بينما أدوّر في علبة ألوان العيد…أضعتُ الوردي/ نور السيد

الأحد 2025/03/30
كان عيدنا يبدأ منذ العشر الأخير من رمضان. تجهيزات العيد الأولية: تنظيف المنزل وشراء لوازم العيد، لا سيما الملابس الجديدة. بحُكم طبيعة عمل والدي التي غيّبته معظم الوقت، كان عمي يصطحبني مع أولاده إلى الشام نعاين أسواق دمشق، نجوبُ كلِّ سنتمترٍ في شوارعها. تفرّد عمي بميزة لا تتوافر عند أقرانه: صدر رحب للتسوّق. باب توما، الحمرا، الصالحية… وقد يعود ويعجبني شيء في باب توما، لم يكن قد أقنعني في الجولة الأولى، فنعود أدراجنا لنبتاعه… سيراً على الأقدام بالتأكيد. كلّما استنجد أحدنا بعمّي شاكياً توّرم قدميه، قال بهدوء: “المشي رياضة”. ثم نصل شارع بغداد حيث بيت جدي، منهكين تماماً، وفي انتظارنا درج لأربعة طوابق، وهنا قد يبدأ أحدنا بالبكاء فعلاً!
نفرد بضاعتنا ليستحيل البيت سوقاً، ونقيس الجديد طبعاً للمرة الثانية، إذ أن عمي لا يشتري قطعه قبل أن تُقاس وتُعاين بدقّة وكأنه موظف في خط إنتاج التصدير. يعطي التعليمات بشأن تقصير البنطال، وبنفسه قد يضع دبوساً أو اثنين. حين أشكو ضيق حذائي الجلدي الجديد، يقول بأنه سيفرق ويكبر مع الوقت، فأهز برأسي مع شئ من الدلال.. أكتب كل هذا الماضي الجميل وفي الخاطر سؤال: ما الذي بقي من تلك الذكريات لأورثها لأبنائي؟ جعلت الحرب حاجزاً بين الفرح والأعياد، القليل منه كان كافياً ليسعد أطفالنا وبحسرة نقول: “إيييه مساكين وين عيد اليوم من عيد زمان!” لربما هي الحسرة ذاتها التي زفرها أهلنا.
طحين فرخة
ثم يحين شراء لوازم المعمول، من طحين فرخة وزيرو وكندي. كنت أسمع مسميات الطحين الكثيرة وأستغرب. قد يستغرق انتقاء الجوز الجيد والفستق الحلبي، يوماً كاملاً، هكذا كنت أعتلي صهوة الوقت الرمضاني مع عمي، وكان جزئي المفضل ذاك المتعلق بسوق البرزورية، حيث يلمع البنبون والشوكولا والملبّس والفاكهة المجففة، فيخيّل لي أني في مدينة ألعاب تبرق أضواؤها ابتهاجاً بنا. لم أذكر أني اصطحبت ابني يوماً ليواعد العيد هناك قبل أوانه، وأسأل نفسي: لماذا؟ رغم إقامتي في دمشق، والأسواق التي كان عمي يتحمل مشقّة السفر إليها قريبة مني! إذاً هي الروح التي فقدت ألوانها وأبقت على أسودها وأبيضها، فالحرب لم تترك لنا هناءة نسعى إليها.
جوز الهند وقوالب الزبدة والبن غير المحمّص وحبّات الهال والمستكة:”هل نسينا شيئاً؟”، يكرّر عمي. هناك يوم سمّاه “يوم الجوارب”، حينما يعدّ أفراد العائلة الكبيرة مستذكراً معه ألوان ثياب الصغار لاختيار ما يلائم من ألوان. ابتياع كيس ضخم من الجوارب كان من طقوس العيد الذي لم يستغنِ عنها العمّ حتى الآن. وقد وصلتني منه جوارب منذ زمن قريب، فبكيت من دون قصد. ها أنا الصغيرة المتعربشة على حافة عربة الجوارب الضخمة، أنتقي لوني المفضل. غدوتُ أُماً ولم ينسَ العمّ أن يبتاع لي جوارب العيد. أستشعر فرحة طفلي كلّما أرسل له عمّه ثياب العيد، أصدّقها، فقد مرّت طفولتي كلّها تحت مظلّتها الوردية.
الغنائم في أيدينا الصغيرة، نتجه إلى المنزل الكبير منهَكين فرحين مُبشّرين العمّة بكامل لوازم الحلو. كلّ فردٍ من أسرتنا الكبيرة اختصّ بمهمة. العمة تعجن قوالب الزبدة مع السكر المطحون، أقراص الحليب مع توابلها. الغْرَيبة مع مشاقها، تقول العمة: “ضعوها في البراد فأم فلان نصحت بذلك لمنع التشقق”. المعمول بأصوات قوالبه الخشبيه تنثر صوت الفرح في الدارة الكبيرة.
في وقفة العيد، يزداد قلبي الصغير خفقاناً، فالموعد اقترب! تعجن العمة وتخبز على تنور الفناء الخلفي، مساءً تدهن أقراص السمن ويملأ عمي الأصغر جرة الفخّار بحبات الفول، يغطي فوهتها بالعجين والشاش ليبيتها ليلة كاملة في أحضان جمر التنور.
حنّاء وبنبون وورقة نقدية مكوية
حمّام العيد، بعده مباشرة تجهيز سلات البنبون وتذوّق جديد العام: طعم البنفسج، كراميل النسكافيه، الموالح في صحونها المقطعة، الفاكهة على الطبق الكبير بأسلوب فني. نحمل الأطباق متسابقين إلى الصالون. وإذا ما بدأت العمة بجبلِ الحنّاء لأيدينا الصغيرة نسارع إلى شجرة “الفلفل” العملاقة عند مدخل البيت، لينتقي كلٌّ منا ورقته ويبلّل كفّه بالماء ويفرد الورقه فيه منتظراً دوره.
أعيد حساباتي، من أين سأجلب لطفلي كل هذا؟ لعلّي أصطحبه للأسواق، إلا أن أمان العائلة الكبيرة لن يحضر وقد شرذمت الحرب ذوي القربي في كل بقاع الأرض.
كانت بهجة العيد تتوارى في كل شئ، في أكوام الآس، في ترانيم جرن القهوة. وتبقى صورة جدي بالقضاضة البيضاء يحمّص حبات البنّ، هي العيد. ابتسامته وهو يفرغها على الجريدة بعدما اسودّت، هي العيد. الورقة النقدية المكوية الذي يتعمد عمي أن تكون من المصرف لأيادينا، والتي أخشى أن أطويها فتخسر من جمالها.
مَرَق المخلل
جلّ ما أخشاه هو تلك الديمومة في خسران البهجة، “الليلة الكبيرة” كما سمّاها صلاح جاهين، تتماهى في الصغر. فرغم كل ما حملت جعبتي من فرح مكثّف قطّرتُ بعضه هنا، إلا أن لأمي حسراتها لأني لم أعش فرحة أعياد طفولتها. فالمدينة كلّها تتزين ليلة العيد، الثياب وقد استُلمت من الخياطة، المعمول المخبوز في فرن الحيّ الذي نظم دور الصواني، وفي الصباح تتزين تُرب دمشق بالآس الأخضر. تقول أمي أن صديقتها المسيحية كانت ترتدي جديدها أيضاً وتشاركا بهجة العيد، كذلك فعلت أمي، ثم انتبهت أن ضيافتهم تختلف قليلاً عن ضيافة أعياد المسلمين، عندها فقط أدركت بأنهما عيدان مختلفان. أراجيح للصبايا داخل بيوت دمشقية، سيارة مكشوفة “هونداية” تأخذ الأولاد في نزهة قصيرة، مرق المخلل الذي يتهافت الأطفال لشرائه، تضحك أمي وتقول إنها لا تفهم ما الذي يعجبنها ويفرحنا به لهذا الحدّ، وهو مرق مخلل وردي اللون وكفى! كذلك عربة الفول النابت وبوظة بكداش في الحميدية، وكركوز وعيواظ – خيال الظل المنتشر في الحواري، والنوبة.
كانت تلك مسلّمات العيد آنذاك، والأرجح أنها لن تعود. يلعب أطفالنا اليوم بالألعاب النارية، يصوّبون مسدساتهم وبواريدهم البلاستيكية على رؤوس بعضهم البعض ويطلبون الاستسلام. ينتحلون الأبطال. مسلسلات رمضانية بألفاظ ومتلازمات تتبدّل كل عام، وأولادنا يتبنون تسريحات شعر يرونها في التلفزيون، وموضة ألبسة، ثم يجوبون الحواري تائهين يبحثون عن ألوان عيد ولّى ولم يدروا عنه.
المدن