صفحات الثقافة

القومية والوطنية وعاصفة المتغيرات/ أحمد جابر

السبت 2025/03/29

تشكل قضايا التحرر والتقدم والاستقلال، مرايا عاكسة لأحوال الحركات السياسية العربية منذ وقت مبكر، ولعل التأريخ لتلك الحركات يكتسب معنىً ملموساً أكثر، منذ اضطراب أحوال السلطنة العثمانية وصيرورتها رجلاً مريضاً، وخلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، والسنوات التي جاءت بعدها.

جاءت الاستقلالات الوطنية المتعاقبة، في عدد من الكيانات العربية التي صارت دولاً، لتقدم مرايا أخرى وصوراً جديدة لأحوال السياسات العامة التي توزَّعت بين وطنية وما فوق وطنية، وذهبت جيئة وذهاباً، بين هويّة داخلية، كانت لها داخلاً في الأيام العثمانية، وبين هوياتٍ لم تفارق هواها الخارجي هذا، حتى وهي تعيد تعريف ذواتها في الكيانات الناشئة المتفرقة.

في امتداد صراع “الهويات” الذي عاشت فصوله التجمعات الطائفية والمذهبية والعرقية، احتلّت القضية الفلسطينية مركز الجذْب، وأخذت الانتباه كلّه إلى الصورة العربية كلها، وباتت مرآة، شِبْهَ وحيدة، لانعكاس واقع تشابك القضايا العربية وتداخلها. وعلى ذلك صارت فلسطين منبر الخطاب المختلط، الذي يجمع بين سطوره التحرّري الوطني، والتقدّمي الاجتماعي، والنَهْضَوِي الفكري، والاستقلالي المنْعَتِق من التبعيّة، والقوميُّ الذي يُعْلِي من شأن القومية والوحدة، ويَحُطُّ من قَدْر كل وطنية وليدة تعيق مجموع الخطاب السياسي العام للذات العربية الجامعة.

تكرَّرت الهزائم العربية على مختلف جبهات المهمات التي تصدّى لها القوميُّ العابر للمحليّات، والتي خاضها الوطني أيضاً، الذي حسب أنه ينجح بمقدار ما يصرخ وطنياً، وبمقدار ما يهمس قومياً، وبما لا يتجاوز إيقاع معادلة المصلحة التي لا توازن الغُنْمَ والغُرْمَ في العلاقة، بل تحاول أن يكون لها من المعادلة غنمها… المفتوح على توسيع رقعة الغنم وتعظيمها.

لم تُصِبْ القومية الما فوَق وطنية نجاحاً، وهي وإن شكّلت وعداً، أو طموحاً في حقبة معينة، فإن غمامة الوعد والطموح انقشعت سريعاً، ولم يمكث في ديار الوعد، ولدى شعوبه، سوى ديكتاتورية الإيديولوجيا وقمع المخابرات، وسياسات الإفقار والتخلّف، أي كل ما أبْقَى القومية والعروبة على هامش الكتابة التاريخية، وخارج ميادين الفعل التاريخي، ذي الجدوى العملية التاريخية. الهزيمة الما فوق وطنية كانت، هي بالذات، ركيزة للهزيمة الوطنية الداخلية، وانفجار الفشل العام توزّعت شظاياه فشلاً خاصاً على كل بلد خاص. لقد أُقفل أفق الطموح العربي العام، الذي كان فضاء عاماً مفترضاً يستظله المكوّن العربي العام، وعلى ذلك استقلّ كل مكوِّن بجزء من فضاء أشمل، وأخذ معه نصيبه من الفشل والإقفال، بما يتلاءم والمسيرة الذاتية لكل معطى تكويني، وبما يتوافق مع تطوّر أوضاعه، خلال حقبات من المحاولات الما فوق وطنية، والما دون وطنية.

الخسائر النازلة اليوم بالوضع العربي، ما زالت مفتوحة على أخطار شتّى، من المداخل الفلسطينية التي أخذتها اللغة النضالية إلى أسوأ نتائجها، ومن المداخل اللبنانية، التي نهضت نضاليتها بالتحرير الداخلي، ثم أضاعته في متاهات الارتباطات الإقليمية، ومن المدخل السوري المهدّد بوحدة الأرض والشعب، وبحرية الحركة واستكشاف المصير.

هذه الأخطار ترعاها هجمة استعمارية أميركية جديدة، وتنفذها ذراع “بولفورية” مستعادة من زمن الوعد البلفوري المشؤوم، ويسهّل لها عجزٌ عربيّ يلامس الموات، فلا يندّ عنِ “العروبة” اليوم، ما يتجاوز طلب إدانة، أو طلب استرحام، من الدولي “التاجر”، أو من العدو “الفاجر” والقاهر.

في العقود الأخيرة، استولت “الإسلامية النضالية” على راية الردود “القومية” لكن ردّ الإسلامية ظلّ ما فوق وطنيّ، بالتبعية أو بالاعتقاد، أو بالأمرين معاً، لذلك ظلّ الصوت “الإسلامي”، القديم- الجديد، خارج الإضافة القومية، لأنه عرّف قضاياه تعريفاً دينيّاً وسحب التعريف الديني على سائر العناوين القومية.

في الحصيلة، لا مناص من الاعتراف أن كل تعريف ديني لأية قضية عربية عامة، اعتداء على الجامع القومي وعلى الخصوصية الوطنية، واعتداء على الاجتماع العربي العام والخاص، عندما يجعل هذا وذاك، معتقداً إيمانيّاً، في منطقة كثرت اجتهاداتها ضمن الدين الواحد، وضمن المذاهب المتفرقة.

ولأن تكرار التجربة الخاطئة خطأ جسيم، فإن المناداة بقوميّة الرد الشامل، في الظرف الراهن المعلوم، هي صرخةٍ في وادٍ. لكن ذلك لا يشكل جواز مرور إلى شتم كل دعوة إلى استنبات القومية وإعادة تشكيلها من مواد حيّة ونابضة تتجاوز ما كان لها من مَوَات.

شتم القومية سياسياً، وعلى وجه الإطلاق، يمارسه جمع من المثقفين الذين كانوا يساراً وقوميين وتقدميين، من غير نقد عميق، ومن غير مراجعة سياسية جادة. وهم إذ يغرقون في “لعن ذواتهم” الماضية، فإنهم يفرطون أيضاً في مديح “الظل العالي” لذواتهم الخصوصية المحلية، ويغالون في البحث عن الفوارق التكوينية التي تكفل تمييز كيانيتهم الوطنية، فيقعون بعد ذلك، على وطنية ما دون الوطنية، أي على هويات داخلية متفرقة، ما زالت تحاول هوية وطنية منذ زمن استقلالها، ولمَّا تفلح حتى تاريخه، في الاستواء فوق تلك الأرض الهوياتية الوطنية المنشودة. أين الشواهد على ذلك؟ لبنان شاهد، ومثله سوريا والعراق وليبيا واليمن… حيث الارتداد إلى عناصر التكوين الأولى لدى كل عاصفة سياسية.

ما هو الغائب في حضرة القضايا التي ما زالت تنعشها الحرب الطاحنة اليوم، في فلسطين، والعدوانية الجامحة في لبنان؟ الغائب هو ذلك الابتكار الراهن والمستقبلي، الذي يُعيد صياغة الفكرة القومية من مادة ضرورتها البنيوية العامة، ومن مادة ارتباطها بكل بنيوية وطنية خاصة. هذا الارتباط له أفكاره، وله قواه وبرامجه وسياساته، وله المستقبل الذي يرى أن قوّة “العروبة” هي في اجتماع أبنائها على رؤية وعلى سياسة وعلى أفعال، ويرى المستقبل أيضاً في الوطنيات التي لها مناعتها الداخلية، ووحدتها الاجتماعية، وخصائصها التكوينية التي يجب أن تكون واضحة الحضور، وجليّة الاحترام.

بين الداخل والخارج، علاقة لا تنفصم. بين العروبة والوطنية، تكامل لا ينقطع. لعل ترابطاً آخر، يعيدنا إلى أول طريق نهضة عربية جديدة. النهضة واجب مصيري، هذا قبل أن تذرو العرب والعروبة والأوطان، عواصف السطوة الخارجية.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى