منوعات

الهامش والفاعل…سوسن أرشيد نموذجاً/ نوار جبور

الإثنين 2025/03/31

لم تكن التجارة والاقتصاد حلمًا جذابًا لسوسن أرشيد، بل كان المسرح منذ طفولتها مصدر إلهام عميقًا. انتماؤها لأم روسية وولادتها في سانت بطرسبرغ تركا أثرًا واضحًا على تكوين شخصيتها، ولم ينعكس ذلك في ملامحها فحسب، بل في حضورها المسرحي أيضًا. هذا البعد ظلّ متجذرًا في تعابير وجهها، مما دفعها إلى خوض غمار التمثيل المسرحي، مسلحة بخلفية ثقافية وفنية ثرية.

انعكس هذا التكوين في اختياراتها الدرامية، إذ بدأت مشوارها السينمائي في فيلم عن الحب مع المخرج وليد حريبت، وفيلم “الهوية” مع غسان شميط. قبل أن تشق طريقها إلى الدراما التلفزيونية عبر “مرايا”. وكما كان مرايا محطة أساسية للعديد من الفنانين السوريين، لم تكن تجربتها فيه مجرد خطوة عابرة، بل بصمة طبيعية ضمن مسيرتها، حيث امتلكت جمالًا عفويًا بعيدًا عن الإبهار المصطنع، ينبع من مزيج خاص بين براءة الطفولة وعمق النضج في آنٍ واحد.

حمل ظهورها الفني قيمة البراءة الكاريزمية، حيث جذبت الجمهور دون تصنّع أو استعراض، بل عبر اندماج صادق بين الشخصية والأداء، مدعومًا بشفافية عاطفية تلقائية. وكان لإيقاعها البطيء المدروس بصمة خاصة، منح حضورها طابعًا متفردًا ظل راسخًا في ذاكرة المشاهد.

لم يكن وجهها أمام الكاميرا مجرد نتيجة للصورة، بل حاملًا لعمق درامي فريد. كان الصمت لديها أكثر من مجرد غياب للكلام، بل حالة شعورية تنطق قبل أن تُقال الكلمات، مما منح أداءها قدرة خاصة على نقل التحولات الدرامية المعقدة دون افتعال أو تصنع. لم تكن ملامحها أداة تجميلية للمشهد، بل عنصرًا روائيًا يظهر ثقل الشخصيات التي جسدتها، خاصة في لحظات التحول والانفعال الصامت.

في رحلتها الدرامية، كانت شخصياتها امتدادًا لقناعاتها ونظرتها الفنية، حيث أضفت عليها أبعادًا إنسانية ودرامية خارج أي محاولة للتقييم المعياري أو الأخلاقي الشعبي. فأجادت تجسيد الأدوار المركبة، مقدمةً نماذج نسائية واقعية يعمد المجتمع إلى إقصائها أو تهميشها ومحاسبتها أحياناً من خارج بنية العمل. هنا لم يكن التمثيل مجرد أداء، بل مسؤولية فنية حملت في طياتها رؤية اجتماعية وأخلاقية والتزام بشخصية فنية تعرف تأثير النجومية على بنية الشخصية عموماً، إذ لم يقتصر نجاح الدور على تجسيده دراميًا، بل في تحويله إلى مرآة لصراعات المجتمع، بعيدًا عن التصنيفات الجاهزة أو القوالب التقليدية.

لم يكن اختيارها للأدوار الجريئة محكومًا بالمفهوم الاستهلاكي للجرأة، بل كان خيارًا مدروسًا وسياقاً لخدمة قضية اجتماعية ودرامية، ظهر بوضوح في أعمال مثل “الخبز الحرام” و”تخت شرقي”. لم يكن أداؤها مجرد محاكاة للنص، بل انعكاسًا لتوترات وجدانية ظهرت في ملامحها ولغتها الجسدية، مما جعل حضورها متماهيًا مع سياق الشخصيات وليس مجرد محاولة للفت الأنظار.

هكذا، لم تكن الجرأة في أدائها تصنيفًا نمطيًا، بل تأويلاً نقديًا للصراع الاجتماعي، حيث لم تتحول إلى استعراض مفرغ من المعنى، بل كانت تُقدم الشخصيات لكشف طبقات عميقة من القهر والاختناق الاجتماعي والاختلاف أيضاً، بعيدًا عن أي افتعال أو ابتذال أو تعبيرات شخصية أو مقابلات تُشير إلى أن النجومية تُبنى لما تختارهُ من أدوار. تركت سوسن أثراً منهجياً لمفهوم الجرأة ضمن بنية درامية واعية، حيث لا يكون التمثيل مجرد وسيلة جذب، بل فعلًا تحليليًا يعيد صياغة الأسئلة المطروحة على الواقع. قبل هذا كانت تجربتها في مسلسل كسر الخواطر ذات أهمية كبيرة بالنسبة لسوسن على الساحة السورية، ليس فقط بسبب الطبيعة المركبة للدور الذي جسدت فيه شخصية خجولة نشأت في بيئة مغلقة ومحدودة، بل أيضًا لقدرتها على التكيف مع بساطة الشخصية وإبراز التعبيرات القلقة والخائفة. لقد قدمت شخصية عاطفية تسعى إلى الحبّ، لكنها تعيش في ظل اضطراب وخوف دائم من قسوة الأب. من خلال هذا الدور، جسّدت سوسن الكثير من النماذج السورية المضغوطة تحت سطوة النظام الذكوري، وهو ما يتناقض تمامًا مع شخصيتها الحقيقية، مما أظهر قدرتها التمثيلية على تجسيد شخصيات تختلف عنها تمامًا.

وصلت سوسن إلى حدود العام 2011 محمّلة بتجارب شكلت بصمتها الخاصة في الدراما السورية. لكن هذا العام لم يكن مجرد محطة جديدة، بل كان كشفًا قاسيًا فرض على الجميع مواقف فاصلة. فجأة، وجدت نفسها على لائحة التصنيف السياسي التي أعدّها النظام، ليدخل الفنانون في دوامة الاستقطاب الإعلامي. أراد النظام تحويل كل فنان إلى جزء من دعايته السردية، تلك السردية التي تشكّل بصمة الولاء، لتُضاف إلى أرشيفٍ من الأسماء التي لا يُسمح لها بالحياد أو الغياب.

كانت الدعوات الموجّهة لسوسن مكررة وضاغطة: “اظهري على التلفاز الرسمي، قولي شيئًا، عبّري عن ولائك”. لكنها، مثل آخرين، أدركت أن الخضوع لهذا المشهد الدعائي ليس مجرد إعلان موقف، بل إقرار ضمني بالانتماء إلى رواية سياسية لا يمكن التراجع عنها. كان على سوسن أن تدخل في صراع جديد ضد التشييء، فلم تتشيّأ من جرّاءِ شهرتها أو أدوارها الجريئة، ولم تتحول إلى أداة دعائية للنظام. رفضت أن تفقد ذاتها لمصلحة أي استثمار سلطوي، وظلّت ممسكة بخيطها الرفيع بين الفن والكرامة، وهنا كانت واحدة من قلائل الفنانات السوريات اللواتي وضعن الاختيار الأخلاقي في معادلة القيمة والأثر في صنع الشخصية.

لكن هذا الاختيار لم يكن بلا ثمن. بعد سنتين من الثورة، وحالات القلق التوقعي التي لا تنتهي من تحول التهديدات والعنف إلى واقع قد يصيبها، خضعت لابتزاز بتهديد الأولاد، وما شكله التهديد من عقدة ذنب قسرية جعلتها تشعر بأنها المسؤولة عن احتمال تعريضهم للخطر. في النهاية، كانت استجابتها قهرية، حيث وجدت نفسها أمام خيارين حتميين: إما المواجهة والموت، أو الهرب والنجاة. لم يكن الهروب مجرد قرار شخصي، بل كان محكومًا بتهديد أكبر، إذ كان التهديد بالأولاد أقوى أسلحة النظام في إخضاع المعارضين. لم يكن أمامها إلا خيار الرحيل، لتبقى شاهدة على مرحلة لم يكن فيها للفنانين ترف الحياد أو النجاة من دون خسائر.

بعد خروجها إلى فرنسا، تعرضت سوسن لهجوم كبير من الإعلام السوري. فمنذ إعلانها موقفها المعارض للنظام، واجهت وابلًا من التخوين والانتقادات اللاذعة. لم تحظَ أعمالها الفنية بكثرة في الخارج، نتيجة للصعوبات المرتبطة ببدء حياة جديدة في فرنسا، حيث لم تكن تلك الأيام سهلة عليها، كما تعكس منشوراتها وتعبيراتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. حيث التغيرات التي تطرأ على الإنسان لا تُصعب حياته فقط، بل تضيف آلاماً جديدة وصعوبات جديدة على الإنسان تخطيها.

لم يكن خروجها من سوريا خيارًا طوعيًا، بل كان خيارًا أخلاقيًا، يتقاطع مع سؤال الهوية والتجربة من نحن؟ وماذا نريد أن نمتلك؟ هل نستطيع أن نفقد بسهولة ما نحنُ فيه؟ وهو السؤال الذي يطرحه إريك فروم بوصفه معضلة أخلاقية لدى المشاهير والمالكين للسطوة هل نستطيع التنازل عن كل هذا من أجل موقف أخلاقي؟ عموماً في المدّة الطويلة في فرنسا التي بدأت اشتغلت سوسن على عمل درامي “سرايا عابدين” في جُزئيه، حيث قدمت فيه تجربة نوعية أيضاً، يُمكن ملاحظة هذا من درجات تحكمها في الجسد، والصوت وطرق الأداء في عمل درامي ضخم بعد انقطاع مرحلي، وصولاً لمرحلة الفيلم الذي أخذت فيه جائزة أفضل ممثلة في مهرجان فانكفور في كندا العام 2019.

في فيلم تدور أحداثه خلال يوم سوري عادي، يصبح البحث عن جرة غاز خيطًا سرديًا يظهر تعقيدات المشهد السوري. قدّمت سوسن أرشيد أداءً مُلفتاً، حيث استطاعت وضع قدرتها التعبيرية الجسدية والانفعالية في كل مشهد، من الغضب المتوتر تجاه الأشياء المادية، في مشهد قاسي لضرب الغسالة وتقديم لوحة مؤلمة لانفلات حر وقاسِ للبُعد الجسدي الدرامي، ثم الصمت والدهشة والخوف أمام الفراغ الذي خلّفه غياب البشر حيث مشاهد اختفاء البشر والقلق عليهم سيسوده الصمت.

كان جسد زينة ووجهها في الفيلم يظهران خبرتها وقدرتها، فصنعا فضاءً شعوريا معقّداً، يعكس مركزية التواجد الأنثوي في البُعد السوري. تنوّعت علاقتها مع الجسد تبعًا للظروف المحيطة: مع الابن الذي يمثل الامتداد، مع الزوج الغائب كرمز للانفصال، مع الوجوه السورية التي تحتشد من أجل كل شيء لمحاولة إنفاذ البشر، ثم زمن الجميع الذي ينتظر في حالة زمنية معلّقة، ثم في المشهد الأشد كثافة، مع الجثة التي تجرّها كمحاولة لكسر فك الغياب ولو عبر الجثة، كأنها تسحب سردية الغياب نفسها، رافضة الاعتراف بها كقدر لا مفر منه.

بسيناريو محكم، استطاعت زينة أن تبني سردية بصرية قوية عن الأنثى السورية في أشد حالاتها هشاشة وقوة في آنٍ واحد، موازنةً بين مقادير الخوف، الترقب، والصمت. كثيرًا ما ناسبتها اللقطات السينمائية المركّزة على تعبيراتها، حيث اعتمد الفيلم على زمن الانتظار، المشحون بالتوتر الداخلي، الذي يعلّق الشخصيات في حالة من الترقب واللاأمان، خصوصًا في المشاهد التي يتباطأ فيها الزمن الفعلي بينما يزداد ثقل المشاعر والانفعالات.

المجاز البصري كان حاضرًا بقوة في الفيلم، حيث لم تكن اللقطات مجرد أرشفة لما مر به السوريون، بل أدوات لترميز الصراع النفسي والاجتماعي. مشهد جرّ الجثة لم يكن فعلاً جسدياً لمشهد سينمائي، بل تجسيدًا بصريًا لصراع الأنثى السورية، التي تبذل جهدها لاستعادة ما فُقد، حتى لو كان مجرد جثة. الجثة هنا رمز للفقدان القسري والغياب المفروض على السوريين. الكاميرا التقطت هذه اللحظات لنشاهد أنفسنا أحياناً ولكي نغار من مشهد اللقاء ولو مع جثة، ما جعل المشاهد يشعر بالعبء النفسي الذي تحمله الشخصية، قبل أن تتحول إلى لقطات بعيدة (Wide Shots) تعكس عزلة زينة في فضاء موحش، خالٍ من البشر لكنه مشحون بالغياب والموت.

هذا الفعل، في سياقه الدرامي، كان يحرّر سردية الغياب القسري، حيث يصبح حمل المفقود والتشبث به رفضًا قاطعًا للاستسلام لفكرة الموت، الاعتقال، القتل، والاختفاء. الفيلم لم تعتمد فيه زينة على الحوار بقدر ما اعتمدت على اللقطات المركّزة، والإيقاع البصري المتدرج لظهورها، وزمن الانتظار الذي يجعل الصمت أكثر صخبًا من الكلمات، مما جعل الأداء السينمائي لسوسن أرشيد أداة رئيسة في تفكيك المشهد السوري، وإبراز حالة الأنثى العالقة بين قدرٍ من الغياب لا ينتهي.

الأهم في الخيار الأخلاقي لسوسن أنه لم يكن محاولة للتمايز عن السوريين المواليين أو الفنانين المواليين، بل كان تعبيرًا عن تفرد الذات في مواجهة فقدانها لممكناتها ورغباتها، من جهة أخرى، لم يكن الإنتاج الفني العربي متحمسًا دائمًا لإدماج الفنانين الذين خرجوا عن النظام في أعمالهم. بل كان هناك اتجاه واضح – حتى بين الفنانين المعارضين – إلى التمييز بين من يُبقي معارضته في إطار الصمت، ومن يصرّ على موقفه العلني الصريح. بدا وكأن الصمت أو الموالاة خياران أكثر أمانًا لاستمرار الدعم الفني والمهني، ما جعل سوسن أقرب إلى حالة الأصالة الإنساني حتى أنها لن تُنشئ لها بُعداً سياسياً مباشراً، أبقت على الكثير من الإنساني فيها والبسيط الذي يحمل في عمقه بُعداً خاصاً، حيث أبقت على حضور محدود ولكن عميق، متصلة بالسوريين في مختلف فئاتهم، من الثوار والنشطاء إلى المثقفين والفنانين المستقلين.

لم تسعَ سوسن إلى إنتاج صورة استعراضية تعكس شهرتها أو موهبتها الفنية بأسلوب استهلاكي، بل اختارت الانخراط في العمل الصامت مع الهامش الاجتماعي، دون أن تكون لحوحة في الظهور أمام الجمهور الكبير. حتى إن السردية تكتمل في بداية جديدة، فلم تكن سوسن منتظرة لتغيير النظام فقط، من الشهر الثاني لم تُخف انتقاداتها للنظام الجديد.

لمرتين أنتجت سوسن أرشيد سرديتها الخاصة، حيث لم تُعد إنتاج فنها وأنوثتها كخطاب للسلطة، ولا حتى كنجمة استعراض من جرّاءِ أدوارها، ثم استطاعت أن تظهر كهامش فاعل، بدلاً من التمركز في قلب نجومية فيها مقدار من الدماء. البقاء في الحضور الهش لم يمنعها من تقديم تجارب داخل أعوام الثورة كمسلسل عام 2014، وفيلم حازت فيه جائزة. وصولاً لسقوط النظام، كان على النجاة الأخلاقية أن تتمثل ظهور إعلامي لها أن تظهر باكية، دون انتقام، ودون تمايز على أي أحد. كان كل شيء يعتصر في داخلها لتبكي فقط انتصاراً بسقوط طاغية تلاعب بكل ما يملكه الإنسان من معنى.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى