ما الذي أردته أيها القنّاص المجنّد؟/ عفاف الحاجي

تجارب الاقتراب من الموت في سوريا
عفاف الحاجي
26-03-2025
تسبّب لي هذا المقال بالدوار والغثيان كلما عدتُ إليه، كان عليّ أن أزور أحياء دمشق في مخيّلتي، وأن أستجمع شظايا ذاكرتي المتناثرة وذكريات التروما المتبدّدة لأُعيد تشكيله. أُجريت الكثير من الدراسات عن تجارب الاقتراب من الموت، وكُتب عنها في أدبيّات العلوم، ولا سيما علم الأعصاب. تعدّدت الأعراض المشتركة بين الثقافات، مثل مرور الزمن بسرعة أو ببطء، الانفصال عن الجسد، الشعور بالسلام والوئام مع وحدة الكون، عودة ذكريات من الماضي، حدّة الحواس، الوعي بالموت، مراقبة الألوان والمناظر الطبيعية السماوية، ورؤية الضوء والتحرّك عبر النفق، وغيرها مما دُرِسَ الكثير.
بالطبع هنا لا أذكر القرب من الموت كـمفهوم واسع، فقد عشتُ في الحرب خمس سنين، أي 1827 يوماً من القصف والمعارك والرصاص والقنّاصين، خمس سنين لم تهدأ فيها آلة الحرب أبداً، لكني هنا أذكرُ على وجه الخصوص التجارب التي شعُرت بها أن الموت محتوم، وغيّرَت وجهة نظري تجاه الحياة، وأحدثت تجربة إدراكية مختلفة في ذهني، أي نقلتني إلى مستوى لم أكن قد عهدته من قبل، وكذلك في هذا المقال أُشارك تجربتي كـشاهدة عيان على تطوّر الأحداث في كلّ من منطقتي دمشق وريف دمشق حيث كنت أقيم وأنزح.
1- السير نحو الموت
كنتُ عائدةً إلى منزلي في برزة البلد، كانت المعركة مشتعلة. مشيتُ بجوار الأبنية العالية. جاء باص محمّل بالشبيحة، أحد الشبيحة يقف على الباب ومعه رشاش. أطلق النار على الأشخاص أمامي، كنتُ أراهم يتساقطون أرضاً قبالتي. وصل لعندي وصرخ: يا شرموطة! شعرتُ بالذهول، هذه آخر كلمة سأسمعُها في حياتي، كانت هذه آخر فكرة خطرت ببالي. رأيتُ نفقاً أمامي وله درج، ألقيتُ بنفسي عليه، نجوتُ من زخّ الرصاص، ثم أكملت إلى الحارة على اليسار، رأيتُ شباناً يحملون عصياً، أضحكني هذا المشهد، أناس يقاتلون بالعصيان مقابل الأسلحة الثقيلة، ألقيت السلام عليهم وأكملت طريقي باتجاه منطقة لم أدخل إليها من قبل. كان اسم المنطقة «السويدا»، أكملتُ الصعودَ إلى وجهةٍ لا أعرفها. حين وصلت إلى منطقة عالية جداً، سمعتُ أحدهم يصرخ من خلفي: يا بنت، يا بنت! استدرتُ إلى الوراء، وإذ بامرأة تطلّ رأسها من النافذة، قالت لي: إلى أين تذهبين؟ إنك تذهبين إلى منطقة العلويّة، كانت هذه الحدود بين منطقة برزة وعش الورور. بحسب رواية أهل الحيّ، كانت تتكرر حوادث اختطاف نساء بين المنطقتين، حوادث تنتهي بالاغتصاب والقتل. كنتُ ذاهبةً إلى حتفي بقدمي، خصوصاً أني كنتُ ما أزال أرتدي الحجاب ويبدو عليّ بوضوح أنني أنحدرُ من أصل سنّي. حوتني المرأة في بيتها، وتناولنا بعض البطاطا المقليّة في آخر الليل في الظلام الدامس على أصوات الرصاص والقذائف. كانت المرأة مضيافة وكريمة جداً. أني واي، انتظرتُ حتى طلوع الصباح بعد أن هدأت المعركة قليلاً، حاولتُ العودة إلى بيتي، حين وصلت إلى الحاجز، نظرتُ إلى النفق ورأيتُ أنه مغلق، لا يوجد أيّ طريقة للاحتماء به. إذن، الذي حصل، أني مررت بحالة انفصال (dissociation) وأكملت متابعة الطريق متلقيّةً رصاص الرشاش، ونجوتُ بأعجوبة، لكن مخي تهيّأ له وجود مكان في النفق لرمي جسدي فيه. كانت التجربة رهيبة للغاية، أعطتني لمحة عن مدى سهولة إنهاء الحياة، طلقة واحدة وانتهى الأمر. النهاية. ظلّت هذه الذكرى محفورةً في عقلي في مكان خاص، وربما غيّرت جذريّاً من طريقة نظرتي للحياة برمّتها.
2- يوم القيامة
هممتُ بالعودة إلى قريتي مع والدتي، كنا في تلك الأثناء نازحين إلى منطقة برزة البلد. بدأنا المشي حتى وصلنا إلى الدوّار، حيث توجد وسائل النقل التي توصِلُ إلى كراجات العباسيين. لم نمشِ إلا مسافة قليلة، وصدر صوت هزّ أجسادنا. ثم تصاعدت سحابة من الدخان على شكل فطرٍ تُشابه السحابة التي تشكّلت إبّان التفجير النووي في هيروشيما. كان المنظر مهوّلاً. لم نكن نعرف ماذا يحصل، لكن الذي حدث أن تفجيراً ضخماً هزّ الفرع الأمني القائم في برزة ودمّر شارعاً كاملاً. في لحظة التفجير، ركَضَت والدتي إلى الجهة المعاكسة مني، وبدأ الرصاص يترامى من كل مكان. كانت بيني وبينها مسافة تبلغ أمتاراً، لكن لم يكن بإمكاني الوصول إليها، ولا هي يمكنها الوصول إليّ. افترقنا بهذه الطريقة، لا أدري ما الذي سيحلّ بها، ولا تدري إلى أين أذهب بذاتي. صرختُ: «راااجعة ع البيت؟»، لم تسمعني وهي تجري إلى حيث لا تدري. كان المشهد أقرب إلى يوم القيامة، بدأت العناصر الأمنية بإطلاق النار على أيّ شيء يتحّرك، كان أمامي بائع خضار متجوّل، مدّ يده إلى داخل العربة وأخرج سلاحاً آليّاً وبدأ بإطلاق الرصاص على كل من يراه. بدأتُ بالركض إلى وجهةٍ لا أدريها، الركض والركض فقط. كان عليّ أن أقطع مسافة مشي بين برزة والعباسيين، وهي مسافة ليست بالصغيرة، وكل ذلك تحت الرصاص المترامي في الأجواء، وجوّ الرعب. كان الأمر وكأن الناس يبعثون من الأجداث، الغبار والدخان يغطّي كل شيء، الأصوات المرتفعة من كل مكان، الناس يتراكضون، والسيارات لا تقف لأحد. كنتُ في تلك الفترة أرتدي مانطو طويل، وكان يعوّق حركتي، شعرت بالكراهية لهذا الزيّ، لأنه حرفيّاً يمنعني من النجاة بحياتي. كنتُ أحمل اللابتوب على كتفي، ولم أستطع التخلّي عنه كما فعلت مع ثيابي التي رميتها في الشارع، ببساطة عرفتُ أني لو تخلّيت عن اللابتوب لن يكون بإمكاني شراء واحدٍ جديد قريباً، وهو مصدر عيشي كـصحفية ومترجمة. تابعتُ الركض دون أن أحسّ بقدميّ. حين تكون حياتك على المحكّ، تفقد الإحساس بأعضائك الجسدية الهزيلة. وصلتُ إلى أحد الشوارع، وكانت تلك المرأة التي لا أنسى وجهها ما حييت، مرميّة على الأرض وفخذها مفتوحٌ برصاصة، الدم ينقذف من الجورة التي تشكّلت في رجلها ومن بين الثياب، نادتني بأن أساعدها، توقّفت جانبها ورميتُ اللابتوب على الأرض، بدأتُ بمحاولة حملها، لم يساعدني جسدي على ذلك، فقد كانت ذات صحة ممتلئة، حاولتُ حملها مرّات عدّة ولم أتمكن من ذلك. ثم بدأت محاولة إيقاف سيّارة تاكسي لها، ركضتُ إلى نصف الشارع، لم تتوقف أيّ سيارة، كانوا مستعدين لدهسي على أن يتوقفوا للحظة، الكلّ كان ينجو، الكل كان يحاول الوصول إلى برّ الأمان. لم أدرِ ماذا أفعل. وقفتُ أمامها، نظرتُ إلى عينيها التي ترجواني، هدأ كل شيء، صمتٌ غريب حلّ في رأسي، كنتُ في لحظة عملية اتخاذ قرار، عرفتُ أنني لن أتمكن من فعل شيء، ببساطة عليّ أن أتركها إلى مصيرها. قررتُ أنه عليّ أن أنجو بنفسي، وأتركها تموتُ هنا، وإلا فأني سأصاب برصاصة وأستلقي إلى جانبها بلا فائدة. عدتُ إلى وعيي، قلتُ لها: أنا آسفة، لا أستطيع فعل شيء. وعدتُ إلى الركض. ظللتُ أركض بلا توقف حتى وصلتُ إلى كراج العباسيين الذي كان يتلقّى قذائف الهاون والرصاص وتحرسه الدبابات التابعة للنظام السوري البائد. جلستُ في السرفيس المتوجه إلى قريتي، فتحتُ لابتوبي، وبدأتُ أقرأ كتاباً. هكذا كانت ردة فعلي على الجحيم الذي رأيته للتو. شيء لا يمكنني التحكم به، شيء لا يمكنني التعامل معه، كان مثل صدمة متراكمة، شيء ليس لدي أدوات لمعالجته، فببساطة سأتجاهله كليّاً، أغرقتُ نفسي في القراءة طوال الطريق، وحين وصلتُ إلى قريتي لم أحدّث أحداً بما حصل قط، لأنه في دماغي لم يحصل.
3 – عقدة الناجي
أثناء شهر آب (أغسطس) من عام 2012، حين تقدّمت بعض فصائل المعارضة المسلّحة في جنوب دمشق. كان لديّ امتحانات في فرع الجغرافيا في جامعة دمشق، وأرسلتني عائلتي إلى تقديم الامتحان، رغم انتشار هتافات «لا دراسة ولا تدريس، حتى يسقط الرئيس»، وكانت معظم العائلات ترفض إرسال أولادها إلى «جامعات النظام». أوصاني والدي بأخذ سرير في غرف السكن الجامعي المجاورة للجامعة، ذهبتُ بالفعل وسجّلت اسمي للحصول عليها، دخلتُ إلى غرفةٍ فيها 13 فتاة يتشاجرن على شيءٍ ما، كان الوضع مزرياً إلى درجة فضّلت أن أكون فيها في منطقة حرب على أن أقضي وقت دراستي في غرفةٍ مليئة بهذا الجو السام والمشحون، كما كان لي تعلّق الجدات ببيتي. قررتُ إذن أن أذهب إلى حيّ التضامن مهما كلّف الأمر، ولم أكن أدرِ أني سأتسبّب بأكبر تروما لنفسي في حياتي. وصلتُ إلى الفرن الآلي الواقع بين منطقة الزاهرة وحيّ التضامن، لم تكن تدخل السيارات أو وسائل النقل أبعد من ذلك، مشيتُ إلى بيتي، وكانت الأبنية تبدو مرهقة وآثار الحرب في كل مكان، السيارات المحروقة على أكملها تصطفّ على جانبيّ الطريق، وأبنية مدمرة ورمادية، وآثار الرصاص في كل النوافذ والجدران. كانت أصوات الرصاص والقذائف تتعالى في طريق مسيري، والشوارع شبه خالية. صُعِق جاري حين التقاني على مدخل المبنى، قال لي إنه رأى قطع رأس شيخ جامع الزبير ابن بصرى الشام أحمد صالح الحمد وأبنائه على أيدي الفرقة الرابعة، كان المسجد في آخر حارتنا، وأنه ليس على فتاة أن تقيم وحدها في منطقةِ حربٍ مماثلة، رجوتُه أن لا يخبر عائلتي، وطمأنته أن الأمور ستكون على ما يرام، فأنا سأكون هنا ليومٍ واحد، ما الذي يمكن أن يحصل في يوم؟ تركني، وصعدتُ إلى بيتي الذي ثقّبه الرصاص. لم يكن هناك كهرباء، والبيت يغرق في ظلامٍ دامس. كانت منطقة التضامن منطقة منكوبة، وقد سلّمها النظام إلى لجان الدفاع الوطني، وخاصة من جهة شارع نسرين، وكان جاري الحمصي قد اعتقله صديقه من أيام الدراسة، وعيون أمه الفارغتين من الحزن تلاحقاني. بقيتُ في المنزل فترة العصر، حين هدأت المعركة قليلاً، لكن كان هنالك صوت رصاص متقطّع ومنتظم بشكلٍ مثير للريبة، كان يخرج صوت رصاصة ثم يهدأ كل شيء لفترةٍ وجيزة، ثم صوت رصاصة أخرى. لم أعرف إلا لوقتٍ متأخر كثيراً، أي إلى أن صدر تقرير عن مجزرة التضامن، بأن تلك كانت أصوات لإعدامات ميدانية، كل رصاصة تعني مقتل رجل من أبناء الحيّ. خرجتُ الساعة السادسة والثلث صباحاً في اليوم التالي إلى الامتحان، وصلتُ إلى أوّل الحارة، وها هم هناك، مجموعة من الشبّيحة يبلغون ثمانية، متجمّعين على ابن جيراني، ويهمّون بضربه وقتله بأكعاب البنادق وهم يشتمون. قطعتُ الشارع وأخذتُ أنظر إليهم، تسمّرت من الدهشة، لم أكن أتوقع أن أشهد جريمة قتل في هذا الصباح الباكر. لم أدرِ ماذا أفعل بنفسي. كنا نعرف جميعاً أن شبيّحة الحي يغتصبون نساء المعارضة وينكّلون بهنّ ويقتلوهنّ، كان مصيري سيكون الموت إلى جانبه لو أحسّوا بوجودي، لكنهم كانوا منهمكين تماماً بعملية القتل. تذكّرت عائلتي، تخيّلت كل أهل القرية يلومونهم لأنهم تركوا ابنتهم تذهب إلى دمشق في ظلّ هذه الأوضاع. تخيّلت كيف أنهم لن يعرفوا مصيري وأين اختفيت، فبالنسبة لهم أنا في السكن الجامعي. لم يدُر في بالي إلا أنه عليّ حماية عائلتي من هذا المصير. لم أدرِ كم مضى من الوقت وأنا أُجري عملية القرار في ذهني، كان الشاب من درعا يموت بين أيديهم، كان كل شيء حيّ وصارخ جداً، كنتُ كمن يشهد عملية إعدامه. قررتُ أنه لا يمكنني فعل شيء لإنقاذه، وأني امرأة سافلة أترك الناس لموتهم، وأختار القرار الأناني الذي يناسب عائلتي. اتخذتُ قراراً بأن أدير ظهري وأكمل طريقي إلى الفرن الآلي، حيث النقطة الأقرب من المواصلات، وهو ما فعلته. وصلتُ إلى الجامعة، استلمتُ ورقة الامتحان، ولم أقدر على كتابة حرف واحد، حتى خانة اسمي تركتها فارغة. كنت أتسمّر مراقبةً للورقة وأنا في عالم آخر، وعندما حان موعد إنهاء الامتحان قررت بأن أذهب إلى الجامع الأموي لأنه يُهدئني، كنت لا أزال مشلولة من الصدمة. وصلت هناك، وأخرجت دفتراً وبدأت بالكتابة، كان عليّ أن أقرر ردة فعلي تجاه ما حصل. كتبتُ أني قد متُّ، ببساطة لم يعد مسموحاً لي بالشعور، لم يعد مسموحاً لي بكتابة أي شيء عاطفي عن القصف أو سوريا، لقد متُّ مع ابن جيراني في زاوية الحارة، لقد كنت دنيئة الشأن إذ تركت أحدهم يموت، وكانت مشاعر الخيانة والذنب ولوم الذات تتأجج في داخلي، وجّهتُ كل الكره لذاتي. لم أعرف لسنين طويلة بعد هذه الحادثة، أني في الحقيقة كنت أحمي نفسي، لم أكن أريد أن أعرف أني كنت عاجزة تماماً عن فعل أيّ شيء، فضّلت أن أتمسّك بالوهم أنه كان هناك شيء لفعله، وأني تخلّيت عن ابن جيراني إثر قرار، وليس لأني فعلاً لا حيلة لي أمام رجال يحملون السلاح ويقررون إنهاء حياة أحدهم. فضّلت أن أشعر بكراهية الذات والخيانة على العجز. الحرّب تعلمك كل الدروس الخطأ، تجارب الاقتراب من الموت الأخرى علّمتني مدى سهولة إنهاء حياة، حياة أحدهم أو حياتي، لكن هذه التجربة علّمتني مدى ضآلتي في هذا العالم، مدى لا أهميتي تجاه آلة الموت والعنف الجبّارة تلك.
4 – أخطأتني رصاصتك
كنتُ أُدرّس فتاة مصابة بمرض في القلب، وكان لها أن تتخلّف عن الدراسة في المدارس النظامية، ولذلك كنتُ أدرّسها مختلف المواد مما فقدته في المراحل التعليميّة، وكانت تسكن في شارع بغداد. كانت قذائف الهاون تصل من حيّ جوبر الدمشقي إلى المناطق المجاورة، وأعداد القتلى تتتالى أخبارها بصورة دورية، لم يكن ذلك يهمّني على أي حال، فالحرب تصبحُ خبزاً يومياً وتنسيك التفكير في الموت على كثافته. كانت تستقبلني في غرفة على سطح البيت، في منطقة معرضة للخطر الحقيقي، وتهديني كل مرة عدداً من الرصاص الواصل إلى بيتها، كنا نتقاسمهم مثل كنز، في رمزيّة مطلقة، ونصنع الأساطير حولها، كان هذا الرصاص الذي أخطأنا. وفي إحدى المرات كنت عائدة من الدرس في وقتٍ متأخر بعد دوام الجامعة، إلى بيتي النازحة إليه في حيّ برزة، قطعتُ حاجز النظام ودخلتُ إلى المنطقة المسيطر عليها الجيش الحرّ وأهل المنطقة، كان الحيّ يغرق في ظلامٍ دامس، وكنت أسير على ذاكرتي، وأصوات الرصاص والقذائف من كل جانب، وصلتُ إلى مفرق طرق، سمعتٌ أصواتاً تصرخ، لم أميّز ما الكلام المقال، ركضتٌ هرباً بشكل غريزيّ، وهنا سمعتٌ صوت رصاصةً تلتفّ في الهواء إلى جانب صدغي، كانت تفصلها سنتيمرات عن أذني اليمين، شعرتُ بهوائها يلفح قرب جمجمتي، لقد نجوتُ من رصاصة قنّاص، وكانت الأصوات لرجالٍ من الجيش الحرّ يتمركزون على قارعة الطريق لتنبيه العائدين من القنّاص المتموضع في نقطةٍ جديدة كاشفةٍ لهذا الطريق. شكّلت هذه النقطة الزمنية نقطة مرجعية في حياتي، كلما شعرتُ بأسى أفكّر ماذا لو كان القنّاص قد أصابني، لكنتُ ارتحتُ من هذا الألم، كانت بمثابة ولادة جديدة لي، سنتيمرات قليلة أبعدتني عن موتي المحتوم، الفضل يعود لغرائزي وإدراكي للحرب، ولأصوات رجالٍ متطوّعين لحماية الناس من جنون المعارك… لم أشعر بشيءٍ محدد حين مرّت الرصاصة إلى جانب رأسي، كانت لحظة مشحونة بالأدرينالين والانفصال، وإرادة الحياة، لحظة مفصليّة يتماهى فيها الخط الرقيق بين الموت والحياة.
بعد سنين، كتبتُ نصّاً أوجّه فيه رسالة إلى ذاك القناص الذي لا يعرف ضحاياه:
رسالة في غير أوانها
قُلِب الموقفُ عليك
أجذل الضحكات مرّت،
وأنا أتفادى رصاصتك المصوّبة
بخطأ إنشِ واحد عن غضاريف أذني
لا وقت في الحربِ لأقف معك جانباً وأسألك، ما الذي أردته أيها القناص المجنّد؟
..
لرفاقي أساطيرهم الكثيرة عمّا حدث، عن تفسيرِ كل لحظةٍ خبروها في جنون الموت، في ضراوة الصراع الذي رسمناه بأيدٍ متناوبة على لوحةٍ واحدة..
لكن، هيَ كذلك، نخرج جميعاً بجعبةٍ تفيضُ بالأسئلة غير المُجابة.
لو لم تكن الحرب أخيولةً صمّاء، كابوساً عديم المنطق، مشهداً مقتطع السياق، لحظة عدمٍ حادّة..
لو لم تكن، لبادلتُك الرصاصة بسؤالٍ صادقٍ وحيد:
لماذا تقتلني أيها الأحمق؟
..
عبرتَ خاطري وأنا أغفو اليوم، عُدتَ إلى ذاكرتي مثل وجهِ صديقٍ قديم، في هدهداتِ «الميلاتونين» الساحرة، ظهرتَ جذعاً مُعتِماً من بعيد. سألتُ نفسي عنك، لماذا يختارُ أحدهم أن يمضي وقتَه على أسطوحٍ مهترئ، بجانبِ آلة قتلٍ أحادية البعد؟ وفاضَ بي شعورٌ لا اسم عندي له، وكأنا تشاركنا اللحظة الإنسانية الخطأ..
..
لا وقتَ في الحرب لمسرحيّاتنا الاجتماعية، لم تُبْقِ رصاصتُك متّسعاً لتبادل التحايا الطيبة..
أخطأتَ مرتين، الأولى رأسي.. والثانية حين ظننتَ أن لأحدٍ أن يعودَ مُنتصراً في لعبةٍ قوامها الخراب.
5- التعلّق بقشة
الحواجز كانت مشهداً سريالياً رئيسياً في الواقع السوري، وكأنك تلعب الروليت، كل حاجز تمرّ به يمكن أن يتواجد فيه عنصر أمنيّ مُعكّر المزاج، يقرر اعتقالك إلى حيث التعذيب حتى الموت، أو حتى قتلك لأنه لم يُعجَب بمظهرك، لي مواقف لا تُحصى مع الحواجز، فكنتُ أمرّ بأكثر من 6 حواجز بين التضامن وكلية الآداب في جامعة دمشق في المزة، وأكثر منها في الطريق إلى قريتي. أذكرُ أن حاجز النبك في ريف دمشق أنزلني وأوقفني لمدة ساعتين فقط لأني «أعطيته نظرة خاطئة»، مضت ساعتان كأنها دهر، واقفة لا أدري ماذا سيحلّ بي وما هو مصيري، تركني الباص الذي كنت أستقلّه، والعنصر الأمني لم يكن يحدثني أو يهدّدني، فقط كان يتركني جانباً ليلعب بأعصابي. كنتُ أخذتُ قراراً في داخلي، إن حصل ما حصل، إن حاول أيّ حاجز اعتقالي سأقاوم حتى الموت، كان لديّ فوبيا من الاعتقال لأن جدي وعمي اُعتقلا وقتلا تحت التعذيب، وكنت أسمع الأساطير التي تروى عن فنون التعذيب في المعتقلات، وكنتُ أعرف أني لن أتحمل شيئاً مماثلاً، كنت أفضّل الموت ألف مرة على أن ألاقي ذاك المصير. القابون كانت منقسمة بين عناصر النظام وفصائل الجيش الحر، كنتُ أزور صديقتي في مناطق المعارضة، وحينما خرجت أوقفني الحاجز على مدخل القابون، نظر العنصر إلى هويتي فوجدها «مشعورة»، مكسورة كسراً طفيفاً، فأخبرني أني ولا بدّ مع المعارضة، ثم أوقفني وخيّرني بين خيارين، إما أن أذهب معه ليلةً ليغتصبني كما يحلو له، أو أن يرسلني إلى المعتقل، وقفتُ صامتة، لم أجب عن أيّ شيء، كلّ ما كنت أفكر فيه هو كيف سأحاول الفرار ليطلق الرصاص عليّ وأُقتلَ في أرضي، أوقفني 4 ساعات كاملة وهو يتلاعب بأعصابي، ويحادثني بأني جميلة وشهيّة للـ«اقتناء»، وأنا لا أنبس بكلمة، إلى أن حلّ الليل وجاء الضابط المسؤول عنه وأمره بإطلاق سراحي، عدتُ إلى البيت وأنا في دهشة من الموقف كله.
في إحدى المرات كنتُ ووالدي عائدين إلى القرية، ونضحك على شيءٍ ما، وصلنا إلى حاجز القطيفة، وبعد أخذ الهويّات لتفحّصها، عاد العنصر الأمني ونطق اسم أبي الثلاثي، وقع الأمر عليّ كالصاعقة، هممتُ بأن أفعل شيئاً ما، أردتُ أن أهجم عليه ليقتلنا سويّةً، لم أتحمل تخيّل أبي في المعتقل ليُقتل مثل عمي تحت التعذيب، نظر إليّ أبي نظرةً ذات معنى وهو يناولني ما لديه من أوراق ومال، كان أبي قد أعطاني أرقاماً لأتصّل بها في حال حصل شيء مماثل، وهذه كانت مهمّتي، أن أنقذه عبر رشوة الأناس ذوي الصلة. كانت حواجز حيّ التضامن مشهورةً باعتقالها للنساء، خاصة المسلمات ذوات التوجّه السنّي، واغتصابهنّ. وقد حازت قوات الدفاع الوطني على سمعة سيئة بعد وصول مجزرة التضامن إلى وسائل الإعلام الأجنبيّ، كنا نعيش هذا الأمر يوماً بيوم في الحيّ. في أحد أيام الجمعة، أرسلنا أخي الصغير لشراء بعض من الفول لأجل وجبة الفطور، مرت ساعة ساعتان ولم يعد، بدأ القلق يطغى على أوصالنا، هل اُعتقِل أو قتل في مكان ما على الطريق؟ انتظرنا لفترة، لم يأتِ بعد، ثم خرجتُ من البيت وبدأت أهيم على وجهي باحثةً عنه، أسأل البائعين هل رأوا شاباً يُعتقل؟ أو يُقتل؟، ظللتُ أدور في الشوارع بلا كلل والقلق يتصاعد عندي ساعتين آخرَتين، ثم عدتٌ إلى البيت وقلت لوالدتي أنا ذاهبة إلى الحاجز المسؤول عن المنطقة، حاولت أمي أن تمنعني لأنها تعرف ما سيحصل، كانت جارتنا قد اُعتقلت لأيام لأنها سألت عن ابنها المحتجز من قبلهم، لكن بالنسبة لي لم يكن لديّ خيار، كان عليّ أن أُنقذ أخي، أو على الأقل أحاول. استجمعتُ عزيمتي وخرجت إلى الحارة في الطريق إليهم، كل خطوة كنتُ أحسّها أثقل من الفولاذ، كنتُ أشعر أني أمشي كيلومتر في كل حركة، أني أجرّ ثقلاً هائلاً في قدميّ، كنتُ أعرف أني كنتُ أسير إلى موتي، لم أكن قد جهّزت الكلام الذي سأقوله حتى، كان كل شيء صامت بشكل مريب، كانت الحارة تمتدّ إلى ما لا نهاية، كان حبّ أخي هو ما يدفعني، الخوف عليه. وصلتُ إلى آخر الحارة، وها هو أخي يعودُ من الجهة المقابلة، مُغبّراً في كل ثيابه ووجهه وعليه آثار دم، تبيّن أن حاجزاً في الطريق ألقى القبض عليه، وأخذه إلى جبهة حيّ اليرموك ليستخدموه في بناء «دشم»، أي حواجز ترابية، حيث لا يجرؤ الجيش أن يصل، في الأماكن التي يصلها رصاص المعارضة، كانت فصائل النظام تعتمد على الشبّان المدنيين للمخاطرة بأرواحهم في سبيل تحصين جبهاتهم، هذه الحادثة غيّرت حياة أخي، إذ بقيَ سنة كاملة يسلك طريقاً ملتوياً بين الحارات إلى مدرسته البعيدة، كان بعمر الـ16 آنذاك، فقط ليتجنّب المرور بحواجز النظام بعد تلك التجربة المروّعة.
التجربة الأخيرة التي سأوردها هنا هيَ حينما كنا في طريقنا إلى القرية على الطريق الدوليّ بين دمشق وحمص بسيّارتنا، وصلنا إلى حاجز القطيفة، وإذا بـمعركة قائمة بين فصائل الجيش الحرّ والنظام، قرر حاجز القطيفة بأن يحتجز كل المدنيين في سياراتهم وباصاتهم ليتخذهم دروعاً بشرية، لأنه يعرف أن الجيش الحرّ يحاول تجنب قتل المدنيين العزّل، احتجزنا الحاجز لساعات، كان الرصاص يترامى من كل جانب، والأناس يُصابون على مقاعدهم دون إمكانية لإسعافهم، شعرت والدتي بالذعر وبدأت بقراءة آيات من القرآن والدعاء بصوتٍ عال، والدي بدأ يلطّف الجو بإطلاق النكت والسخرية من الوضع للتخفيف عنا، أما أنا، كل ما شغل بالي في تلك اللحظة، أني لا أريد أن أموت جائعة، كنا قد أحضرنا سندويش شاورما معنا من محلّ مشهور في التضامن، ووضعناه في مؤخرة السيارة، لم أتمالك نفسي بأن أنزل وأخاطر بروحي لإحضار السندويش، في ظلّ كل جنون المعركة، كان كل ما فكّرت في فعله بأن أقضي الوقت في أكلِ شيءٍ طيّب أحبه. الآن، حين أعود إلى تلك اللحظة، أعرفُ أن تلك كانت آلية دفاعية مني، أني كنت أريد أحمي نفسي من التفكير بما يحصل عبر إلهاء نفسي بـ«فعل حياة»، أني كنتُ أتعلقُ بالحياة عبر غمس نفسي بأطايبها لمحاربة العدم الجحيميّ الذي يتمثل في الواقع أمامي، من الجدير بالذكر أنه في الطريق ذاته، وبعد أن أفرج عنا حاجز القطيفة إبّان انتهاء المعركة، صادفنا معركة أخرى عند حاجز ديرعطية، إذ هكذا كانت تمضي أيامنا في الحرب، من حاجز إلى معركة إلى قناص إلى قصف..
6 – في صدغ رأسي
في كل مرة تأتي فيها الطائرة الحربية، كان شخصان يخرجان ركضاً من البيت، أنا ووالدتي. تركض والدتي إلى الطابق الأرضي لتحتمي بالطوابق العليا من أتون القصف، وأنا أركض إلى السطح كي أراقب الطائرة. كان مشهداً يومياً متكرراً، ولأن لأهل القرى أن يسمحوا لأنفسهم بالتدخل في خيارات الآخرين، كان الجيران يأتون إلى عمتي، وهي امرأة متدينة معروفة، ويسألونها كيف تسمحين لابنة أخيك بالصعود إلى السطح في أثناء القصف، هذا نوع من «إلقاء النفس إلى التهلكة»، لكن في الحقيقة تلك كانت وسيلة دفاعيّة مني، كان لدي الذعر نفسه الذي ينتاب من يفرّون إلى الملاجئ، لكن كي أخفف من رعبي كان عليّ أن أرى الطائرة وهي تتحرك، أن أشعر بأني متحكمة في الموقف، فيما لو بقيت في الملجأ سيصيبني ذعر لا نهائي من سماع صوتها وأنا تحت الأرض. وكان للطيارة طُرقاً في فنون سادية التعذيب، إذ كانت الهليكوبتر تأتي وتحوم في السماء لساعات قبل أن تبدأ مسلسل القصف، كان في ذلك نوع من الإرهاب الموجّه ضد السكّان؛ أننا سنقتلكم لكن لن تعرفوا متى سيحصل ذلك، وكانت الطائرة تخترق حاجز الصوت مراراً في محاولة لإرعاب الناس. أذكرُ أن أمّاً أحضرت ابنتها إلى جدتي لتقرأ عليها القرآن، إذ أصيبت بالخرس من رعب القصف، وكان هنالك قصص متواترة عن عودة الأطفال إلى التبوّل على أنفسهم في عمرٍ متقدّم، وآلام الظهر والركبة وغيرها من آثار التوتر المستدام. أذكرُ أني كنت مرة على السطح أراقب الطائرة وهي تنتقل من قصفِ بيتٍ إلى آخر، وإذ بها تقصف في منطقة قريبة مني، كان بيتنا في الطابق الرابع ضمن قرية أغلب منازلها مكونة من طابق أو طابقين، لذلك كان بيتنا معرّضاً أكثر للخطر. كنتُ واقفة في الزاوية، وتراشقت الشظايا باتجاهي، كان موقفاً رهيباً، إذ أحاطتني الشظايا لكن أيّاً منها لم تصبني، نظرتُ إلى الجدار ورائي وإذ به مثقّباً بصورة عشوائية. كنتُ سأكون مجرد أضرار جانبية، مجرد شخص صدف له أن يكون في درب شظيّة. وهذا يستدعي موقفاً آخر عندي، إذ استيقظتُ أحد الأيام في منطقة برزة، وإذا بأثر رصاصة في النافذة على بعد سنتيمرات قليلة من جمجمتي. هذا الموقف بقيَ أثره دائماً في عقلي. ماذا لو أصابتني؟ كيف كان سيجدني أهلي غارقة في دمي على فراشي. أُعطيتُ عمراً آخر. كنتُ سأموت ناقصة تجربة. لم أكن سأعرف كل علاقات الحبّ التي دخلتُ بها، التجارب التي مررتُ بها، مراحل الحياة المهنية التي عبرتُ بها. كان سيُقضى على حياتي مبكراً جداً قبل أن أختبر الحياة.
موقع الجمهورية