عودة إلى مفهوم العلمانية/ كمال عبد اللطيف

27 مارس 2025
شيطن السجال السياسي مفهوم العلمانية، وحوّلها مفردةً غير مرغوب فيها، رادفها بالإلحاد، واعتبر أنها تُخفي مواقف مُدمّرة لروح الإسلام وقيمه، كما اعتبر أنها تروم نسخ تجارب داخل المجتمعات المسيحية، وأنه لا علاقة لها بفضاءات التديّن الإسلامي. ونتصوّر أن مختلف هذه النعوت والمعطيات نعثر عليها في سجالات الفكر السلفي مع تيّارات الفكر النهضوي التحديثية، الناشئة والمتجدّدة في فكرنا المعاصر. ومن أجل تخطّي (وتجاوز) تركة المواقف الشائعة في ثقافتنا السياسية عن العلمانية وموضوع الدين والدولة، يلزمنا الإقرار، أوّلاً، بأن مفهوم العلمانية لا يرتبط بدلالة نهائية مغلقة، إلا في أذهان الذين ينطلقون من رفضه، في وقتٍ نرى فيه أن استخدامه في ثقافتنا السياسية اليوم يُعدّ مناسبةً لإعادة النظر فيه، أي إعادة إنتاجه في ضوء أسئلة المجال السياسي المحلّي في تحوّلاته، وأسئلة المجال السياسي الذي تبلور في إطاره، في صيرورته المتواصلة وأسئلته الجديدة، وهو ما يؤدّي، بالضرورة، إلى تركيب معطياتٍ كثيرة نفترض أنها تدعم بعض دلالات المفهوم، وتتجاوز بعض معانيه لحساب عملية في الفكر، قادرة على توليد دلالاتٍ جديدة، مستوعبة متغيّرات المجال السياسي في أبعاده المختلفة.
ليست علاقة السياسي بالديني رياضية، ولا يمكن تحويلها علاقةً حسابيةً مغلقة. إنها مجالٌ قابلٌ للتفكير والتشظي بصور وأشكال لا يمكن حصرها، كما أن معانيها المتناقضة قابلة للاستثمار الرمزي من القوى السياسية المتصارعة في داخل المجتمعات البشرية، وفي وقائع التاريخ هنا وهناك، من الأدلة ما يثبت (ويؤكّد) ما نحن بصدده. صحيح أن المفاهيم تُراكِم معطياتٍ نظريةً وتاريخيةً محدّدة، لما يمكن أن نطلق عليه ثوابت الدلالة وأسس المعنى (بل أصله)، إلا أن هذه الثوابت تكون، في مجال المفاهيم السياسية، مشحونةً بمعانٍ قابلة دائمة للتطوير والتحوير والتبدّل، أي قابلة لبناء أصل يتجاوز الأصول، أصل يسكت عن الأصول القديمة، أو يبني بدائلها، وخاصّة عندما تحصل متغيّراتٌ حاسمة في التاريخ، فيصبح مبدأ المراجعة مطلباً ضرورياً، لتجنّب دوغمائيات الفكر، التي تحوّل المفاهيم أوثاناً، وتنقلها من عاملٍ مساعدٍ على حسن إتقان التفكير إلى عائق من عوائقه.
في ضوء هذا التصوّر المبدئي والعام، حاولنا التفكير في بعض أسئلة مفهوم العلمانية في الخطاب السياسي العربي، وقد سمح هذا التصوّر بتجاوز مجرّد استدعاء المفهوم بحمولته الأنوارية المركّبة والمتناقضة، أي بالمعاني التي استقرّ عليها في فكر القرن الثامن عشر، واتجهنا إلى إعادة النظر في معانيه المتعدّدة، بهدف تحيينها، وتعيين قسماتها الجديدة، في ضوء المتغيّرات الحاصلة في التاريخ العام.
يمكن الإشارة هنا إلى أن التفكير في العلمانية، في مجال التداول السياسي العربي، يتطلّب توسيع دائرة السجال السياسي، ليشمل ثلاثة مجالات كبرى مترابطة فيما بينها، إلا أنها تتطلّب جهداً في البحث، ينظر إليها مؤقّتاً بصور مستقلة، يتعلّق الأمر بالمجالات الكبرى الآتية: التفكير في السياسي والتفكير في إعادة بناء النظر السياسي، ثمّ التفكير في علاقات الديني بالدنيوي. تترابط المجالات المذكورة فيما بينها، وتنفتح، في الآن نفسه، على أسئلةٍ لا حصر لها، فلا يمكن التفكير في العلمانية واستخدامها في مجال الصراع السياسي خارج دائرة التفكير في السياسي، وبالذات في استقلال المجال السياسي عمّا عداه، فلم يعد المجال السياسي في الفكر السياسي الحديث مرهوناً بالأخلاق ولا بقيم التعالي، كما أنه أصبح يعي علاقاته المعقّدة بالطوباوي والتاريخي، أن له اليوم قواعد وأصولاً يرتبط بها وترسم معالمه الكبرى. وهو يتطوّر ضمن آليات نظرية وتاريخية خاصّة.
ويتطلّب ما يتعلّق بمجال النظر السياسي في الفكر العربي التفكير في نقد المنظومات المرجعية المهيمنة، منظومات الحداثة، ومنظومات التراث، إضافة إلى مواصلة العناية والاهتمام بعلاقات التصوّرات السياسية بالوقائع، وعلاقات الوقائع بالتصورات والمفاهيم السياسية، وداخل هذه الدائرة ينبغي التفكير في علاقات السياسي بالديني، علاقة المقدّس بالتاريخ في أبعاده المختلفة، علاقة الإنسان بالطبيعة والمجتمع، إذ يُفصل السياسي عمّا عداه، ونتصوّر أن هذا الفصل ارتبط ويرتبط بمختلف ثورات المعرفة والسياسة والتقنية، كما حصلت وتحصل في عالمنا المعاصر.
عندما نفتح سؤال العلمانية على ما ذكر أعلاه، نفتحه في العمق على سؤال الحداثة السياسية، بمختلف إنجازاتها، وبمختلف الإشكالات التي ما فتئت تطرحها في قلب عمليات تحوّلها المتواصلة. وهنا يجد الموضوع فضاءه الفكري التاريخي المناسب، فيمكن أن تتشكّل التطوّرات، وتُبنى المعاني والدلالات القادرة على استيعاب ما جرى ويجري، والدفع به في السياق المساعد في تطوير النظر السياسي العربي.
لا يمكن إذاً التفكير في مفهوم العلمانية في الفكر السياسي العربي خارج إطار التفكير في الإشكالات النظرية والتاريخية، المرتبطة بموضوع كيفيات انغراس الحداثة السياسية في واقعنا وفي فكرنا، ففي هذا الإطار بالذات، ومن خلاله، نستطيع تعميق النظر في المفهوم. لقد انخرط العالم العربي منذ ما يزيد على قرنين في مسلسل التحديث في مستوياته المختلفة، وظلّ طوال القرنَين المنصرمَين يحاول بناء ما يُكسبه شرعية الفاعل المنفعل، والمنفعل الفاعل، في ما انخرط في إنجازه كرهاً وقسراً، وبفعل متطلّبات التاريخ التي تتجاوز القسر والإكراه، إذ يساهم الوعي التاريخي الناشئ والمتطوّر في مراكمة المعطيات، ودمج الثقافات، وتوحيد الأزمنة، وبناء المرجعيات والأصول الجديدة. وقد آن الأوان، بعد المعارك الخاسرة كلّها، في مستوى الذهنيات والوجدانيات، وفي مستوى الواقع، أن تُحوَّل تجاربنا السياسية، رغم عنفها المادي والرمزي، تجاربَ قادرةً على إعادة تركيب عناصر القوة المطلوبة كلّها، من أجل بناء مجالنا السياسي، وإعادة بناء نظرنا داخله بالصورة التي تجعلنا ننشئ تصوّرات جديدة، لكيفيات استمرار تقاطع المقدّس بالتاريخ، تصوّرات قادرة على استيعاب أسئلة اللحظة التاريخية الراهنة بمختلف أبعادها. وفي هذا المستوى بالذات من التفكير نستحضر مبدأ العقلانية، كما نستحضر تجارب التاريخ، فتنشأ أسئلة جديدة، وتلوح في أفق المفهوم دلالات جديدة، نكون معنيين بالتقاطها واستيعابها، لنطوّر المفهوم في ضوئها، وبهذه الطريقة نتخلّص من وثن المفهوم والمفهوم الوثن، لنُركّب ونبني المفهوم السياسي التاريخي المنفتح على أسئلة الماضي وأسئلة الحاضر، ولعلّنا هنا بالذات نكون قد بدأنا نتكلّم لغةً يفهمها الجميع، لغة السياسة والتاريخ.
العربي الجديد