أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

“المواطنة المتساوية”.. الركيزة الأهم لقيام الدولة الحديثة/ بسام يوسف

2025.03.31

لا يمكنك عندما تتحدث عن المعايير الأساسية للدولة أن تنظر بعين الموالاة أو المعارضة، أو أن تخضع الأمر لتصنيف ما من تصنيفات المجتمع، فالدولة بتعريف مبسط ومكثف هي مجموعة مؤسسات تقوم بتنظيم أشكال الحياة في المجتمع من خلال نواظم عامة، وقوانين وضوابط، توضع لتصون وتطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية والحالة المعيشية للمواطنين كلهم، وعندما يختل ميزان المواطنة المتساوية في أي دولة تفقد شرعيتها، ويسقط عنها مفهوم الدولة.

لماذا يتم اعتبار المواطنة المتساوية شرطاً لازماً للدولة الحديثة، رغم أن هناك دول كثيرة تفتقر لهذا المعيار، مردّ هذا التناقض خصوصاً في المجتمعات المحكومة بالاستبداد (مهما تكن مرجعيته) إلى اختزال الدولة بالسلطة، أو ما يمكن تسميته بالدولة التسلطية، التي تزيح غالباً الولاء لفكرة الوطنية الجامعة لصالح ولاءات فرعية، الأمر الذي يمنع بناء الدولة بوصفها نظاماً سياسياً، ويحولها إلى أداة لتكريس السلطة، ومن المنطقي في هذه الحالة أن تعيق الدولة التسلطية عملية الاندماج الوطني، وأن تعلي هويات ما قبل الدولة على حساب الهوية الوطنية الجامعة، وهنا أيضاً سيكون من المنطقي أن تشهد الدولة الاستبدادية التي تقوم على كيانات ما قبل الدولة أزمات مستمرة تأتي بوتائر متسارعة، فتتفكك، وتصبح بؤرة لانطلاق موجات لجوء متتالية.

غالباً ما يتم الاستشهاد “بالدولة العربية الإسلامية” واعتبارها نموذجاً يمكن اعتماده للدولة المشتهاة لدى شريحة واسعة، لكن التحليل المتعمق لهذه الدولة منذ المرحلة الأموية وحتى المرحلة العثمانية سيقودنا إلى أن تاريخ هذه الفترة الزمنية لم يكن تاريخ دولة، بل كان تاريخ الجماعات السياسية التي أحكمت سيطرتها على السلطة والثروة، وهذا ما أعاق إلى حد كبير تطور الفكر الداعي للتأسيس لفكرة الدولة بمعناها العصري، هذا التوجه الذي ساد في مناطق أخرى من العالم، ودفع مجتمعات تلك المناطق إلى إنجاز صيغة الدولة الحديثة التي نحاول اليوم في مجتمعاتنا القياس عليها، والحذو حذوها.

لم تصل المجتمعات إلى الدولة بمعناها الحديث المرتكز على مفهوم المواطنة عبر الثقافة والحوار فقط، بل وصلت أساساً عبر صراع طويل متعدد الأوجه، وإن كان محركه الأساسي هو الاقتصاد، وتطور العلوم والتكنولوجيا. ولعل الصراع الأهم في تلك المجتمعات هو ما قام بين الملك بوصفه حاكماً يستمد سلطته من المقدس، وبين فكرة الدولة بوصفها نظاماً متكاملاً من الحقوق والواجبات المقرة والمصانة بدساتير وقوانين، ففي أوروبا مثلاً لم يكن ممكنا الحديث عن “الدولة” قبل القرن السادس عشر، فالدولة حينها كانت مجسدة بالسلطة، وكان التمييز بين الحكام والمحكومين هو السائد، أي أنه كان تعبيراً عن السلطة وليس تعبيراً عن الدولة.

لا يمكن للسلطة الفردية أن تتفق مع جوهر معنى الدولة، مهما توافقت أعمال صاحب السلطة مع حاجات الشعب، فالسلطة في الدولة هي أساساً صيغة لحاجات ووعي جمعي، تنتج عن انتماء أفراد وتشاركهم التام والمسؤول في الدولة، وفي هذه العلاقة التفاعلية بين المواطن والسلطة (علاقة المواطنة)، والمحددة بالقوانين والدساتير، تنشأ الدولة، ولهذا يقترن مفهوم المواطنة بنشوء الدولة.

السمة الأهم للدولة التسلطية هي ممارسة السلطة من الأعلى إلى الأسفل، وارتكاز العلاقة بين السلطة والشعب على مبدأ “الرعوية” أي اعتبار الفرد “رعيّة” وليس مواطناً، ولأن مبدأ “الرعوية” هو أساس العلاقة التي عرفتها مجتمعاتنا، فإن القول بأننا لم نتعرف بعد على معنى الدولة يصبح قولاً مقبولاً، سيما وأن طرق انتقال السلطة من حاكم لآخر في مجتمعاتنا لا تتم عبر إرادة الأفراد، بل تتم غالباً بالعنف أو بالموت، وهذا غالباً ما يترافق مع تدمير لقوى مجتمعية، تتفاوت قوته بطول فترة حكم السلطة المستبدة، وقد يصل إلى انهيار شامل يحتم على المجتمع دورة جديدة شاقة للنهوض من جديد، والأخطر أنه غالباً ما يكون مناسباً لولادة مستبد جديد.

ليس ترفاً أو هبة أو تنظيراً أن تكون المواطنة جوهر الدولة الحديثة، فالشرط الأهم لمنع نشوء الاستبداد هو المواطنة، هذا الشرط يحمي الدولة، ويمنع انهيارها في حال الانتقال من حاكم إلى آخر، ويمكننا قراءة ذلك بوضوح في رسوخ الدول القائمة على المواطنة حتى لو كانت ضعيفة، وفي انهيار الدول التي تغيب عنها المواطنة حتى لو كانت قوية، وفي تجربة المجتمعات التي حكمتها الدولة المتسلطة مثل دول الاتحاد السوفيتي السابق وتلك التي دارت في فلكه مثالاً قريباً، إذ انهارت هذه الدول وتفكك بعضها، ولا يزال هذا الخطر ماثلاً فيما تبقى منها والتي لا تزال “المواطنة المتساوية” غائبة عنها.

بالعودة لما نشهده في منطقتنا اليوم، والتي تدفع غالياً ثمن افتقارها إلى المواطنة، فلم يعد الانهيار في مجتمعاتنا هو الثمن الوحيد، إذا يمتد ليصل إلى إعادة صياغة المنطقة بكاملها، وتغيير تركيبتها الديمغرافية، وتفتيتها، والخطر الأكبر يأتي من أن هذه الصياغة لا تتم بدلالة حاجة شعوبها، أو بدلالة وعيها لحاجاتها، بل يأتي وفق ما تريده أطراف خارجية تريد ترسيخ معادلة قوتها ونفوذها.

قد يتيح التاريخ لبعض المجتمعات فرصة نادرة لإعادة تأسيس دولتها على نحو يلبي حاجات أفرادها، ويفتح الطريق لتطورها، وربما يمكن القول إن هذا ينطبق إلى حد كبير على سوريا، فهذه الفرصة التي أتاحها التاريخ للسوريين قد تكون الفرصة الأخيرة لقيام دولة سورية حديثة، لكنها قد تضيع وإلى الأبد إذا لم يتمكن السوريون من تكريس مبدأ المواطنة المتساوية كركيزة أساسية لبناء وطنهم.

من النافل القول إن كل العصبيات التي تنفلت بلا ضابط في المجتمع السوري هي النقيض للمواطنة، ومن النافل أيضاً التذكير أن تسعير الانقسامات المجتمعية على اختلافها: الطائفية والقومية والإثنية والمناطقية وقد تكون الطلقة الأخيرة التي سوف تقضي على الوطن السوري بصيغته الراهنة.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى