أبحاثالإعلان الدستوري لسوريا 2025سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

في مخاض الدستور السوري خلال مئة عام/ نبيل سليمان

31 مارس 2025

على إيقاع ما زلزل سورية في السادس من شهر مارس/ آذار 2025 في الساحل السوري، وقّع رئيس الجمهورية أحمد الشرع الإعلان الدستوري في 13/ 3/ 2025. وكانت لجنة صياغة الإعلان قد أنجزت أعمالها في عشرة أيام. وجاء في مقدمته أنه استُلهم من مخرجات مؤتمر الحوار الوطني المنعقد في 25/ 2/ 2025، ومن إعلان انتصار الثورة في 29/ 12/ 2024. وفي المقدمة أيضًا أن الإعلان يأتي “حرصًا على إرساء قواعد الحكم الدستوري السليم المستوحى من روح الدساتير السورية السابقة، ولا سيما دستور عام 1950 ــ دستور الاستقلال”.

في الدساتير العربية المؤقتة

في انتظار انتهاء المرحلة الانتقالية في سورية بعد خمس سنوات، بإقرار دستور دائم، يكون الإعلان الدستوري هو الدستور المؤقت. وهذا أمر تكرر بعد (الربيع العربي)، ابتداءً بتونس، حيث أصدر (رئيس الجمهورية المؤقت) مرسومًا في 13/ 3/ 2011 بمثابة إعلان دستوري، أو دستور مؤقت.

وفي ليبيا، صدر (الإعلان الدستوري المؤقت) في 3/ 8/ 2011. ومما جاء فيه أن ليبيا (دولة ديمقراطية)، وأن الشعب مصدر السلطات، وأن دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. وتحدد القول بأن هذا الإعلان هو (دستور مصغر للمرحلة الانتقالية، وهو مؤقت).

وكانت ليبيا قد عرفت الإعلان الدستوري الأول في 11/ 9/ 1969، في أعقاب الانقلاب العسكري الذي جاء بمعمر القذافي، فحكم البلاد اثنتين وأربعين سنة حتى قامت ثورة 17 فبراير/ شباط 2011. أما الإعلان الدستوري الليبي فقد استمر العمل به حتى 2/ 3/ 1977، وفيه النص على أن دين الدولة الإسلام.

في مصر، عقب ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 صدر الإعلان الدستوري في 13/ 2/ 2011، ثم صدر الإعلان الدستوري في 30/ 3/ 2011، فالإعلان الدستوري في 11/ 8/ 2023. وإثر فوز محمد مرسي بالانتخابات الرئاسية أصدر في 22/ 11/ 2012 (الإعلان الدستوري المكمل). وقد جعل هذا الإعلان القرارات الرئاسية نهائية، غير قابلة للطعن من أي جهة، كالمحكمة الدستورية، وذلك منذ تولي محمد مرسي الرئاسة حتى إقرار دستور جديد وانتخاب مجلس شعب جديد. وبينما أيّد حزب النور (الإسلامي) هذا الإعلان، رأى فيه المجلس الأعلى للقضاء اعتداءً على استقلال القضاء، واستقال عدد من مستشاري الرئيس اعتراضًا على الإعلان، ومنهم من الكتّاب سكينة فؤاد، وفاروق جويدة، وعصمت سيف الدولة. كما وصفت عشرات المنظمات الإعلان في بيان نشر في 24/ 11/ 2012 بأنه “يمنح مرسي سلطات إلهية، ويوجه ضربة قاضية لاستقلال القضاء”، ونشر هذا البيان مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.

في الدساتير السورية المؤقتة

مع صاحب الانقلاب العسكري الأول حسني الزعيم كانت البداية، وهو الكردي كرئيس وزرائه حسين البرازي. الزعيم أصر في 7/ 4/ 1949، أي بعد أسبوع من استيلائه على الحكم، على تشكيل لجنة لوضع دستور جديد، ملغيًا دستور عام 1930. وممن عارضوا مشروع الدستور الجديد وزير المعارف في حكومة حسني الزعيم: ميشيل عفلق، رئيس حزب البعث العربي (قبل أن يصبح حزب البعث العربي الاشتراكي). ودعا عفلق إلى انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد. وفي 25/ 6/ 1949 جرى استفتاء على الزعيم رئيسًا. وضم الاستفتاء السؤال عن تخويل الرئيس بوضع الدستور جديد خلال أربعة أشهر، وعن تخويله بإصدار المراسيم التشريعية ريثما يصدر دستور جديد. وقد قال رئيس اللجنة المكلفة بوضع الدستور، أسعد الكوراني، إن الدستور يتبنّى ميثاق حقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة قبل سنة (1948). لكن الرئيس لم يصدر الدستور، بل اكتفى بلجنة قانونية أصدرت قانونًا مدنيًا هو ــ كما كتب طالب الدغيم ــ مزيج دستوري من الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي العلماني.

بعد خمسين يومًا من قانون ــ دستور حسني الزعيم انقلب عليه سامي الحناوي في 14/ 8/ 1949. وبعد انتخاب الجمعية التأسيسية إثر الانقلاب العسكري الثاني قدمت الحكومة مشروع دستور مؤقت ــ أي إعلان دستوري ــ وفي هذا المؤقت جاء منح المرأة المتعلمة حق الانتخاب. وبينما كان على الجمعية أن تضع الدستور الدائم خلال ثلاثة أشهر، لم تحدد السبل إذا ما انتهت الشهور الثلاثة قبل إنجاز الدستور الدائم، وهذا ما سنجد له نظيرًا في الإعلان الدستوري 2025.

ويبقى الدستور المؤقت لدولة الوحدة السورية المصرية (الجمهورية العربية المتحدة) الذي صدر في 5/ 3/ 1958 بعد أسبوعين من إعلان الوحدة. وقد أسرعت فيه المادة 2 إلى أمر الجنسية باعتبار الدولة الجديدة هي جماع الجنسيتين السورية والمصرية. وتلامح النظام الرئاسي في المادة 44 من هذا الدستور المؤقت. أما الدساتير المؤقتة التي تواترت بعد الانقلاب العسكري الذي جاء عام 1963 بحزب البعث، من دستور 1964 إلى دستور 1969 فحديث آخر.

من دستور إلى دستور: ما تبقى لنا

سأستعير الآن من غسان كنفاني عنوان روايته “ما تبقى لكم”، لأعنون به ما لعله يخاطب الإعلان الدستوري السوري 2025 من تراثنا الدستوري الزاخر. وأبدأ بدستور المملكة السورية (دستور الملك فيصل)، الذي ترأس هاشم الأتاسي لجنة صياغته. وقد نصت المادة الثالثة منه على حرية المعتقد والأديان، وعلى أن دين الملك الإسلام، من دون ما سيتبع في دساتير قادمة من المصدر، أو مصدر التشريع. وقد دافع الشيخ رشيد رضا عن تحييد الدين عن الدستور سعيًا إلى سحب ذريعة التدخل الأوروبي في شؤون سورية في المستقبل بحجة حماية الأقليات. كما نصت المادة 96 من الدستور على انتخاب أعضاء المحكمة العليا من الهيئات المنسوبين إليه. وجاء في المادة التاسعة: “المواطن السوري هو كل فرد من أهل المملكة السورية العربية، وليس من يتكلم العربية فقط”.

في عام 1928، جرى انتخاب الجمعية التأسيسية لوضع دستور جديد بعدما أبطل الاستعمار الفرنسي دستور 1920. وقد ترأس إبراهيم هنانو لجنة صياغة الدستور الجديد، وكان (دينامو) اللجنة فوزي الغزي، ولذلك كان له لقب (أبو الدستور)، ولذلك جاء شخصية محورية في روايتي “حجر السرائر” (2010). ومن المعلوم أن هاشم الأتاسي قد حمل من بعد، أيضًا، لقب أبو الدستور، لما كان له من دور في وضع دساتير 1920 ــ 1928 ــ 1949، ولنقل إذًا: “أبو الدساتير”.

عطلت فرنسا دستور 1928 إلى أن أصدره المفوض الفرنسي في 22/ 5/ 1930، ونصت المادة الثالثة فيه على دين رئيس الجمهورية: الإسلام، من دون الإشارة إلى مصدر التشريع. وحددت لرئيس الجمهورية دورة واحدة. كما حددت المادة 68 الحد الأدنى لسن الرئيس بخمسٍ وثلاثين سنة. أما المادة 97 فنصت على انتخاب مجلس النواب (البرلمان، الشعب) ثمانية من أعضاء المحكمة العليا، بينما يكون الأعضاء السبعة الآخرون من الأعلى مرتبة بين القضاة.

وقد تواصل العمل بدستور 1930 إلى أن جرى تعديله عام 1947 كي يكون لرئيس الجمهورية شكري القوتلي دورة ثانية. ويكتب طالب الدغيم نقلًا عن رايسنر أن القوتلي أمر محافظ دمشق بهجت الشهابي، وضباط الأمن المشرفين على صناديق الانتخاب، بالتزوير في الجولة الثانية من الانتخاب، ولما فاز التزوير قاد الإخوان المسلمون المظاهرات في دمشق اعتراضًا.

بعد الانقلاب الثاني الذي قاده سامي الحناوي، جاء ما عُرف بدستور الاستقلال، أو دستور عام 1950، في عهد الرئيس هاشم الأتاسي. وقد عاد هذا الدستور مطلبًا ملحًا بعد 2011، استلهمته لجنة صياغة الإعلان الدستوري 2025، كما جاء في مقدمة الإعلان، مع أن دستور 1950 قلص من سلطات رئيس الجمهورية لصالح السلطة التشريعية.

في المادة الأولى من هذا الدستور أن سورية “جمهورية عربية ديمقراطية نيابية”، ولم يخلُ دستور آخر من كلمة (ديمقراطية) إلا إعلان 2025، مثلما خلا من المادة الثانية من دستور 1950، والتي تنص على سيادة الشعب. أما المادة الثالثة منه، فقد نصت على أن دين رئيس الجمهورية الإسلام، وعلى أن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع (المصدر، وليس مصدر). وكان النائب نقولا خانجي، والنائب فائز الخوري، قد اعترضا منذ إعداد دستور 1928 على تحديد دين الرئيس، وعدّا ذلك خرقًا لمبدأ المساواة بين السوريين. ودعا فائز الخوري إلى يوم يُسأل فيه السوري عن دينه فيقول: أنا سوري.

نشط الإخوان المسلمون وجريدتهم “المنار” من أجل المادة الثالثة في دستور 1950، أما أسعد الكوراني فقد فضل شطب عبارة دين رئيس الدولة الإسلام، كي يتاح للمسيحي فارس الخوري أن يترشح للرئاسة. واشترطت المادة 72 في رئيس الجمهورية أن يكون سوريًا منذ عشر سنوات، ولم يُسمح بتجديد الرئاسة إلا بعد 5 سنوات (دورة) من الدورة الأولى. وتحدثت المادة 86 عن مسؤولية الرئيس في حالتي خرق الدستور والخيانة العظمى، وعن محاكمته أمام المحكمة العليا التي خصها الدستور بالمادة 116، فبيّن أن الرئيس يختار أربعة عشر عضوًا لينتخب منهم مجلس النواب سبعة، لكأنه بذلك يترك الباب مواربًا لتدخّل الرئيس في تشكيل المحكمة العليا (أي المحكمة الدستورية)، بينما يشرّع الإعلان الدستوري 2025 الباب للرئيس ليسمي أعضاء المحكمة.

أوقف الانقلاب العسكري الثالث الذي قاده محمد أديب الشيشكلي دستور الاستقلال، وجاء بدستور 1953 الذي تقفّى سلفه في المادة الأولى والثالثة، وفي المادة (7) المتعلقة بالجنسية، حيث أضاف أن تجنيس الأجانب يحدد بقانون تراعى فيه الأعراف والعلاقات الدولية. واشترط دستور 1953 أن يكون رئيس الجمهورية سوريًا بالولادة، وأفرد المادتين 87 و88 لخرقه الدستور والخيانة ومحاكمته أمام المحكمة العليا.

توجه دستور الشيشكلي إلى النظام الرئاسي، وجعل له في المادة 114 أن يسمي رئيس وأعضاء المحكمة العليا، ولكن بناءً على موافقة مجلس النواب.

الإعلان الدستوري 2025

تخلى الإعلان عما جاء في مرجعه الأكبر (دستور 1950) من كلمة (ديمقراطية)، وعن المادة الثانية (السيادة للشعب… لا يجوز لفرد، أو جماعة، ادعاؤها/ تقوم السيادة على مبادئ حكم الشعب بالشعب وللشعب). وفي الإعلان ما هو إنجاز مشهود في ما نص عليه من أن الدولة تكفل التنوع الثقافي للمجتمع السوري بجميع مكوناته، والحقوق الثقافية واللغوية لجميع السوريين. بيد أن السؤال يعجل هنا عن (المكونات). هل تعني الأكراد، والتركمان، والدروز، والإيزيديين، والمسيحيين و…؟ هل هي المكونات الإثنية و/ أم الدينية و/ أو الطائفية؟

في المادة 14 من الإعلان أن الدولة تصون حق المشاركة السياسية وتشكيل الأحزاب على أسس وطنية وفقًا لقانون جديد. أما الدستور/ المرجع (دستور الاستقلال) فقد كان أكثر وضوحًا وتحديدًا، إذ جاء في المادة 18 أن للسوريين حق تأليف أحزاب سياسية على أن تكون غايتها مشروعة، ووسائلها سلمية، وذات نظم ديمقراطية. وترك للقانون أن ينظم طريقة (إخبار) السلطات الإدارية بتأليف الأحزاب ومراقبة مواردها.

ما إن صدر الإعلان حتى ترجّعت أصداؤه أعلى فأعلى، بين من يصفق لكل ما تأتي به الإدارة الجديدة، مع قدر من التشنيع على من تسول له نفسه بالسؤال ــ فكيف بالاعتراض ــ وبين من أشهر السؤال، أو الاعتراض، مقدرًا ما يحسب أنه إنجاز. وهذه المادة 43 مثلًا تحظر المحاكم الاستثنائية فيصفق المرء لها. وكذلك هي المادة 48 و49، والمادة الخاصة بالعدالة الانتقالية، ولكن ماذا لو تساءل المرء عن إغناء هذه المادة بآلية اختيارية للتسامح والمصلحة، كما كان في جنوب أفريقيا مثلًا؟

مما يتألق في الإعلان المادة 21 المتعلقة بالمرأة، والمادة 22 المتعلقة بالأطفال، ولكن ماذا عن اللغة الكردية؟ وما هي المادة 23 التي تجيز إخضاع ممارسة الحريات للضوابط التي يتطلبها الأمن، أو حماية الآداب العامة؟ ألا يتسلل القمع إلى مثل هذه العموميات؟

في المادة 52 أن مدة المرحلة الانتقالية خمس سنوات، وأنها تنتهي بعد إقرار دستور دائم للبلاد وتنظيم انتخابات وفقًا له. ماذا لو أقر الدستور الدائم بعد سنة، وجرت انتخابات وفقًا له بعد سنة ونصف السنة؟ هل تنتهي عندئذٍ المرحلة الانتقالية؟ هل تستمر حتى نهاية الخمس سنوات، حتى لو أقر دستور؟ ومن سيقرر الدستور الدائم؟ استفتاء؟

لكن الأهم هو ما ضاق به الإعلان على رحابته من المواد التي تكرس الرئيس قيومًا على السلطتين التشريعية والقضائية. فهو يشكل ثلث مجلس الشعب، واللجنة التي ستنظم انتخاب الثلثين الآخرين، وهو من يشكل المحكمة الدستورية التي كان اسمها في الدساتير الأولى المحكمة العليا. وإذا كان الإعلان يفيض في صلاحيات الرئيس، بدعوى النظام الرئاسي، فهو يغفل ما فصلت فيه الدساتير السابقة عن محاسبة الرئيس.

قد يسرع من يرفع البطاقة الحمراء في وجهي: من أين لروائيّ أن يتطفل على شأن قانوني، أو على إعلان دستوري مؤقت؟ وبالطبع، لن يشفع لي أن أذكّر بأن عضو لجنة صياغة الإعلان الدستوري، الدكتورة بهية مارديني، هي شاعرة أيضًا.

أيًا يكن، المهم أن يصح مخاض الدستور السوري هذه المرة، بعدما طال كذبه وانتظاره.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى