أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

للحياة والنجاة.. أي عقد اجتماعي يناسب سوريا اليوم؟/ عبد الله مكسور

27 مارس 2025

يبدو أن هناك اتفاقًا بين الغالبية السورية على عدم قبول فرض عقد اجتماعي من الخارج كما حدث في العراق، ويظهر حتى الآن رفض الحلول المؤقتة على طريقة البوسنة والهرسك.

“يولد الإنسان حرًا، لكنه في كل مكان مكبل بالأغلال”. قد تكون أغلالاً اقتصادية، سياسية، اجتماعية، أو غيرها. يبدأ تحطيم القيود عندما يعترف بوجود الآخر، أو يبدي الرغبة باكتشافه.

تحضرني هنا الأديبة الفرنسية “مدام دو ستال” التي قامت في النصف الأول من القرن التاسع عشر بزيارة طويلة إلى ألمانيا، في وقت تصاعد العداء وسوء الفهم بين الشعبين الفرنسي والألماني، وفي أثناء مهمتها تلك فوجئت بمدى سوء الفهم والجهل الذي يحمله الفرنسيون لألمانيا على الرغم من الجوار الجغرافي، فقد تحقق لها أن الفرنسيين يرسمون صورة لشعب فظ غير متحضر، يتكلم لغة غير جميلة، ليست له إنجازات أدبية أو ثقافية تستحق الذكر. إنها باختصار صورة يرسمها شعب لشعب آخر يعدّه عدوًا له.

يجوز قياس هذا وسحبه على جهل مكونات سوريا بانتماءاتها الضيِّقة ببعضها البعض، ففي الحالة السورية، يمكن القول إن السوريين مجتمع طُبِعَ بالاستبداد عبر تاريخه – حتى في تلك السنوات التي يتغنى بها البعض بالتعددية السياسية مطلع الخمسينات. لقد ظلوا عقودًا مكبلين بعقد اجتماعي مفروض، واليوم أمامهم فرصة تاريخية لصياغة عقد جديد بأنفسهم، عقد يقوم على العدالة، الحرية والمساواة، ويعيد بناء الجسور بين أبناء الأرض الواحدة، بحيث لا يكون العامل الأساسي في تشكيل الذات صورة مشوَّهة للآخر قائمة على التاريخ العدائي المدفون بينهما. هذا ليس خيارًا نظريًا، بل مسألة بقاء، فإما أن يكون العقد الاجتماعي القادم مدخلًا للاستقرار، أو أن يبقى السوريون عالقين في دوامة الفوضى إلى أجل غير معلوم.

مفهوم العقد الاجتماعي

لطالما كان العقد الاجتماعي في أي مجتمع انعكاسًا دقيقًا لحالة التوازن بين الدولة والمجتمع، بين الحقوق والواجبات، وبين الحاكم والمحكوم. في سوريا اليوم، وبعد سنوات من الانهيارات البنيوية التي أصابت الدولة والمجتمع على حد سواء، أصبح السؤال عن العقد الاجتماعي الجديد ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة مصيرية تفرض نفسها على السوريين بضميرهم الجمعي معًا الذي تشكّل من غالبية يمكن تسميتها بضحايا المقتلة.

في السنوات التي تلت الثورة، ومع الانقسامات السياسية والعسكرية والمناطقية التي عصفت بالمجتمع، بات السوريون يعيشون في ظل ما يمكن تسميته بالعقود الاجتماعية المتوازية التي تفرضها القوى المسيطرة محليًا، سواء في مناطق النظام أو المعارضة أو قوات الأمر الواقع الأخرى

ارتبط مفهوم العقد الاجتماعي بفكرة الدولة الحديثة، فالمراجع الفلسفية تؤطر هذه الصورة بثلاثة مسارات أولها: غياب الدولة يعني الفوضى المطلقة، حيث يكون الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان، وفي هذا الميدان يجب أن يتنازل الأفراد عن بعض حرياتهم لصالح سلطة مركزية تحفظ الأمن. أما المسار الثاني فقد شدد على ضرورة أن تكون الدولة خادمة للشعب، لا العكس، وأن العقد الاجتماعي يقوم على حماية الحريات والملكية الفردية ويصونهما معًا، بينما قدَّم المسار الثالث مفهوم الإرادة العامة باعتبارها جوهر العقد الاجتماعي، حيث لا يحق لأي فرد أو مجموعة احتكار السلطة.

في السياق العربي يمكن تلمُّس تصورات أخرى عن “المدينة الفاضلة” بحيث يكون الحاكم العادل “المستبد أحيانًا” هو المسؤول عن تحقيق الخير العام لمواطنيه، والحكم في هذا المنطق يرتكز على الحكمة والبطش لا على القوة واستعراض العضلات، فيما يشير تصور آخر إلى العصبية كأساس للحكم، والإشارة هنا إلى اللون الواحد أو الجماعة الواحدة التي تتماسك من منطق الولاء للفكرة في سبيل تقوية السلطة وديمومتها، والديمومة يمكن أن تسقط إذا لم تجدد السلطة شرعيتها باستمرار.

سوريا.. من البعث إلى التفكك

بعيداً عن السنوات التي يعتبرها البعض أعوامًا كان بها بحبوحة للسياسة في سوريا، وسأقتصر هنا في الحديث منذ استلام حزب البعث العربي الاشتراكي للسلطة عام 1963، فقد أُقيم عقد اجتماعي مشوَّه في البلاد، كان يقوم على علاقة باتجاهين بين الدولة والمجتمع، حيث توفر الدولة الأمن والخدمات الأولية الأساسية مقابل الولاء المطلق. إلا أن هذا العقد انهار تدريجيًا مع تصاعد الفساد والقمع، وبلغ ذروته مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، حين بات واضحًا أن العلاقة بين السلطة والمجتمع لم تعد قائمة على أي أسس مشروعة. الأسس التي روَّجتها السلطة لعقود كان لها مرجعياتها الاقتصادية والأمنية وفي بعض الأحيان الدينية، من طراز “سوريا الله حاميها”.

في السنوات التي تلت الثورة، ومع الانقسامات السياسية والعسكرية والمناطقية التي عصفت بالمجتمع، بات السوريون يعيشون في ظل ما يمكن تسميته بالعقود الاجتماعية المتوازية التي تفرضها القوى المسيطرة محليًا، سواء في مناطق النظام أو المعارضة أو قوات الأمر الواقع الأخرى. ومع سقوط النظام في ديسمبر/ كانون الأول 2024، دخلت سوريا مرحلة انتقالية جديدة تفرض إعادة النظر جذريًا في طبيعة العقد الاجتماعي المناسب والمطلوب.

من هنا، يُطرح السؤال التالي اليوم: أي عقد اجتماعي يناسب سوريا؟، والإجابة تفرض الإطلالة على دول عديدة مرَّت بمراحل انتقالية قاسية وصعبة، وسعت إلى بناء عقد اجتماعي جديد يناسب التشظي الذي عاشته مجتمعاتها في طريق تحقيق الاستقرار والعدالة، والأهم أنها مشابهة بشكل أو بآخر للواقع السوري اليوم، من هذه النماذج:

    جنوب إفريقيا بعد سقوط نظام الأبارتهايد: عندما سقط نظام الفصل العنصري في الثاني من فبراير/ شباط 1990 في جنوب إفريقيا، كان التحدي الأكبر هو تحقيق المصالحة الوطنية من دون التضحية بفكرة العدالة الانتقالية وجبر الضرر عبر لجنة الحقيقة والمصالحة. وهكذا، تم الاعتراف بالانتهاكات بشكل واضح وتعويض الضحايا، وإرساء عقد اجتماعي جديد قائم على المواطنة المتساوية، وقد نضج هذا العقد بعد إجراء أول انتخابات في عام 1994.

    البوسنة والهرسك بعد الحرب الأهلية: اتفاقية دايتون التي حملت اسم المدينة الأميركية التي شهدت توقيعها في 14 ديسمبر عام 1995، أنهت صراعًا دمويًا استمر بين عامي 1992 و1995، لكنها كرست تقاسمًا معلنًا للسلطة بين المكونات الرئيسية للمجتمع “البوشناق، الكروات، الصرب”. وأوقفت اتفاقية إنهاء الحرب  إطلاق النار بين الجبهات المشتعلة، إلا أنها لم تنتج عقدًا اجتماعيًا متينًا، بل أدت إلى استقطاب سياسي مستمر ظهر على شكل تقسيم الجغرافيا.

    سيراليون بعد الحرب الأهلية: في 18 يناير/ كانون الثاني 2002، أعلنت سيراليون انتهاء الحرب الأهلية التي استمرت أحد عشر عامًا، بعد توقيع اتفاقية لومي للسلام بين الحكومة والجبهة الثورية المتحدة في 7 يوليو/ تموز عام 1999، لتبدأ مرحلة نزع سلاح المقاتلين وإدماجهم في المجتمع، بالتوازي مع إنشاء محكمة خاصة لمحاسبة مرتكبي الجرائم، فقد انطلق العقد الاجتماعي هناك من زاوية إعادة الثقة بين المكونات المختلفة من خلال العدالة الانتقالية والتنمية الاقتصادية.

    العراق بعد عام 2003: عاش العراق مرحلة طويلة من تاريخه الحديث تحت سلطة الحزب الواحد، وأدى سقوط نظام البعث العربي الاشتراكي الذي كان يقوده صدام حسين إلى تفكك العقد الاجتماعي القديم القائم على الولاء للسلطة، ونشأت مكانه خريطة جديدة تنتمي إلى المحاصصة الطائفية والفساد المعلن، وهذا النموذج غذَّته دول كثيرة واستثمرت فيه.

أي عقد اجتماعي يناسب سوريا؟

في الحالة السورية – حتى اللحظة- يبدو أن هناك اتفاقًا بين الغالبية السورية على عدم قبول فرض عقد اجتماعي من الخارج كما حدث في العراق، ويظهر حتى الآن رفض الحلول المؤقتة على طريقة البوسنة والهرسك، لكن الطريق ما يزال طويلاً أو على الأقل غير معبَّد بالورود للوصول إلى نموذج جنوب إفريقيا.

التحديات والرهانات كثيرة، رغم أهمية مبادئ الحرية والاستقلالية والعدالة الانتقالية إلا أنَّ تطبيقها في بلاد مثخنة بالجراح مثل سوريا، تواجه تحديات عديدة منها الأفقي المتمثِّل باستمرار النزاعات الإقليمية والدولية حول جغرافيتها، ومنها العمودي المرتكز إلى الانقسامات الداخلية العميقة التي يغذيها غياب الثقة بين الأطراف المختلفة

وفي تلمُّس ملامح العقد الاجتماعي السوري الجديد، تظهر النوايا الحسنة، والنوايا لا تبني الدول، أو كما يقول الإنكليز “الكلام المعسول لا يطهو الجزر الأبيض”، فالمواطنة المتساوية يجب أن تكون الأساس الذي يقوم عليه العقد الجديد، بحيث يكون جميع السوريين بكل انتماءاتهم الضيِّقة متساوين في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن الطائفة أو العرق أو الجهة التي دعموها خلال الصراع، ويستثنى من هذه الأخيرة من تلوَّث أو شارك بشكل مباشر في المقتلة أو كان جزءًا منها. فالعدالة الانتقالية ضرورة ملحَّة لبناء عقد اجتماعي متين يضمن محاسبة عادلة للمتورطين مع إبقاء الباب مواربًا لفكرة المصالحة الوطنية.

لتحقيق ما سبق لا بد من الاتجاه إلى فصل السلطات واستقلال القضاء، لضمان عدم تكرار تجربة الاستبداد التي مرَّت بها سوريا خلال العقود الماضية، هذا ضمنه الإعلان الدستوري – على الأقل نظريًا حتى الآن- بما يتعلق بالسلطة القضائية، إلى جانب نظام إداري يقوم على اللامركزية لضمان التوزيع العادل للسلطة والموارد، وبالحديث عن الموارد فإن تحقيق التنمية الاقتصادية هي التي تُعطي أي عقد اجتماعي القدرة على الصمود أمام الأزمات.

التحديات والرهانات كثيرة، رغم أهمية مبادئ الحرية والاستقلالية والعدالة الانتقالية إلا أنَّ تطبيقها في بلاد مثخنة بالجراح مثل سوريا، تواجه تحديات عديدة منها الأفقي المتمثِّل باستمرار النزاعات الإقليمية والدولية حول جغرافيتها، ومنها العمودي المرتكز إلى الانقسامات الداخلية العميقة التي يغذيها غياب الثقة بين الأطراف المختلفة. ولعلّ العبور من هذا النفق المليء بالألغام يتطلب من السوريين التزامًا جماعيًا بالتعالي عن دور الضحية وإرادة سياسية حقيقية لترميم النسيج الوطني، والابتعاد بشكل واضح عن المحاصصة باعتبارها أساسًا لأي تشكيل في بناء الدولة الجديدة.

التلفزيون العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى