“الروائي المريب”: “نحن حوّلنا الربيع العربي إلى جحيم عربي”؟/ فدوى العبود

1 أبريل 2025
في الوقت الذي تعصف فيه الأنواء والآراء وتتجاذب السفينة السورية، يطرح الأدب أسئلة كثيرة تعكس حجم الخراب وتركة نصف قرن من الزمن في تفاصيل الحياة الثقافية، التي تحولت إلى جملة علاقات وسوق لبيع الأفكار بالجملة والتجزئة، وقضايا مستوردة وغريبة عن واقعنا، فماذا لو طرحنا على المفكر والمثقف سؤالًا حول قناعاته بمعنى: هل كانت هذه قضاياك حقًّا؟
ألا يمكن أن نقف يومًا كمثقفين وكتابًّا أمام الوسيط الغربي باتريك، إحدى شخصيات “الروائي المريب” والذي قال لفريد الجسام: “هذه الرواية لنا، وليست لكم، إنها لتكريسك كاتبًا عالميًّا في عالمنا، ممّا يُخضعك لاشتراطاتنا”؟ وفي الحقيقة فإن باتريك لم يكن يطلب، بل كان يأمر ويملي. ثم ما صلاحية القضايا التي انشغلنا بها كمثقفين (اليسار واليمين، سارتر ودي بوفوار، وقضايا النسوية وغيرها)؟ متى قفزنا فجأة في ذلك الضوء المبُهر بينما تحيط بنا العتمة؟ وكيف لمن تغوص قدمه في الوحل وتمتلئ شوارع قراه ومدنه بالحفر أن ينادي بتزفيت كوكب زحل؟ أليست حال المثقف العربي عمومًا والسوري خصوصًا، ولا سيما قبل الربيع العربي، مشابهة لحال الأخير؟ وكيف نادينا بتحرير المرأة وقضايا الجسد كالعذرية والمثلية وغيرهما بدون أن يواكب ذلك تطور في الوعي ولو خطوة واحدة في هذا السياق؟
ولكن، ألا تعتبر الثقافة في بلادنا، موضة أو تصفية حسابات؟ وهل سلمت من أخطبوط السياسة والسياسيين؟ أليس الصراخ بحرية المرأة أهون ألف مرة من المسّ بشخص الرئيس أو منظومة الأمن والمخابرات، وما الضير في تبنّي قضايا الآخرين ما دام ذلك لا يثير أي زوابع في حديقة الحاكم؟ وما المانع من حرف البوصلة والتعامي عن بركة الوحل التي نغوص بها؟

السؤال الأهم، ألن ندفع ثمن هذا التعامي والتعالي، ألم يصفعنا الربيع العربي؟ وتسبقنا الشعوب العربية بينما بقينا في تخبطنا وخوفنا كمثقفين، وفي المقابل من حول ربيعنا إلى جحيم؟ هل هم الساسة وحدهم؟ وما مسؤولية الفن والمثقف؟ ألم تسهم ضبابيتنا في رسم هذه النهاية التراجيديّة؟
هذه وغيرها من الأسئلة تطرحها “الروائي المريب” الصادرة مؤخرًا عن دار رياض الريس، للكاتب السوري فواز حداد، والتي تتطرق إلى الركود الثقافي عبر تفكيك العلاقة المعقدة للوسط مع السياسة. إذ يدور قسمها الأول الذي يمتد على مدار اثني عشر فصلًا، حول ظهور عمل جديد لمؤلف غامض يدعى “الروائي الشبح” فيحرك المياه الراكدة لهذا الوسط ويثير القلق في الوسط الأدبي خصوصًا أن كتبه تتطرق للسلطة القائمة وتستعيد المحطات الأهم في تاريخ سورية وخصوصًا تلك التي جرى تزويرها وطمس معالمها. ليطرح سؤالًا راهنًا، يتعلق بما آلت إليه الثقافة وسبب تأخرها وقصورها والذي سيتبين في النهاية أنه قصور أخلاقي وعماء وجداني وضمور فكري.
وعبر التأمل في حياة مجموعة من الكتّاب، الذين يراوحون بين الرمادية في المواقف الثقافية والانتهازية، يفكّك حداد المرجعيّات التي يستند إليها المثقفون. فالناقد نعمان النعمان يحظى بشبكة علاقات واسعة وهيمنة متفردة؛ “كانت رواياته تضج بأفكار معاصرة، فكانت ضد الإمبريالية ثم الشيوعية فالليبرالية فالسلفيّة الظلاميّة لكن الدكتاتوريات كانت مستثناة”. إذ يظهر من خلال علاقاته، حجم نفوذ هذا الناقد وارتباطه المشبوه بمجموعة من المخبرين وأنصاف المثقفين ومعجبين صغار يرتبطون به بعلاقة تبعيّة؛ أمّا المفكر الراديكالي: فهو سياسيّ مُتحذلق، وقد ظفر بلقب “المفكر الراديكالي” لتزمّته الأيديولوجيّ، و”كانت أفكاره السياسية الرهيبة من النوع الأممي المستورد” إذ يظهر أن النظريات التي دفنت في الغرب تجد لها في الحياة الثقافية مكانًا لتعيش كجثة، كما أن الثقافة تقوم على الوشاية والارتباطات الأمنيّة التي وصلت إلى كل شيء، فالسوس الذي نخر الجسد الثقافي طاول كل تفاصيل حياة الناس، وهذه الحياة تحولت إلى كارثة مع مجيء الوارث (في إشارة إلى الرئيس السابق بشار الأسد).
فالناقد والمفكر الراديكالي والروائي يرتبطون بعلاقات معقدة مع المسؤول الثقافي في الجمهورية، وهو بمثابة ضابط أمن الثقافة، وتتكشف من خلالها الروابط الخفية والمكائد والدسائس المشبوهة التي تجعل كل حياة ثقافية معدومة؛ إلى أن تدخل المرأة على خط السرد. فتحت عنوان “امرأة على خط الثقافية” ستبرز وضعيّتها؛ فهي إمّا طعم للمثقف يمكن أن تستغل علاقاتها به لكي تصبح مصدر تهديد له وابتزاز. كما أن علاقة الأخير بالمرأة أشبه بالسطو الثقافي الذي يمارسه على آداب الشعوب الأخرى ليستورد ما انقضت موضته، كما أن علاقة المثقف بها قائمة على التحرش والاغتصاب. إذا يتعرف الناقد إلى شاعرة صغيرة السن ويحاول الاعتداء عليها فترفضه بقوة بينما يحاول الروائي هو الآخر في فصل معنون بـ”سارتر وبوفوار”، استدراج الشاعرة مستغلًّا أفكار اليسار التحرريّة إلى عشٍّ صغير للغرام.
إذًا، “نوازع جنسية، علاقات مخابراتيّة، احتيال ومؤامرات”، تتأرجح الحياة الثقافية ضمن هذه التيارات، وحتى لو اتسمت إحدى الشخصيات بالجرأة، فهي لن تفعل أكثر من أن تجري مع التيار. إذ تتقلب إحدى الشخصيات النسائية بين مناصرة القضية الفلسطينية يومًا عبر ارتداء الكوفية، ثم نزعها حين بطلت الموضة وراجت قضايا النسويّة. وفي غمار هذا كانت الوشاية قد طاولت كل شيء، المطاعم والمقاهي واتحاد الكتاب وحتى ما يدور في الأذهان. “لولا الوشاية ما كان الوطن، ولولا الوطن لما كانت الوشاية”.
في هذه الأثناء سيتدخل القدر لتغيير تاريخ البلد والمنطقة برمّتها، هذه اللحظة التي ستكون حدًّا جديدًا للثقافة، هي: لحظة الربيع العربي، وسيرصد القسم الثاني الذي يمتد على تسعة وعشرين فصلًا وهو بعنوان “الثورة تقرع الأبواب” مواقف من يسميهم السارد “مثقفو الضباب”، الذين وفي هذه البلبلة آثروا أن يؤجلوا إعلان موقفهم متبّعين حكمة “سنستعين بالضباب”. فبالنسبة إلى كبير النقاد “لم تجد الثورة صدى في داخله مع أنّه ثرثر بها طوال عقود”. اللاّفت هنا هو الموقف منها، والذي اختصره الراديكالي بقوله لضابط أمن الثقافة “فإذا لاحظتم منا ميلانًا نحو المعارضة، فلا يشوشكم، لأننا معكم، وإذا لاحظتم ميلانًا ضدكم فلا يخدعنكم، نحن موالون لكم… ثم إننا في الداخل بمتناولكم”.
في هذه البلبلة، تفكك الرواية العلاقة بين الشرق والغرب، عبر شخصية الروائي الانتهازي الذي صار شخصًا آخر مذ ترك بيتًا من حجرٍ وطين وجاء إلى عالمٍ جديد لا يجد فيه الأبرياء والطيبون ما يقيمون به أودهم. وفي فصل “خطوات نحو العالمية” تتم تهيئته من قبل الأجهزة الأمنيّة والمسؤول الثقافي حتى يمثل البلاد “فليس من الضروري أن يكون روائيًّا مرموقًا أو يعتدُّ به، الأهم درايته بالكلام كمتحدّثٍ لافت”. كان استثمارًا جيدًا فهو روائي طليعي وحضاري وحداثي معًا، ما يشكل “ضربة للمتخلّفين الإسلامييّن أعداء الحضارة”. وعبر ارتباطه بخطط كبيرة وبأجندة غربية يقودها باتريك الذي يعلمه بضرورة أن تكون “روايتك القادمة عن المثلية”، ولكن الشرط الوحيد لإنجاحه وإيصاله للعالمية هي أن يخوض التجربة الجسدية مع أنها تتعارض مع طبيعة الأخير وقناعاته.
لكن ممثل الثقافة أو العميل الأمني يهدئ من روع الكاتب قائلًا “إنها مسألة تظاهر فقط، يشترطون علينا أمورًا كثيرة، مثلًا تمكين المرأة فنتظاهر بتمكينها، وألاّ تلبس الحجاب فنشجع على السفور. ألاّ نقيم وزنًا لعذريّة الفتاة فلا نهتم للعذريّة”.
يعكس الحوار الذي دار بين باتريك والروائي هذا النزوع للسيطرة وتوجيه دفة الكتابة والنقد، فالشهرة التي أوصلوه لها لم تكن بلا ثمن، والثمن الذي يريدونه منه أن ينبطح… هذا خيار الشهرة إذا أردتها ولا خيار، “هذه الرواية لنا، وليست لكم، إنها لتكريسك كاتبًا عالميًّا في عالمنا، ممّا يُخضعك لاشتراطاتنا”.
وما ذهاب الروائي إلى لندن صاغرًا وراضيًا بشروطهم، سوى بداية نهايةٍ، فالرضوخ لطلبهم لا يعني سوى بداية تنازل وتلبية مطالب تبدو وكأن الشيطان الذي لا يشبع قد صاغ بنودها. لقد وافق أن يكتب ضد قناعاته، وأجبر على أن يعيشها، لكنه عزّى نفسه في النهاية بأنه قد خسر كل ما يمكن أن يتمسك به، فالتمرير إلى العالمية يعني الانبطاح للشروط الثقافية للغرب، وللدور الذي يريدون من المثقف أن يقوم به من خلال الكتابة طبقًا لشروط غربية وشاذة.
تتجاوز الرواية الراهن الثقافي إلى تشعبّاته، والمياه المالحة التي يتغذّى عليها، ورغم أنها تبدو أفكارًا بريئة بادئ ذي بدئ ولكنها كتبت بحبر أسود، فقد بهتت موضة اليسار والنسويّة لتظهر قضايا أشدّ حساسيّة وخطورة ولتحرف الربيع العربي عن مساره، فتحطم سور حديقته. فمن شيطنه؟ ومن سرق زهرة الحرية النادرة لتظهر تلك الطفرات الغريبة والنتوءات الشاذة والبثور المتقيحة في جسده. ربما تلخّص عبارة كبير المراقبين المكلف من القصر بمراقبة الثقافة ما يريد العمل قوله: “أيها السادة نحن الذين حوّلنا الربيع العربيّ إلى جحيم عربيّ”…
*كاتبة سورية.
ضفة ثالثة