شاعر القبيلة وزيراً للثقافة السورية/ راشد عيسى

تحديث 01 نيسان 2025
ظلّت ابتسامة المرء ملء وجهه، مع شعور عارم بالفخر، أثناء الاستماع لكلمات الوزراء السوريين عند إعلان أول حكومة سورية بعد سقوط المخلوع الأسد.
بدا واضحاً أنه قد طُلب منهم، إلى جانب سِير ذاتية مختصرة، تضمين كلماتهم خطة عمل.
هكذا تتالت الكلمات، من بينها كلمة وزير التعليم العالي والبحث العلمي مروان الحلبي. تحدث الوزير عن قاعدة بيانات، ومصفوفة تحديات، وتحليل أسباب، وتطوير مناهج، وخارطة للتعليم العالي، وصولاً إلى كلمته الذهب: “تعزيز الاستقلالية والحرية الأكاديمية”، و”ما أفسد جزءاً كبيراً من التعليم تَدخُّل السياسة والحزب والأمن”.
ثم وزير الطوارئ والكوارث رائد الصالح، وبطولته مع فريقه، على مدى 13 عاماً، لا تخفى. إلى وزير الاتصالات عبد السلام هيكل، الذي حتى في دعابته عن “تشات ج بي تي” بدا عارفاً تماماً لطريقه، إلى وزراء آخرين. حتى السيدة الوحيدة، الوزيرة هند قبوات، قد نجد في الركاكة اللغوية لكلمتها إضفاء لتنوّعٍ مقبول. طبعاً، فليست الحكاية سوق عكاظ، وإلا كان يجب التوقّف أولاً عند خطأ الرئيس السوري أحمد الشرع نفسه في خطاب القمة عندما رفع المضاف إليه في “وصمة عار”.
ظلّ إذاً مزاجُ السعادة طاغياً، إلى أن جاء وزيرٌ قدّمَ كلامه ارتجالاً، وأعوذ بالله من الارتجال في عالم الخطط والموازنات، ولا شك أنكم تعرفون ذلك النموذج من الحكّائين الذين يعتبرون البراعة والفصاحة في التكلّم من دون ورقة، ومن دون توقّف قدر الإمكان، بغض النظر عن الفحوى.
وما هي إلا لحظات حتى بدا الارتجال نفسه “خطة عمل”، فوزير الثقافة، محمد الصالح، شاعر، يقيم، من حيث الشكل الشعري في عصر انحطاط الشعر (لن ننسبه بالطبع إلى العصر الجاهلي حيث زمن فطاحل الشعر العربي)، بعد آية قرآنية، راح ينشد:
“لقد صُمنا عن الأفراح دهراً
وأفطرنا على طبق الكرامة
فسجِّل يا زمان النصر، سجِّل:
دمشقُ لنا إلى يوم القيامة”
“صمنا”، و”أفطرنا” و”أطباق” كلمات للمطبخ، لا للكرامة، كأن تقول مثلاً “منسف أحلام”، هل تجد في كلمة “منسف” مفردة شعرية تتواءم والأحلام؟ كذلك حين تقترن الكرامة بالأطباق. هذا عدا عن أن العبارة “صمنا وأفطرنا” تحيل فوراً إلى مثل شعبي يفسد الكلام الرفيع “صام وأفطر على بصلة”.
وعدا عن أن البيتين يخلوان كلياً من الشعر، فهما ليسا سوى ضجّةِ شِعر، فعندما تقول: “سَجّل يا زمان النصر”، علينا أن نتوقع أن العبارة التالية مرصودة لنفخ “أنا” الجمهور، والذي سيبادر إلى التصفيق، شيء يشبه أنواعاً من الموسيقى ما إن تحضر حتى تحل الدبكة معها.
بات هذا فارقاً واضحاً بين شعر مِنبريّ وآخر للقراءة. ثق أن بعض الشعر، بفضل إيقاعاته، لا يجري التمعن بمعانيه أصلاً، هو مخلوق ليلعب دور ضربة الطبل، تماماً كما مع طبول الحرب، أو طبول دبكة العرس.
أما عبارة “دمشق لنا إلى يوم القيامة”، وهي فحوى كل كلام الشاعر الوزير، التي راح أناس كثر يتناقلونها على السوشال ميديا، من فم الوزير، أو حتى بألسنتهم، فتُشعرنا بأننا إزاء نزاع حدود، تضعك أمام معادلة واهمة لـ “نحن وهم”، كأننا في خضم حرب بين قومين، قبيلتين، وعلى ما يبدو فإن الوزير يجد نفسه هنا أقرب إلى شاعر قبيلة. ولا نحسب أن الدولة الحديثة التي يحلم بها السوريون سيكون شاغلها “نحن وهم”.
عندما نصل إلى خطة الوزير في وزارة الثقافة سيكتفي بتلخيصها، ارتجالاً أيضاً، على أنها أمران: “أنْ نُفتّت ونبتعد عن كل المنظومة الثقافية التي كان يتبناها الوضيع، البائد، محتل هذا القصر”، والركون إلى “ثقافة عمل الخير، الإحسان، ثقافة التآخي،.. “، ويزيد شرحاً: “لا يمكن أن نذهب إلى ترف المعرفة في وقت تسود فيها الحاجة، ويسود فيه البؤس”! لماذا أنت هنا إذاً معالي الوزير؟! فما دامت المعرفة، والثقافة، ترفاً فلنوزّع هذه الحقيبة على “الشؤون الاجتماعية والعمل”، ووزارة الطوارئ، أو الأوقاف، فهذه أقدر على افتتاح تكايا وموائد قد ينتفع الناس بها أكثر من ترف المعرفة.
علينا أن نتوقع إذاً أن حاجات الناس ستكون دائماً في الميزان، وسيقال إن الخبز أهم من الأوبرا، وحطب المدافئ أجدى من رسم المناظر الطبيعية، وإصلاح شبكة الكهرباء أبدى من أفلام السينما،… لكن لا شيء أولى، غالباً، من شعر الوزير.
وفي الواقع، فإن شعر الوزير ضعيف للغاية (حبذا لو تعود إلى نزار قباني ومحمود درويش إن أردت أجمل الأوصاف لدمشق)، وقد انتشر فيديو له، يبدو أنه أعد تحت إشرافه، وواضح فيه الرغبة الهائلة بسقاية “الأنا” بتسليط ضوء استثنائي، وكان يكفيك لو أردت أن تنصرف إلى كتابة شعر أرفع قليلاً من القافية المبتذلة التي تنتهي بـ “ات”، مثل ابتسامات، وذاتي، ياسمينات، ملذات، سماوات، مولاتي، بريئات، ضحكاتي،.. قوافٍ تخجل القلب حقاً، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بوزير.
ولكن ما هي مؤهلات هذا الشاب، حتى يشغل مكانة وزير ثقافة لبلد ناسُه “في جيناتهم حضارة ثقيلة جداً”، على ما يقول هو نفسه في فيديو لاحق من مسجد في ضاحية قدسيا؟
في السيرة الذاتية، كما قدّمها، وبحسب البحث على الشبكة، لا كتب، ولا مؤلفات، ولا مشاريع، سوى عمله في قناة “الجزيرة”. مذيع ببضعة برامج وحسب. وهذا حقاً باب يجب أن يفتح للنقاش وإعادة النظر، فهناك سوء فهم كبير، حيث من البديهي أن يكون المذيع في الضوء، هو الموجود على الشاشة أمام الملايين، ولكن هل مجرد الظهور هذا يؤهله ليصبح من قادة الرأي؟ يتكاثر هؤلاء بشكل لا يردّ، تتكاثر الفضائيات والقنوات التي يطل عبرها مذيعون، فيفتتح الأخيرون دكاناً على تيك توك، أو أيّ من منصات التواصل ليخبرونا بآرائهم وتحليلاتهم، حتى تسللوا بفضل سطوتهم التلفزيونية إلى زوايا الصحف، محتلين أعمدة كبار الكتّاب، وبحكم شهرتهم التلفزيونية باتوا هم الأكثر قراءة.
لا ندري إن كان محمد صالح، مذيع “الجزيرة” الذي احتل موقع وزير الثقافة، يعرف شيئاً عن حال الثقافة في بلده، هل لديه فكرة عن حال مؤسسة السينما؟ ما أُنتج من وثائقيات خلال الثورة أو قبلها؟ هل يعرف شيئاً عن وزارة الثقافة التي هو قادم إليها؟ ما أنتجته وما مرّ عليها من أسماء مثقفين؟
نأمل أن يدعى الوزير غداً إلى نقاش مفتوح مع المثقفين والمشتغلين في مجال الثقافة، عسى يعدّل في خطّته المرتجلة، وقد يلاحظ صعوبة أن يكون المرء مهندساً للثقافة في بلدِ “الحضارات الثقيلة”، وأن عدة الشغل التلفزيوني وبرامج “الفصاحة” ليس لها مكان هنا.
* كاتب من أسرة “القدس العربي”
القدس العربي