منوعات

نوار بلبل.. أو الممثل الذي أصبح حرًا/ حسين روماني

28 مارس 2025

الفنان نوار بلبل مسكون بالذكريات، وقد رأيناها تظهر تباعًا في عينيه كشريط سينمائي يدور على آلة العرض. كنا قد طلبنا منه موعدًا فاستضافنا في منزله بدمشق الذي عاد إليه بعد رحلة غياب قسري استمرت لأكثر من 12 عامًا. اكتشفنا أننا جيران ويحيط بنا نفس الجو البارد فهي نهاية الشتاء، لكنّ الحوار بيننا كان دافئًا بذكرياته التي أزهرت بعد عقد ونيف من الزمن، ربيعًا سوريًا بلون الحرية، يسردها للمرة الأولى.

علاقة خاصة مع المسرح

في أول حوارنا، عدنا مع خريج المعهد العالي للفنون المسرحية دفعة 1998 إلى البدايات، وسألناه عن خطواته الفنية آنذاك فأخبرنا: “كأي شاب انتهى من المرحلة الجامعية ويبحث عن فرصة عمل بدأت مشواري المهني، كان المسرح في قلبي وعقلي وروحي، والتلفزيون مصدر رزقي، فعلى الخشبة أنت من يختار ويكتب الأفكار على الورق بما تريد قوله أمام الجمهور، ولكن أمام الكاميرا هنالك أوراق وأفكار جاهزة تختارك كي تقولها سواء اختلفت أو اتفقت على مضمونها”.

لم ينتظر ضيفنا كثيرًا حتى بدأ عرضه المسرحي الأول والذي حمل عنوان “إسماعيل هاملت” مع فرقة مسرح الرصيف التي أسسها الكاتب التونسي الراحل حكيم المرزوقي والمخرجة رولا فتال، مونودراما تقوم على النص السردي حول أجواء دمشقية خاصة، عبر التداعي نحو صور وأفكار باستخدام أدوات الممثل، ذلك العرض الذي سافر إلى العديد من البلدان العربية والأوروبية وحجز له مكانًا على قائمة عروض المهرجانات المسرحية الهامة كمهرجان القاهرة، تلاه عرض “ذاكرة الرماد” والذي شاركته البطولة فيه الراحلة مها الصالح وأُنتِجَ بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي، ودّع فيه نوار بلبل فترة التسعينات، ليذهب مطلع الألفية الثالثة لأداء الخدمة الإلزامية، هذا الكابوس الذي لطالما أرّق أحلام الشباب السوري، ويصبح حرًا منتصف 2003.

المسرح هو الأهم بالنسبة لنوار، إذ إنه يراه الأقرب إلى الشارع والناس، تنويري ومتجدد الأفكار، لديه محيط هش من الحرية أحرقته الخطوط الحمراء، لذلك أسس فرقة “مسرح الخريف” 2005 مع شريكه وصديقه رامز الأسود ليقدما “حلم ليلة عيد”، وينجحا بالتحايل على مقص الرقابة حينها عبر عرض “المنفردة”، والذي زار 24 دولة في العالم، من اليابان شرقًا (ومن أجله عزفت الفرقة الوطنية اليابانية النحاسية النشيد السوري)، حتى الولايات المتحدة الأميركية غربًا حيث حصد العديد من الجوائز المهمة، لكن النظام حينها أدار ظهره لذلك الإنجاز. عاد إلى دمشق ليعرض للمرة الأخيرة ربيع 2012 خلال افتتاح مهرجان “سنا العين الثقافي الفني الأول” على مسرح اتحاد العمال في العاصمة السورية.

“أحبها، أحبها، أحبها” المونودراما الأخيرة التي حاول نوار بلبل تقديمها في سوريا مع الفنان الفلسطيني الراحل عبد الرحمن أبو القاسم على خشبات المسارح الرسمية، واجهت أقفال الرقابة فهربت إلى حي الطلياني نحو مقر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لتُعرض على مدار 7 أيام.

الغضب السوري

جميعنا نعرف موقف نوار بلبل الواضح من الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، لكننا سألناه عن اللحظة التي قرر بها أن يكون في صفوفها، يبتسم ويقول لنا: “خلال عروضي المسرحية وخاصة المنفردة كنت أظهر وحشية هذا النظام ولو عبر شخصيات كالسجان مهنا والمسجون أبو نضال، لكننا ومع بداية الربيع العربي، استجبنا بشكل واضح مع عدد من الأصدقاء والناشطين لدعوة المخرج الراحل عمر أميرلاي أحد الداعين لاعتصام 5 شباط/فبراير 2011، لكن المخابرات السورية طوقت البرلمان ولم نستطع الوصول إليه”، نرى غصّة واضحة في عينيه عند ذكره لاسم أميرلاي، غصّة التمني لو كان موجودًا وشهد على هذه الثورة وانتصارها في النهاية.

يتابع كلامه: “الشعب السوري هو من قام بهذه الثورة، نحن كفنانين وناشطين كنّا ننتظر الشارع كي يخرج ويثور ضد هذه القبضة الديكتاتورية التي اختارت القمع كحلٍ غبي”.

خط عسكري

وقفنا في حديثنا عند مغادرته سوريا وسألناه عن تلك الفترة فقال: “لحظة إدراكي إن الوقت لم يعد مناسبًا للبقاء وأن الأمن السوري قادم لاعتقالي، لم أجد مفرًا من المغادرة، أندم للحظات على ذلك لكنني في نفس الوقت لم أكن أعلم عواقب البقاء، ربما كنتم تبحثون عني الآن في قوائم سجن صيدنايا، لكن الحديث السريع مع الأصدقاء في الجيش الحر أفضى إلى نتيجة أن صوتي في الخارج سيفيد، فهم لا يريدونني أن أصل إلى الاعتقال الذي بالطبع سيؤدي إلى الموت”.

شكسبير ممنوع في مخيم الزعتري

غادر الفنان نوار بلبل نحو فرنسا مرورًا بتركيا، لكنه عاد إلى الشرق الأوسط، تحديدًا الأردن، بسبب عمل زوجته الفرنسية، لم يذهب نحو دراما مشتركة كحال البعض من الفنانين، بل حمل خشبة مسرحه ودخل مخيم الزعتري، ليصنع مع الأطفال هناك عرض “شكسبير في الزعتري”، لكن السلطات الأردنية وقتها طردته من المخيّم، ويفسر ذلك بالقول: “فكرة الربيع العربي وتسريب الثورات إلى خارج المخيم كانت مرعبة ومرفوضة، في الوقت الذي جاءت وسائل إعلام عالمية وعربية ليشاهدوا المجنون الذي سيقيم عرضًا لشكسبير في مخيم للاجئين، طرقت أعلى الأبواب بشكسبير في محاولة لرفع هؤلاء الأطفال بعيدًا عن مشاعر التهجير ولكني طُردت”، ويضيف “ما شاهدته حينها جعلني أشعر بخيبة أمل من دول الشرق الأوسط التي لا تريد من اللاجئ السوري سوى أن يأكل ويشرب وينجب المزيد من الأطفال وينام، دون أن يكون له وجهة نظر يطرحها أو رأي يتكلم به عن قضيته ومعاناته، وهي مشهد دقيق للتواطؤ من تحت الطاولة مع رأس هرم النظام الحاكم في سوريا حينها”.

محاولته الثانية مع الأطفال كانت في طابق مهجور من بناء للجرحى، هناك كان عرضه الثاني “روميو وجولييت” الذي دخل تصنيف المكتبة الوطنية البريطانية كأول عرض مسرحي من نوعه، روميو الطفل الجريح في عمان وجولييت محاصرة في منطق الوعر بحمص وبينهما كاميرا وميكرفون، فكان العرض يصل عبر شاشة بين مدينتين وجمهورين في لحظة واحدة، بحالة إنسانية عظيمة لم ترق للجهات المختصة، فذلك المكان وعلى حسب كلامهم “ليس مرقصًا”، وتوقف العرض تفاديًا للتهديد بإغلاق الدار أمام الجرحى، كذلك محاولته الثالثة “سفينة الحب” التي تحدث فيها عن مراكب الموت التي تغامر باللاجئين السوريين نحو أوروبا واجهت نفس المصير، وبرأيه فإن هذه العروض كانت بمثابة بصيص ضوء وأمل للناس وهي مرفوضة لحكومات الشرق الأوسط.

مونودراما في فرنسا

عاد نوار إلى فرنسا 2017، لم يجد سقفًا يمنعه من قول ما يريد لكنه كان أمام جمهور أوروبي. لجأ إلى المونودراما لغياب العامل اللوجيستي عن العمل مع شريك بسبب المسافات، يخبرنا عن ذلك بالقول: “السقف المفتوح وضعني أمام مسؤولية إيصال جزء من أفكاري التي حملتها من الثورة للجمهور الأوروبي، بعيدًا عن أي صورة نمطية فلكلورية حول الفن السوري، أو سرد لنشرات الأخبار التي هرب منها الجمهور نحو مسرحي، التوازن كان مطلوبًا بين العمل الفني والطرح الإنساني للقضية السورية ومشاركتها مع الجمهور الأوروبي، معادلة تحتاج إلى تعامل دقيق لكسب شراكة هذا الجمهور مع العرض”.

سألناه عن الفرق الذي لمسه بين العروض التي دار بها العالم مع الشركاء وتلك التي قدمها بمفرده، فأجاب: “العروض التي قدمناها ما قبل الثورة كان الجانب الفني فيها يصعد على حساب السقف السياسي، وهي مشاركات في مهرجانات تأتي إليها العديد من الفرق المسرحية من كافة الدول، أما اليوم فالتجربة كانت على مسرح في مدينة يأتيه جمهوره ليشاهد كل عرض جديد، صيغة الخطاب تكون مختلفة وجذب المشاهد يعتمد على ما تقدمه، ليذهب العرض فيما بعد إلى بيعه وعرضه في أماكن متنوعة، حاولت إمساك العصا من المنتصف بين الصيغتين الفنية والتجارية ونجحت في ذلك”.

قدّم نوّار عرض “مولانا” لـ80 مرّة إذ يتحدث عن الشيخ محي الدين ابن عربي، وهاجم به دائرة رجال الدين القريبة من الطبقة الحاكمة على اختلاف أديانهم، المتملقين في السمع والطاعة لزعيم الدولة، عبر شخصية “عابد” التي من خلالها سلّط الضوء على السلطات الثلاثة: الدين والمجتمع والسياسة في بلادنا العربية، والتي تتواطأ لتدجين المواطن العربي عمومًا والسوري خصوصًا عبر حزام الحرام والعيب والممنوع الذي يلتف حول دماغ هذا المواطن ويمنعه من الإنتاج أو حتى التفكير. استخدم فيه رقصة “الميلوية” ليكون مسرحًا حركيًا حاول من خلاله التواصل مع الجمهور، وسافر به إلى مدن أوروبا وأميركا، لكنه اصطدم في إسطنبول مع بعض من الجمهور الذي اتهمه بالزندقة والكفر، كيف لا وهو المشاكس الذي يرى في أن حالة الحوار يجب أن تكون برأيين مختلفين للوصول إلى رأي ثالث.

بعد أن كان عرضه الأول باللغة العربية، توجّه نحو الجمهور الفرنسي بآخر مزج بين اللغة الفرنسية والعربية حمل عنوان “égalité”، وتعني “المساواة”، يتحدث عن شخصية ممنوع حتى على السوريين معرفتها، وهي الباحث الفرنسي ميشيل سورا صاحب كتاب “سوريا الدولة المتوحشة”، والذي كان متواجدًا في سوريا أواخر السبعينات حتى لحظة اعتقاله في بيرت 1985 على يد حزب الله والمخابرات السورية، للعمل على أبحاثه حول سيطرة عائلة الأسد ومن حوله على الحكم، وعنه قال: “العرض بالنسبة لي كان تكريمًا لهذا الباحث وغيره ممن اختفوا بشكل قسري في أرجاء العالم، كسرت الزجاج مع الجمهور الفرنسي بلغته وورطته في العرض، فشاهد ماذا فعل ذلك النظام المجرم بالباحث الفرنسي الذي قُتِلَ تحت التعذيب بسجون الدكتاتوريات”.

ذاكرة تمتلئ من جديد

قبل 5 سنوات بدأ نوار يفقد الأمل بالعودة إلى سوريا، فعلى جواز سفره مكتوب أنه يستطيع زيارة الكرة الأرضية عدا بلده، وهو لن يعود إلأ بعد سقوط الأسد، ذلك اليأس دفعه إلى مسح ذكريات وتفاصيل تخصّ دمشق من ذاكرته، كمقهى الروضة وساحة شمدين وشارع الباكستان كي يضع غيرها من واقعه الفرنسي الجديد، دمشق التي سكنت فيه كل عمره تداعت إلى ذاكرته تفاصيلها لحظة وصوله من الحدود السورية اللبنانية إلى طريق المزة هو في سيارة إدارة العمليات العسكرية، يخبرني عن لحظة قراره السفر كيف اجتمع الأهل والأقرباء أمام منزله في حمص، ليقرر الهروب من الوداع عبر بابٍ آخر، عاد منه مرفوع الرأس وهو يرى أيضًا الأهل والأقرباء ينتظرونه لاستقباله، مشهد وآخر وبينهما 12 سنة.

عاد إلى منزله في دمشق، جنى العمر الذي لم يستقر فيه سوى أسبوعين قبل أن يسافر، تذكّر الليلة الأخيرة له هنا كيف قضاها مع الأصدقاء والمحبين اللذين اجتمعوا لتناول العشاء الأخير، ثمّ تفرقوا تباعًا في بلدان الاغتراب واحدًا تلو الآخر، أعاد ترتيب جوائزه التي نسيها أيضًا، ينظر إلى صورته مع شريكه وصديقه رامز الأسود بكل حنين، يشعرنا كلامه بذلك إذ قال: “كسرت الجليد بيني وبينه باتصال هاتفي عقب وفاة والده منذ فترة، عدنا أصدقاء رغم أماكننا المختلفة في الحياة، ربما تعود فرقة الخريف إلى عروضها، رامز صديقي وشريكي وأقرب الزملاء في هذه المهنة”، يتابع أمنياته عن إعادة عروضه التي قدمها في أوروبا، هنا في مدينته التي يتعرف إليها من جديد.

ختامًا أخبرنا أنه يصوّر مسلسلًا عن السجون والمعتقلات مع المخرج صفوان مصطفى نعمو، يجسد في ثلاثية من حلقاته دور معتقل في السجن، وتغرق هذه الثلاثية في بحر الحياة داخل وخارج السجن، وبالرغم من لعبه عدة أدوار في مسلسلات مختلفة بين تركيا والأردن أشهرها في “ابتسم أيها الجنرال”، إلا أنه لطالما شعر بأنه يمشي على أرض هلامية، وأن من يقف أمام الكاميرا ليس نوار، يقول عن ذلك: “عندما بدأت التصوير من قلب الشام المرصّعة بتاج الحريّة، استعدت نوار الممثل الذي أصبح حرًا بما يريد أن يقوله، هذا الشعور المذهل منحني طاقة لن أنساها”.

الترا سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى