الأحداث التي جرت في الساحل السوريالناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

علويون في دمشق… عين على الساحل وعين على الهجرة/ ملاذ الزعبي

27.03.2025

لا تغيب نبرة خيبة الأمل العميقة عن حديث رولا أسد، التي تشير إلى أنها باتت تتردّد بقول اسمها علناً، وإلى إحساسها بالمرارة من أن كل نشاطها المدني والصحافي خلال الثورة وقبلها لا يشفع لها، ضاربة مثلاً بما حصل مع الناشطة المعارضة والمعتقلة السابقة خلال الثورة هنادي زحلوط، التي فقدت ثلاثة من أشقّائها بعملية إعدام ميداني.

كان التوجّس والريبة واضحين على وجوه أفراد العائلة التي استقبلتني في حيّ “المزّة 86” في دمشق. الحيّ الفقير المختلط الذي تقطنه غالبية علوية، بات محطّ الأنظار في العاصمة، بالتزامن مع الأحداث والمجازر التي شهدتها مناطق في الساحل السوري.

حيّ “المزّة 86” أُنشئ برعاية رفعت الأسد، ليكون مقرّ عناصر سرايا الدفاع التي كان يقودها  في الثمانينيات وعائلاتهم، ثم تحوّل إلى ما يشبه سكناً رخيصاً لفئة كبيرة من الضبّاط وعائلاتهم من الطائفة العلوية، لكنه لا يقتصر عليهم اليوم، خاصة مع استقرار أو نزوح عائلات إلى الحيّ من مناطق مختلفة على مر السنين.

وصلتُ إلى بناء العائلة بعد عبور أزقة ضيقة وغارقة في العتمة، رافقتني في زيارتي سيدة علوية تقطن المنطقة نفسها، وما إن أعادت تأكيد الثقة بي، حتى بدأت الأسرة الصغيرة تدريجياً تبث شكاواها وتعبّر عن مخاوفها.

لم يُخفِ علاء وهو موظّف في القطاع العام، قلقه البالغ من وصول الهجمات إلى حيّه، بخاصة مع تواتر الأخبار من بانياس حيث تُقيم عائلته الممتدة، وبدء سقوط قتلى من أقاربه المباشرين. يستذكر اللحظة التي قرأ فيها خبر مقتل اثنين من أبناء أخواله في مدينة بانياس ويسرد بعض التفاصيل التي عرفوها لاحقاً، ومنها أن المهاجمين أعدموا الشابين وكسروا الجهاز الخلوي الخاص بزوجة أحد القتيلين، وسرقوا ما تملكه من ذهب وأموال على مرأى من الأطفال.

كان هذا المشهد جزءاً من الانتهاكات التي شهدها الساحل السوري منذ السادس من الشهر الحالي، والتي شملت مقتل المئات من المدنيين العلويين على يد قوّات تابعة للحكومة السورية، بالإضافة إلى العشرات من عناصر الأمن العام بعد هجوم لفلول نظام بشار الأسد.

“الرعب سيطر علينا”، يُوضح الرجل الأربعيني المتحدّر من قرية بابلوطة في ريف محافظة طرطوس، كيف بدأت تتشكّل ردود الفعل عند علويي العاصمة، وباتت المشاعر منقسمة بين محاولة متابعة آخر أخبار الأقارب في الساحل من جهة، وتتبّع الشائعات في دمشق من جهة أخرى، ويقول: “الناس هنا خافت وبدأت العائلات تجتمع مع بعضها بينما ترك البعض بيوتهم”، مشيراً إلى أنهم بدأوا بقراءة أخبار عبر “فيسبوك” تدعو إلى تصفية العلويين، ما زاد من المخاوف بشأن هجوم على تجمّعاتهم السكنية في العاصمة، خاصة مع ورود أنباء عن اعتداءات متفرّقة في بعض المناطق.

تتدخل قريبته ميساء في الحديث لتروي بدورها كيف عاشت بداية الهجمات على أقاربها، تقول إن ابنة خالتها اتّصلت بها هلعةً لتخبرها أن عمليات التمشيط تنتقل من بناء إلى آخر، قبل أن تتلقّى منها اتصالاً ثانياً تقول فيه إن العائلة نجت من الهجمات الانتقامية، وإن من نفّذ التمشيط كان يريد اعتقال الأب المسنّ قبل أن يتركه بعد رجاءات حارّة، موضحة العبارة بالعامية: “بسنا إجريّاتن يتركوه”.

تتابع السيدة الثلاثينية أن عائلتها المباشرة كانت في قريتها نعمو الجرد، حيث اتّصل بها شقيقها مودّعاً “إذا إلنا نصيب بنلتقي”، لكن عمليات التمشيط لم تصل هذه القرية، بينما واصلت هي متابعة مقاطع الفيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي طيلة أيام الأحداث.

تشتكي ميساء، وهي موظّفة في القطاع العام كذلك، من غياب القانون الواضح الذي يمكن الاستناد عليه، بحسب تعبيرها “تهمتنا العظيمة أننا علويون… كل علوي متّهم بأنه فلول نظام”.

تدعو والدة علاء المسنّة بالفرج بمداخلة عابرة بلهجتها الساحلية، وتلفت إلى أن عمليات القتل بحقّ العلويين تحصل على اعتبار أنهم “بيئة حاضنة” لنظام بشار الأسد، وتقول إن “الجوع خلّى الشباب يلحقوا الضبّاط”، في إشارة منها إلى الهجمات التي شنّتها مجموعات موالية للنظام السابق في السادس من آذار/ مارس في بعض مناطق الساحل، وهي الهجمات التي أسفرت عن مقتل العشرات من أفراد الأمن العام والمدنيين، والتي كانت شرارة الهجمات الانتقامية اللاحقة.

“السلطات تُناقض نفسها”

يستعيد أفراد الأسرة  المتجمهرون في غرفة المعيشة الصغيرة بعض لحظات اليوم الأول من الهجمات: النداءات التي انطلقت من المساجد داعية إلى النفير العام، والتعزيزات على الحواجز المحيطة بالحيّ، الأحاديث عن حمل شبّان في المناطق المجاورة للسلاح استعداداً لهجمات محتملة.

يخشى مهيار، أحد أفراد الأسرة، وهو عنصر سابق من رتبة دنيا في أحد الأجهزة الأمنية، من تجدّد ما حدث، سواء في المحافظات الساحلية أو حمص أو دمشق، ويرى أن السلطات “تُناقض نفسها”، مؤكّداً عدم الثقة “بأي أحد اليوم”، ويتساءل “على أي أساس يُجمع السلاح من العلويين فقط وليس من جميع المدنيين؟”.

تطرح الصحافية السورية رولا أسد السؤال نفسه، وتعتبر أن هذا التعامل الخاص يحمل سمات “تمييزية وطائفية”، لافتة إلى انتشار السلاح وفلول النظام في كل أرجاء البلاد، هذا عدا وجود السلاح بيد فصائل عسكرية وجماعات أهلية متفرّقة، سواء لدى “قوات سوريا الديمقراطية” التي يقودها الكرد، أو الفصائل المنتشرة في محافظة درعا، أو المجموعات الدرزية المسلّحة في السويداء، إضافة إلى فصائل “الجيش الوطني” في أرياف حلب.

“وصلني فيديو لشخص مقتول وكان يُشبه أخي كثيراً، أغلقته فوراً واتّصلت بأختي للتأكد من هوّية القتيل”.

“كان يُشبه أخي”

سبق لرولا أسد المولودة في دمشق وتنحدر من ريف جبلة، أن شاركت في النشاط المعارض لنظام الأسد من مكان إقامتها في هولندا، وساهمت في أسيس شبكة الصحافيات السوريات وشغلت منصب المديرة التنفيذية للشبكة لسنوات، وهي ترفض إضفاء معنى خاص على السلاح الموجود في منطقة الساحل دوناً عن باقي المناطق السورية.

صادف وصول أسد في زيارة إلى سوريا اليوم الثاني من الهجمات في الساحل، خطّتها الأصلية كانت تقضي بالذهاب لزيارة الأهل فور وصولها، قبل أن يحول تطوّر الأحداث دون ذلك بالطبع. تسترجع أسد بعض اللحظات العصيبة، كمتابعة الفيديوات الواردة والاتّصالات التي لا تتوقّف مع أفراد الأسرة المتوزّعين على مناطق عدة. كانت تخشى مشاهدة أفراد من عائلتها قتلى في المقاطع المصوّرة: “وصلني فيديو لشخص مقتول وكان يُشبه أخي كثيراً، أغلقته فوراً واتّصلت بأختي للتأكد من هوّية القتيل”.

وتقول الصحافية السورية: “أصبح كل شيء مستباحاً، القتل، والسرقة، والذل، والتعفيش، والتكسير”، متابعة أن أيّاً من أخوتها الذكور لم يكن جزءاً من الأجهزة العسكرية والأمنية للنظام السابق، ومع ذلك لم يكن ذلك كافياً للاطمئنان عليهم بسبب انتشار “القتل على الهوّية”.

تشرح أسد بعضاً مما عاشه أفراد أسرتها خلال أيام المجازر، مثل اضطرار أبويها المسنّين للاختباء خارج المنزل في مناطق نائية، وصعوبة تأمين المسلتزمات لأفراد الأسرة المنتشرين في الأحراش المجاورة، والمهمّات التي باتت مُلقاة على عاتق شقيقتها بوجود طفلة رضيعة لا يتجاوز عمرها ثلاثة أسابيع، هذا بينما كانت محاولات التواصل مع الأمن العام “مخيّبة للأمل” ومن دون جدوى.

“عدم ثقة مطلقة بالدولة”

في منزل ثانٍ في حيّ “المزّة 86″،  تؤكّد هدى وجود “حالة عدم ثقة مطلقة بالدولة”، معربة عن خشيتها من خلق “ذرائع لاستهداف المنطقة”، وتوضح “لا آمن نفسي ولا أولادي، ولا أضمن مستقبلنا مع هؤلاء”، قاصدة السلطات السورية الجديدة.

تعمل هدى وزوجها في إحدى المؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة، وتنحدر من قرية الربيعة في ريف محافظة حماة، بينما يقطن أفراد من أسرتها في أرياف جبلة واللاذقية. تسترجع السيدة الخمسينية بدورها بعض ما عاشه أقاربها في الساحل، وتروي قصصاً عن هروب مستمر لعائلتي شقيقتيها من حيّ إلى آخر، ومن المدينة باتجاه الريف، ومن الريف باتجاه الأحراج والأماكن الوعرة.

تحبس هدى دموعها عندما تتحدّث عن فترات انقطاع الاتّصالات، وعن طلبات متكرّرة من أقاربها بعدم الاتّصال بهم ليلاً، خشية أن تكشف رنة الخلوي أو إضاءته مكانهم خلال الاختباء، وتعجز عن وصف مشاعرها بدقّة، إذ تتراوح بين “العجز الكامل حيث سقف الطموحات أن لا نسمع بوفاة أحد”، والقلق الذي تحوّل إلى رعب مع حالات “التصفية الطائفية”، وصولاً إلى “الغضب”.

ورغم الاستقطاب الطائفي الحادّ الذي تشهده سوريا عموماً، فإن المشهد في بيئات العمل كان متبايناً من مكان لآخر، فبينما تؤكّد هدى أن العديد من زملائها من السنّة بادروا للاتّصال بها والاطمئنان عليها، بما يشمل في إحدى الحالات دعوة لاستضافة الأسرة في منزل بعيد خشية أي تصعيد قد تشهده منطقة المزّة، يتأسف علاء أن أصدقاءه المقرّبين لم يقدّموا له التعزية علناً خلال الدوام، خشية أن يتعرّضوا إلى مضايقات، مكتفين بعبارات مواساة ملتبسة وغير واضحة، بل إن زميلة له من بانياس فقدت شقيقها خلال الهجمات لم تجرؤ على الإفصاح عن ذلك علناً، وفق ما يقول، هذا بينما توقّف زميل آخر عن العمل مطلقاً بعد مقتل أخويه في جبلة: “خسر شابين… شو بدّه بالدوام”.

يستغل عامر، شقيق هدى الذي كان جزءاً من المؤسسة العسكرية، الحديث العام عن أوضاع علويي دمشق ليشتكي من عدم قدرته على إيجاد أي عمل بعد حلّ الجيش، ويلفت إلى رفض العديد من أرباب الأعمال تشغيل أي من حملة ورقة التسوية المؤقتة خشية “وجع الرأس”، على حدّ تعبيره.

وقد يكون ذا دلالة كبيرة أن أصادف في أسرتين صغيرتين أربعة عاملين في القطاع العام وعضوين سابقين في الأجهزة الأمنية والعسكرية، وما يعنيه ذلك من تشابك الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ودور الطائفة العلوية خلال فترة الحكم الأسدية المديدة، وتعقيد الأوضاع التي ورثتها سوريا ما بعد الأسد.

وخلال النقاش، تحدّث أفراد الأسرتين عن أعداد مهولة من القتلى خلال المجازر الأخيرة بقناعة تامة، تصل في بعض الأحيان إلى ٣٠ ألف قتيل، رغم عدم وجود أية أرقام موثّقة لغاية الآن صادرة عن أي من المنظّمات الحقوقية المحلية والدولية تتجاوز حاجز الألفي ضحية.

ماذا بعد؟

إن كان الإحساس بالاستهداف والتمييز مشتركاً بين جميع من تحدّثت معهم، فإن الحلول المقترحة لما حدث والتوجّهات المستقبلية لهم كأفراد، اختلفت من شخص لآخر، فعلاء مثلاً دعا إلى محاسبة جادّة وحقيقية لمرتكبي الانتهاكات، معتبراً أن العلويين “مدّوا أيديهم للدولة” التي عليها أن تجمع السلاح من الجميع، وأن تقوم بوظائفها وواجباتها لأن “الناس لم تعد تمشي بالطريق من الخوف”.

بيد أن المحاسبة ليست الكلمة الأكثر شيوعاً بين العلويين عند النظر إلى ما قد سيأتي، في مقابل صعود لافت لمفردتين شاعتا بين أوساط سورية أخرى في سنوات الثورة، وهما “اللجوء” و”الحماية”، من دون أن يفتح الاستخدام المتكرّر لهذه المصطلحات الباب لإعادة تفكير عميق بما جرى في البلاد ما بعد العام ٢٠١١، حيث تكرّرت على ألسنة من قابلتهم عبارات تشير إلى مسؤولية بشار الأسد الحصرية عما جرى، وعدم الرغبة في إجراء مراجعات أو نقاشات مسؤولة، بشأن عمليات القتل الجماعي والتهجير والتجويع التي شهدتها البيئات الثائرة على النظام السابق.

تقول هدى بوضوح إنها تريد حماية دولية “حتى لو أتت من طرف إسرائيل”، رغم أن خطاب النظام البعثي السابق جاهر بمعاداتها لعقود، ورغم أن نظام الأسد كان جزءاً من “محور الممانعة”، وهي الدولة التي سبق للسوريين أن خاضوا معها حروباً كبرى، والتي ما تزال تحتل قسماً من الأراضي السورية، ولم تتوقف عن شنّ غارات جوّية على مناطق في طول البلاد وعرضها قبل سقوط نظام الأسد وبعده، كما سبق لناشطين سوريين في سياق الثورة، أن تظاهروا في آذار/ مارس في عام ٢٠١٢، تحت عنوان “التدخل العسكري الفوري”، حيث طالبوا بفرض حظر للطيران وإقامة منطقة عازلة.

بدورها، لا تمانع ميساء دوراً خارجياً لحماية العلويين، وإن كانت تخشى تدخّلاً دولياً يقتصر على مناطق الساحل “دون تأمين حياتنا في دمشق”، أما فيما يتعلّق بالهجرة فلا تتأخّر في تقديم إجابة قاطعة وفورية: “أي فرصة تطلّعني برا البلد لن أتردّد باغتنامها”، وهو ما تذهب إليه هدى كذلك: “هاجسنا الآن البحث عن دولة تستقبلنا كلاجئين”.

ويرحّب مهيار “بأي حل، سواء كان الهجرة أو الحماية الدولية”، مشدّداً على أنه لم يفكّر في ذلك مسبقاً، وأنه كان يأمل في البقاء في بلده وعيش “حياة كريمة” قبل أن يصبح الوضع “مأساوياً”.

لا تغيب نبرة خيبة الأمل العميقة عن حديث رولا أسد، التي تشير إلى أنها باتت تتردّد بقول اسمها علناً، وإلى إحساسها بالمرارة من أن كل نشاطها المدني والصحافي خلال الثورة وقبلها لا يشفع لها، ضاربة مثلاً بما حصل مع الناشطة المعارضة والمعتقلة السابقة خلال الثورة هنادي زحلوط، التي فقدت ثلاثة من أشقّائها بعملية إعدام ميداني.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى