من يملك حقّ السرد؟/ سمر يزبك

01 ابريل 2025
في مواجهة علنية نادرة، وقفت الحقوقية كفاية خريم أمام المفوض السامي لحقوق الإنسان، متحدّثةً بجرأة عن الانتهاكات الجنسية التي تتعرّض لها نساءٌ فلسطينياتٌ تحت الاحتلال الإسرائيلي. لم تُذكر أسماء الضحايا، لكن مجرّد طرح القضية بهذا المستوى من التحدّي يعكس تحوّلاً جوهرياً في الخطاب الحقوقي، لم يعد التوثيق مجرّد تسجيل للجرائم، بل أصبح تحدّياً مزدوجاً: مواجهة المعتدي المحتلّ، والتصدّي لمنظومة اجتماعية تُلزِم الضحايا الصمت حفاظاً على “الشرف”.
لطالما استُخدم العنف الجنسي أداةَ إخضاع في سياقات الاحتلال والاستبداد، ليس لإيذاء النساء فقط، بل لإذلال الجماعة بأسرها، ما عزّز ثقافة الصمت والخوف. في الحالة الفلسطينية، يتجاوز القمع ممارسات الاحتلال ليشمل مجتمعاً يُحمِّل الضحيةَ مسؤوليةَ انتهاك جسدها، ويطالبها بالكتمان درءاً للعار. ليست هذه الديناميكية فريدةً، بل تكرّرت في البوسنة وسورية، حيث استُخدم الاغتصاب عقاباً سياسياً، فيما فُرض على الضحايا الصمت لحماية صورة المجتمع.
عندما أنجزنا مع المخرجة الفرنسية مانو لوازو فيلم “الصرخة المخنوقة”، وثّقتْ المخرجةُ شهادات سوريات تعرّضن للعنف الجنسي، فوجدن أنفسهن مهدّدات ليس من الجناة فقط، بل أيضاً من عائلاتهن التي رأت في حديثهن خيانة. هذا الواقع يكشف منظومةَ قهر مزدوجة، إذ تواجه النساء الاعتداء، ثمّ النبذ والانتقام. وسط هذه التناقضات، تظهر ازدواجيةٌ صارخةٌ في التعامل مع قضايا الاغتصاب. فعلى الرغم من تفنيد تقارير عديدة مزاعم تعرّض إسرائيليات للعنف خلال هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، استُخدمت تلك الادعاءات لحشد الرأي العام الغربي. في المقابل، تُحاصر الفلسطينيات اللاتي يعانين من انتهاكات ممنهجة بالصمت، ليس بسبب الاحتلال فقط، بل بسبب مجتمع يخشى كشف الحقيقة. تطرح هذه الازدواجية أسئلةً جوهريةً: من يُسمح له بالكلام؟ ومن يُفرض عليه الصمت؟ وكيف تتحوّل أجساد النساء ساحاتِ معركةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ؟… يُفهَم العنف الجنسي نتاجاً لمنظومةٍ قمعيةٍ تُخضِع النساء. ليس الصمت هنا خياراً، بل قانوناً اجتماعياً غير مكتوب يعاقب من يجرؤ على كسره. وعندما كسرت كفاية خريم هذا الصمت لم تكتفِ بكشف انتهاكات الاحتلال، بل تحدّت أيضاً السلطة الأبوية التي تجعل من الضحايا مذنبات.
لكن كيف تتحوّل هذه الشجاعة الفردية قوّةَ تغيير جماعية؟… لا يتحقّق ذلك من دون إعادة بناء الخطاب الحقوقي ليطرح قضية العنف الجنسي خارج قيد العار الاجتماعي، باعتباره جريمةً تستدعي المواجهة لا الإنكار. في مجتمعات تُكرِّس سلطة الرجل على جسد المرأة، يصبح هذا التحوّل ضرورةً رغم العقبات. شهادة كفاية ليست مجرّد إفصاح عن مأساة، بل خطوة نحو تفكيك نظام يُخضِع النساء للصمت وفتح باب لأسئلة أكثر تعقيداً حول العلاقة بين الاحتلال والجنس، والعنف السياسي والاجتماعي، والشجاعة الفردية والتغيير الجماعي.
عندما تقف امرأةٌ لتواجه بصوت ثابت منظومةً قمعيةً جعلت من اغتصابها أداةً ممنهجةً للإذلال، لا تواجه مغتصبها فقط، بل تتحدّى تاريخاً طويلاً من القهر والصمت المفروض عليها. هذه المواجهة ليست مجرّد فعل شخصي، بل تقلب معادلة القوّة أيضاً، إذ تنتزع الضحيةُ صوتها من فكّ الهيمنة، وتجبر المجتمع على الاعتراف بجريمتها لا بجُرمها. لطالما صُوِّرت المرأة الضحية كائناً منكسراً، رازحاً تحت وطأة العار، لكنها عندما تصعد إلى المنصّة، أو تروي قصّتها أمام العالم، تخلق صورةً جديدةً: امرأة تتحدّى، لا تستجدي؛ تصوغ خطابها الخاص بدل أن تكون مادّةً في خطاب الآخرين. يصطدم هذا الحضور العلني بموروث ثقافي يرى في الاعتداء الجنسي وصمةً اجتماعيةً أكثر منه جريمة، ما يجعل المواجهة أكثر خطورةً، إذ تتحوّل الضحيةُ متّهمة.
لكن ماذا يحدث عندما لا تكتفي المرأة بالسرد، بل تُحاكِم مغتصبها اجتماعياً وسياسياً؟… حينها يتحوّل جسدها، الذي أريد له أن يكون أداةَ إذلال، ساحةَ مقاومة. رأينا هذه المواجهة في شهادات الأيزيديات أمام المحاكم، وفي نساء البوسنة اللاتي أدلين بشهاداتهن ضدّ مرتكبي جرائم الحرب، وفي الفلسطينيات اللاتي يبدأن اليوم في استعادة أصواتهن رغم القيد المركّب من الاحتلال والمجتمع. هذه المواجهة تتجاوز الفردية، فهي لا تطالب بحقوق شخصية فقط، بل تُسائِل بنية المجتمع بأكملها: من يملك حقّ السرد؟ من يُسمح له بأن يكون ناجياً بدل أن يبقى منكوباً؟… هنا، لا تكون المرأة مجرّد شاهدة على معاناة، بل فاعلة في صياغة تاريخ جديد، فتصبح المواجهة في حدّ ذاتها فعلَ مقاومةٍ سياسياً وثقافياً يهدّد أسس الأنظمة التي قامت على تكميم أفواه النساء.
العربي الجديد