حرية التعبير في سوريا الجديدة/ حسام جزماتي

2025.03.31
من البديهي أن قطاعاً واسعاً من السوريين عمل على إسقاط نظام الأسد لتتاح له، من ضمن أشياء أخرى، حرية التعبير العام بعد عقود من القمع. وقد حملت الأشهر المنصرمة منذ حدوث ذلك معالم وفرصاً للقول لا تقارن بما سبقها بطبيعة الحال، وإن كان من الهام السؤال هنا إن كان ذلك قد حصل بسبب اضطراب الأحوال نتيجة الانهيار المفاجئ للنظام أم أنه أتى ضمن رؤية تحترم الحريات العامة وتتيح لها مجالات التعبير عن نفسها بأشكال مختلفة.
تواتر عن السلطة الجديدة عدم ارتياحها للجماعات السياسية ورغبتها في استقبال الناس بوصفهم وفوداً تمثل مناطق أو مجموعات أهلية. ورؤيتها أن تشكيل الأحزاب، أو إحياءها، أمر سابق لأوانه. وهو من جملة الأمور المؤجلة إلى بعد استقرار الوضع الأمني والخدمي والحوكمي والاقتصادي. ومن جهتهم لا يبدو عموم السكان متبرمين من هذه الترسيمة؛ فذكرياتهم عن الأحزاب صنعتها رؤيتهم للدور الوظيفي الذي لعبه البعث، وسواه من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، في إسناد السلطة وتقديم الغطاء السياسي والأيديولوجي لتغولها على البلاد. أما الأحزاب المعارضة فقد ظلت، في أذهان أكثرية ساحقة من السكان، مجرد أشباح تراوح بين دخول السجن وبين عمل سري مبهم. وحتى عندما أتيحت لهذه الكتل إمكانية محتملة للتأثير بعد اندلاع الثورة باضطلاعها بدور تأسيس المؤسسات المعارضة في الخارج، لم يكن الانطباع النهائي الإجمالي الذي تركته هذه التيارات إيجابياً، حتى في حالة جماعة كان يُنظر إليها على أنها الأكبر عدداً والأفضل تنظيماً والأكثر قابلية للتمدد في شارع ظُن أنه محجوز سلفاً، ونعني الإخوان المسلمين.
غير أنه لا يشترط أن تمر حرية التعبير السياسي بالأحزاب فوراً في مجتمعات تعاني هذا التأخر في التسييس. ففي الوقت نفسه الذي ينظر فيه معظم السوريين بتشكك إلى التجربة الحزبية فإنهم يبدون شديدي الاعتداد بالتعبير الفردي عن آرائهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما الفيسبوك الذي أصابه فرط في النشاط في الآونة الأخيرة وصار، بحق، مدونة المجال العام.
لكن هذه الساحة تشهد، كما هو ملحوظ للجميع، عيوباً أساسية كبرى. فإذا كانت خيارات العمل المشترك بعيدة عن الواقع فبالتأكيد لا يبدو أن التذرر بديل صحي. إذ تنتشر الصفحات الفردية، للمؤثرين وسواهم، ويتراجع دور المجموعات. وحتى في حال إنشاء هذه الأخيرة، خاصة على تطبيقات أخرى مثل الواتساب، فإن دورها لا يزيد على كونها منصة لتعارض الفرديات وتوالي الخلافات والانشقاقات والانسحابات والترضيات والعودة.
ومن جهة أخرى فإن أنصار السلطة الحالية، وهم الأكثر عدداً بوجه عام، لا يبدون ميلاً إلى الدخول في نقاش مع الآخرين بقدر ما يمارسون سلسلة متشابهة من السلوك الذي يتراوح بين الدعاية وإسكات صوت المخالف باستخدام كليشيهات ساخرة سهلة صارت معروفة.
وعلى الرغم من ذلك فإن لهذه الصدامات، المسلحة بعنف لفظي، فائدة الانفتاح وانفجار القيح الذي كانت تختزنه كثير من الجراح والبثور، ويحول دون اندلاعه انقسام البلاد، في السابق، إلى مناطق سيطرة جغرافية يحلّق فوق كل منها جوه الافتراضي الخاص. فقد نسي كثير من سكان الشمال السوري، أي المناطق المحررة السابقة، وجود غيرهم في البلاد. ولم يعودوا يرون الآخر إلا عبر أخبار متناثرة بعيدة، أو من خلال الطيار الذي يرمي والضابط الذي يأمر بالقصف. ومن المفيد الآن أن يتعرضوا لصدمة إيجابية تتمثل في وجود ملايين من المختلفين عنهم ومعهم، لن ينفع حصرهم في أوصاف الأقليات أو المكوّعين أو الرماديين أو مفضّلي السلامة. ففي النهاية لا يمكن إغفال هؤلاء، جميعاً، عند نقاش مستقبل البلاد، مهما بلغت السطوة الحالية المؤقتة لعبارة «من يحرر يقرر» الشهيرة.
وبالتأكيد من الضروري للخارجين من مستنقع مناطق سيطرة بشار الأسد، الذين سقط فضاؤه السياسي والرمزي والأمني والإعلامي عنهم على حين غرّة، أن يعرفوا أن إخوانهم القادمين من الشمال أبناء مآسي كبرى كان يجري التغافل عنها وتجاهل ما كانت تُراكمه في النفوس من قهر يجد تفريغه الآن في هذه التعبيرات عن السطوة والاستئثار والهيمنة.
لا تنشأ الديمقراطية بقرار، كما هو معروف، بل ببساطة وقسوة من شعور الأفراد والجماعات بأنهم لن يستطيعوا إبادة المختلف ولا تهميشه طويلاً، وأنهم مضطرون إلى سماع وجهة نظره المدعومة بقوى بشرية كبيرة وبعين دولية تؤكد يومياً على شرط حصول الضحايا السابقين على العدالة والامتناع عن إيقاع ضحايا جدد من كل الأطراف.
ومن هنا يمكن استخلاص قدر من التفاؤل من السجالات الراهنة، بأمل أن حجج الخصم، أياً كان، ستتسرب مرة بعد مرة إلى المجادِل مهما بدا مصمتاً وعنيداً. وأن عدوانيته اللفظي العنيف ستقوده، طالما أنها لم تتحول إلى دم، إلى خيار إلزامي من التعايش السلمي حتى مع من يكرههم بشدة.
هذه ليست حالة مثلى بالطبع، لكنها مقدمة تبدو معقولة لنزولنا عن ذروة خطاب الكراهية الذي وصلنا إليه خلال السنوات الماضية، مبنياً على ضغائن عتيقة، طائفية وقومية ومناطقية، وكانت تتنامى منذ وصول البعث إلى السلطة، ثم تمكن آل الأسد منها، فالثورة عليهم.
وأثناء انبناء هذا المسار الديمقراطي الإلزامي سيجد الأفراد في أنفسهم الحاجة إلى الاجتماع على توافقات تشكّل الأحزاب، بعد أن تتبين وظيفتها السياسية التي دفعت الإنسان الحديث إلى إيجادها أصلاً، بعد زمن بدت فيه هذه البنى، لمجتمعات شديدة التقليدية، شعارات وهياكل دولتية لا تختلف كثيراً عن شعبة الأمن السياسي أو الرابطة الفلاحية!
تلفزيون سوريا