، مثل كويّا وبيت العبدين وجملة وعين ذكر، متجهةً نحو القنية، وسط غياب أيّ تحرك لمنع هذا التمدّد.
ويشدّد على أهمية ما تمثّله نقطة “الجزيرة”، التي كانت نقطةً عسكريةً سوريةً قبل أن تحتلّها إسرائيل خلال يومين فقط، بعد انهيار نظام الأسد، محوّلةً إياها إلى قاعدة إستراتيجية رئيسية في عملياتها للسيطرة على الريف الغربي.
رفض شعبي… والمقاومة موجودة
“الوضع في مناطق الريف الغربي لدرعا يشهد تصعيداً خطيراً، حيث تتواصل الاعتداءات الإسرائيلية على المناطق القريبة من الحدود المحتلة، وسط تحركات شعبية تعكس رفضاً قوياً للاحتلال”؛ يقول الصحافي إبراهيم الحريري، من درعا، في حديث إلى رصيف22، مشدّداً على أنّ “المخاتير في القرى المجاورة للحدود المحتلة أكدوا مراراً أنّ المنطقة خالية من أيّ مظاهر مسلحة، لكن إسرائيل تبرّر دخول قواتها بالقصف والاعتداءات على المدنيين”.
ويشدّد الحريري، على أنّ هذا التصعيد ليس مجرد حادثة عابرة، بل هو جزء من سياسة إسرائيلية ترمي إلى توسيع نطاق نفوذها وسيطرتها على حساب الأراضي السورية، مضيفاً أنّ إسرائيل تحاول إقناع الأهالي بأنّها مجرد عمليات “استفزازية” غير موجّهة ضدهم، بينما الواقع يظهر رفضاً قاطعاً من الشعب السوري لهذه الانتهاكات.
ويلفت الحريري، إلى أنّ حالة الرفض الشعبي الواضحة لإسرائيل في المنطقة تتجلّى في رفض “المساعدات” التي قدّمتها إسرائيل للأهالي، وحرق بعضها تعبيراً عن رفض إدخالها من قبل “المحتلّين”. كما يشير إلى القرى الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكّانها بضعة آلاف، حيث يرفض أهلها بشكل قاطع أيّ شكل من أشكال الوجود الإسرائيلي.
السلاح في وجه إسرائيل
ويؤكد الحريري، أنه على الرغم من أنّ هذا التحرك الشعبي لا يستند إلى موقف حكومي رسمي، إلا أنّ الشعب السوري بأكمله مستعدّ اليوم لحمل السلاح في مواجهة أيّ محاولات لاحتلال أراضيه من قبل إسرائيل. “إذا أرادت إسرائيل دخول بيتي، سأدافع عن بيتي بكل ما أملك… الموقف الشعبي في المنطقة راسخ وثابت، ولن يتغيّر تحت أي ظرف”، يردف.
ويتابع ابن مدينة درعا حديثه قائلاً إنّ ما يحدث اليوم في درعا هو استمرار لمسار طويل من المقاومة الشعبية ضد إسرائيل، مؤكداً أنّ الشعب السوري لن يرضخ، وأنّ المواقف الشعبية الثابتة والواضحة تعكس قوة الإرادة ورفض إسرائيل مهما كانت الظروف، مستطرداً: “حتّى لو كان الثمن غالياً، نحن هنا ولن نخرج من بيوتنا”.
لا ردّ رسميّاً من الحكومة السورية
ويقول الحريري: “نحن في جنوب سوريا واثقون من موقف حكومتنا الرسمي، وأنه سيكون بالشكل الذي يجنّب سوريا حرباً جديدةً ويضمن في الوقت ذاته كرامة السوريين، وإلى حين التوصّل إلى اتفاق يضبط تجاوزات إسرائيل، سيبقى الشعب السدّ المنيع أمام أطماع إسرائيل”.
في غضون ذلك، يرى حشيش، أنّ الوضع الراهن لا يعكس أيّ نيّة حقيقية للتدخّل أو الردّ من قبل الجهات الرسمية في دمشق، إذ لم يحدث حتّى الآن أي تحرك عسكري ردّاً على ما جرى. وبدلاً من ذلك، اكتفت الحكومة بتوزيع وجبات طعام للنازحين الذين خرجوا من كويّا، كما وزِّع الخبز داخل البلدة، في خطوة للتهدئة لا ترقى إلى مستوى الحدث، وفق حشيش.
جدير بالذكر أنّ وزارة الخارجية والمغتربين السورية استنكرت، الإثنين 25 آذار/ مارس الجاري، “العدوان الإسرائيلي المستمرّ على الأراضي السورية، والذي شهد تصعيداً خطيراً في قرية كويّا”، من خلال “قصف مدفعيّ وجويّ مكثّف استهدف الأحياء السكنية والمزارع”.
وأفادت الوزارة بأنّ “هذا التصعيد يأتي في سياق سلسلة من الانتهاكات التي بدأت بتوغل القوّات الإسرائيلية في محافظتَي القنيطرة ودرعا، ضمن عدوان متواصل على الأراضي السورية، في انتهاك صارخ للسيادة الوطنية والقوانين الدولية”.
وبينما أكدت رفضها القاطع لهذه الجرائم، مطالبةً بفتح تحقيق دولي في الجرائم المرتكبة بحقّ الأبرياء وفي الانتهاكات الإسرائيلية، ناشدت الوزارة “أبناء الشعب السوري التمسّك بأرضهم ورفض أي محاولات للتهجير أو فرض واقع جديد بالقوة”.
من جهته، يرى المحلّل السياسي رامي العزيزة، في حديثه إلى رصيف22، أنّ المنطق الذي تحكم به دمشق موقفها يمكن تلخيصه في نقاط رئيسية عدة أولاها السعي إلى نيل الشرعية الدولية، إذ تسعى الحكومة الحالية في سوريا بعد إسقاط النظام السابق إلى إعادة تقديم نفسها للعالم كجهة شرعية، لا كطرف منبوذ، وتالياً فإنّ أيّ مواجهة مع إسرائيل قد تُستخدم كذريعة لمنع الاعتراف الدولي بها، خاصةً من الدول التي قد تكون منفتحةً على إعادة العلاقات معها.
ويشير العزيزة، إلى أنّ النظام في دمشق يحرص على تفادي أيّ تصعيد قد يكون مدمّراً، حيث يدرك أنّ أيّ تصعيد عسكري مباشر مع إسرائيل سيؤدّي حتماً إلى ردّ فعل إسرائيلي قويّ، وهو ما قد يقوّض محاولاته لتثبيت حكمه بشكل كامل. في هذا السياق، والحديث لا يزال للعزيزة، تستغلّ إسرائيل هذه النقطة وتعتمد على أنّ النظام في دمشق لن يخاطر بمواجهة مباشرة طالما أنّ التهديد لا يصل إلى مركز سلطته.
كذلك، يلفت العزيزة، إلى أنّ إسرائيل تلعب على “المخاوف الجهادية”، إذ لطالما استُخدِمت حجة الخطر الجهادي لتبرير تدخلاتها في سوريا، ولإقناع المجتمع الدولي بعدم التعامل مع النظام. ولذلك، فإنّ أيّ تحرّك عسكري من دمشق ضد إسرائيل قد يتم تأويله باعتباره “دعماً لجهات معادية، بما يعيق أي محاولات للحصول على الشرعية الدولية”.
ويضيف العزيزة، أنّ النظام في دمشق يتعامل ببراغماتية، حيث يرى أنّه لم يخسر شيئاً طالما أنه لا يحظى بأي اعتراف دولي رسمي. وتالياً، يفضّل الحفاظ على سياسة “التفاعل المحدود” مع إسرائيل بدلاً من المخاطرة بمواجهة قد تؤدّي إلى تداعيات كارثيّة على مستقبله السياسي.
كما يوضح أنّ إسرائيل، في المقابل، لا تسعى إلى الفوضى المطلقة في الجنوب السوري، بل تهدف إلى إنشاء منطقة عازلة، ولكنها لا تطمح إلى بيئة غير مستقرّة تماماً لأنّ ذلك قد يشرعن المقاومة الشعبية التي تتطلّب المواجهة بالسلاح. ويعلم أنّ وجود بيئة غير مستقرّة قد يؤدّي إلى ظهور مجموعات مسلّحة قد تستغلّ الفراغ الأمني لشنّ هجمات على إسرائيل، وهو “سيناريو غير مرغوب فيه”. وتالياً، هدف إسرائيل ليس مجرد التمدّد بل خلق واقع يمكنها التحكم فيه بأقلّ تكلفة، مثل نموذج “التطبيع القسري” بدلاً من “الاحتلال المباشر”.
وفي ما يتعلق بعلاقة كلّ من تركيا والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وتأثير هذه العلاقات في المعادلة السورية، يوضح العزيزة، أنّ واشنطن لا ترغب في أن تكون تركيا ضعيفةً لأنها تعتمد عليها كحاجز أمام النفوذ الإيراني والروسي. كما ترى تركيا وحدة سوريا خطاً أحمر، فالتقسيم قد يزعزع أمنها الداخلي، خصوصاً في ما يتعلق بالقضية الكردية.
أما إسرائيل، وفق ما يقول، فتعرف أنه لا يمكنها تغيير الخريطة السورية بالكامل لأنّ ذلك قد ينعكس سلباً على الأمن الإقليمي، وقد يؤدّي إلى خلق فراغ قد تستفيد منه قوى أخرى. كما يعبّر العزيزة، عن أنّ الهدف الإسرائيلي هو إبقاء سوريا دولةً ضعيفةً غير قادرة على تهديد إسرائيل، ولكن غير فاشلة بالكامل. كما تسعى إسرائيل إلى دفع الحكومة السورية نحو “التطبيع القسري”، أي فرض اتفاقات تجعل من سوريا دولةً خاضعةً إستراتيجياً لإسرائيل دون الحاجة إلى خوض مواجهة مباشرة. لهذا السبب تتّبع إسرائيل سياسة “التلويح بأسوأ السيناريوهات”، لدفع دمشق إلى القبول بما هو أقل سوءاً، أي التطبيع تحت الإكراه.
ويرى العزيزة، أيضاً، أنّ هناك نقاطاً أساسيةً عدة تطلبها إسرائيل لإضعاف سوريا ولبنان لدفعهما نحو التطبيع، حيث تستغلّ سنوات الحرب في سوريا والأزمة الاقتصادية في لبنان لفرض واقع جديد. وتقدّم إسرائيل التطبيع كخيار “إجباري” مقابل الدعم المالي من دول غربية وخليجية، ولا سيّما في ظلّ الحاجة الماسة إلى إعادة الإعمار والاستقرار الاقتصادي. ويبيّن أنّ خلق بيئة غير مستقرّة في الجنوب السوري هو أحد الطرق التي تتبعها إسرائيل لتحقيق مكاسب إستراتيجية، حيث تسعى إلى فرض مناطق “منزوعة السلاح” في الجنوب، لتأمين الحدود ومنع أي تهديد مستقبلي، وكذلك استغلال الفوضى الأمنية والاقتصادية لدفع السكان إلى قبول العمل في مشاريع اقتصادية مرتبطة بإسرائيل، بما يُسهم في إنشاء نفوذ اقتصادي طويل الأمد.
يُذكر أنّ المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسون، أعرب عن قلقه إزاء الغارات الجويّة الإسرائيلية على الجنوب السوري، لافتاً إلى تأكيد الجيش الإسرائيلي علناً إنشاءه مواقع عدة في المنطقة العازلة، بما يمثّل انتهاكاً لاتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974. وحذّر بيدرسون من أنّ “مثل هذه الحقائق على الأرض لا يمكن عكسها بسهولة”، معرباً عن قلقه في الوقت نفسه من التصريحات الإسرائيلية بشأن نيّة إسرائيل البقاء في سوريا “لأجل غير مسمّى في المستقبل القريب”، وكذلك مطالبتها بـ”التجريد الكامل لجنوب سوريا من السلاح”.
رصيف 22
————————–
فورين بوليسي: هل تدفع تحركات إسرائيل المريبة في الجنوب سوريا إلى الرد؟
ربى خدام الجامع
2025.03.27
خلال الشهر والنصف الماضيين، شنت إسرائيل ما لا يقل عن سبعين عملية توغل برية في جنوب غربي سوريا كما نفذت ما لا يقل عن 31 سلسلة من الغارات الجوية في مختلف أنحاء ذلك البلد، أي أن كثافة العمليات البرية والجوية الإسرائيلية في سوريا قد زادت وبشكل كبير في الوقت الذي تحرص العملية الانتقالية الهشة في سوريا على توحيد البلاد بعد مرور 14 عام تقريباً على الصراع الذي أنهك سوريا.
في الخامس والعشرين من آذار الجاري، حدث تصعيد كبير في الأوضاع، وذلك عندما وقف في وجه محاولة التوغل البري عشرة مسلحين تقريباً من أبناء المنطقة، والذين فتحوا نيران رشاشاتهم في الهواء في محاولة منهم لردع القوات الإسرائيلية ومنعها من دخول قريتهم التي تعرف باسم كويا، وذلك بحسب ما ذكرته مصادر محلية أعلنت عن ذلك بعد فترة قصيرة من وقوع الحدث. غير أن الجيش الإسرائيلي زعم بأنه تعرض لإطلاق نار مباشر، ولهذا واصل إطلاق القذائف من دباباته على القرية وشن غارة جوية واحدة على الأقل خلفت ستة قتلى على أقل تقدير.
الرد الإسرائيلي على سقوط الأسد
أوضحت إسرائيل ردها على سقوط بشار الأسد في 8 كانون الأول من عام 2024 على الفور وذلك عندما شن الجيش الإسرائيلي أكثر من 600 غارة جوية في مختلف أنحاء سوريا وذلك خلال الأيام العشرة الأولى من رحيل الأسد. وبما أن الطيران الإسرائيلي ضرب كل قاعدة ونقطة عسكرية في سوريا تقريباً، لذا توغل بعد ذلك في ذلك البلد، فاحتل كامل المنطقة العازلة التي أقيمت بموجب اتفاقية فض الاشتباك الموقعة في عام 1974 بين البلدين، ما أدى إلى إنهاء تلك الاتفاقية التي بقيت سارية زمناً طويلاً. ومنذ ذلك الحين، توغلت القوات الإسرائيلية لمسافة 12 كيلومتراً على الأقل في عمق الأراضي السورية، فزرعت الألغام ومهدت طرقاً جديدة للتوغل، ما أدى إلى ظهور موجة نزوح بين المدنيين.
سياسة إسرائيلية جديدة
ومنذ أواخر شهر شباط الماضي، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه، يسرائيل كاتس، عن سياسة جديدة طبقاها على الفور، فقد طالبا بمنطقة منزوعة السلاح بشكل كامل في الجنوب السوري، كما أعربا غير مرة عن عزمهما على الدفاع عن الطائفة الدرزية الموجودة في سوريا من أي خطر يتهددها، وقد تكشفت تلك السياسة حتى الآن بشكلين اثنين، أولهما ركز على الحدث الذي وقع في مطلع شهر آذار، وذلك عندما توعدت إسرائيل بشن عملية تدخل عسكرية للدفاع عن المسلحين الدروز في ضاحية جرمانا الواقعة جنوبي دمشق، وأتى هذا التهديد بعد أن قامت ميليشيا درزية محلية مؤلفة من مقاتلين كانوا في السابق تابعين لنظام الأسد، وكانت تعرف في المنطقة بميليشيا الشبيحة، بإطلاق النار على عسكري تابع للحكومة المؤقتة فأردته قتيلاً، بعد أن حاول ذلك العسكري زيارة أقاربه في تلك المنطقة، فوقعت مواجهة مسلحة إثر ذلك.
وفي الوقت الذي أطلقت إسرائيل تهديداتها وتوعداتها، توجهت أقوى الميليشيات الدرزية من السويداء نحو جرمانا للتفاوض على فرض اتفاقية يتم من خلالها تسليم المسلحين المسؤولين عن عملية القتل للعدالة، إلى جانب خضوع منطقة جرمانا بأكملها لسيطرة الحكومة المؤقتة.
أما الشكل الثاني الذي تجلت به تلك السياسة الإسرائيلية الجديدة، فقد تمثل عند تشكل ميليشيا درزية جديدة تعرف باسم المجلس العسكري في السويداء، وبحسب أربعة من كبار الشخصيات العسكرية والسياسية والدينية الدرزية في السويداء والذين تحدثوا إلى الصحافة شريطة عدم الكشف عن أسمائهم، فإن هذا المجلس يضم ثلاثة من الضباط السابقين لدى نظام الأسد، كما أن قيادته العليا تضم عناصر من النظام البائد، وقد حصل هذا المجلس على السلاح من مخازن الأسلحة التي كانت تعود لجيش النظام البائد. ومن المعروف ضمن أوساط الطائفة الدرزية بأن للمجلس علاقات مع إسرائيل، وقد حافظ عليها من خلال أبناء جلدتهم من الدروز الموجودين في إسرائيل.
والأهم من كل ذلك هو أن علم المجلس العسكري في السويداء يشبه كثيراً علم قوات سوريا الديمقراطية التي كانت شريكة للولايات المتحدة في محاربة تنظيم الدولة، كما أعربت قسد عن انفتاحها في مرات كثيرة على إقامة علاقات مع إسرائيل. ثم إن عناصر المجلس العسكري للسويداء هم من رفعوا العلم الإسرائيلي وسط مدينة السويداء عند احتدام المواجهة في جرمانا، فلم يكن من أهالي المنطقة إلا أن مزقوا ذلك العلم وأحرقوه بعد دقائق على رفعه.
يمثل آخر تصعيد عنيف في سوريا مرحلة خطيرة بشكل استثنائي، وهي مرحلة ليس من الضروري لسوريا أن تمر بها البتة.
كان سقوط الأسد أكبر هزيمة استراتيجية منيت بها إيران حتى اللحظة، لأن سقوطه شل القبضة الخانقة التي أحكمتها طهران على سوريا، كما أجبر كامل قواتها العسكرية وبنيتها التحتية الوكيلة على التفكك والفرار من ذلك البلد. ومنذ سقوط الأسد قبل أربعة أشهر تقريباً، لم تستهدف إسرائيل أي هجمة قادمة من سوريا، بل خلال تلك المرحلة، اعترضت قوات الأمن لدى الحكومة السورية المؤقتة ما لا يقل عن 18 شحنة سلاح كان من المقرر لها أن تصل إلى حزب الله في لبنان، كما احتجزت وفككت ما لا يقل عن ثمانية مواقع لإطلاق الصواريخ كانت تابعة لإيران.
براغماتية الحكومة السورية
منذ تولي الحكومة السورية المؤقتة للسلطة في كانون الأول الفائت، أعلنت عن موقفها القائم على عدم الخوض في أي مشكلة مع دول الجوار ومع المجتمع الدولي عموماً، وعلى الرغم من أنها كانت تتعرض لنقمة روسيا العسكرية طوال فترة امتدت قرابة عقد كامل، فإن السلطات الجديدة في دمشق اليوم لم تقم سوى حوارات منتظمة ومثمرة مع تلك الدولة التي ماتزال قواتها مرابطة في القواعد الجوية والبحرية المنتشرة على الساحل السوري.
إن البراغماتية اللازمة لإحداث هذا التحول الدبلوماسي الجذري قد تغري السياسيين المحنكين، ولكن هذه البراغماتية بدرت في سوريا من إسلاميين لهم باع طويل في خوض المعارك، لكنهم أصبحوا اليوم حريصين على نشر الاستقرار في سوريا وإعادة دمجها ضمن المجتمع الدولي.
فمنذ أواخر شهر كانون الثاني الماضي، تقدمت تركيا بمقترح عسكري مهم للحكومة السورية المؤقتة يقضي بنشر طائرات حربية ونظم دفاع جوي في قاعدتين جويتين (وهما الشعيرات وت-4) وسط سوريا، بحيث يأتي ذلك كمحاولة لترسيخ سيادة سوريا على مجالها الجوي، ومن الجلي أن هذا المقترح يمثل تحدياً تركياً مباشراً لحرية إسرائيل في التصرف، ونظراً لخطورة عمليات التصعيد الإسرائيلية الأخيرة، يرى بعض الناس بأن الأمور قد تصل إلى حد التوقيع على اتفاقية دفاعية، وذلك بحسب ما ذكره مسؤول رفيع في الحكومة السورية المؤقتة، كشف عن ذلك شريطة عدم ذكر اسمه في المقال.
يحسب للرئيس السوري أحمد الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني أنهما أرجأا وبكل أدب فكرة الالتزام بالمقترح التركي، كونهما يعلمان علم اليقين بأن ذلك المقترح لابد أن يتسبب بأزمة خطيرة، إن لم تكن وجودية، بالنسبة لعملية الانتقال الهشة التي يترأسانها. غير أن مسار الأحداث الجارية جعلت هذا النوع من البراغماتية عديم الجدوى.
ثمة جانب من السخرية في كون الحكومة الإيرانية هي الحكومة الوحيدة الأخرى في العالم، إلى جانب الحكومة الإسرائيية، التي يبدو أنها حريصة على زعزعة الاستقرار في سوريا، إذ خلال الأسابيع القليلة الماضية، تطورت حركة تمرد عدوانية مناهضة للحكومة تتمتع بإمكانات كبيرة في سوريا، وهذه الحركة اعتمدت في قوامها على قيادات سابقة من الفرقة الرابعة التابعة لنظام الأسد البائد، والتي كانت الحليف العسكري السوري الأساسي لإيران، ولذلك تسببت حملة منسقة شملت عشرات الهجمات التي نفذت في وقت واحد تقريباً على يد مقاتلين تابعين للفرقة الرابعة سابقاً موجودين في اللاذقية وطرطوس بحدوث عمليات قتل انتقامية جماعية على مدار بضعة أيام، بدأت في مساء يوم السابع من آذار، كما أن مداهمة نفذتها قوات الأمن السورية على مقار لعمليات تلك الفرقة أسفرت عن اكتشاف خرائط جديدة التقطت عبر الأقمار الصناعية، وصناديق احتوت على مبالغ بالدولار الأميركي، إلى جانب معدات للتواصل على المدى البعيد، وذلك بحسب ما ذكره مسؤولان رفيعان عن الموضوع، وأضافا بأن الحكومة المؤقتة قررت عدم نشر أي شيء يخص ذلك بحسب ما قالاه.
سوريا أمام فرصة تاريخية
لعل لدى إدارة ترمب مخاوفها وشكوكها تجاه الحكومة السورية المؤقتة، لكنها تدرك تماماً الفرصة التاريخية والاستراتيجية التي خلقها رحيل الأسد والهزيمة الاستراتيجية التي منيت بها إيران في قلب الشرق الأوسط.
ولاقتناص الفرصة وتحويلها إلى حالة استقرار وتحول على المستوى الإقليمي، يجب على إدارة ترمب أن تستعين بعلاقاتها ونفوذها على إسرائيل حتى تضغط عليها من أجل وقف التصعيد، وذلك لأن مخاطر الاعتداء الإسرائيلي، من خلال مسارها الحالي، تخلق نبوءة لابد لها أن تتحقق، والتي تظهر سوريا الجديدة من خلالها التي رفضت في مرحلة من المراحل أن تبدي أي نية عدائية تجاه أي طرف، كدولة لم يعد أمامها أي خيار سوى أن ترد في حال استمرار هذا العدوان العنيف الذي لم يستفزه أي تصرف بالتطور من سيء إلى أسوأ.
ولعل إدارة ترمب قد تأمل بأن تفكر سوريا بعد رحيل الأسد بالاعتراف بإسرائيل رسمياً في يوم من الأيام، وذلك عبر التوقيع على الاتفاقات الإبراهيمية، إلا أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا في حال توقف إسرائيل عن القيام بأي عمل عسكري ضدها، إلى جانب إنهائها لاحتلال الأراضي السورية بطريقة غير شرعية.
—————————-
الرواية الإسرائيلية لإطلاق النار من سورية: “نقطة تحوّل”/ نايف زيداني
26 مارس 2025
تنظر دولة الاحتلال إلى ما حدث على أنه “أخطر حادثة” في الجولان
المجموعة التي أطلقت النار تضم 5 إلى 8 سوريين لم يتم التعرف عليهم
من المتوقع أن تحدث تغييرات في أنماط النشاط العملياتي في المنطقة
يعتبر جيش الاحتلال الإسرائيلي أن إطلاق النار من سورية باتجاه عدد من جنوده، أمس الثلاثاء، يشكّل “نقطة تحوّل” على الجبهة السورية، فيما تشير تحقيقاته إلى أن “المسلّحين” فتحوا النار عن مسافة 300 متر فقط، قبل استهدافهم بمُسيّرة إسرائيلية.
وعقدت قيادة المنطقة الشمالية في جيش الاحتلال جلسة تقييم للوضع، اليوم الأربعاء، ومن المتوقع إجراء تغييرات في الاعتبارات العملياتية للاحتلال في المنطقة. ويدور الحديث عن تصدّي مجموعة من الشبان لقوة إسرائيلية، حاولت أمس التوغّل في قرية كويا في منطقة حوض اليرموك في ريف درعا الغربي، في أول اشتباك من نوعه، في ظل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية والتوغلات البرية في الجنوب السوري.
وتنظر دولة الاحتلال إلى ما حدث على أنه “أخطر حادثة” في الجولان السوري المحتل، منذ سقوط نظام بشار الأسد قبل نحو أربعة أشهر، وسيطرة جيش الاحتلال على بعض المناطق خلف الحدود في الهضبة. وفي التفاصيل، وفق رواية الاحتلال التي نشرها موقع واينت العبري اليوم، كان جنود المشاة من جنود وحدة استطلاع الجولان (وهي وحدة جديدة، أنشئت العام الماضي في فرقة الباشان في جيش الاحتلال التي تسيطر على الحدود السورية)، يقومون بدوريات علنية في الصباح الباكر على الجانب الشرقي، الأبعد، لوادي الرقاد المتعرّج قرب نقطة التقائه مع نهر اليرموك، في الزاوية الجنوبية من الجولان السوري المحتل، بالقرب من المثلث الحدودي بين سورية والأردن والأراضي المحتلة.
وبحسب تحقيقات جيش الاحتلال وروايته، التي نقلها الموقع العبري، فإن مجموعة مكوّنة من 5 إلى 8 مسلّحين سوريين، لم يتم التعرف عليهم بعد في الاستخبارات الإسرائيلية، خرجت باتجاه الجنود من قرية كويا، وهي قرية “لم تُنفذ فيها بعد عمليات تمشيط وجمع أسلحة”، من قبل الجيش، “وتمركزوا في أطراف القرية وفتحوا النار على جنود وحدة استطلاع الجولان الذين ردوا بإطلاق النار عليهم”.
وأصابت النيران محيط القوة، ولكن لم تقع إصابات في صفوفها. وفي غضون ذلك، نشر جيش الاحتلال قوات إضافية من الكتيبة 890 التابعة للواء المظليين، والتي أطلقت قذائف الهاون لعزل المنطقة، فيما قامت الدبابات بتغطية جنود المشاة. ووسط نيران فرقة الباشان، تم تفعيل مسيّرة من طراز “زيك” تابعة لسلاح الجو، والتي رصدت “المسلّحين” وهاجمتهم بدقة.
وفي أعقاب الحادثة، عُقد اليوم تقييم للوضع في قيادة المنطقة الشمالية، ومن المتوقع أن تحدث تغييرات في أنماط النشاط العملياتي في المنطقة. ويشير التحقيق إلى أنه لم يكن لدى قوات الاحتلال إنذار عيني بشأن إطلاق النار عليها، ولكن يتم أخذ نمط المواجهة، وكذلك سيناريو وجود مواقع مزروعة بالعبوات الناسفة بعين الاعتبار، في كل عملية مشابهة خلف الحدود.
وتُعتبر منطقة الحادثة في جنوب الجولان السوري، أكثر خطورة بالنسبة لجيش الاحتلال، مقارنة بوسط وشمال الهضبة، لسببين رئيسيين، وفقاً للموقع العبري، أولاً، التضاريس في هذه المنطقة تجعل السيطرة العملياتية أكثر صعوبة بسبب الوديان العميقة التي تخلق العديد من المناطق الميتة للمراقبة ومسارات تسلل متعددة، على عكس السهول المفتوحة في بقية أجزاء الجولان. ثانياً، يزعم الاحتلال أن سكان هذه المنطقة يُعتبرون أكثر ميلاً إلى التوجهات الإسلامية المتشدّدة، وأنهم وفّروا في العقد الماضي ملاذاً لفصيل متطرف من تنظيم داعش، الذي حاول في ذلك الوقت عدة مرات استهداف قوات جيش الاحتلال.
في سياق متصل، يواصل الجيش الإسرائيلي في هذه الأيام، استكمال إقامة المواقع العسكرية في الجولان السوري المحتل، ولكنه لم يصل بعد إلى خط التلال الثاني لاتجاه الشرق، حيث يزعم رصد تحرّكات مشبوهة بين حين وآخر في المواقع المهجورة هناك، كما يواصل سلاح الجو شن غارات على ما يدّعي أنه مخازن أسلحة ووسائل قتالية في المناطق الأبعد في الجولان السوري وجنوب دمشق ومناطق أخرى.
العربي الجديد
————————
دم درعا من جديد.. هل يضع حداً أخلاقياً لمغازلة الاحتلال؟/ رواد حيدر
2025.03.26
قبل أكثر من عقد، حين سقط أول شهيد في درعا على يد النظام المخلوع، انتفضت سوريا بأكملها. لم تكن تفاصيل المذهب والانتماء هي ما أشعل الشوارع، بل الدم كان وحده كفيلا بأن يوقظ الضمير الجمعي، ليكون الشرارة التي أطلقت شعارات الحرية والكرامة من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، دماءٌ كانت هي الخط الأحمر، يوم كان للخطوط الحمراء معنى، قبل أن يُبتذل التعبير.
اليوم، بعد أربعة عشر عاماً، تقصف درعا مجدداً، لكن بنار مختلفة. طائرات ومدافع إسرائيلية تستهدف بلدة كويّا في ريف المحافظة، فتزهق أرواح سبعة مدنيين، بينهم أطفال ونساء. الجريمة واضحة، لا تغطية يمكن أن تحرر القاتل، ومع ذلك، فإن وقع هذه الدماء لا يبدو، حتى الآن، كافياً لفرملة موجة خفية، ولكن متنامية، من غزل سياسي باتجاه القاتل، الكيان المحتل.
في الأشهر الأخيرة، بدأت أطراف سورية، شعرت بأن مكانتها مهددة بعد تحولات المشهد، تنظر إلى إسرائيل كطرف يمكن الاتكاء عليه، البعض بدأ يغازلها بلغة الحماية، والبعض يتحدث عن قواسم مشتركة في المصير، وآخرون تجاوزوا ذلك إلى طرح تصورات تنموية أو أمنية لمناطقهم برعاية إسرائيلية. إسرائيل، بدورها، لم تقصّر في توظيف هذا التغير، فغازلت، وشجعت، ولوّحت بالدعم.
ومع الواقعة الدموية الأخيرة يبرز يبرز سؤال لا يمكن الإفلات منه: هل يستطيع من يسير في هذا الاتجاه أن يتجاهل قصف كويّا؟ هل يمكن تمرير دماء المدنيين في درعا كأنها لا تخصنا ويُغض الطرف عنها؟ هل بقي لهذا الدم وزن في الحسابات؟
الإجابة، حتى لو لم تقال صراحة، ستحكم المسار، لأن ما حدث لا يقتصر على كونه اعتداء يسجل في أرشيف البلاد الكبير، بل هو امتحان، امتحان لصدق الخطاب الوطني الذي لا يزال يتردد في تصريحات أولئك الساعين إلى فتح قنوات مع الاحتلال، امتحان للانتماء الذي لا يختبر إلا عندما يسفك دم في الجوار القريب، لا على يد العدو البائد، بل على يد من يسوّق اليوم على أنه الخيار الواقعي أو الجار القوي.
في هذا المشهد، لا مكان لفهم أو تبرير. هي ليست مجرد خيارات نجاة عشوائية، بل هي انزلاق مدروس نحو خيانة المعنى الأول للانتماء، فأن يمد أحدهم يده لمحتل يقتل أبناء بلده، لا يعد مناورة سياسية، بل خيانة واضحة، لا تحتاج إلى تلطيف.
التذرع بـ “الحماية” من إسرائيل، في الوقت الذي تسفك فيه دماء المدنيين في درعا، لا يُصتف كسقوط أخلاقي فقط، بل هو إعلان صارخ بالخروج من الفضاء الوطني السوري، والتخلي عن آخر ما تبقى من الشرف الجمعي. من يطلب الحماية من قاتل جاره، لا يستحق أن يُحاور مهما تلونت عباراته أو توارت نواياه خلف قناع الخوف.
ثمّة من يقول: “ما علاقتنا بدرعا؟ لسنا نحن من قُصف، ولن تُقصف مناطقنا”، وهذا هو تماماً منطق الانفصال الأخلاقي، لا السياسي فقط. حين تتحول الجغرافيا إلى مبرر للصمت، وحين يقايض الدم بالأمان، نكون قد دخلنا منطقة رمادية، لا عودة منها إلا بفقدان آخر خيوط الانتماء.
العدوان على كويّا، رغم فظاعته، قد يكون محنة كاشفة، فهو يعيد ضبط المعيار، يعيد السؤال إلى بساطته الأولى: هل نحن سوريون، حقاً؟ إن كنا كذلك، فلا يمكننا أن نغض الطرف عن قصف مدنيين من أبناء هذه البلاد، ولا أن نهادن القاتل، مهما أعاد تعريف نفسه.
كانت درعا، قبل أربعة عشر عاماً، مُنطلق الثورة، واليوم، يمكن لدمها أن يكون بداية مراجعة، مراجعة لمن يُمنّي النفس بالنجاة الفردية، حتى لو كانت على حساب الضمير الجمعي، فإسرائيل، التي تسفك الدم ثم تلوح بالحماية، لا يمكن أن تكون سوى الوجه الآخر للخطر، حتى لو بدت لبعض المرهقين كمهرب.
في النهاية، لا شيء يسائل الضمير مثل الدم، والدم، حين يسيل، لا يترك مجالاً للمناورة، إما أن تقف مع من يُقتل، أو مع من يقتُل، وكل ما عدا ذلك، هو لغو في حضرة الشهداء.
تلفزيون سوريا
——————————-
دول تطالب إسرائيل بالانسحاب من سوريا.. وأميركا تحذر من عودة أذرع إيران
2025.03.25
أكدت الأمم المتحدة أنها تعمل مع الحكومة السورية الجديدة على تخفيفِ القيودِ المفروضةِ عليها، في محاولةٍ لتعزيزِ قدرةِ منظماتها على الوصولِ الإنساني وتقديمِ المساعداتِ داخل البلاد.
وشددت الأمم المتحدة على أنها تحتاج إلى تمويلٍ إضافيٍّ لمقابلةِ الاحتياجاتِ الإنسانيةِ المتزايدةِ في سوريا، مشيرةً إلى أن 16 مليون سوريٍّ يفتقرون إلى الطعامِ والدواءِ.
وأشارت المنظمة الأممية إلى أن آلافَ المدنيين نزحوا من جراءِ أحداثِ الساحلِ السوري إلى لبنان، داعيةً في هذا السياق إلى تأمينِ عودةِ السوريين إلى بلادهم.
الولايات المتحدة: لا لعودة الإرهابيين المدعومين من إيران
وفي جلسةٍ لمجلسِ الأمنِ الدولي، دعت القائمةُ بأعمالِ مندوبةِ الولايات المتحدة في الأمم المتحدة كلاً من سوريا ولبنان إلى التعاونِ كي لا يعودَ لسوريا إرهابيون مدعومون من إيران.
وطالبت المسؤولةُ الأميركية سلطاتِ سوريا المؤقتة وحكومةَ لبنان بالتعاونِ ومنعِ الصدام.
دعوات دولية لانسحاب إسرائيل من سوريا
من جانبه، دعا مندوبُ فرنسا في مجلسِ الأمن إسرائيل إلى الانسحابِ من منطقةِ الفصل، وشدد على ضرورةِ احترامِ سيادةِ سوريا وسلامةِ أراضيها.
بدوره، دان المندوبُ الصيني غاراتِ إسرائيل على سوريا، مؤكداً أن على تل أبيب الانسحابَ من الأراضي السورية من دون تأخيرٍ.
كما طالب نائبُ مندوبِ روسيا في مجلسِ الأمن إسرائيل بالانسحابِ من منطقةِ الفصل والمناطقِ التي سيطرت عليها في سوريا.
وقالت مندوبةُ بريطانيا بمجلسِ الأمن: “قلقون من قول كاتس إن وجودَ إسرائيل بمنطقةِ الفصل ومرتفعاتِ الجولان سيستمر طويلاً”.
وطالبت إسرائيل بتقديمِ جداولَ زمنيةٍ واضحةٍ لانسحابها بما يتماشى مع القانونِ الدولي.
تصعيد إسرائيلي
دانت وزارة الخارجية والمغتربين السورية في بيان صادر اليوم الثلاثاء، تصعيد الاحتلال الإسرائيلي الأخير في سوريا، ودعت إلى فتح تحقيق دولي بشأن الجرائم الإسرائيلية.
وقال بيان الخارجية السورية: “تستنكر وزارة الخارجية والمغتربين العدوان الإسرائيلي المستمر على الأراضي السورية، والذي شهد تصعيداً خطيراً على قرية كويا بريف درعا الغربي”.
وأضاف البيان: “تعرضت القرية خلال الساعات الماضية لقصف مدفعي وجوي مكثف استهدف الأحياء السكنية والمزارع، ما أسفر عن استشهاد ستة مدنيين، مع احتمال ارتفاع العدد نتيجة الإصابات الخطِرة واستهداف المناطق الزراعية”.
وأوضح البيان أن التصعيد يأتي في سياق سلسلة من الانتهاكات التي بدأت بتوغّل القوات الإسرائيلية في محافظتي القنيطرة ودرعا، ضمن عدوان متواصل على الأراضي السورية، في انتهاك صارخ للسيادة الوطنية والقوانين الدولية.
وجاء في ختام البيان: “نُهيب بأبناء الشعب السوري التمسك بأرضهم ورفض أي محاولات للتهجير أو فرض واقع جديد بالقوة، مؤكدين أن هذه الاعتداءات لن تثني السوريين عن الدفاع عن حقوقهم وأرضهم”.
————————————–
سوريا: غارات إسرائيلية على اللاذقية وتوغل برّي في درعا
الخميس 2025/03/27
أغارت الطائرات الإسرائيلية، فجر اليوم الخميس، على مواقع عسكرية في محيط ميناء اللاذقية على الساحل السوري، بحسب ما أفادت الوكالة السورية للأنباء “سانا”، فيما توغّلت قوات برية للاحتلال في حوض اليرموك في ريف درعا الغربي.
غارات في محيط ميناء اللاذقية
وقالت “سانا” إن طائرات الاحتلال الإسرائيلي استهدفت بعدة غارات جوية محيط الميناء الأبيض ومدينة اللاذقية، مضيفةً أن الجهات المختصة تعمل على التأكد من عدم وجود إصابات في المواقع المستهدفة.
وقالت مصادر محلية إن القصف الإسرائيلي استهدف قواعد عسكرية بحرية والميناء الأبيض في مدينة اللاذقية، موضحةً أنها تركّزت على مستودعات أسلحة ومواقع عسكرية أخرى، كما أشارت إلى وجود إصابات بين عناصر وزارة الدفاع السورية.
ولفتت المصادر إلى أن طائرات الاحتلال الإسرائيلي، استهدفت بـ6 غارات “اللواء 110” البحري، الواقع في منطقة رأس شمرا في مدينة اللاذقية.
ويقع الميناء الأبيض في ضواحي مدينة اللاذقية الشمالية، وكان قد تعرض لاستهداف إسرائيلي في 10 كانون الأول/ديسمبر، بعد يومين على الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع بشار الأسد.
وفجر الثلاثاء، شنّت طائرات إسرائيلية غارات على قاعدتين عسكريتين وسط سوريا، وذلك للمرة الثانية منذ مطلع بداية الأسبوع الحالي.
وقالت مصادر متابعة إن الطائرات الإسرائيلية استهدفت بعدد من الغارات الجوية، مطار تدمر في بادية ريف حمص، وعدداً من المواقع العسكرية في محيطه، ما أدى إلى وقوع أضرار كبيرة داخله.
وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي في تغريدة على منصة “إكس”، إن الجيش أغار على قدرات عسكرية في مطار تدمر و”تي-4″، مضيفاً أن الجيش الإسرائيلي “سيواصل العمل لإزالة أي تهديد على مواطني” إسرائيل.
توغل في درعا
وسبق الغارات، توغل بري من قوات الاحتلال في منطقة حوض اليرموك في ريف درعا الغربي قرب الحدود مع الجولان المحتل، وذلك بعد يوم واحد على سقوط 6 قتلى بقصف إسرائيلي استهدف قرية كويا الواقعة في المنطقة.
وقالت مصادر متابعة لـ”المدن”، إن قوة عسكرية إسرائيلية مكونة من 7 سيارات، توغّلت من وادي الرقاد باتجاه مفرق صيصون- جملة، موضحةً أنها أنشأت حاجزاً هناك، وتمركّزت ضمنه 4 سيارات، بينما توجهت السيارات الأخرى باتجاه صيصون شمالاً.
ويأتي التوغل الإسرائيلي بعد يوم واحد على اشتباكات اندلعت بين شبان من قرية كويا في حوض اليرموك، وقوة إسرائيلية حاولت التوغل في القرية، ما دفعها إلى التراجع، وذلك قبل أن تبدأ الدبابات والمدفعية الإسرائيلية بقصف انتقامي على كويا، أسفر عن مقتل 6 أشخاص بينهم مدنيون، فضلاً عن إصابة آخرين.
——————————-
خياران أمام الشرع بعد “رسالتين” وتحرك إسرائيلي
ضياء عودة – إسطنبول
26 مارس 2025
ما حصل في قرية كويا بريف محافظة درعا السورية، قد يتكرر في مراحل لاحقة، وفقا لخبراء ومراقبين، وفي حال حدث ذلك بالفعل ستكون إدارة أحمد الشرع في العاصمة دمشق أمام معضلة لا يرتبط التعامل معها بإسرائيل فقط، بل بردود أفعال السوريين المهددين في جنوب البلاد.
قتل في كويا، الثلاثاء، 5 أشخاص وأصيب آخرون، من جراء قصف وعمليات استهداف نفذتها دبابات الجيش الإسرائيلي، بعد مقاومة من شبان رافضين لعمليات التوغل المتواصلة التي تجري هناك، وفقا لصحفي غطى الأحداث وتحدث لموقع “الحرة”، وتقرير نشره “المرصد السوري لحقوق الإنسان”.
في المقابل ربط الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، أسباب المواجهة التي استمرت لساعات بمن وصفهم بـ”عناصر إرهابية” أطلقت النار على القوات الإسرائيلية، مما استدعى التعامل معهم بطائرة مسيرة.
ولم يقدم أدرعي، الثلاثاء، أي تفاصيل إضافية بشأن الأسباب التي تقف وراء دخول الجيش الإسرائيلي إلى كويا، وبالتالي تجاوزه للمنطقة العازلة هناك المحددة بموجب اتفاقية 1974.
كما لم يتطرق إلى التقارير التي أكدها “الدفاع المدني السوري”، الذي أفاد بحدوث قصف من بعد على القرية الصغيرة الواقعة على الحدود، الأمر الذي أشار إليه أيضا “المرصد السوري”.
ورغم أن عمليات التوغل التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في جنوب سوريا ضمن حدود محافظتي درعا والقنيطرة لم تنقطع في الفترة التي تلت سقوط نظام الأسد، إلا أن ما حصل في كويا يمكن اعتباره الحدث الأول من نوعه، بناء على الشكل الذي جاء فيه، وما تبعه.
تقول الباحثة في شؤون الشرق الأوسط، إيفا كولوريوتيس، إن أحداث كويا “تدق ناقوس الخطر في دمشق”، وتضيف لموقع “الحرة” أن ترك إدارة الشرع للأهالي هناك بمفردهم لمواجهة التحركات الإسرائيلية سيزيد من تبني سكان المنطقة لأفعال فردية.
وقد تؤدي هذه الأفعال الفردية إلى المزيد من الاشتباكات، والمزيد من الضحايا المدنيين، والمزيد من التصعيد العسكري الإسرائيلي، وفقا للباحثة.
وتتابع: “ولذلك، فإن الإسراع في وضع استراتيجية واضحة من قبل إدارة الشرع للتعامل مع هذه القضية سيجنب سوريا خطرا كبيرا في المستقبل القريب”.
“خياران”
وبناء على ما أصدرته وزارة الخارجية السورية لا يبدو أن هناك الكثير لدى دمشق للرد العلني أو التعاطي الدبلوماسي مع الأفعال الإسرائيلية في جنوب البلاد.
وفي حين نددت الخارجية، الثلاثاء، بالهجمات التي استهدفت كويا دعت السوريين هناك إلى رفض أي محاولات “لتهجيرهم أو فرض واقع جديد بالقوة” على الأرض.
كما أعربت عن رفضها لما وصفتها بالجرائم، داعية إلى فتح تحقيق دولي في ما يتم ارتكابه ضد الأبرياوء، و”الانتهاكات الإسرائيلية”.
هذه الصيغة التي اتبعتها الخارجية في دمشق لا تختلف كثيرا عن الخط الذي سارت عليه للتعليق على التوغلات الإسرائيلية وعمليات القصف السابقة، التي وقعت بعد سقوط الأسد.
ولا تختلف الصيغة أيضا عن تلك التي عبّر عنها الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، أكثر من مرة.
وترى الباحثة كولوريوتيس أن خيار المواجهة العسكرية بين الإدارة السورية الجديدة وإسرائيل ليس مطروحا لدى الشرع، على الأقل في الوقت الراهن، ولا ينبغي أن يكون كذلك.
فسوريا منهكة عسكريا واقتصاديا وأمنيا، وحتى جغرافيا، ولا يزال المشهد في شرق سوريا والسويداء غامضا. ولذلك، فإن وقوع المواجهة يعني إعطاء رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو وحكومته، التي لا تزال تنعم بنشوة انتصاراتها على المحور الإيراني في المنطقة، مبررا لتوسيع سيطرتها داخل الأراضي السورية، تضيف الباحثة.
وتوضح أنه وبناء على هذا الواقع يبقى خياران مطروحان أمام إدارة الشرع.
ويذهب الخيار الأول، بحسب الباحثة باتجاه “الاستجابة للشروط الإسرائيلية بمنع أي انتشار عسكري، بما في ذلك الأفراد الذين يحملون أسلحة خارج سلطة الدولة السورية”.
أما الخيار الثاني فهو دبلوماسي، ويرتبط بمحاولة فتح باب المفاوضات غير المباشرة، في ظل الرفض الشعبي للمحادثات المباشرة، ورفض هذا الخيار من قبل شخصيات مهمة في الإدارة السورية الجديدة.
وتوضح كولوريوتيس أنه، ومن خلال هذه المفاوضات غير المباشرة، “سيتم التوصل إلى تفاهمات تؤدي إلى هدوء مستدام في جنوب سوريا”.
“رسالتان وتصعيد”
وبعد سقوط نظام الأسد وضعت إسرائيل سلسلة من الأهداف، قالت إنها تريد تحقيقها في سوريا.
كان من بين الأهداف مثلا: “حماية الأقلية الدرزية”، وأضافت إليها بالتدريج الهدف المتعلق بـ”نزع السلاح من جنوب سوريا” و”ضرورة إقامة نظام فيدرالي في البلاد”.
لكن، وبعيدا عن تلك الأهداف، بعينها أعطت التحركات الإسرائيلية وعمليات التوغل لم تنقطع في درعا والقنيطرة والقصف المتواصل على مواقع وقطع عسكرية في جنوب ووسط البلاد مؤشرا على أن ما تريده إسرائيل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك.
ويقول الباحث السوري، ضياء قدور، لموقع “الحرة” إن “إسرائيل بقيادة نتانياهو تحاول الإيقاع بالإدارة السورية الجديدة في فخ الحروب”.
ويضيف: “ومن المهم أن تظل الحكومة السورية صامدة في مواجهة هذه التهديدات، وأن تستمر في البحث عن الحلول الدبلوماسية الممكنة، بينما تحافظ على حقها في الدفاع عن نفسها ضد الاعتداءات”.
ويجب أن تظل دمشق “تحذر أيضا من مغبة وتداعيات استمرار الاعتداءات الإسرائيلية وتوسعها على الصعيد الداخلي، وتأثيرها على جهود الإدارة السورية في مكافحة الإرهاب والاستقرار السوري”، بحسب قدور.
ولا تزال الإدارة السورية الجديدة تتجنب التعامل مع تعقيدات ملف جنوب سوريا والتدخلات الإسرائيلية، و”ما نعرفه حتى الآن هو أن إدارة الشرع أرسلت رسالتين مطمئنتين إلى الجانب الإسرائيلي”، تقول الباحثة كولوريويتس.
وتضيف أن “الرسالة الأولى كانت عبر قطر والثانية عبر الأردن. والاثنتان غير كافيتين”.
“أوراق”
وتشير تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، على رأسهم نتانياهو ووزير خارجيته جدعون ساعر إلى أن إسرائيل تنظر للإدارة الجديدة في دمشق كـ”تهديد”.
وفي غضون ذلك دائما ما تسلط وسائل الإعلام العبرية الضوء على الهواجس التي تراود إسرائيل على خلفية توسع النفوذ التركي في سوريا، بعد سقوط نظام الأسد.
وقبل أن تندلع أحداث قرية كويا بريف درعا استهدف الجيش الإسرائيلي بغارات جوية قاعدتين وسط وجنوب شرقي سوريا. وكانت الأولى في تدمر الصحراوية والثانية تعرف باسم “t4”.
ورغم أن هذه الضربات تعتبر جزء من سلسلة واسعة ومتواصلة إلا أن التوقيت الذي جاءت فيه حمل “رسائل غير مباشرة”، وفقا للقناة 12 الإسرائيلية.
وهذه الرسائل استهدفت تركيا، التي انتشرت أنباء عن نيتها إنشاء قواعد دائمة وكبيرة وسط سوريا، حيث توجد مدينة تدمر بريف محافظة حمص.
وتعتبر الباحثة كولوريويتس أنه لدى دمشق أوراق عدة يُمكنها استخدامها لخفض التصعيد الإسرائيلي في جنوب سوريا.
فمن جهة فإن التوصل إلى اتفاقية دفاع عسكري مشترك مع تركيا يُمكن أن يكون له أثر إيجابي على الحدود السورية الإسرائيلية، وهو ما بدأ الحديث عنه مؤخرا، خاصةً فيما يتعلق بنية أنقرة إنشاء القاعدة في منطقة تدمر.
كما يُمكن للمملكة العربية السعودية أن تلعب دورا أساسيا مع الجانب الأميركي لإنهاء التصعيد العسكري الإسرائيلي، بحسب الباحثة.
وتوضح أن الرياض، منذ اليوم الأول لسقوط نظام الأسد، كانت داعما مهما للإدارة السورية الجديدة، كما تتمتع العاصمة السعودية بعلاقات استراتيجية مع إدارة ترامب، وبالتالي يُمكنها المساهمة في طمأنة واشنطن، التي بدورها يُمكنها الضغط على حكومة نتانياهو لتغيير سياساتها في سوريا.
“كل يوم تأخير من إدارة الشرع في معالجة ملف التصعيد الإسرائيلي وإعطائه الأولوية سيكون له تأثير سلبي على الاستقرار العام في سوريا”، كما تنظر كولوريوتيس للمشهد.
ومن جهته يعتبر الباحث السوري قدور أن “الهجمات الإسرائيلية لا يبدو لها أي مبرر أمني. هي مجرد محاولة لفرض الهيمنة والضغط على النظام السوري الجديد وشعوب المنطقة”.
ويضيف قدور أن “إسرائيل تسعى بقيادة نتانياهو، إلى تصعيد التوترات لاستخدامها كأداة لتحويل الأنظار عن أزماتها الداخلية. ولكنها بذلك تُعرّض المنطقة لحروب غير ضرورية، وتهدد مستقبل الاستقرار الإقليمي عبر استمرارية استخدام القوة العسكرية”.
لكن الباحث السياسي الإسرائيلي، يوآف شتيرن، يعتقد أن توسيع نطاق الهجمات الإسرائيلية في سوريا على المستوى الجغرافي “يندرج في إطار سلسلة تطورات تنظر إليها إسرائيل بعين مستاءة”.
فمن جهة، يوضح شتيرن لموقع “الحرة”، أن إسرائيل “لا تزال ترى بالحكومة السورية الجديدة تهديدا”.
ومن جهة أخرى، “تتوجس إسرائيل من التقارب الكبير جدا الحاصل بين دمشق وأنقرة، وما يرافق ذلك من أحاديث وتوقعات عن اقتراب البلدين (سوريا وتركيا) من توقيع اتفاقيات قد تضمن للجيش التركي التمركز في مناطق متقدمة داخل سوريا”، وفق شتيرن.
ضياء عودة
الحرة
——————————
الرد المؤجل.. الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا تكشف فراغ الردع/ أحمد الكناني
27 مارس 2025
تتصاعد وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا بشكل يومي، مستهدفةً العديد من النقاط العسكرية والمدنية، ضمن خارطة استراتيجية لأهدافها تمتد من الساحل في الشمال الغربي، وصولًا إلى أقصى الجنوب في ريف درعا والقنيطرة، بالاتساع شرقًا نحو البادية، وتحديدًا مطار T4 العسكري، فيما أسفر اعتداؤها الأخير على درعا عن ارتقاء 7 مدنيين وعشرات الجرحى.
يأتي ذلك في وقت تواصل فيه إسرائيل تعزيز وجودها العسكري في منطقة جبل الشيخ، أهم النقاط الاستراتيجية جنوب غرب سوريا. كما تواصل توغلاتها البرية بمحافظتي القنيطرة ودرعا، وإعلان الدعم لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وإثارة النعرات في السويداء، الأمر الذي يؤخذ على الإدارة الجديدة عدم جدية موقفها وتحركاتها ضد الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، ما يطرح التساؤلات حول الوسائل التي يمكن أن تلجأ إليها الإدارة الجديدة لوقف العدوان.
خيارات عسكرية؟
تشير التقديرات العسكرية إلى أن سوريا ليست قادرة بشكل مطلق على مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، خاصةً مع تدمير الاحتلال لكافة منصات الدفاع الجوي، إذ مكّن ذلك الطيران الحربي للعدو التنقل بحرية في سماء سوريا، وتنفيذ أهدافه بكامل الحرية وفي مختلف النقاط الجغرافية.
يعتقد الخبير العسكري، هشام جابر، أن الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا مستمرة وفي تزايد، طالما أن ليس هناك أي رد سياسي أو عسكري. وعليه، فالتحالف العسكري مع دولة جارة هو الحل الأمثل لتخفيف مثل هذه الاعتداءات، ولعل تركيا هي الأقرب لتنفيذ مثل هكذا تحالف مع دمشق.
ويلفت الخبير العسكري إلى أن الإدارة الجديدة في سوريا بدأت تنفيذ خطوات فعلية على طريق التحالف مع أنقرة، وذلك بإنشاء قواعد عسكرية في منطقة البادية، والمساعدة في تدريب الجيش، وتعيين الاستشاريين في وزارة الدفاع، ولهذا بدأت إسرائيل تنفيذ اعتداءاتها المكثفة خوفًا من توسع التعاون الوثيق والتمدد التركي في سوريا.
دفاع مشترك
إلا أن مثل هذه الخطوات لا تكفي باعتقاد جابر إذ يرى أن الخيار الأمثل بالنسبة لوضع سوريا هو توقيع اتفاقية للدفاع المشترك مع أنقرة.
جابر أشار إلى أن إبرام اتفاقية الدفاع المشترك يعيد بالضرورة حسابات الطيران الإسرائيلي بقصفه سوريا، إلا أنه لا يردعه بشكل مطلق، ولا يؤدي في نفس الوقت لصدام تركي – إسرائيلي، لكنه يخفف من المسار التدميري ويحمي الحدود السورية من أي اعتداء آخر محتمل.
حشد أممي!
على الرغم من تنديد الخارجية السورية المتكرر، والإدانة في المحافل الدولية والعربية للانتهاكات للأراضي السورية، إلا أن ذلك لا يفي بالغرض المطلوب، إذ يؤخذ على الإدارة الجديدة عدم فاعليتها في حشد المجتمع الأممي، والدول العربية لاتخاذ مواقف حادة تجاه الاعتداءات.
وفي هذا السياق يرى المحامي إبراهيم ملكي، العضو المؤسس في تجمع المحامين السوريين، ضرورة تحرك وزارة الخارجية السورية عبر تفعيل الشكوى الأممية، والعمل على تفنيد الانتهاكات في الأمم المتحدة وفقًا للقوانين الدولية، والتي تنص بشكل واضح على ايقاف الأعمال العسكرية والاعتداءات الصهيونية، والتراجع الإسرائيلي عن الأراضي التي توغلت فيها، مشددًا على ضرورة التركيز بالمحافل الخارجية على قرارات مجلس الأمن ذات الصلة (242 لعام 1967) المتعلق بانسحاب اسرائيلي من الأراضي التي احتلتها في ذلك العام، وقرار(338 عام 1973) الذي ينص على وقف إطلاق النار على كافة جبهات حرب تشرين الأول/أكتوبر.
المحامي ملكي أشار إلى أن التوغل الإسرائيلي داخل القنيطرة يعد انتهاكًا صارخًا لاتفاق فض الاشتباك الموقع في 31 أيار/مايو عام 1974، ويُدين الاحتلال الذي اعتبر الاتفاق ملغيًا بعد سقوط النظام البائد، كونه اتفاقًا بين دولتين وليس نظامين، وهو ما يجب التركيز عليه دوليًا، وتكثيف الحراك الدبلوماسي تجاه الصيغ القانونية الأممية.
الفصل السابع
يعتقد الخبراء الأمميون أنه يمكن الضغط لاتخاذ موقف ملزم للكيان الإسرائيلي لوقف عدوانه وفقا للمادة 41 الواردة في الفصل السابع لمجلس الأمن، ويكون ذلك عبر التهديد من قبل أعضاء الأمم المتحدة بوقف الصلات الاقتصادية وقطع العلاقات الدبلوماسية مع الكيان.
فيما يعتقد المحامي ملكي أن مثل هذه الخطوات تحتاج بالضرورة إلى حضور فاعل لدور سوريا في مجلس الأمن، وعليه يتوجب تعيين مندوب جديد دائم لسوريا في مجلس الأمن، يعمل على رعاية المسار الدبلوماسي والأممي في التحرك ضد انتهاكات العدوان الإسرائيلي، منوهًا إلى ضرورة حشد الدول العربية في مسار العمل والإدانة الأممية.
الترا سوريا
————————
انفجار داخلي في المجلس العسكري بالسويداء.. هل بدأ الانهيار؟
26 مارس 2025
لم تكن حادثة إطلاق النار في قرية “الكفر” بمحافظة السويداء، قبل عدة أيام، حادثة عادية. بل كانت، وفق كثير من المراقبين، بداية النهاية لما يسمى بـ”المجلس العسكري”، الذي تشكل في المحافظة بعد سقوط نظام الأسد.
ومنذ تأسيسه و”المجلس العسكري” يثير جدلًا واسعًا في السويداء وفي عموم سوريا، لما أحاط بتصريحات قادته وبسلوكهم على الأرض من شبهات كثيرة، بدءًا بالنزعة الانفصالية ونهاية بالتعاون مع إسرائيل، وبينهما تهمة تلقي الدعم من قسد. ورغم تأكيدات مسؤولي المجلس المتتالية بأن هدفهم هو فقط حماية السويداء ضمن الوحدة السورية، فإن مؤشرات كثيرة تدفع المراقبين والنشطاء السياسيين إلى تصنيف “المجلس” على أنه حركة انفصالية.
وفي التفاصيل، فصبيحة يوم 21 آذار/مارس، استفاق أهالي قرية “الكفر” الواقعة في الريف الجنوبي من محافظة السويداء، على أصوات رصاص وصراخ، ليتبين بعد قليل أنه هجوم نفذه عدد من عناصر “المجلس العسكري” على منزل قائدهم، العقيد طارق الشوفي، بسبب عدم تسلمهم الرواتب التي وعدهم بها.
مصدر محلي في قرية “الكفر” صرّح لـ”الترا سوريا” بأن اشتباكات عنيفة اندلعت بين الأفراد المهاجمين، وأن الشوفي الذي طلب مؤازرة من قرية “حبران” المجاورة، لتنتهي الاشتباكات بعد تدخل عدد من وجهاء البلدة. وأضاف المصدر أن الشوفي قام بإخفاء ثلاث سيارات وعتادًا عسكريًا متنوعًا، خشيةً من أن يستولي عليها المهاجمون.
وفي صباح اليوم التالي، اندلعت اشتباكات جديدة بين مسلحين آخرين ينتمون لـ”المجلس العسكري” وبين عناصر الحماية الخاصة بمنزل الشوفي، وذلك للسبب نفسه، إذ جاء هؤلاء ليطالبوا أيضًا برواتبهم الموعودة.
وحصل “الترا سوريا” على نسخة من تسجيلات لعناصر من “المجلس العسكري” يتهمون فيها الشوفي، رفقة شخص آخر، بسرقة مبالغ مالية والاستيلاء على الدعم العسكري الذي حصلوا عليه من “قسد”. وكشفت التسجيلات، التي اطلع عليها “الترا سوريا”، عن قيام الشوفي بتشكيل مجموعات من فلول النظام السابق بهدف ضمنها إلى صفوف المجلس العسكري.
وأصدر المجلس العسكري، في 22 آذار/مارس، بيانًا قال فيه إن “المهاجمين أطلقوا النار بشكل عشوائي بعد تصاعد التوتر”، مشيرًا إلى أن هؤلاء الشبان تعرضوا “للتحريض من جهات معلومة” بهدف “التشويش على نجاحات المجلس”.
وقال البيان إن “المجلس العسكري لم يلتزم بدفع أي رواتب قبل افتتاح مكاتب الانتساب رسميًا”، مضيفًا أن “الهجوم جاء في وقت يشهد فيه المجلس توسيع نفوذه وتعزيز الأمن في المحافظة”، من خلال “إلقاء القبض على المخربين ومصادرة المسروقات ووقف التعديات على الممتلكات العامة”.
وقال قائد فصيل مسلح في السويداء، تحفظ على ذكر اسمه واسم فصيله، لـ”الترا سوريا”، إن “ما يقارب الـ750 بندقية حربية وصلت لأعضاء المجلس العسكري بعد سقوط النظام البائد بثلاثة أيام عن طريق “قسد”، وحصل خلاف بين أعضاء المجلس أدى إلى سرقة العديد من هذه القطع وبيعها في السوق السوداء، بالإضافة إلى قيام عناصر من المجلس بالتواصل مع “شيوخ دين” في إسرائيل وذلك لطلب الدعم والمساعدات المالية، وخصوصًا من أجل تأمين الرواتب لعناصر المجلس العسكري”.
ويرى عدد من المراقبين أن “المجلس العسكري” ضعف كثيرًا في الأيام الأخيرة، ولا سيما بعد توقيع “قسد” اتفاقًا مع الحكومة السورية، حيث “بدأت نتائج نقص الدعم تظهر داخل أروقة المجلس وما الاشتباكات الأخيرة أمام منزل قائد المجلس إلا دليل واضح على ذلك”.
ويبقى السؤال: إلى متى سوف يستطيع “المجلس” الصمود في وجه التحديات والمتغيرات الجديدة؟
———————–
====================
====================
الإعلان الدستوري لسوريا 2025-مقالات وتحليلات- تحديث 27 أذار 2025
تحديث 27 أذار 2025
————————–
لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
——————————–
أيّ مسار انتقالي تسلكه سورية؟/ مروان قبلان
26 مارس 2025
تزامن احتفال السوريين هذا العام بالذكرى السنوية الرابعة عشرة لانطلاق ثورتهم مع اعتماد إعلان دستوري لإدارة المرحلة الانتقالية التي أعقبت سقوط الأسد ونظامه. وتزامن صدور الإعلان أيضاً مع تطورات ثلاثة كبيرة شهدتها البلاد، تجسّد الأول في اندلاع أحداث طائفية في منطقة الساحل السوري، عمّقت الشروخ المجتمعية العميقة أصلاً، وذلك إثر هجمات منسّقة قامت بها جماعات من فلول النظام السابق لفرض واقع جديد في الساحل السوري، محاولةً الاستفادة من إحساسٍ منتشرٍ بين أبناء المنطقة بالفقد والتهميش بعد سقوط النظام. وتمثل الحدث الثاني بتوقيع اتفاق عام جدّاً، بين قيادة ما تسمى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة السورية الجديدة ينصّ على دمج الأولى في أجهزة الدولة السورية من دون تحديد كيف، ومتى، وبأي ثمن. ويدور التطور الثالث حول علاقة محافظة السويداء بالسلطة الجديدة في دمشق، ودخول إسرائيل على الخط بدعواتٍ تحرّض على فدرلة سورية، وتسعى لاستقطاب أبناء المنطقة بحجة حمايتهم.
ورغم عدم وجود ناظم مشترك واضح بين الأوضاع في المناطق الثلاث (الساحل والسويداء وشرق الفرات، حيث تحكم قسد)، إلا أنه بدا لافتاً مقدار التحفظ لديها (يصل إلى حد الرفض عند بعضهم) إزاء ما نصّ عليه الإعلان الدستوري، وهو أمر تتشارك فيه أيضاً قوى سياسية سورية في مناطق سيطرة الإدارة الجديدة. ويدور النقاش هنا خصوصاً حول إقصاء فئات سورية واسعة عن المشاركة في عملية صياغة الإعلان الدستوري، ما أفقده صفة التوازن، وما إذا كان الإعلان يعطي مؤشّراتٍ حول سمات المرحلة المقبلة، وطبيعة النظام السياسي الذي سيرث الحكم في سورية، وتداعيات ذلك على مستقبل البلاد ووحدتها. أما النقاط الرئيسة التي جاءت في نصّ الإعلان الدستوري، وأثارت أكبر قدرٍ من الجدل، فقد تمحورت حول صلاحيات الرئيس، خاصة بعدما اعتمدت لجنة صياغة الدستور نظاماً رئاسياً غير مألوف، يحصّن الرئيس من أيّ مساءلة، فضلاً عن إعطاء السلطة التنفيذية السيادة على السلطات الأخرى، بحيث اختفى تماماً مبدأ فصل السلطات، فالرئيس يعيّن، بشكل مباشر أو غير مباشر، في الفترة الانتقالية، جميع أعضاء البرلمان، الذي نزعت منه سلطة محاسبة الحكومة التي يترأّسها الرئيس، دع جانبا مسألة حجب الثقة عنها. فوق ذلك، أعطى الإعلان الرئيس منفرداً سلطة تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا التي تشرف على انتخابات رئاسة الجمهورية، وتنظر في الطعون الخاصة بها، وتفصل في دستورية القوانين والخلافات التي تنشب بين بقية السلطات.
وفيما يبدي بعضهم خيبة أمل من توجّهات “مسار الانتقال” الذي تشهده سورية، يشكّك آخرون في وجود مسار انتقالي أصلاً، معتمدين على ما تقوله دراسات التحوّل الديمقراطي بهذا الخصوص. ولا تبدي تلك الدراسات، بفرعيْها عن أسباب اندلاع الثورات أو التي تُعنى بنتائجها، تفاؤلاً كبيراً بأن تشهد سورية، بالنظر أيضاً إلى ظروفها الجيوسياسية وتركيبتها الإثنية والطائفية والمناطقية، تحولاً ديمقراطيّاً في المدى المنظور.
ترى دراسات التحول الديمقراطي أن منبع التغيير يعد عاملاً رئيساً في تحديد نتائجه. وتبين الشواهد التاريخية أن التغيير الذي ينطلق من أدنى إلى أعلى تنتج عنه، في الأرجح، حكومات أيديولوجية (يسارية، كما في روسيا 1917، والصين 1949، أو دينية كما في إيران 1979 ومصر 2011). أما إذا كان اتجاه التغيير من أعلى إلى أدنى فتنتج عنه حكومات ذات ميولٍ فاشيةٍ (تركيا في عهد أتاتورك). وإذا جاء التغيير بالتوافق بين مختلف القوى الاجتماعية، فالأرجح أن تنتج عنه حكومات ديمقراطية (كما حصل في بعض دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي). واستطراداً، إذا انتصرت الثورة وكانت البرجوازية ضعيفة، تكون النتيجة على الأرجح نظاماً فاشيّاً. أما إذا كانت البرجوازية قوية، فالأرجح أن ينتج عن الثورة نظام ديمقراطي رأسمالي. بكلمة أخرى، تلعب طبيعة النظام البائد، ومقدار العنف الناشئ عن الصراع بين النظامين القديم والجديد، وموازين القوى في المجتمع دوراً حاسماً في تحديد شكل الدولة ونظامها السياسي بعد الثورة. إذا توقفنا هنا، نجد أن تلك المؤشّرات لا تعطي في سورية أسبابا كثيرة للتفاؤل، إلا إذا وعت النخب السورية وقواها الاجتماعية حجم المخاطر التي تتهدّد البلاد، وذهبت باتجاه توافقاتٍ وطنيةٍ واسعةٍ وحقيقيةٍ حول شكل الدولة والنظام السياسي، بما يحفظ وحدة البلاد ويؤسّس لدولة القانون والمواطنة.
العربي الجديدة
————————
مزدوجات الهوية السورية: حروب أهلية أم تسويات حقيقية؟/ موفق نيربية
تحديث 27 أذار 2025
هناك حرص شديد بين السوريين- معظمهم- على مختلف مشاربهم وخلافاتهم، على الامتناع عن وضع عصيّ في عجلات السلطة الجديدة، التي خلّصتهم من النظام الأسدي الفظيع، وعلى الحذر في إبداء الملاحظات النقديّة أيضاً. لكنّ نجاح شباب المجتمع المدنيّ السوري في إنهاء ما سُمّي بمؤتمر الحوار الوطني بسلاسة، وغربلة آراء الموجودين خلال سويعات قليلة، مع مراعاة «أهل الدار» وعقليتهم السياسية، التي تعرّضت إلى عمليّة تأهيل كبيرة، من حيث كانت، إلى حيث ينبغي من التكيّف السياسي، لدخول دمشق من دون ردّ فعل عاصف دولي وإقليمي.. وربّما محلّي.
إلّا أن صدور «الإعلان الدستوري» على شكله الذي ظهر به، والمعارك والمجازر في منطقة الساحل وجبالها، أضافا توتّراً ملحوظاً على علاقات السلطة المنتصرة خارجياً وداخلياً، مع أن الأمرين لا تجمعهما سلّة واحدة بالتأكيد، لأنّ الأوّل عرضة للنقاش والجدال، والتعديل والإحالة إلى مشروع الدستور الدائم على الأقلّ، والثاني يحفر عميقاً في الوحدة الوطنية، ويخرج أحشاءها إلى العلن، وأخطارها إلى الأفق المنظور.
يعيش كثير من السوريين حالة إنكار مستدامة، يرفضون فيها من يطرح أيّ شيء يمتّ إلى مزدوجات الهويّة السورية. تلك حالة موروثة من «النهضة القومية» و»الصحوة الإسلامية»، أو ممّا حولهما، عندما كان اسم الإثنيْات والطوائف يثير حساسية ورفضاً مقيماً، ونذكر القول المأثور المتكرّر» لم نكن هكذا، لم نكن نعرف أن هنالك مختلفين، وكنّا أحباباً كلّنا معاً». كان الذي يذكر كلمة «الطائفية» يُتّهم بالطائفية فوراً، حكماً مبرماً غير قابل للنقض: تابو مكتمل الأركان. لدينا مزدوجة «كردي – عربي»، التي تعاظم حجمها وعمقها بالتدريج مع الزمن، ابتداءً من عصر» النهضة العربية» الثانية في العصر الناصري – البعثي خصوصاً، عندما استنهض ذلك «القومية الكردية»، وتشكّلت الحركة السياسية الكردية، وتهيّأت لها عدّة وجبات من التغذية المضادّة، في الإحصاء العام، الذي أسقط جنسية عدد مهم من كرد سوريا، وفي الحرب على كرد العراق التي تطوّع بعث الشام بتقديم العون لها.
وبقيت أجواء الانعزال سائدة حتى ربيع دمشق، ثم انتفاضة مارس/آذار 2004، وانخراط الكرد مع الآخرين في حركة واحدة مع تشكيل تحالف دمشق. كانت الحماسة « الوحدوية» تزداد في أيام النهوض واليقظة، والانعزالية في أيّام الركود والتفسّخ. وفي أيّام الثورة، ظهر انقسام كردي واضح، بين طرف يستلهم التجربة السياسية الكرديّة في العراق، وآخر يستلهم تلك في تركيا. وأصبح لدينا في سوريا « مجلسا وطنيا» و»مجلس سوريا الديمقراطية». حالياً هنالك ذروة في المشاعر المتعارضة، لم تتعارض مع احتفالات باهرة بتوقيع اتفاق بين السلطة الحالية وقسد. ويتراوح الوضع ما بين طبول حربٍ تزيد من حدّتها السياسات التركية بالغة الحساسية، وتباشير وفاقٍ ونجاح في التسوية.
في أقصى الجنوب الغربي، هنالك خصوصية في درعا، وخصوصية أشدّ تبلوراً في السويداء ما بين درزيْتها و» السنّية» السورية، التي تضاعفت يقظتها عدّة مرات بعد نجاحات هيئة تحرير الشام. هنا دور مهمّ للقرب من الجولان وإسرائيل، التي ترى في بعض دروز إسرائيل باباً مهمّاً للتدخّل في الشؤون السورية، لتحقيق تغيير إضافي، يجعل من جنوب دمشق كلّه منطقة منزوعة السلاح، تتخيّلها ستكون «صديقة» أكثر من الآخرين، وحاجزاً يمنح الأمن الاستراتيجي لها ويحصّنها من أسباب خوفها وقلقها المرضيّ الدائم. ومن الطبيعي أن يشعر بعض الدروز السوريين في السويداء وجبل الشيخ، وحتى في جرمانا – ضاحية دمشق- بشيء من الحصانة بسبب ذلك، لكنّ ذلك يصطدم بميول وطنية رفيعة، موروثة من أيّام تولّي سلطان الأطرش قيادة الثورة السورية ضدّ الفرنسيين، وذلك فخر لا ينساه الدروز الفخورون بطبعهم. وقد ظهر هذا الميل طاغياً في أكثر من عام من الاعتصام الدائب في ساحة الكرامة، الحالة التي أدّت إلى تنشيط الوطنية السورية/الثورية في كلّ البلاد. تحتدم تفاعلات هذه المزدوجة بقوة حالياً، وتشكّل تحدّياً آخر لمشروع سوريا الجديدة التي تجهد للخروج إلى العالم.
المزدوجة الثالثة التي شعلت سوريا والعالم بشكلٍ خاص مؤخّراً هي العلوية- السنّية بدورها، وهي مزدوجة عايشت نظام الأسد الأب والابن، ونمت في عهدهما، بسبب انتماء تلك العائلة نفسها، وتركيبة الطائفة الفقيرة التي عزّز الأسدان انطلاقها نحو الجيش وأجهزة الأمن، من خلال حجب إمكانيات التطوّر «العادي» من أمامها، كما أصبح متداولاً الآن.
هنالك حدّة وخصوصية بارزة في هذه المزدوجة، تَزِرُ» فيها الطائفة العلوية أوزار النظام الساقط، الذي عاش طويلاً على القمع والطغيان والمجازر، التي كانت ذروتها في حماة 1982، وفي سجون تدمر وصيدنايا، والحجم الهائل/المليونيّ للقتل والتدمير والتشريد في الخمسة عشر عاماً الأخيرة، الأمر الذي وقع معظمه على السنة كنوع.. مع أن بعضه وقع على العلويين أيضاً، بما يجمعهم مع الشعب العاديّ كلّه حين تعرّض للفقر والحاجة إلى الخبز والأمان، وبما هم عليه من» خيانة» لفضل الأسدين عليهم. بعد تهاوي نظام الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، ورغم هروب القادة معظمهم، تحصّن البعض في الجبال، واحتمى آخرون بالقاعدة الروسية، وبدأوا كما يبدو بالحشد والتحضير لمحاولة استعادة السلطة، ولو في منطقة الساحل وجبالها وحسب: أولئك هم «الفلول» كما تسمّيهم السلطة ومعظم الناس – من كلّ الطوائف- في الأسبوع الأوّل تحرّك هؤلاء واختطفوا عناصر من القوى الأمنية والعسكرية وقتلوا العديد منهم، مّا أدّى إلى الإحساس بالخطر والاستفزاز، ودفع إلى النفير والاستنفار، وتدفّق قوى غير منضبطة، رغم أنّ نواتها معروفة التركيب والمرجعية من دون لبس.. وكانت النتيجة وقوع مجازر بشعة بالمدنيين خصوصاً في القرى والبلدات.
تمكّن ذلك المسار من وضع البلاد أمام المزدوجة الأشدّ خطورة والأكثر جراحاً، الأمر الذي أخرج القيح المتراكم المكتوم إلى المشهد بين السوريين وأمام العالم… رغم الجهود الكبيرة التي تعمل على «كتم» انبثاق ذلك القيح، وتخميد نداءات الثأر والانتقام من جهة، وصرخات المظلومياّت المتقابلة.
في النتيجة الآن، أصبحت كلمة» التقسيم» عادية أكثر، وتُناقش وسوف تُناقش لاحقاً. وليس سهلاً على الإطلاق مواجهة تلك الحالة المتفجّرة، والسلطة الحالية تعيش آلام الولادة، وتجهد لتأمين قوت الشعب، الذي أصبح سوريا كلّها بعد أن كان إدلب وحدها، ولبناء دولةٍ انهار الجزء الأكبر والأهمّ منها.. والأصعب هنا مواجهة تحدّي التحوّل من عقلية كانت إرهابية، إلى عقلية مدنية وحديثة ومتكيّفة مع العالم المنشغل بأمور أخطر كما هو الآن، ومع المنطقة التي تعصف فيها همومها الكبيرة حاليّاً. لكنّ هنالك بعض الضوء أيضاً، الخافت لكن الموجود أيضاً. ذلك صحيح رغم أنه لا يمحو الأخطار الداهمة، ولا يستطيع وحده مواجهة المدّ ولا الوقائع كلّها. لا يستطيع أيضاً مواجهة فيض اليقين الذي أصاب جزءاً أو أجزاءً مهمة من النخب السورية، وأبقى بعضهم بعيداً لم ينخرط في العملية السياسية الجارية في داخل البلاد، ينتظر أن تستقيم بذاتها، أو بفعل القوى الخارجة عنها.
جاء ذلك الضوء من اتفاق أحمد الشرع ومظلوم عبدي، على وحدة البلاد وتوحيدها، وعلى إشارات بسيطة إلى المسار الواجب سلوكه في المفاوضات الصعبة المقبلة. يشير ذلك أيضاً إلى أن طريق التسويات هو الوحيد الذي يمنع القطار المُثقل بأحماله من الخروج عن السكة. وليته يساعد كلّ السوريين على تفهّم كون الحروب الأهلية والتفتت واقعاً ينتظرهم من دون التسويات، وأن التسويات مستحيلة من دون التنازلات والتنازلات المقابلة.
*كاتب سوري
القدس العربي
————————
لماذا تثير ملامح اتفاق عسكري بين تركيا وسوريا المخاوف؟/ فراس فحام
26/3/2025
في وقت تسابق فيه الإدارة السورية الجديدة الزمن لاستكمال عملية دمج الفصائل المسلحة لتنضوي جميعها تحت وزارة الدفاع، يتصاعد الحديث عن قرب التوصل لاتفاق لتأطير التعاون العسكري السوري التركي، الذي قد يشمل تدريب الجيش السوري الجديد وتزويده بالأسلحة وتأسيس قواعد عسكرية تركية على الأراضي السورية.
وفي مطلع مارس/آذار الجاري، أعلنت السفارة التركية في دمشق مباشرةَ الملحق العسكري المقدم حسين غوز مهامه، مؤكدة على “التعاون العسكري الوثيق مع الشقيقة سوريا”.
في هذا التقرير، نستعرض مواطن التعاون العسكري التركي السوري المرتقب، وتداعياته على تقاطع أو تضارب المصالح مع أطراف إقليمية ودولية في هذا الصدد.
مواقع عسكرية مشتركة
وفقا لمعلومات حصل عليها موقع الجزيرة نت من مصادر تابعة لوزارة الدفاع السورية، فمن المتوقع تأسيس مواقع عسكرية مشتركة بين الجيشين التركي والسوري في مناطق مختلفة.
ومن المرجح أن تشمل هذه المواقع قواعد جوية شمالي البلاد وشرقيها ووسطها، أبرزها مطارات منغ ودير الزور وتيفور وتدمر، وستكون مخصصة لعمليات التدريب والتطوير للقوات السورية، بموجب اتفاقية منتظرة بين الجانبين، مما يعني أن الغارات الإسرائيلية الأخيرة ربما تعبر عن قلق وتحذير استباقي من مثل هذه الخطوات.
وفي 20 مارس/آذار الجاري، أرسل الجيش التركي بالفعل قافلة عسكرية إلى مطار منغ شمال مدينة حلب، ومن المنتظر أن يكون هذا المطار أول قاعدة مشتركة بين أنقرة ودمشق.
وكشفت صحيفة حرييت التركية عن إمكانية تزويد أنقرة الجيش السوري بمنتجات صناعتها الدفاعية المتطورة في إطار التعاون العسكري مع سوريا، بالإضافة إلى إيفاد مستشارين عسكريين أتراك إلى سوريا من أجل المساهمة في إعادة هيكلة الجيش السوري.
الاتفاقية المشتركة المحتملة بين أنقرة ودمشق ستلبي مصالح الطرفين، حيث تعكف الإدارة السورية على إعادة إنشاء جيش البلاد بعد انهيار الجيش السابق الذي كان يدين بالولاء لبشار الأسد.
بالمقابل، فإن لأنقرة مصلحة في تعزيز حضورها في الساحة السورية للتعامل مع توجساتها الأمنية، وهذا ما أكده وزير الخارجية التركي حقان فيدان منتصف فبراير/شباط الماضي عقب توقيع الاتفاق بين قوات سوريا الديمقراطية “قسد” والحكومة السورية، إذ أشار إلى أن بلاده ستراقب عن كثب تنفيذ الاتفاقية خشية وجود “بعض الألغام المزروعة” التي ستظهر في المستقبل.
ولم تستبعد المصادر العسكرية في دمشق أن تشمل المواقع العسكرية المشتركة مع الجانب التركي نشر طائرات مسيرة، مثلما فعله الجيش التركي في القواعد التي أسسها في مناطق سيطرة الحكومة الليبية غربي البلاد.
وتسعى أنقرة منذ مطلع العام الحالي لإدماج الجيش السوري الجديد ضمن تحالف إقليمي رباعي يشمل إلى جانبها كلا من سوريا والأردن والعراق، ومن المفترض أن يركز هذا التحالف على منع عودة تنظيم الدولة الإسلامية، بالتوازي مع تواتر تقرير عن رغبة الإدارة الأميركية في الانسحاب من سوريا.
ومنذ الأسبوع التالي لسقوط بشار الأسد، أعلن وزير الدفاع التركي يشار غولر استعداد بلاده لتوفير التدريب العسكري للإدارة السورية الجديدة إذا رغبت في ذلك.
تعاون متصاعد منذ 2016
لا يُعد هذا التعاون العسكري حديث العهد، فقد برز في وقت سابق من خلال دعم الجيش التركي فصائل المعارضة المسلحة السورية، خاصة خلال العمليات التي استهدفت تنظيم الدولة و”قسد”.
وكان شهر أغسطس/آب 2016 شهد أول توغل عسكري تركي بري داخل الأراضي السورية لتقديم المساندة لفصائل من المعارضة ضد تنظيم الدولة ضمن عملية حملت اسم “درع الفرات”.
وقد تمكنت حينها فصائل المعارضة بإسناد تركي من السيطرة على مواقع مهمة في ريف حلب الشمالي، بعد أن تقلصت مساحات سيطرة المعارضة أمام تنظيم الدولة وقوات قسد التي توغلت شمال حلب تحت غطاء الطيران الروسي.
وفي 2018، دعم الجيش التركي إطلاق فصائل المعارضة السورية عملية عسكرية ضد “قسد” تحت مسمى “غصن الزيتون”، أفضت إلى السيطرة على منطقة عفرين.
وتبعها بعد أكثر من عام عملية “نبع السلام” التي استحوذت من خلالها فصائل المعارضة على مواقع مؤثرة في الرقة، ونتج عن العمليتين المذكورتين في المحصلة النهائية تقطيع أوصال الممر الذي كان تحت سيطرة “قسد” على امتداد الحدود التركية.
ومع مرور الوقت، أسست الفصائل التي شاركت في العمليات المدعومة من الجيش التركي ما عرف بـ”الجيش الوطني السوري”، الذي ضم أكثر من 20 فصيلاً متوزعين على 3 فيالق.
كما دعم الجانب التركي تأسيس 8 ألوية في محافظة إدلب من فصائل المعارضة السورية أطلق عليها تسمية “الألوية الرديفة”، حيث نشر الجيش التركي عشرات النقاط العسكرية شمالي غربي سوريا بالتنسيق والتعاون معها.
مباحثات مع إدارة ترامب
وصف الممثل الخاص للرئيس الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف الاتصال الهاتفي الذي جمع دونالد ترامب مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منتصف الشهر الحالي بأنه كان “رائعا” و”هناك أشياء إيجابية قادمة”.
وفي هذا السياق، علم موقع الجزيرة نت من مصادر دبلوماسية في واشنطن أن النقاشات التركية مع الإدارة الأميركية تسعى لتفادي سيناريو إطلاق إدارة ترامب يد روسيا في الملف السوري مجددا، مقابل عقد تفاهمات بين موسكو وتل أبيب تضمن مصالح الأخيرة، لأن الجانب التركي لا يرحب بعودة النفوذ العسكري الروسي إلى سوريا بعد أن تم تقليصه عقب سقوط الأسد.
بالمقابل، تسعى تركيا لتنسيق نشاطها العسكري في سوريا مع إدارة ترامب، خاصة فيما يتعلق بمكافحة تنظيم الدولة، وتولي الإشراف على السجون التي يحتجز فيها الآلاف من المتهمين بالانتساب للتنظيم.
وبالفعل، لا تخفي روسيا رغبتها بالعودة إلى المشهد السوري، وهو ما يتجلى في الرسالة التي وجهها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى نظيره السوري أحمد الشرع عبّر فيها عن دعمه الجهود الهادفة إلى استقرار الوضع في البلاد، مؤكدا استعداد موسكو للمشاركة الفاعلة في تعاون عملي مع دمشق، وتعزيز العلاقات الروسية السورية التي لطالما اتسمت بالود والتفاهم المتبادل، على حد قوله.
وبحسب المصادر، فإن إسرائيل هي الأخرى تبذل جهودها لدى الجناح السياسي في الإدارة الأميركية للتصعيد ضد إدارة دمشق لمنعها من تكريس سلطها، وتضييق مساحة التعاون بين دمشق وأنقرة.
وكان ترامب قبيل توليه الرئاسة رسميا، أشار -في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2024- إلى أن تركيا ستمتلك قدرة التحكم في مجريات الأحداث في سوريا من خلال علاقتها مع الفصائل المسلحة التي سيطرت على سوريا عن طريق “عملية غير ودية”.
إسرائيل المتضرر الأبرز
نقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن مصادر أمنية في الـ23 من الشهر الجاري تزايد الخشية في تل أبيب من مواجهة مباشرة مع تركيا في سوريا، مشيرة إلى أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عقدت مشاورات لبحث التطورات في سوريا.
وبحسب المصدر، فإن الجيش السوري يسعى لترميم قواعد عسكرية وقدرات صاروخية، بالإضافة إلى وجود اتصالات سورية تركية لنقل مناطق قرب تدمر إلى الجيش التركي مقابل دعم لدمشق.
وأشارت المصادر إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بينامين نتنياهو يطلب من مستشاريه التأكيد عبر وسائل الإعلام أن المواجهة مع تركيا في سوريا قادمة.
ومن الواضح ارتفاع الهواجس الإسرائيلية من التعاون التركي السوري، حيث شن الطيران الإسرائيلي موجة جديدة من الهجمات الجوية على مواقع سورية يوم 22 مارس/آذار الجاري، شملت قواعد جوية وسط سوريا أبرزها مطارا تدمر وتيفور في منطقة تدمر بريف حمص.
وإذا أقامت تركيا قاعدة في ريف حمص، فإن المسح الراداري لهذه القواعد قد يصل إلى هضبة الجولان المحتلة.
وتزايدت في الآونة الأخيرة تحذيرات المحللين الأمنيين الإسرائيليين من اندلاع حرب بالوكالة بين أنقرة وتل أبيب على الأراضي السورية.
ومنذ سقوط الأسد، أوضحت إسرائيل رغبتها في الاعتماد على الأقليات في سوريا وخاصة الأكراد والدروز، فيما يبدو أنه خيار إستراتيجي للحفاظ على التوازن في مواجهة تحالف تركيا وقطر مع الإدارة السورية الجديدة.
المصدر : الجزيرة
———————————
ثغرات لهيمنة السلطة أم ضرورة لهيكلة الدولة؟.. حقوقيون بالرقة يعلقون على الإعلان الدستوري
27-03-2025
يرى حقوقيون في مدينة الرقة، شمالي سوريا، أن الإعلان الدستوري في سوريا فيه ثغرات قانونية جوهرية قد تؤدي إلى استمرار هيمنة السلطة وإقصاء بعض المكونات، في حين يرى البعض أنه خطوة ضرورية نحو إعادة هيكلة النظام السياسي وتعزيز الحريات.
ومنذ صدور الإعلان الدستوري الجديد والذي وقع عليه الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع في 13 آذار/ مارس الجاري، لقي الكثير من المعارضات والاحتجاجات ونُظمت على إثره مظاهرات عدة تطالب بإعادة صياغته وتعديله.
يتناول هذا التقرير أبرز الملاحظات لحقوقيين سوريين من الرقة على لجنة الصياغة وبنود الإعلان، من تشكيل المحكمة الدستورية إلى دور رئيس الجمهورية، إضافة إلى الجدل حول مرجعية التشريع، ومدى توافقه مع تطلعات السوريين في بناء دولة مدنية ديمقراطية.
أخطاء لجنة الصياغة
يقول المحامي عواس علي، لنورث برس، إن المشكلة الأساسية في لجنة صياغة الإعلان الدستوري وما نتج عنها أخطاء قانونية فادحة في الإعلان الدستوري، وخاصة أن هناك الكثير من المختصين الحاصلين على شهادات الدكتوراه في هذا المجال بسوريا.
ويضيف “علي” أن “الأخطاء بلغت درجة معيبة، حيث أن أحد الأعضاء لم يكن يميز ما تعنيه عبارة الفصل بين السلطات، ولم يفهم الفقرة التي وردت فيها هذه العبارة”.
ويشير إلى أن القانون الدستوري في جميع دول العالم، وخاصة بعد عام 2000، توجه إلى أنه لا يوجد فصل تام بين السلطات، لأنها تكمل بعضها البعض، وهذه وجهة نظر العديد من فقهاء القانون الدستوري، على حد قوله.
لكن عندما صرح أحد أعضاء اللجنة برأيه، بدا وكأنه يعتبر أنه من المحرم أن تتداخل السلطات الثلاث أو تتشاور فيما بينها، بحسب “علي” الذي يرى أن هذه اللجنة “كارثة ومعيبة دولياً”.
ويغوص الحقوقي في تفاصيل الإعلان الدستوري قائلاً إن هناك خطأ فادح في المادة (8)، حيث جاء في نصها: “تلتزم الدولة بمكافحة جميع أنواع وأشكال التطرف العنيف مع احترام الحقوق والحريات”.
ويتساءل بتهكم: “فهل هناك تطرف عنيف وتطرف غير عنيف؟ بموجب هذا النص، يبدو أن التطرف غير العنيف مسموح به، وهذا خطأ كارثي”.
وكذلك، المادة 47 التي تنص على “تشكيل المحكمة الدستورية العليا من سبعة أعضاء يختارهم رئيس الجمهورية”، وهذا خطأ فادح مقارنة بدساتير العالم، حيث يتم اختيار الأعضاء بموجب اقتراحهم على مجلس الشعب الذي يصوت عليهم، دون تدخل الرئيس لا من قريب ولا من بعيد، بحسب “علي”.
أما المادة 50، فتنص على أن “يتم تعديل الإعلان الدستوري بموافقة ثلثي مجلس الشعب بناءً على اقتراح رئيس الجمهورية”، وهذا يعني أنه بدون اقتراحه لا يستطيع أحد تعديل أي مادة في الدستور.
ويرى المحامي السوري عواس علي أن الأخطاء لا حصر لها، والسبب برأيه يعود إلى اختيار أعضاء اللجنة وأنهم لا يملكون الخبرة الكافية وغير مطلعين على دساتير العالم، على حد تعبيره.
“القوى المدنية مفقودة”
يقول المحامي عبدالله العريان، إن “هذا إعلان دستوري وليس دستور دائم، بل يمكن أن يتطور إلى الدستور حسب فعالية القوى المدنية التي لا تتبع لأي إدارة، وهي، بلغة قانونية، الجهاز الذي يحكم، لكنها غير متوفرة حالياً، أي أن القوى المدنية مفقودة، نحن نفتقد لهذه البنية القانونية”.
ويضيف: “رغم ذلك، هناك العديد من الأمور الإيجابية في الإعلان الدستوري، مثل حرية تشكيل الأحزاب السياسية، وحرية كافة المكونات واللغات الثقافية، وحرية التعبير عبر الإعلام والصحف، وتشكيل المجمعات، واستقلال السلطات”.
ويشير إلى إن عدم تبعية المنظمات لأي سلطة، واستقلال السلطات عن بعضها البعض، ومراقبتها لبعضها، تعد من الجوانب الإيجابية، على حد وصفه.
فيما ينوه “العريان” إلى أن هناك إشكالية تتعلق بالنص الذي ينص على أن “الإسلام هو مرجع التشريعات”، مضيفاً: “فالسؤال هنا: عن أي إسلام نتحدث؟ هل هو الشيعي أم السني؟ وأي مذهب من المذاهب السنية؟ هذه العبارة وردت في جميع الدساتير السابقة، لكنها كانت مجرد حبر على ورق، وتطبيقها يكاد يكون مستحيلاً”.
ويشدد بأنه “علينا في جميع المناطق السورية أن نسعى إلى إيجاد مجتمع مدني حقيقي، يتجسد في أحزاب سياسية وليست أحزاباً عسكرية، وهو العيب الذي كان متواجداً في جميع الأنظمة التي حكمت سوريا”.
ويقول الحقوقي إنه لا يمكن تطبيق أي بند من بنود الدستور إلا في حال وجود ضغط من الشارع، أي المجتمع المدني، على صانع القرار.
ويشير إلى أن الخطأ في سوريا هو أن “من يحكم يريد تشكيل المجتمع على مقاسه الخاص”، دون أن يتنازل ليسأل المجتمع ماذا يريد.
“دستور دائم”
بينما المحامي فرهاد باقر يحسم الجدل ويقول “هذا ليس إعلاناً دستورياً مؤقتاً، بل هو دستور دائم لهذه الفئة”، ويتساءل: لماذا جاء الإعلان بعد يومين من توقيع الاتفاق بين “قسد” ودمشق؟ مشيراً إلى أن هذا الإعلان جاء متناقضاً مع توقيع رئيس الجمهورية.
وفي العاشر من الشهر الجاري، أعلنت الرئاسة السورية، أن الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، وقعا اتفاقاً ينص على دمج قوات “قسد” والإدارة الذاتية في إطار الدولة السورية، ولاقى هذا الاتفاق ترحيباً عربياً ودولياً واسعاً.
ويضيف “باقر” أن الاعلان حدد دين رئيس الدولة، مما يقصي فئات كثيرة من المجتمع، ويقلص من حقوق المرأة، ولا يعبر عن طبيعة المجتمع السوري، ولم يحظَ بموافقة جميع السوريين.
ويدعو الحقوقي فرهاد باقر الناشطين السوريين إلى تشكيل لجان وعقد حوارات وندوات لتقديم رؤى وصياغة إعلان دستوري مؤقت لسوريا يجد فيه جميع مكوناتها تمثيلاً حقيقياً.
وبعد المصادقة على الإعلان الدستوري، أعلن مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، خلال بيان، عن رفضه التام للإعلان الدستوري المقدم من السلطات الانتقالية، مشيراً إلى أن المسودة “تعيد إنتاج الاستبداد بصيغة جديدة”.
وشدد “مسد” على رفضه الشديد أي محاولة لإعادة إنتاج الديكتاتورية تحت غطاء “المرحلة الانتقالية”، مؤكداً أن أي إعلان دستوري يجب أن يكون نتاج توافق وطني حقيقي، وليس مشروعًا مفروضًا من طرف واحد.
كما أعلن شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز في سوريا، الشيخ حكمت الهجري، رفضه الإعلان الدستوري، مطالباً بإعادة صياغته بشكل يؤسس لنظام ديمقراطي تشاركي، والحدّ من “الصلاحيات الاستئثارية” لمنصب الرئاسة فيه.
تحرير: خلف معو
نورث برس
————————-
“هيومن رايتس ووتش”: الإعلان الدستوري السوري ترسيخ لنظام ديكتاتوري
حذرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” من أن الإعلان الدستوري السوري الذي أُقر مؤخراً، والذي من المفترض أن يحكم البلاد خلال المرحلة الانتقالية، قد يرسخ نظاماً ديكتاتورياً، وذلك بمنح السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة وتقويض استقلالية القضاء.
وذكرت المنظمة الحقوقية في بيان أن الإعلان، الذي وقعه الرئيس أحمد الشرع في 13 آذار 2025، يمنح الرئيس صلاحيات كبيرة في التعيينات القضائية والتشريعية دون أي ضوابط أو رقابة. وأعربت عن مخاوفها من أن هذه الصلاحيات قد تؤدي إلى تقويض حكم القانون وحقوق الإنسان.
وقال آدم كوغل، نائب مديرة الشرق الأوسط في “هيومن رايتس ووتش”، إنه في غياب ضمانات قوية ورقابة مستقلة، هناك خطر من أن يؤدي هذا الإعلان إلى تعزيز سيطرة السلطة التنفيذية على حساب الحريات الأساسية.
وبحسب الإعلان الدستوري، سيقود الرئيس أحمد الشرع سوريا في مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات، تنتهي بإقرار دستور دائم وتنظيم انتخابات.
وانتقدت “هيومن رايتس ووتش” المادة 47 من الإعلان، التي تمنح الرئيس سلطة تسمية جميع أعضاء “المحكمة الدستورية العليا” دون أي إشراف من البرلمان أو غيره. وقالت إن هذه المادة قد تعزز نفوذ الرئيس في التفسيرات الدستورية وتستبعد مساهمة البرلمان.
كما انتقدت المنظمة المادة 24، التي تمنح الرئيس سيطرة شبه كاملة على التعيينات التشريعية، حيث يعين ثلث أعضاء البرلمان الانتقالي، بينما تقوم لجنة يعينها الرئيس باختيار الثلثين الآخرين.
ودعت “هيومن رايتس ووتش” السلطات السورية إلى مراجعة الإعلان الدستوري ليشمل ضمانات قوية لاستقلالية القضاء والإشراف التشريعي، مشددة على أن المرحلة الانتقالية في سوريا يجب أن تكون معبراً نحو نظام ديمقراطي يحترم الحقوق، وليس حجة لترسيخ نظام سلطوي.
وتضمن الإعلان الدستوري بعض الضمانات للحقوق، مثل قرينة البراءة ومنع التعذيب والإخفاء القسري، إلا أن “هيومن رايتس ووتش” أعربت عن قلقها بشأن القيود على حرية التعبير، خاصة المادة 49(3) التي تجرم “تمجيد نظام الأسد البائد ورموزه”، و”إنكار جرائمه أو الإشادة بها أو تبريرها أو التهوين منها”، وذلك “نظرا لصياغتها الفضفاضة والمبهمة”.
————————————–
ملاحظات/ مالك الحافظ
على سيرة طلب واشنطن معالجة ملف المقاتلين الأجانب لسوريا (الكل وليس القياديين).. نقاط مهمة استباقية لرؤية السلطة الانتقالية…
– حين كان الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع يُدعى “أبو محمد الجولاني”، ويُخفي وجهه في مقابلاته التلفزيونية، أعلن بصراحة أمام الصحفي أحمد منصور الذي كان يعمل في قناة “الجزيرة” أن المقاتلين الأجانب يُشكّلون ما يقارب 30٪ من هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا)، مؤكداً أن وجودهم “جزء من المعادلة الجهادية”، بل وذهب إلى اعتبارهم مكوّناً عضوياً لا يمكن التخلي عنه. الغريب أن هذه القناعة لم تتبدد مع تحوّله من زعيم جهادي إلى رئيس للسلطة المؤقتة رغم ادعاءه إجراء مراجعات فكرية والتلميح بأن كل تلك المرحلة الجهادية كانت طيشاً، بل وظل متمسكاً بمنطق الاحتضان العميق للمقاتلين الأجانب، إلى حد منح بعضهم مناصب حساسة فيما يسمى بالجيش السوري الجديد، وحتى الدفع لتمرير مشروع تجنيسهم بالجنسية السورية!
🔴 التحول الشكلي في السردية من جهاد عالمي إلى “دولة وطنية”، لم يرافقه تحول جوهري في بنية التفكير السياسي لدى الشرع. فما يزال يتعامل مع سوريا باعتبارها أرضاً لمشروع أممي، لا وطناً لمواطنة جامعة. رفضه لفكرة “دايتون سورية”، التي تعني تفكيك البُنية العسكرية الحالية وإعادة تركيبها على أسس وطنية–مؤسساتية كما حدث في البوسنة بعد الحرب الأهلية، ليس فقط موقفاً سياسياً نابعاً من حسابات القوة، بل هو تعبير عن مركّب أيديولوجي–نفسي يستبطن الخوف من فقدان السيطرة، وتدمير الحاضنة الجهادية التي كوّنها على مدى أكثر من عقد.
– وفقاً لبحوث متخصصة في الجماعات الجهادية، مثل كتاب “Inside Jihadism” للباحث الفرنسي فريديريك مارتيل، فإن قادة التنظيمات المتطرفة لا يرون في العناصر الأجنبية عبئاً سياسياً، بل “صمّام أمان” لأيديولوجيتهم، فهم يمثلون طليعة أممية عقائدية يمكن الوثوق بها أكثر من العناصر المحلية التي قد تخضع للضغوط العائلية أو المجتمعية. وبالتالي فإن بقاءهم ليس فقط خياراً استراتيجياً بل ضرورة أيديولوجية، تضمن بقاء التماسك العقائدي داخل التنظيم.
– الشرع أو الجولاني (لا فرق في هذا المقال) يعلم جيداً أن تفكيك هذه البنية، كما فعل اتفاق دايتون في البوسنة عام 1995، سيكون بمثابة إزالة الجدار الأخير الذي يحميه من احتمالات الانقلاب عليه من داخل جسمه المسلح. فالمقاتلون الأجانب، الذين لا ولاء لهم إلا للفكرة، يشكلون شبكة حماية وولاء عميقة. إخراجهم من المعادلة يعني تعريته أمام خصومه، بل وربما تفجّر تناقضات داخلية بين من ينتمون لمشروع الأمة (كما يسوقه الشرع) ومن قد يطالبون بمشروع الدولة الوطنية الحديثة من أبناء البلد.
🔴 يُمارس الشرع عنفاً رمزياً حين يُقنع جمهوره أن بقاء المقاتلين الأجانب “ضرورة دينية” أو “عرف جهادي”، رغم ما يترتب على ذلك من عواقب سياسية خطيرة. بهذا المعنى، تتحول دعوته لبقاء الأجانب من مسألة أمنية إلى “اختطاف للسيادة”، يُبقي المجتمع رهينة لمشروع لا علاقة له بمفهوم الدولة الوطنية.
– رفضه لنموذج “دايتون سورية” لا يأتي فقط من كونه يهدد البنية العسكرية القائمة، بل لأنه يمس جوهر شرعيته كقائد جهادي سابق. أي إعادة هيكلة للمؤسسة العسكرية تتطلب بالضرورة تصفية البُنية الجهادية القديمة، واستبعاد العناصر غير السورية، ومأسسة الجيش على أساس وطني، وتعددي. وهذا يعني، ببساطة، نهاية المشروع السلفي الذي قام عليه نفوذ الجولاني طيلة سنوات.
– التجارب الدولية تُثبت أن بقاء المقاتلين الأجانب بعد الحروب الأهلية غالباً ما يُنتج أزمات مزمنة. في أفغانستان التسعينيات، ساهم المقاتلون العرب في تفجير الصراع الداخلي بعد انسحاب السوفييت.
🔴اتفاقية دايتون (1995)، التي أنهت الحرب البوسنية، لم تكن مجرد وثيقة دولية، بل خارطة طريق لإعادة بناء الدولة. نصت الاتفاقية على تفكيك القوات المسلحة للمكونات المتنازعة، وإعادة دمجها في مؤسسة وطنية واحدة تحت رقابة دولية صارمة، وأشرفت قوى حفظ السلام على كل مرحلة من مراحل الدمج (وهذا ما يجب أن يحصل في سوريا). إن رفض الشرع لمثل هذا السيناريو ليس فقط تهرباً من إعادة الهيكلة، بل مقاومة متعمدة لأي عملية تفكيك لعصب سلطته العسكري–العقائدي.
– تطرح كتابات أوليفيه روا مفهوماً محورياً لفهم موقف الجولاني من بقاء المقاتلين الأجانب، وهو ما يسميه “أسلمة الراديكالية”، أي أن هؤلاء المقاتلين لا يأتون غالباً من خلفيات دينية تقليدية، بل من هوامش المجتمع، ويجدون في السلفية الجهادية “هوية بديلة” لا وطنية ولا دينية بالمفهوم التقليدي، بل “هوية ثأرية ضد العالم”. هؤلاء هم الوقود الحقيقي لأي مشروع ما فوق وطني، وهو ما يحتاجه الشرع لتبرير استمرار نفوذه وشرعية مشروعه خارج حدود الدولة والمواطنة.
– أما جيل كيبل، فيقدّم قراءة مختلفة لكنها مكمّلة، إذ يرى أن “راديكالية الإسلام” تنبع من داخل بنية الخطاب الديني السلفي نفسه، خصوصاً حين تتحول السلفية من تيار فقهي إلى جهاز تعبئة أيديولوجي. ووفق هذا التحليل، فإن الشرع لا يستطيع فك ارتباطه مع المقاتلين الأجانب، لأنهم يُجسّدون النموذج الأكثر نقاءً من الفكرة السلفية التي قامت عليها هيئة تحرير الشام. أي أنهم ليسوا مجرد مقاتلين بل حراس العقيدة في نظره، والتخلي عنهم يعني المساس بجوهر المشروعية التي بنى عليها سلطته.
– من هذا المنظور، يمكن فهم رفض الشرع لأي “دايتون سوريّة” لا باعتباره رفضاً لإعادة الهيكلة فحسب، بل رفضًا لتفكيك البنية الإيمانية التي تربطه بهؤلاء المقاتلين.
🔴 من الجدير بالانتباه أن الحديث المتكرر لأحمد الشرع عن إلغاء التجنيد الإجباري في سوريا لا يبدو بريئاً أو نابعاً من فلسفة مدنية حديثة كما يُروّج، بل يبدو في جوهره قراراً وظيفياً يُخفي وراءه نية احتواء فائض المقاتلين الأجانب الذين تعتمد عليهم سلطته فعلياً. فحين يُقصى الشباب السوري من واجب بناء مؤسسة عسكرية وطنية جديدة، ويُفتح الباب أمام الأجانب للتجنيس وتولي مناصب في الأجهزة العسكرية بالمقام الأول فضلاً عن الأمنية، فإن ذلك لا يُعبّر عن مشروع “جيش وطني”، بل عن عملية إعادة تدوير للفصائل الجهادية ضمن ثوب الدولة. إنه شكل من أشكال الهندسة الديموغرافية العسكرية، يُفضي إلى جيش ليس له انتماء سوري جامع، بل يدين بالولاء لزعيمه ولرؤية سلفية لا تؤمن أصلاً بحدود الدولة الوطنية. هذا يعيدنا إلى ما حذّر منه المفكر المغربي عبد الله العروي حين ميّز بين من يَبنون الدولة انطلاقاً من العقد الاجتماعي، ومن يعيدون إنتاج الجماعة باسم العقيدة.
🔴 هذا استعراض أولي كتبته منذ أيام حول احتمالات “دايتون جديدة” في سوريا لطرد المقاتلين الأجانب. (غداً تحليل أوسع للطلبات الأمريكية من السلطة الانتقالية)
تعديل أخير على هذا المنشور: تصريح المبعوثة الأميركية دوروثي شيا كان واضحاً اليوم بخصوص تفكيك كل الوحدات العسكرية التي تضم مقاتلين أجانب بالإضافة إلى إشارتها عزل الأجانب من المناصب القيادية. بينما وكالة “رويترز” ذكرت وفق مصادرها الخاصة فقط جزئية عزل القياديين الأجانب. (رابط تصريح شيا في التعليقات مع تقرير رويترز)
———————————-
====================