دراما سورية 2025: أما زال التلفزيون عاجزًا عن الواقع؟/ علاء الدين العالم

1 أبريل 2025
“ربما سيكون الموسم التلفزيوني السوري في رمضان المقبل هو الأكثر حماسة وتسلية، لا لكونه الموسم الرمضاني الأول بعد سقوط النظام، بل لأن كل الأعمال التي صورت أو لا تزال تصوّر في سورية هي أعمال كُتبت وأخرجت وأنتجت في أيام نظام الأسد الأخيرة”- بهذه العبارات أنهيت مقالتي عن الدراما التلفزيونية السورية إبان سقوط نظام الأسد في نهاية العام الماضي (2024). إلا أن موسم الدراما التلفزيوني السوري في شهر رمضان لم يكن كذلك، بل اقتصر الإنتاج على أعمال لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة.
اللجنة الوطنية للدراما: التلفزيون السوري بعد السقوط
شكّل سقوط النظام وهروب رأسه زلزالًا في المجتمع السوري، وهو زلزال طاول كل طبقات المجتمع وحقوله. وكونه كان حقلًا بارزًا في المجتمع السوري، تزلزل الحقل التلفزيوني أيضًا. وتعرّض مجال إنتاج الدراما التلفزيونية السورية إلى صدمة أثّرت على سير الأعمال وعلى تلقيها لاحقا. توقفت بعض الأعمال قبل أن تبدأ (مثل مسلسل “مطبخ المدينة”، إخراج رشا شربتجي، وتأليف علي وجيه) بينما تمكنت أعمال أخرى من الاستمرار في التصوير رغم تغيير الظروف الأمنية، وعلى رأسها مسلسل “تحت سابع أرض” إخراج سامر برقاوي، ومسلسل “البطل” إخراج الليث حجو الذي استمر بالتصوير بعد حصوله على الأذون الرقابية والتسهيلات اللوجستية مما سُمّي بـ “اللجنة الوطنية للدراما”.
واللجنة الوطنية للدراما هي لجنة إدارية شكلتها الحكومة المؤقتة في دمشق إبان السقوط، لإدارة ومتابعة المشاريع الدرامية التلفزيونية السورية. عملت اللجنة منذ بداية تشكلها على التواصل مع الفنانين والعاملين في الدراما التلفزيونية، سواء عبر لقاءات فردية أو جماعية بعيد السقوط. لاحقا، وفي أيام الحوار الوطني، أقدمت اللجنة على إقامة جلسة حوارية للفنانين والممثلين والعاملين في حقل الدراما التلفزيونية. لم تخرج عن اللقاء أي توصيات أو ورقة عمل، بل اقتصر الأمر على خطابات قصيرة قالها بعض المشاركين تدعم الفن السوري ودوره في إرساء السلم الأهلي. من جهة أخرى لم يكن اللقاء خاصًا بالدراما التلفزيونية السورية والعاملين فيها وحسب، بل دُعي أيضًا كتاب ومسرحيون وسينمائيون سوريون، بحيث كان اللقاء أقرب إلى لقاء تعارف بين فناني سورية بعد السقوط، ومحاولة لجمع فناني الداخل والخارج في لقاء مفتوح.
إن التحدي الأكبر أمام اللجنة الوطنية للدراما، أو أي لجنة قادمة خاصة بحقل الدراما التلفزيونية، هو إعادة هذه الأعمال إلى حقل الصناعة، بمعنى العمل على تفعيل أعمال الدراما التلفزيونية بما هي صناعة ومجال عمل واسع، يجمع بين محترفين وحرفيين وفنيين، ويشكل بيئة عمل وإنتاج وتشغيل. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الحالة (الدراما كصناعة) لم تتشكل يوما في سورية على المستوى الإداري. حتى في ذروة الإنتاج التلفزيوني السوري بين 2006 و2010، لم يُنظَّم العمل التلفزيوني السوري كصناعة عبر نقابات ومؤسسات، وبقي عمل اللجان التنظيمية الخاصة بالدراما حبيس الكلمات في زمن النظام البائد. من هنا، فإن التحدي الأكبر أمام أي هيئة أو لجنة حكومية خاصة بالدراما هو العمل على مأسسة وتنظيم العمل التلفزيوني السوري، وتعزيز الإنتاج الدرامي التلفزيوني بدلًا من أن يقتصر الإنتاج التلفزيوني على مسلسلين أو ثلاثة، كما هي حال الموسم الدرامي الرمضاني الحالي، حيث اقتصرت الدراما التلفزيونية السورية على مسلسلين اثنين رئيسيين.
“تحت سابع أرض”: الانفصام عن الواقع
عندما تشاركَ الممثل تيم حسن مع الكاتب والمخرج المسرحي عمر أبو سعدة قبل ثلاثة أعوام، تبين أن الممثل قرر تغيير مسار مسلسل “الهيبة” الذي ابتدعه، حيث العمل التجاري، والانتقال إلى أعمال جدية بتأليف كاتب مسرحي وأكاديمي. بيد أن ما حصل لاحقًا كان العكس، فأبو سعدة، هو من انزلق إلى مستوى “الهيبة”. وبالرغم من أن بداية الشراكة كانت مثمرة مع مسلسل “الزند”، ولاحقًا مسلسل “تاج”، إلا أنه سرعان ما انخفضت سوية الأعمال التي أنتجها الثنائي والتي كانت دائمًا من إخراج سامر برقاوي.
آخر أعمال المجموعة (حسن وأبو سعدة والبرقاوي) كان مسلسل “تحت سابع أرض” الذي عرض في الموسم الرمضاني الحالي. يحكي المسلسل قصة المُقدَّم موسى (تيم حسن) وعائلته، وكيف تتحول حياة الضابط الملتزم حينما يدرك أن أخيه زين (أنس طيارة) وأخته رنا (رهام قصار) يعملان في تزوير العملة النقدية. ليست حياة الضابط وحدها من تتغير، بل شخصيته أيضا، إذ يجد نفسه رويدًا رويدًا في قلب عصابة التزوير لا بل قائد عصابة خاصة لاحقًا. لا جديد في الشخصية بالنسبة لحسن، هي ذات الشخصية الذكورية البطل المقدامة، ولا جديد على صعيد الأكشن والقتال وما إلى ذلك. الجديد الوحيد ربما في “تحت سابع أرض” هو انعدام منطق الحكاية والمبالغة في الأداء.
انعدام المنطق في الحكاية ليس حكرًا على تحولات شخصية موسى، فأي شخصية درامية قابلة للتحول، لكن المنطق يغيب عن الحكاية ككل. العلاقات العسكرية داخل قسم الأمن الجنائي غير منطقية، إذ لا نجد أي دلالة على التراتبية العسكرية، والعلاقة بين موسى والمقدم فجر (جوان خضر) الذي يلاحقه غير منطقية، تتالي الأحداث على مستوى الكتابة غير منطقي، العلاقات الغرامية للضابط موسى غير منطقية هي الأخرى، ولا تخضع لأي تصاعد، بل هي تكاد تحصل من العدم وبدون مبررات درامية فعلية. تحديدًا قصة علاقته مع بلقيس (كاريس بشار) التي تتحول من الحب المفرط إلى الخيانة والبغض دون سبب. هذه اللامنطقية تندرج على واقع العمل ككل. أين تجري هذه الأحداث؟ ومتى؟ هل هي في سورية؟ في دمشق؟ قبل سقوط النظام؟ بعده؟ لا وجود لأي معلومة تحدد زمن العمل، وتبقى صور شوارع دمشق هي الوحيدة الدالة على المكان، ويبقى المتلقي أمام سؤال: هل هذه دراما واقعية سورية؟!
“البطل”: الإخراج أنقذ النص
على عكس “تحت سابع أرض” قرر المسلسل السوري “البطل”، تأليف رامي كوسا وإخراج الليث حجو، أن يخوض في الواقع السوري ويشاكله، عبر سرد حكاية قرية سورية نائية في خضم الحرب والنار. طارحا مفهوم البطل ومناقشته من خلال حكاية درامية واضحة وواقعية. الشخصيات في المسلسل منطقية ومتسقة مع جبلتها الدرامية. انطلاقًا من الشخصية الرئيسية الأستاذ يوسف (بسام كوسا) الملتزم بمبادئه وإرثه القيمي، والمتمسك بالبقاء في أرضه رغم الحرب الضروس، وبانيًا لصورة البطل الإيجابي القائمة على التضحية، ومرورًا بالبطل الرديف وهو فرج (محمود نصر) ابن الحانوتية الذي قرر الثورة على النظرة الفوقية التي يعامله بها أهل القرية عبر العمل في التهريب والتعفيش، وصولًا إلى الشخصيات الثانوية كابني الأستاذ (مريم ومجد) وحبيبيهما (مروان وسلافة).
إلا أن وضوح خطوط الشخصيات واتساقها لم ينقذ النص من الوقوع في فخ الإيقاع الرتيب، وبطء تسلسل الأحداث، ورتابة البناء الدرامي. زد على ذلك مزاج الكدَر والحزن الذي يسيطر على أحداث العمل وحكايته. إذ تكاد لا تخلو حلقة من حدث درامي قاسٍ ومؤلم. ويبدو أن مقاربة الواقع السوري التي أرادها المسلسل هي ما نحت بأحداثه تجاه جرعة زائدة من المقت والقهر. لكن حتى في الواقع السوري القاسي هناك لحظات فرح وأمل وسعادة، وهو ما افتقده المسلسل، التنوع في المزاج كما هو تنوع الحياة والواقع. وكما هو المسرح، المكان الذي اقتبس منه نص المسلسل (اقتباس عن مسرحية “زيارة الملكة” لممدوح عدوان).
الأداء والصورة هما نقاط قوة مسلسل البطل، وهما ما حمى النص غير المكتمل من الانهيار. على مستوى الأداء يقدم بسام كوسا أداء متماسكًا ومحترفًا، ويظهر فيه ملكاته كممثل مخضرم قادر على الإمساك واللعب بين خطوط البطل وقصته بين الفداء والعجز. هيما اسماعيل ومحمود نصر هما الآخران لعبا شخصيتيهما بحرفية، لكن العلامة الفارقة كانت من نصيب الممثلين الشباب سواء ثنائية مريم ومروان (نور علي وخالد شباط) أو ثنائية مجد وسلافة (وسام رضا ونانسي خوري)، إذ قدّم الممثلون الشباب مشاهد بحساسية عالية، وحوارات حيوية ورشيقة يشعر فيها المتلقي أن المكتوب هو من ارتجال الممثلين لا من جنس النص. وبالطبع هذه العملية الارتجالية أدارها المخرج الليث حجو الذي قدّم صورة غنية ومعبرة عن رحلة البطل بوجهيها. وربما أهم ما في “البطل” أنه أعاد تقديم الليث حجو كمخرج ما زال في جعبته الكثير ليقدّمه للدراما التلفزيونية السورية بعد السقوط في حال توفر النص المتين.
في عام 2006، أنتجت الدراما التلفزيونية السورية ما يقارب ستين عملًا دراميًا، وهو الرقم الأعلى في تاريخ الإنتاج التلفزيوني السوري اليوم، وبعد قرابة نحو عشرين عامًا يقتصر الإنتاج التلفزيوني السوري على عملين أساسيين فقط، في الوقت الذي أنتجت فيه الدراما المصرية مثلًا 45 عملًا تلفزيونيًا. من هنا، لا يمكن القول عن موسم درامي رمضاني سوري، ولا يمكن اليوم الحديث عن دراما سورية، أو صناعة درامية سورية، بل ربما الحديث الأجدى في هذا السياق هو التأسيس لإعادة إعمار الدراما التلفزيونية السورية، إعادة إعمار على كل المستويات، بدءا بالكتابة وانتهاء بالصناعة والفرجة، فالدراما التلفزيونية كما سورية أنهكتها الحرب والشتات، ويبدو أنها بحاجة إلى إعادة بناء.
ضفة ثالثة