مقالات سينمائية

“فتيان النيكل”.. نموذج بصري طليعي يخلّف تجربة فريدة/ أحمد الخطيب

27/3/2025

ض الأفلام تحاول إيجاد نموذج بصري يمنح المتفرج تجربة من نوع آخر، تجربة ذات منظور إبداعي مختلف، تشتبك مع القصة في مواضع شتى من حيث قراءة المشهد البصري، فالمتتالية البصرية يمكن التعاطي معها بأشكال شتى، ومناظير ذات أبعاد ترتبط ارتباط وثيق بكيفية الحكي وما وراء الحكاية، ولكن في النهاية يجد المخرج نفسه أمام معادلة شائكة، تتعلق بتقنية السرد البصري والمروية الذي يحاول المخرج حكيها.

فهل يمكن أن يطغى أحدهما على الآخر لصالح الفيلم، أو لصالح المسار الحكائي الذي يحاول صناع الفيلم وضعه لعرض وجهة نظرهم؟

هذا هو السؤال الذي يصنع المفارقات بين الأسلوب والحكاية، وهو خيار المخرج الإبداعي الذي يحدد طريق الفيلم، ليس لأن الطرفين يتنافران أو يتناقضان -لأنهما في النهاية يتوحدان لخلق المنتج الإبداعي- بل لأن طغيان أحدهما على الآخر يخلق فيلما مختلفا تماما، فكل خيار يخلّف أسئلة متباينة ويكوّن مسارا شكلانيا وحكائيا متفردا، لا سيما إذا دُمج مع خلفية المخرج السينمائية.

هذا ما يجعل فيلم “فتيان النيكل” (Nickel Boys) للمخرج “راميل روس” (2024) من الأفلام التي تحمل خصوصية لمخرجها وللوسيط الأدبي المقتبسة عنه وكيفية معالجته، لأن أسلوب الحكي يحمل ثقلا إبداعيا وقيمة أعلى من القصة ذاتها، مما ينتج رؤية جديدة كليا للحكاية التي تتبدى معالجة سينمائية سائدة.

ولكن أسلوب التناول التقني ينقلها إلى مستوى مميز من الناحية البصرية، واتخاذ الكاميرا أداة فعالة يتجاوز دورها مجرد الرصد، فتشارك في الحدث وتورّط المتفرج بطريقة غير اعتيادية في هذا النوع من الأفلام الذي يعتمد في أغلبيته على الصدمة العاطفية المتعلقة بمأساة الضحية.

بيد أن المخرج يحاول تجاوز حدود النص الأدبي للقصة الحقيقية، ليخلق كاميرا فعّالة في إعادة خلق الوقائع، وفي تحوّرها بصفتها بوابة لعبور المشاهد إلى الحدث، والتفاعل معه في صورة الضحية، فيرفع المخرج طموح الفيلم، بحيث لا نشاهد البطل يتحرك داخل الإطار، بل نحن من نتحرك.. نحن معهم في الداخل.

صداقة الفتية السود في بيئة متطرفة

تدور قصة الفيلم في فلوريدا خلال ستينيات القرن الماضي، حول “إلوود كيرتس” (الممثل إيثان هيريس)، وهو صبي أمريكي أسود، يصارع لإيجاد مستقبل مشرق، لكن حياته تتخذ منعطفا مأساويا عندما يُتهم ظلما بارتكاب جريمة، فيُرسل إلى أكاديمية “نيكل”، وهي إصلاحية منفصلة سيئة السمعة، بسبب ممارساتها المتطرفة.

يتعرف “إلوود” في المدرسة على “تيرنر” (الممثل براندن ويلسون) وهو شاب أسود آخر، وسرعان ما يطوران صداقة حميمية تعينهم على قضاء الأيام العصيبة، ثم يحاولان معا مواجهة حقائق المؤسسة المروعة، التي تظهر تدريجيا مع الوقت في هذا المكان المشوه، ويسعيان جاهدين للحفاظ على إنسانيتهم، وسط القمع المنهجي والعنصرية المفرطة التي تمارسها المؤسسة في أنشطة غير مشروعة.

المثير للاهتمام في هذا الفيلم أنه يتجاوز المادة المقتبس منها، يتجاوزها على مستوى المجاز والمادة باستخدامه “منظور الشخص الأول”، فتتضاعف وطأة الفعل الممارس، سواء على الشخصية أو خارجها، وكان “ترينس مالك” قد استخدم تلك التقنية في فيلم “شجرة الحياة”.

فرؤية المشهد بعيون الشخصيات، يحدث فارقا جوهريا في التلقي، فلا نتعاطى مع الحدث من خلال وسيط أو شخصية خارجية تسمح بمسافة آمنة، تتيح لنا الشعور بالراحة أثناء المشاهدة، بل نكون داخل بؤرة الفعل ذاته، فنشارك البطل مشاعره ومخاوفه، ثم نكوّن فكرة أكبر عما يحدث في الداخل.

نفَس توثيقي يشعر بالألفة

يؤطر المخرج العالم بعيون أبطاله، فيمنحنا رؤية أكثر خصوصية للحدث، وتجربة أكثر حميمية لقصة شبعت من المعالجات التقليدية، فذلك الشعور بالألفة الذي توفره التجربة، لا يتكرر كثيرا في معالجات متباينة لنفس الأفكار تقريبا.

كما أن آلية العمل البصرية أيضا تحقق رباطا حقيقيا بين المشاهد والبطل، وأما دمج اللقطات الأرشيفية في متتاليات سريعة وخاطفة، فربما يحقق الإدماج التاريخي المطلوب لجعل المنتج السينمائي أكثر قابلية للتصديق والتعاطف.

تلك اللقطات تحيلنا لمواطن قوة المخرج وأصله الذي يقوم على البنية الوثائقية، فقد خاض من قبلُ تجربة وثائقية فاقت التوقعات، ألا وهي فيلم “مقاطعة هيل هذا الصباح هذا المساء” (Hale County This Morning This Evening) عام 2018، وقد نافس على أوسكار أفضل فيلم وثائقي، لذلك فإن تأثر المخرج “راميل روس” بالصبغة الوثائقية شكّلت نموذجه البصري في هذا الفيلم.

فهو ينحو منحى توثيقيا حتى في أكثر لحظاته صنعة درامية، فهو يريدنا أن نرصد، وأن نكون شاهدين على مأساة تاريخية، ربما لم يتسن لكثير من أبطالها أن يدلوا بشهاداتهم، ولكننا اليوم لا نحتاج إلى شهادة، لا نحتاج إلى مراقبة شخص يخوض مأساة، لأننا نحن من نخوض المأساة ونشتبك معها في أكثر مواضعها قسوة.

منظور الشخص الأول

ربما يجد بعض المشاهدين صعوبة في الاندماج مع منهجية الفيلم البصرية، فمنظور الشخص الأول يمنح تجربة مثالية لاختبار الموقف وتكوين الخبرات، عن طريق التجربة الموازية للحقيقة، كأننا ببساطة نستبدل البطل بالمتفرج.

ولكن في الوقت ذاته قد نجد صعوبة في التواصل مع الشخصية ذاتها، بصفتها كيانا خارجيا يخوض الحكاية، فالتماهي مع البطل يأتي من اختبارنا للتجربة والحضور المنطلق من عين البطل، لا من ارتباطنا العاطفي به.

والحق أنها على أي حال مساحة استثنائية للاشتباك مع سردية الضحية، بيد أنها تفتقد في بعض أجزاء الفيلم -مع طوله الذي يتجاوز الساعتين- إلى الديناميكية العاطفية المتجاوزة للحدث، فالنموذج السائد للبطل المرئي غير متوفر هنا، حتى ظهور الأبطال بشكل متقطع داخل بعض المشاهد والتناوب بين مناظير الصديقين؛ لم يكن كافيا للوجود بشكل مستقل، فهي شخصيات غائبة الملامح.

ولكن هذا على الجانب الآخر يخدم الأسلوب البصري الذي يحل محل الديناميكية العاطفية، فهو فيلم يتعاطى مع إشكالياته، ويتناول همومه من خلال الشكل، ويعتمد أساسا على التقنية السردية البصرية التجريبية، التي تبلغ درجة من الحساسية في بعض المشاهد، تجعلها سردية تأملية أكثر من كونها محدودة الإطار الحكائي.

والحقيقة أن المخرج لا يفقد الديناميكية العاطفية تماما، بل ينجح في استعادة تلك الحيوية من خلال الجو العام للحكي في بعض أجزاء الفيلم، مما يحدث رنينا عاطفيا، غير أنه ليس كافيا لملء الحكاية التي تعوّدنا على تلقيها في جرعات هائلة من العاطفة، إلى جانب الانتقالات الزمنية التي تبدو مشتتة في بعض الأحيان، لا سيما الخط المعاصر الذي نشعر بجفافه وبطئه من غير داع حقيقي.

تذوق العنف بطريقة أليفة قاسية

يقوم الفيلم على تلك المسافة القائمة بين الممارس للعنف، وبيننا نحن المشاهدين الذين ننظر للعالم من عيون البطل، فمعالجة العنف هنا تأتي بطريقة أليفة، ولكنها قاسية، فنحن لسنا أمام إنسان يذوق العنف مباشرة، بل أمام خوف وذعر وترويع، ولكن بلا عنف مباشر.

إبقاء العنف خارج حدود العين، يمنح المشاهد مساحة كافية لإعمال الخيال، أو إحداث ما يشبه المقاربة بين أحداث عنف حقيقية حدثت لهم، وبين ما يحدث للبطل في الفيلم، ولكننا لا نشاهده، فالبطل المغلوب على أمره يستقبل العنف وهو متكور على نفسه، أو بمنح ظهره للجلاد، فلا يتسنى لنا أن نرى العنف مباشرة في أغلب أحداث الفيلم، لكننا نتصور الحالة الشعورية ونواكب الإيقاع بخيالنا.

مونتاج الفيلم.. عملية معقدة تكسب الرهان

يحاول المخرج خلال الفيلم خلق لحظات مفعمة بالمشاعر، تستعيد الفيلم من التقنية المذهلة إلى ما هو حساس ورقيق، لحظات العناق بين “تيرنر” وجدة “إلوود”، ولحظات الهروب، هي لحظات خارج العالم الذي يؤسس له المخرج، لحظات تدعو للتأمل لاستيعاب تموضعها داخل سردية وحشية.

الفيلم في مجمله جاف وعنيف، وجمالياته تنبع من تقنياته ومنظور حكايته ودمجها بوسائط إبداعية أخرى، ولكن الجدير بالذكر هو أن توليف الفيلم من أصعب المهام الإبداعية، لاشتماله على عدد كبير من المناظير والوسائط والتقنيات المتبادلة، التي تنطوي في مجملها على عملية معقدة من التجميع والتركيب في شريط الفيلم، لينال النعومة الكافية والإيقاع ذا الخصوصية، وينتج سردية قابلة للفهم في سياق قصصي مهموم بالفرد.

شريط الصوت.. بناء وعي منفصل بالحدث

يعد شريط الصوت من العناصر المهمة والمكملة لتجربة سينمائية متطرفة، لقدرته على شحن جو الفيلم العام، وخلق مناخ غير مريح وسهل المزج في مجموعة التداعيات البصرية.

فالفيلم يجذب مجموعة من الوسائط، لتكوين وعي منفصل بالحدث، يسهم في إدراكه إدراكا مغايرا، وتمثيل معاناة جماعة من خلال الفرد، ليخرج لنا تجربة ثرية، ربما علينا مشاهدتها أكثر من مرة لهضمها بشكل أكثر مرونة والتعرف على مواطن جمالها.

إنه من الأفلام التي من الممكن إعادة اكتشافها في كل مرة، فالتجربة البصرية وحدها ثرية بما يكفي.

الجزيرة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى