سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعصفحات الثقافة

حيادية الدولة والهُويَّات المجتمعية/ عبد الباسط سيدا

01 ابريل 2025

العلاقة بين مؤسّستي المعبد والقصر قديمة، تعود بجذورها إلى أيّام الحضارات السالفة التي شهدتها منطقتنا ومناطق أخرى في العالم. وتذكر في هذا السياق على سبيل المثال لا الحصر، حضارات مصر وبلاد ما بين النهرين والهند والصين وغيرها. وغالباً ما كانت السلطة الفعلية بيد القصر في حين أن وظيفة المعبد كانت تتمثّل في إضفاء الشرعية على سلطة القصر، وتسويقها، وإحاطتها بهالة من القداسة عبر طقوس محدّدة، كانت تُؤدّى في أوقات بعينها، وهي طقوس تحوّلت لاحقاً أعياداً أو مناسبات دينية، غدت مع الوقت عنصراً أساساً من عناصر الثقافة المجتمعية، وبعداً رئيساً من أبعاد تحديد الهُويَّة المكتسبة الخاصّة بهذا المجتمع أوذاك. ولكن على وجه العموم، كان العاهل أو الأمير أو الحاكم في القصر يتمتّع بصلاحيات مطلقة في ما يخصّ أمور إدارة الدولة، في حين أن الكاهن الأكبر كان يتمتع بامتيازات وصلاحيات واسعة ضمن المعبد، شرط ألا يتجاوز حدوده، ويلتزم بما يأمره به الحاكم، بغضّ النظر عن اللقب الذي كان يحمله.

وفي حالات احتدام المنافسة بين المؤسّستين، كان العاهل يُعلن نفسه إلهاً ليقطع الطريق على الكهنة، ويُفشِل مساعيهم من أجل الوصول إلى الحكم أو فرض السلطة على الحاكم. هذا ما حدث، بل تحوّل عرفاً في مصر، كما حدث في بلاد النهرين في عهد الملك الأكدي نارام سين. وفي حالات معيّنة كان العاهل يحرص على وضع ابنته في المعبد لتتحوّل كاهنةً متنفّذةً، تراقب الأوضاع الداخلية في المعبد وتمارس التأثير. وفي حالات معينة كان الكهنة يستغلّون ضعف الحاكم، فينقلبون عليه، ويسطيرون على الحكم، أو يفرضون على العاهل شروطاً تعزّز سلطتهم. ولكن بصورة عامّة كان القصر هو صاحب القرار في شؤون الحكم والسياسة والقضايا الدنيوية، في حين اقتصرت وظيفة المعبد على القضايا الدينية.

واختلف شكل العلاقة بين الدين والسياسة مع قدوم الديانات السماوية، لا سيّما في ظلّ اليهودية والإسلام في بدايات ظهورهما، وذلك من جهة الجمع بين وظيفتي النبوّة والحاكم. أمّا بالنسبة إلى المسيحية، فقد عرفت هذه الظاهرة لاحقاً، بعد أن تمكنّت مؤسّسة الكنيسة من امتلاك مختلف الأوراق التي منحتها القوّة، التي تؤهّلها لفرض رأيها على الحاكم، أو حتى انتزاع وظيفة الحكم وممارسته من خلال البابا، ومن يفوّضهم من رجال الدين في الكنيسة لمساعدته في القيام بمهامه. وبعد قرون من التناحر والصراعات بين الدول الأمبراطورية ذات الأيديولوجية الدينية في أوروبا خاصّة، كانت معاهدة وستفاليا عام 1648، التي أسّست لظهور دول هي أقرب من جهتها الدلالية إلى مفهوم الدولة في عصرنا الراهن، وما تميّزت به الدول المعنية هو التزامها الانتماء القومي عوضاً عن الانتماء الديني أو المذهبي. هذا مع استثناءات هنا وهناك، من ناحية التركيز في الطابع المذهبي أو حتى الديني في المقام الأوّل، خاصّة في منطقة البلقان؛ وفي أوروبا نفسها بصورة عامّة، بعد أن أرغم التحوّل نحو المذهب البروتستانتي كثيرين على الهجرة إلى أميركا، وكان ذلك تحت وطأة أمل الحصول على فرصٍ معيشية أفضل هناك. وفي هذا الأجواء تبلورت مختلف النظريات القومية التي ساعدت الحكّام في عملية التحرّر من سيطرة البابا الكاثوليكي، من خلال التوافق على ضرورة احترام مبدأ السيادة، والتوجّه نحو بناء الدول القومية، والدخول في تنافس وصراع قوميين مع القوى الأوروبية الأخرى في ميدان التسابق من أجل السيطرة على المستعمرات، حيث الأيدي العاملة الرخيصة والثروات الباطنة، والتحكّم بالممرّات المائية وطرق التجارة العالمية. وكانت حصيلة هذا التنافس والصراع حربَين كونيتَين أسفرتا أوروبياً عن تجاوز مفهوم الدولة القومية، والتوجّه نحو الدولة المدنية الحيادية، هذا رغم استمرارية وجود التوجّهات القومية والعرقية بصيغها المختلفة: من نازية وفاشية وعرقية استعلائية تجاه المهاجرين على سبيل المثال، ولكن التوجّهات والنزعات أو الأيديولوجيات المذكورة، فقدت مع الوقت شعبيتها، ولم تعد تمثّل اليوم العامل الحاسم في اللوحة السياسية الأوروبية.

أمّا في منطقتنا فقد أدخلت دولها، التي كانت موجودةً قبل الحرب العالمية الأولى، التعديلات على أنظمتها ومؤسّساتها، لتصبح أقرب إلى النموذج الأوروبي الذي اعتبرته النموذج الحداثوي المنسجم مع العصر. بينما تشكّلت الدول الأخرى وفق مقاييس الدول المنتصرة في الحرب، ويُشار هنا على وجه التخصيص إلى كلٍّ من فرنسا وبريطانيا، هذا رغم الاستثمار البريطاني في التوجّهات القومية، بينما ركّزت فرنسا في موضوع الأقلّيات الدينية، خاصّة المسيحية، وذلك وفق حسابات ومصالح كلّ طرف.

ومع حصول دول المنطقة على استقلالها، واستفحال الخلافات بين أجنحة السلطات المحلّية، التي حكمت الدول المعنية بموجب توافقات مع الدول المستعمرة ذاتها، أو تفاهمات القوَّتَين العظمين، اللتين فرضتا نفوذهما في الساحة الدولية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (ويُشار هنا إلى الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي)، باتت الأيديولوجية القومية المطعّمة بنكهة اشتراكية أداةَ الشرعنة بالنسبة إلى الأنظمة الجمهورية العسكرية، بينما كانت الأيديولوجية الدينية الإسلامية، والدعوة إلى إحياء دولة الخلافة الإسلامية (بصورة أساسية) أيديولوجيا خاصّة بالمعارضة الإسلامية. وفي الحالتَين، كان ما يطرح من الحكومات ومعارضاتها يتجاهل الواقع الدولي الجديد، ومحدودية الإمكانات، والحاجة إلى التكيّف مع توجّهات العصر ومقتضياته، إلى جانب ضرورة التكيّف مع معطيات الوضعية الجديدة في الصعيد الداخلي.

واليوم، وبعد مرور نحو ثمانية عقود من الإخفاقات التي أعقبت الاستقلال، يُلاحظ أن غالبية دول منطقتنا ما زالت تعاني وطأة الأيديولوجيتَين المعنيتَين، رغم تعرّض الأيديولوجيا القومية لإخفاقات كبرى (هزيمة يونيو1967، والخلافات الوجودية بين نظاميّ البعث في سورية والعراق على سبيل المثال) أثّرت في شعبيتها، وأسهمت في ابتعاد النخب الفكرية عنها. هذا بينما تصدّرت الأيديولوجية الإسلامية المشهد، لا سيّما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ورفع الغطاء عن الأحزاب الشيوعية، لتعلن أن الإسلام هو الحلّ، من دون أن تراعي الحاجات الحقيقية لمجتمعاتنا، ومن دون أن تفصح عن سرّ البلسم السحري، الذي وعدت به، بناءً على توجّهات تعبوية لم تأخذ المتغيّرات المحلّية والإقليمية والدولية بعين الاعتبار.

ومن نتائج هذه التحوّلات الأيديولوجية الكبرى، التي أثّرت في واقع دول ومجتمعات منطقتنا في يومنا الراهن، لا سيّما في سورية، ظاهرة اتساع الشرخ الحاصل بين أصحاب التوجّهات المدنية العلمانية من جهة، وأنصار التوجّهات الإسلامية من جهة ثانية. فبينما يرى الفريق الأول في الثاني، لا سيّما من هم أتباع التيّارات المتشدّدة التكفيرية، خطراً يهدّد الأمن الوطني والسلم المجتمعي، يرى الفريق الثاني في الأول ملاحدةً، يمثّلون خطراً يهدّد الهُويَّة المجتمعية والقيم الإسلامية. وفي الحالتَين، يبدو أن الأحكام العامّة والصورة المسبقة المتخيّلة، فضلاً عن النزعات التنافسية، هي التي تساعد في إطلاق هذه الأحكام المتشنّجة التي يتّخذها كلّ فريق في مواجهة الآخر. ولهذا لا بدّ من تحديد مضامين المصطلحات ذات العلاقة حينما نبحث في إمكانات التعايش بين الإسلام والعلمانية. فالجماعات الإسلامية تختلف في ما بينها من جهة تعريفها لطبيعة الإسلام الذي تدعو إليه، ويشار هنا إلى إسلام الصوفية وإسلام الفقهاء، والإسلام السياسي بصيغه المختلفة. هذا إلى جانب التديّن الشعبي المعتدل غير المُسيَّس، أو إسلام السوق (إسلام البيزنس)، على حدّ تعبير الراحل صادق جلال العظم. والعلمانية هي الأخرى لها أشكال مختلفة، تراوح بين العلمانية المتوحّشة، التي سادت فرنسا والاتحاد السوفييتي؛ والعلمانية المعتدلة، التي تتمحور بصورة أساسية حول مبدأ الحيادية الإيجابية للدولة تجاه سائر مواطنيها وجماعاتها الفرعية، وهي الحيادية التي تتشخّص في عدم التدخّل بأيّ شكل من الأشكال في عقائد المكوّنات المجتمعية، بل تحترم خصوصية كلّ مكوّن، وتوفّر الظروف المناسبة ليتمكن أتباع كلّ عقيدة من أداء عباداتهم وطقوسهم، وممارسة حرّية التعبير بكلّ أريحية واحترام.

هذا النموذج هو السائد حالياً في دول أوروبا الغربية، وما زال معتمداً إلى هذه الدرجة أو تلك في كلّ من تركيا والهند وماليزيا وإندونيسيا. وحتى تتمكّن الدولة من أداء دورها الإيجابي، وواجباتها، تجاه سائر مواطنيها من دون أيّ تمييز على أساس الدين أو المذهب أو القومية أو الفكر، لا بدّ أن تُعامل (وتقدّم نفسها) على أنها مجرّد جهاز إداري على مسافة واحدة من الجميع. مهمّة هذا الجهاز تقديم الخدمات لسائر المواطنين من دون أيّ تمييز، إلى جانب احترام خصوصياتهم الدينية والمذهبية والقومية والفكرية، والإقرار بسائر الحقوق المترتبة على ذلك. أمّا الإصرار على وضع تعريف لهُويَّة الدولة، فهذا فحواه فتح الأبواب أمام جملة خلافات مجمتعية، وتكريس المشكلات المزمنة التي عانت منها مجتمعاتنا التي تتميّز بالتعدّد والتنوّع على صعيد الانتماءات والتوجّهات. فالهُويَّة تتسم بها المجتمعات، سواء على مستوى المجتمع الوطني العام أو على مستوى المجتمّعات الفرعية، التي تندرج ضمن إطار المجتمع الوطني، الذي يشمل الجميع. أمّا الوظيفة الإدارية التي تخدم وتحترم سائر الهُويَّات، الرئيسة والفرعية فهي من اختصاص التكنوقراط، الذين يعملون في مختلف مؤسّسات الدولة وأجهزتها ضمن إطار نظام سياسي عامّ، يوافق عليه الشعب بموجب دستور يشارك في صياغته ممثلو سائر المكوّنات المجتمعية، والتوجّهات السياسية، ويعتمد بصورة رسمية بعد استفتاء وطني عام عليه، ليكون ضامناً لحقوق الجميع. فالمكوّنات السورية جميعها شريكةٌ في الوطن والمصير والمستقبل، ولا يجوز في هذا المجال أيّ تفضيل أو تهميش لصالح أو ضدّ) هذا المكوّن أو ذاك من المكونات الوطنية السورية. هذا إذا كانت النيّة معقودة على بناء وطن ودولة، ومعالجة الجروح العميقة في النسيج المجتعي الوطني على أسس سليمة ترنو نحو المستقبل، بعد التحرّر من العقلية الماضوية وآثارها السلبية.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى