الإعلان الدستوري المؤقت وشكل النظام السياسي في سوريا/ رضوان زيادة

2025.04.01
عقب سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول 2024، أعلنت الإدارة السورية في 29 كانون الثاني 2025، تعيين الشرع رئيسا للمرحلة الانتقالية، إلى جانب إلغاء العمل بالدستور، وحل الفصائل المسلحة والأجهزة الأمنية، ومجلس الشعب (البرلمان) وحزب البعث العربي الاشتراكي.
وأعلن الشرع في الثاني من آذار 2025، تشكيل لجنة لصياغة الإعلان الدستوري، مكونة من 7 قانونيين، وسلمت المسودة في 12 آذار، ووقع الرئيس السوري على الإعلان الدستوري في اليوم التالي.
وأوضحت لجنة الخبراء المكلفة بصياغة الإعلان الدستوري، في مؤتمر صحفي عُقد عقب تسليمه للرئيس الشرع، أنها استندت في إعداد الوثيقة إلى مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد في شباط 2025.
لقد صيغت الوثيقة بالاعتماد على ثلاث وثائق تأسيسية رئيسية وهي دستور عام 1950 ومؤتمر خطاب النصر والبيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني حيث اعتبرا وثيقتان تأسيسيتان وهو ما أشارت له ديباجة الإعلان الدستوري عندما تحدث أنه “واستنادا إلى القيم العريقة والأصيلة التي يتميز بها المجتمع السوري بتنوعه وتراثه الحضاري، وإلى المبادئ الوطنية والإنسانية الراسخة، وحرصا على إرساء قواعد الحكم الدستوري السليم المستوحى من روح الدساتير السورية السابقة، ولا سيما دستور عام 1950 -دستور الاستقلال-، وإعمالا لما نص عليه إعلان انتصار الثورة السورية الصادر بتاريخ 29 كانون الأول 2025، الذي يُعد أساسا متينا لهذا الإعلان”.
فكيف يمكن قراءة السياقات السياسية التي رافقت هذا الإعلان في ضوء الدساتير السورية والنظام السياسي السابق الذي كان معمولا به في سورية، لقد ساد الدستور السوري لعام 1973 والدستور الأخير لعام 2012 نظام حكم هجين. فمن جهة كان نظامأ أقرب إلى النظام الرئاسي يمنح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة جداً، ومن جهة أخرى يعتمد جهاز حكومي تنفيذي قوي نسبياً، ولم يكن نظاماً برلماني نصف رئاسي كما هو الحال في فرنسا لأنه لا يعتمد نتائج الانتخابات البرلمانية في تشكيل الحكومات المتعاقبة ـ بل هو بعيد فعلاً عن ذلك ـ وبالتأكيد ليس نظاماً برلمانياً صافياً يكون فيه الرئيس أو الملك منصباً فخرياً لا صلاحيات حقيقية لديه مقابل صلاحيات الحكم التي تنحصر بالفائز بالانتخابات البرلمانية كالنظام البريطاني أو الهندي، وبالمقابل إن النظام الذي احتواه دستور عام 1973 (الذي كان أساساً نظرياً للحكم منذ الانقلاب الحزبي العسكري الذي قام به حافظ الأسد والذي سمي بالحركة التصحيحية لعام 1970) كان نظاماً قائماً على التناقضات.
على الرغم من أن نظام الحكم في سوريا على الصعيد النظري كان نظاماً مختلطاً حزبياً مدنياً في آن معاً، إلا أنه أعطى لحزب البعث صلاحية ومكانة كبيرة جداً حسب دستور عام 1973 مثلاً من خلال قيادته للدولة والمجتمع حسب المادة الثامنة من الدستور ومن خلال ترشيح رئيس الجمهورية من قبل القيادة القطرية لذلك الحزب.
ساد التناقض المتعدد الأوجه نظام الحكم الفعلي المنفصل عن الدستور المعمول به في سورية خلال الفترة المنصرمة، فعلى صعيد الواقع كان النظام السائد في سوريا منذ الثامن من آذار عام 1963 نظاماً أمنياً حلت فيه الأجهزة الأمنية محل الجهاز المدني الحكومي في كثير من مفاصل الحياة السياسية والمدنية الخدمية اللصيقة بحياة المواطن.
أما المستوى الثاني لتناقض النظام مع الشكل الدستوري للحكم حتى بشكله غير المتطور في الحالة السورية، فقد تركز في حلول عائلة الرئيس ونعني بها المجموعة المقربة للرئيس محل أدوات الحكم المعروفة والمنصوص عليها في الدستور. فبالنتيجة لم يشكل الدستور أي مرتكز حقيقي للحكم في سوريا بل شكل صورة باهتة عن بعض مظاهر الحكم في سورية مثل اعتماد حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع. كما أن أهمية الدستور كانت قد اضمحلت خلال فترة حكم حافظ الأسد ومن ثم ابنه بشار، فقد شهدت الساحة السورية تجاذبات عنيفة تمحورت حول الفقرات المتعلقة بدين الدولة ودين رئيسها ومصدر التشريع فيها في الفترات التي سبقت حكم البعث إلا أن ذلك الجدل وكل ما مثله من حيوية في النظام السياسي والدستوري في سوريا كان قد اضمحل وحل محله القهر العنفي المستند إلى قوة أجهزة الأمن وقوة الولاء الحزبي في نهاية السبعينيات. وحتى الولاء والارتكاز الحزبي كان قد تلاشى مع تركز القوى الأمنية محل كل ما له علاقة بالسياسة في سوريا. وكدليل على اضمحلال دور الدستور إلى حد التلاشي في سوريا إبان حقبة حافظ الأسد يمكن تذكر دور المحكمة الدستورية العليا في سوريا التي وإن احتفظت بدور مراسمي هام في فولكلور الحكم الأسدي في البداية إلا أن ذلك لم يشفع لها في نهاية حياة الأسد الأب حيث لم يتبق لها أي وجود فعلي في نهاية التسعينيات وبقيت سنوات عدة من دون مصدر تمويل للإنفاق الشهري الأساسي.
لقد تبنى الإعلان الدستوري الصادر عام 2025 شكل النظام الرئاسي المطلق وهو ما قوبل بانتقادات كبيرة من قبل السوريين خاصة فيما يتعلق بمبدأ فصل السلطات، حيث لا يمكن تطبيق ذلك عمليا في المرحلة الانتقالية التي تقوم على التعيين، ففي المادة 24: “يشكل رئيس الجمهورية لجنة عليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب.” كما “يعين رئيس الجمهورية ثلث أعضاء مجلس الشعب لضمان التمثيل العادل والكفاءة” وهو ما وضع تحديا في العلاقة بين السلطة التشريعية والتنفيذية وبنفس الوقت لم يذكر الإعلان عدد أعضاء مجلس الشعب القادم..
أما فيما يتعلق بالسلطة القضائية فقد أشارت المادة 43: بأن “السلطة القضائية مستقلة، ولا سلطان على القضاة إلا للقانون”. لكن الإعلان الدستوري لم يتحدث عن آلية تشكيل المجلس الأعلى للقضاء فقد أشار فقط إلى أنه “يضمن المجلس الأعلى للقضاء حسن سير القضاء واحترام استقلاله”. وهو ما أثار التخوفات بأن يصبح الرئيس هو رئيس مجلس القضاء الأعلى كما في دستور عام 2012 في انتهاك لمبدأ الفصل بين السلطات.
بل إن الإعلان الدستوري تحدث أن في المادة 47: بأنه “تحل المحكمة الدستورية العليا القائمة وتنشأ محكمة دستورية عليا جديدة”. و “تتكون المحكمة الدستورية العليا من سبعة أعضاء يسميهم رئيس الجمهورية من ذوي النزاهة والكفاءة والخبرة”. فالرئيس هو من يشكل أيضاً المحكمة الدستورية العليا من دون أن يكون هناك دور للبرلمان ممثلا في مجلس الشعب مما أضفى صلاحيات مطلقة للرئيس على السلطة التشريعية.
يبقى من النقاط المهمة التي أشار لها الإعلان الدستوري هو تأسيس هيئة للعدالة الانتقالية حيث أشار في المادة 49″تُحدث هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية تعتمد آليات فاعلة تشاورية مرتكزة على الضحايا، لتحديد سبل المساءلة، والحق في معرفة الحقيقة، وإنصاف للضحايا والناجين، إضافة إلى تكريم الشهداء” كما جرى “تجرم الدولة تمجيد نظام الأسد البائد ورموزه، ويعد إنكار جرائمه أو الإشادة بها أو تبريرها أو التهوين منها، جرائم يعاقب عليها القانون”. وهو ربما ما يؤثر على حرية الرأي والتعبير من جهة عدم تحديد ما يسمى برموز الأسد أو جرائمه.
أخيرا حدد الإعلان الدستوري في المادة 52: “مدة المرحلة الانتقالية بخمس سنوات ميلادية تبدأ من تاريخ نفاذ هذا الإعلان الدستوري. وتنتهي بعد إقرار دستور دائم للبلاد وتنظيم انتخابات وفقا له”. وهي مدة طويلة نسبيا مقارنة بالمراحل الانتقالية الأخرى في دول الربيع العربي، والأهم أن الإعلان الدستوري لم يذكر كلمة الديمقراطية أبدأ ولم يتضمن تشكيل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بما يعنيه أنه بعد الخمس سنوات لا نعرف ما هو شكل النظام السياسي الذي نسعى للوصول إليه.
فلكل نظام سياسي ديمقراطي ميزاته الخاصة التي تؤدي لنجاحه، كما أن البيئة الاجتماعية والعامل الديمغرافي يلعب دوراً بارزاً في نجاح نظام سياسي معين في دولة ما. ويبقى أبرز ثلاثة أشكال للنظام السياسي الديمقراطي هي:
1 ـ النظام الرئاسي
وهو نظام سياسي شائع، يضع السلطات التنفيذية بشكل مطلق بيد رئيس الدولة الذي ينتخب بشكل مباشر من قبل الشعب. ولعل قوة السلطة التنفيذية تمنح قدرة عالية للرئيس على اتخاذ القرارات التي يراها مناسبة لتحقيق برنامجه الذي انتخب على أساسه. ومن أبرز ما يميز الأنظمة الرئاسية هوالفصل التام بين السلطات، إذ لا يحق للرئيس أن يحل البرلمان بقرار تنفيذي أو أن يتدخل في جلساته أو أن يشارك فيها.
كما أن الرئيس في النظام الرئاسي هو المسؤول الأول أمام الشعب، وهو المخول بتعيين وزرائه الذين تتلخص وظيفتهم بتنفيذ رؤية الرئيس وبرنامجه، في حين يغيب دور المعارضة السياسية والأقليات عن السلطة التنفيذية، مما يمنح استقراراً أكبر في تلك السلطة.
غير أن النظام الديمقراطي الرئاسي لا يمكن أن ينجح إلا في مجتمع تكون فيه الحالة الديمقراطية ناضجة ومستقرة، والوعي السياسي في المجتمع عالي، كي يتقبل قرارات الرئيس المنتخب، وغياب الاتفاق والتعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية قد يعسر مهمة الرئيس ويصيب الدولة بحالة شلل، كما أن هذا النظام لا يعطي فرصة كبيرة للمساءلة السياسية، ويبقى الحل الوحيد أمام الشعب لمحاسبة الرئيس وحزبه هي الانتخابات المقبلة.
2 ـ النظام البرلماني
يتميز النظام البرلماني بتداخل كبير بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، إذ إن الحكومة عادة في هذا النظام تتشكل من قبل الكتلة الحائزة على أغلبية المقاعد إذ يشترط حصول الحكومة على ثقة هذه الأغلبية لتتمكن من ممارسة عملها، ويكون كذلك الوزراء أعضاء في البرلمان مع أنه يحق للبرلمان الاستعانة بوزراء من خارج البرلمان، كما تعتبر الحكومة مساءلة من قبل البرلمان سواء الحكومة ككل ممثلة برئيسها أو الوزراء بشكل فردي. ويحق للبرلمان سحب الثقة عن الحكومة، كما يحق للحكومة أن تحل البرلمان إلا أن ذلك يعني بشكل تلقائي سقوط الحكومة.
يكون رئيس الدولة في هذا النظام ذو صلاحيات رمزية أو شرفية، وقد تحال له بعض الصلاحيات في ظروف خاصة، إلا أن الرئيس عادة في النظام البرلماني ينتخب من قبل البرلمان كي لا يحظى بتأييد شعبي كبير يعطيه شرعية شعبية تضاهي تلك التي حازها البرلمان ككل وتتعدى بكثير نسبة ما حازه أي عضو في البرلمان من أصوات.
ويمتاز هذا النظام بمنح الوزراء سلطات أعلى من النظام الرئاسي، إذ إن الوزير يدير وزارته بحرية أكبر كونه مساءل بشكل شخصي أمام البرلمان، كم أن القرارات داخل مجلس الوزراء تتم بالتوافق وليس لرئيس الوزراء أن يفرض قراراته ما لم يوافق عليها نسبة محددة من الوزراء.
وتكمن أكبر ميزات النظام البرلماني بأنه يشجع على وجود حوار ونقاش جاد بين كل القوى السياسية حول القضايا الرئيسية التي تواجه البلاد، وبالتالي يرفع من المستوى السياسي في الدولة والمجتمع، ويزيد الثقة والتواصل بين القوى السياسية. كما أن هذا النظام يسمح للقوى السياسية الصغيرة والأقليات بلعب دور هام في السلطة.
في المقابل فإن غياب الفصل بين السلطات الثلات في هذا النظام والانصهار بين السلطات الثلات قد يقود إلى استغلال السلطة والاستبداد بها خصوصاً في الدول النامية والتي تفتقد لمؤسسات ديمقراطية قوية، كما أن موعد الانتخابات في هذا النظام غير ثابت ومن حق رئيس الوزراء البقاء في منصبه طالما يملك ثقة أغلبية البرلمان، وهذا يعني أن من حق رئيس الوزراء أن يدعو إلى انتخابات جديدة مبكرة متى رغب في ذلك خصوصاً عندما يشعر بأن الشعب يؤيد سياساته. ولعل من عيوب هذا النظام هو أن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء لا يتم اختيارهما من قبل الشعب وبهذا فسوف يكون من الصعب على الشعب محاسبتهما إلا من خلال ممثليه. كما أنه في كثير من الأحوال قد تلعب أحزاب صغيرة دوراً كبيراً يفوق حجمها الشعبي في تقرير كثير من الأمور الحاسمة ومنها تشكيل الحكومة واتخاذ بعض السياسات.
3 ـ النظام شبه الرئاسي أو شبه البرلماني
وهو نظام سياسي يخلط بين كلا النظامين السابقين، إذ يتشارك رئيس الوزراء الحائز على ثقة البرلمان أو المنتخب من قبله ورئيس الدولة المنتخب شعبياً في السلطة التنفيذية، وتتوزع الصلاحيات بين كلا الرئيسين، بيد أنه يحق للبرلمان مساءلة رئيس الوزراء وتغييره إن ارتأى ذلك.
ويتميز هذا النظام بأنه في حالة الانسجام بين رئيسي الدولة والحكومة، إذ تكون عملية سن القوانين واتخاذ القرارات سلسة ومرنة، ويحدث استقرار كبير في إدارة الدولة، كما يحق للرئيس في حالات معينة حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة.
إلا أن أبرز عيوب هذا النظام تتمثل في حالة عدم التوافق والانسجام بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء، مما يحدث حالة من الشلل في الدولة، خصوصاً لو انتمى رئيس الوزراء لحزب يعارض سياسات رئيس الدولة، كما قد يلجأ الرئيس في هذا النظام إلى إساءة استخدام سلطته بحل البرلمان، وقد يضطر للجوء إلى استفتاء الشعب كلما تعارضت السلطتين التشريعية والتنفيذية.
من العيوب التي ترافقت مع آلية إصدار الإعلان الدستوري المؤقت هو توكيل مهمة اختيار شكل النظام السياسي للجنة غير منتخبة مؤلفة من سبعة أعضاء وبالتالي لم يتسم عمل هذه اللجنة بالشفافية وبنفس الوقت اتسم بالمهمة المستحيلة لإرضاء السوريين الخارجين من الثورة بشكل النظام السياسي الذي يرغبون.
ولذلك ذكرت أنه كان من الأفضل أن يصدر هذا الإعلان عن مجلس الشعب المعين وهذا ما سيعطيه مزيدا من الصدقية والشرعية، سيما أنه تبنى شكل النظام الرئاسي للدولة، وهو بالمناسبة أفضل لسوريا في الوقت الحالي في ظل تزايد النزعات الإقليمية وضعف المؤسسات الوطنية فتحتاج إلى تقوية الحكومة المركزية في دمشق ضمن هذه المرحلة الانتقالية، لكن بنفس الوقت كان لابد من فتح المفاوضات مع كل الأطراف السورية التي لها مصلحة في المرحلة الانتقالية، بما في ذلك الأقليات الدينية والإثنية والذين يرغبون في المشاركة في الحكومات المؤقتة والدائمة، هذه المفاوضات عادة ما ترتكز على إطار عملية الانتقال ذاتها، ولكن يمكن أن تتضمن أيضاً التفاوض حول الدساتير المؤقتة والدائمة. حيث إن هذه المفاوضات يجب أن تكون شاملة في معظم الأحيان لجميع الأقليات مما يضمن نجاح المرحلة الانتقالية.
تلفزيون سوريا