نصوص

مأساة إليانور كارل ماركس/ جولان حاجي

 إ. م، الساعة العاشرة والربع صباحاً، 31 آذار/مارس، 1898

31/03/2025

جنازة ماركس

توفي كارل ماركس في 14 آذار 1883، وله رفّ صغير من الكتب والمقالات المطبوعة، وحقائب عديدة من المسوّدات والملاحظات والمخطوطات، وتركة قيمتها مئتان وخمسون جنيها استرلينياً. كان لا يزال مجهولاً لدى عامة الإنكليز، رغم أنه عاش في لندن أكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً. كانت الإشارة الوحيدة إلى موته في الصحافة الإنكليزية هي نعي متأخر كتبه مراسل التايمز في باريس. حضر جنازته أحد عشر شخصاً في مقبرة هايغيت، ستة منهم مهاجرون ألمان كانوا قد نزحوا، شأنهم شأن ماركس، إثر القمع الذي أعقب فشل الثورات سنة 1848، وكان الراحل قد تنبأ بظهورها قبل اضطراره للنزوح إلى لندن خائباً، صِفْرَ الوِفاض.

حضرت ابنته إليانور وحدها، ومعها رجل إنكليزي لا يعرفه المشيّعون القلائل، اسمه إدوارد أيفلينغ. فريدريك إنجلز، رفيق ماركس ومُعيله وصديق العمر، ألقى في الجنازة خطبة طويلة باللغة الإنكليزية فياضة بالمدائح، هذا مستهلّها:

“في الرابع عشر من آذار، عند الساعة الثالثة إلا ربعاً بعد الظهر، توقف عن التفكير أعظم مفكّر حيّ…”

وهذا ختامها:

“ربما كان له خصوم كثيرون، ولكن بالكاد عدوّ شخصي واحد. سيبقى اسمه على مرّ العصور، وكذلك عمله!”

قراءات الطفولة

وُلدت إليانور كارل ماركس، أو توسي كما ناداها أهلها وأصحابها، في كانون الثاني سنة 1855، في شقة صغيرة من غرفتين ضيقتين في شارع دين، وسط مساكن اللاجئين في حي سوهو بلندن. كانت الشقة تشبه “أكواخ” العمال على أطراف مصانع مانشستر. في تينك الغرفتين الضيقتين كتب ماركس أقساماً من “رأس المال”، وعاش قلق الفقر والجوع ومصائب المرض. عرف الخوف من استدعاء طبيب لن يستطيع تسديد معاينته بقرض من مكاتب الرهن، عرف الحرج من خروج الأطفال في الشتاء لأن أحذيتهم مثقوبة ومعاطفهم مرقّعة. عرف البطالة والإفلاس والغياب التامّ للأصدقاء، حائراً من أين سيأتي بالنقود ليؤمن قوت يومه. كانت عائلته تتناول الخبز والبطاطا وحدهما، لأسابيع أحياناً، واضطروا للانتقال من مسكن إلى مسكن كلما تأخّروا في سداد الإيجار. اختبر ماركس كل هذا للمرة الأولى في حياته بعد نزوحه إلى لندن. قال: “لا أعتقد أنّ أحداً قد كتب إلى هذا الحدّ عن المال، وهو بأمسّ الحاجة إليه”. كانت العائلة تحضر مسرحيات شكسبير وقوفاً في مسرح سادلرز ويلز، لأنهم لا يستطيعون شراء بطاقات الجلوس.

إليانور ماركس (جالسة بين أختيها) مع أبيها كارل ماركس وصديقه إنغلز

عاش في تلك الشقة ستة أشخاص، مع البطريرك ماركس الذي لقّبوه “المغربيّ” لسمرته. زوجته جيني، وبنتاهما جيني ولورا وابنهما إدغار (ثلاثتهم ولدوا في سنوات المنفى في باريس وبروكسيل من 1844 إلى 1847). كما كانت هناك هيلين ديموث، الخادمة والطاهية التي وصفها ماركس بثلاث كلمات: “التواضع، الحزن، الكبرياء”. في شهر ولادة توسي أصيب بالسلّ أخوها إدغار ذو السنوات الثماني. سرعان ما انتشر المرض في جسمه كله، والعائلة تستمع إلى أنفاسه وتخاف. في نيسان من العام نفسه، مات الولد. كان حزن ماركس عظيماً حتى خشي أصحابه أنه سيرتمي إلى القبر حين أنزلوا التابوت. يُقال إن حبّه العظيم لابنه قد انتقل إلى توسي التي ملأت الفراغ الرهيب للفقدان. قال عنها: “جيني تشبهني، أما توسي فهي أنا”.

كان جوّ العائلة دافئاً، رغم أنّ ضيق المكان لم يترك فسحة خاصة لأحد. كان مكتب ماركس هو غرفة لعب الأطفال أيضاً. وصف أحد المخبرين الألمان هذا البيت في تقرير تداوله شعراء الحداثة وما بعدها. كانت العائلة كلها تخرج في نزهات يوم الأحد مشياً إلى هامبستيد هيث، والأطفال يمضون النهار في اللعب والأكل. كانت لعبتهم المفضّلة ركوب الخيل، ومن يلعب دور الحصان هو ماركس. على الطريق إلى البيت، كان ماركس يغنّي أغنيات ألمانية وطنية، أو يلقي مقاطع من “فاوست”، أو يروي القصص. هكذا حفظتْ توسي حكايات الأخوين غريم وقصص هوفمان، مثل الساحر صانع الدمى هانس روكل الذي كان يعجز دائماً عن تسديد ديونه فيضطر ليبيع ألعابه إلى الشيطان أو الجزّار.

استعار ماركس أكثر من مرة أسطورة بروميثيوس، سارق النار من الآلهة ومتحدّيها. سنة 1843، بعد منع جريدته Rheinische Zeitung نُشر رسم كاريكاتوري يظهر فيه ماركس مقيّداً بالسلاسل إلى آلة طباعة، فيما النسر البروسيّ المتوّج يلتهم كبده. كان ماركس يعيد قراءة إسخيلوس كلّ سنة، متوجّساً من أنْ يلتهم السرطان كبده كما التهم كبدَ أبيه.

توسي مدلَّلة أبيها كبرت على حمية الحليب حتى عمر الخمس سنين، بناء على تعليمات الطبيب. أفسدها أبوها بالدلال، يحملها على كتفيه، يعقد الزهور في شعرها، ويروي لها حكايات لا تنتهي، رغم أنه مازحها كثيراً ذاك المزاح الثقيل بأنها “خطأ جنسي”، لأنه كان ينتظر ابناً. منعها ضعف بنيتها من الذهاب إلى المدرسة. كان أبوها يعلّمها، ويستطيع بثقافته الموسوعية الإجابة على كل سؤال تطرحه الصغيرة. بعمر الخمس سنوات، اصطحبها أبوها إلى كنيسة للروم الكاثوليك لتستمع إلى الموسيقى. شرح لها هناك قصة المسيح، النجّار الفقير الذي قتله الأغنياء.

في عيد ميلادها السادس بدأت روايات المغامرات، خصوصاً جيمس فينيمور كوبر. تعلّمت توسي في سنٍّ مبكرة إن الحكايات الخيالية تصلح نموذجاً يُحتذى. استغرقت توسي وأبوها في حمّى روايات والتر سكوت التي اجتاحت إنكلترا خلال ستينيات القرن التاسع عشر. منذ عمر الثالثة، كانت توسي تسمع أباها يقرأ بصوتٍ عال مقاطع من الكتب التي يحبّها: شكسبير، هوميروس، أساطير النيبيلونغ، دون كيخوته، ألف ليلة وليلة. كان ماركس قد أخذ الهوس بشكسبير عن حميّه البارون لودفيغ فون فستفالن الذي كان يستطيع أنْ يلقي عن ظهر قلب مسرحيات كاملة لشكسبير بالإنكليزية والألمانية. بعمر السادسة، كانت توسي قد حفظت مقاطع طويلة، بل مشاهد كاملة من مسرحيات شكسبير. أحبّتْ على الخصوص مشاهد المناجاة في ريتشارد الثالث، والمشهد بين هاملت وأمّه. كانت توسي تلعب دور هاملت، وأمها جيني دور الملكة، فتخاطبها ناظرةً إلى أبيها: “أمي، كم أهنتِ أبي”. أيام تلك المسرحيات المنزلية، كان ماركس يؤلّف “رأس المال”.

انتهت مع ولادة توسي أفدح سنوات الفقر في حياة ماركس. لم تعرف أبداً كيف مات أخوها إدغار. لم تعرف قطّ الإذلال الذي تكبّدته الخادمة هيلين ديموث لأنها ولدتْ ابناً غير شرعيّ، والشائعات والفضائح بعد تنازلها عن ابنها لعائلة من الطبقة العاملة. لم تعرف توسي، عملياً، الحياة في تلك الغرفتين الضيقتين. فبعد سنتين من ولادتها أتتهم تركة من أهل أمّها سمحت للعائلة بالانتقال إلى منزل متواضع في هافرستوك هيل، “عرين أمراء إذا قُورن بالجحر الذي عشنا فيه من قبل”، كما كتبت جيني أمُّ توسي. تتذكر توسي طفولتها في منزل على الطراز الفكتوري، دافئ ومريح. اختلافه الوحيد عن منازل رفاقها هو الجوّ السياسي الحاضر في كلّ الغرف. كان ماركس يقرأ يومياً العديد من الصحف الإنكليزية والأوروبية، ويتابع كلّ مقال حول الحرب الأهلية الأميركية أو حروب بسمارك، أو المغامرات البائسة لنابليون الثالث. سرعان ما فرش ماركس الشقة بـ “قمامة مستعملة”. شبح الفقر لم يفارقه. فبعد أنْ بلغت ابنتاه الكبريان، وراحتا تتردّدان على المدارس الخاصة ودروس اللغة الفرنسية والإيطالية والبيانو والرسم، ألفى نفسه منصاعاً أمام ما تطلبانه من ملابس وقبّعات تليق بهذه المناسبات. كتب لاحقاً في رسالة إلى إنجلز: ” ظروفي حرجة… ولكن لا بد من الحفاظ على بعض المظاهر لمصلحة الأطفال”.

ترجمات البروليتاريّة

كانت إليانور ماركس- أيفلينغ إحدى الرائدات في النسوية والنقد الاجتماعي، والدفاع عن حقوق العمّال ونقاباتهم في بريطانيا. عاونت صديق أبيها أنجلز في بعض أعماله عن الاشتراكية العلمية والاشتراكية الطوباوية، وترجمت “تاريخ كومونة 1871” لبيير أوليفييه ليسّاغاري، كما ترجمت العديد من الأعمال الأدبية إلى الإنكليزية، عن الفرنسية والنرويجية والألمانية، مثل مسرحية “عدوّ المجتمع” لهنريك إبسن، إلا أنّ ترجمتها الأبرز هي “مدام بوفاري” التي كانت أول نقَلَتِها إلى الإنكليزية، وقد انتقدها فلاديمير نابوكوف انتقاداً لاذعاً.

الدونكيشوتة، مأساة برجوازية

منذ “سفر الأمثال” في العهد القديم إلى “مديح الحماقة” لإراسموس، كانت صورة القارئ امرأة حمقاء، لأنّ الكتب تؤنّث طباع المدمنين عليها، وتذهب بعقولهم إلى الجفاف والجنون. الأسوياء والأصحّاء لا يحلمون بالكتب، كأنّ قراءتها ومتعة الأحلام التي تنبع منها حكرٌ على المرضى والناقهين والنساء والعجزة والسجناء…

بعد رجوعه من رحلته إلى الشرق 1851، أقفل فلوبير بابَ مكتبه على نفسه ليبدأ التأليف: “ما يتراءى لي جميلاً، وما أنوي صنعه، هو كتاب عن اللاشيء، كتاب لا صلة له بالعالم الخارجي، قائم في ذاته بالقوّة الداخلية لأسلوبه، كما الأرض دون سند في الهواء، كتاب لا موضوعَ له تقريباً، أو على الأقلّ يكاد موضوعه أنْ يكون خفيّاً”. كان مهووساً بالكتب، مثل بوفار في عمله الأخير “بوفار وبيكوشيه” الذي لم يكمله. تخيّل امرأة تعيش في عالم الكتب، كما لو كانت تلك الحياة الخيالية هي حياتها الشخصية. قراءات إيما بوفاري خلقت عالمها الحميم، وصاغت رغباتها. عاشت مع الشخصيات في روايات بلزاك وجورج ساند وأوجين سو، ووجدت فيها نقيض الحياة الزوجية المملّة مع شارل بوفاري، بعد غضّ النظر عن رداءة الكتابة أو لغتها المتكلّفة. غارقة في عالم القصص، كانت تجلب معها كتاباً إلى مائدة العشاء، فتقلّب الصفحات فيما زوجها يحاول التحدُّث إليها، راوياً لها قصصاً من يوم عمله، فتجيب على محاولاته هذه بمشاهد من الرواية التي تقرؤها. استمرّت إيما بالقراءة حتى اليأس، وقالت: “لقد قرأتُ كلّ شيء”. ما عادت الكتب تقدّم أيّ عزاء. ما عادت تغذّي روحها، ولا تحرّض أحلامها. لم تعلّمها الحكمة، ولم تعطها الشجاعة لمواجهة الحقيقة. الحياة موحشة مثقَلة بالديون، وما عادت القارئة الحزينة ترى فيها أيّ “أفق أوسع”.

تلصّص فلوبير على شخصيته الخيالية، كأن مجرد النظر، بعين البصيرة، يولّد “أحاسيس تكاد أنْ تكون شهوات”. كتب إلى حبيبته لويز كوليت، في 12 حزيران 1852، بعد قرابة عشرة شهور من بدء كتابته “مدام بوفاري”، معترفاً أنّ جذور كتاباته كلّها تعود إلى “الكتاب الذي عرفتُه عن ظهر قلب قبل أنْ أتعلّم القراءة- دون كيخوته”. كان في مراهقته، سنة 1837، قد كتب “الهوى والفضيلة، حكاية فلسفية” بعدما فقد عذريته مع خادمة أمّه، مشمئزّاً من نفسه وكارهاً خجله. استلهم الحبكة من ملفات القضاء حين قرأ عن الزنا والانتحار التالي لزوجة موظّف في دائرة الصحة. كانت تلك الزوجة المؤمنة بالحبّ، الشغوفة بروايات الرومانس، صورة أولى عن إيما بوفاري التي أطلق عليها في البداية اسم “ماري”، وتقيّأ حين كتب مشهد انتحارها بجرعة من الزرنيخ.

توفيت كارولين، أخت فلوبير الصغرى، قبل أنْ تكمل الثالثة والعشرين. كانت مسجّاة بفستان زفافها، وبين يديها باقة ورود بيضاء، وشقيقها الساهر إلى جوار جثمانها طوال الليل يقرأ في “مقالات” مونتيني. صبيحة جنازتها، اكتشفوا أنّ حفرة القبر ضيقة جداً. هزّوا التابوت بعنف. أحد الحفّارين مشى فوقه، وداسه حيث موضع الرأس. استعانوا بالرفوش والمعاول، حتى حُشِر أخيراً في الحفرة. “كانت جنازة مقزّزة”، كتب في رسالة إلى مكسيم دو كان، آذار/مارس 1846.

مأساة روسية

ما أكثر المطابقات بين آنا كارنينا ومدام بوفاري. كان تولستوي بصيراً بالقوّة الخفيّة للقصص، ومقدرتها على نقل التجارب وإعادة خلق الحياة الداخلية للإنسان. القراءة تذكّر آنا كارنينا بالحياة التي لم تعشْها:

“كانت آنا تقرأ وتفهم، ولكن كانت القراءة تثير نفورها، فلا تجد أيّ متعة في متابعة حيوات الآخرين. كانت ترغب رغبة عارمة في أنْ تعيش حياتها. فإذا عُنيت بطلةُ الرواية التي تقرؤها برجلٍ مريض، أرادت المشي في غرفته بخطوات غير مسموعة؛ وإذا قرأتْ أنّ عضو البرلمان ألقى خطاباً تمنّت لو أنّها مَنْ ألقت تلك الخطبة؛ وإذا قرأتْ عن خروج “الليدي ماري” على حصانها في إثر كلاب الصيد، تمازح كنائنها وتدهش الناس جميعاً بشجاعتها، تاقتْ إلى فعل ذلك كلّه بنفسها. لكنها لم تستطع أنْ تفعل شيئاً، ولهذا كانت بيديها الصغيرتين تتلمّس المقبض الأملس لسكّين الورق، وترغم نفسها على القراءة”.

موت البطلة في عزّ شبابها

تستهلّ الشاعرة الإيرلندية تارا بيرغن ديوانها “الموت التراجيدي لإليانور ماركس” (2017) باقتباس من ماريان مور:

“ما الأدقّ من الدقّة؟ الوهم”.

تحضر في هذا الكتاب الصغير ملفات التحقيق حول موت إليانور كارل ماركس في لندن، ودفن رفاتها بجوار أبيها. من جهة أخرى، عادت بيرغن إلى أرشيف محاكمة فلوبير بتهمة الانحلال الأخلاقي والتشجيع على الخيانة الزوجية، بعد إصداره مدام بوفاري، سنة 1857. تبدأ إحدى القصائد من مرافعة المدّعي العام الذي نطق هذه العبارة الاستنكارية: “البطلة تموت في عزّ شبابها!”. كما استخدمت الشاعرة حكايات الأخوين غريم لترسم الحبّ الجارف والحزن الجارف والموت المسرحيّ لإليانور، القارئة النهمة، المترجمة والعاشقة، على منوال الأطفال الذين يتنكّرون بالأقنعة ويرتدون ملابس الجنيات في قصيدة “قناع”:

 “الأطفال هم أنفسهم وغرباء في آن واحد. هذا كلُّ ما أرادوه”.

انتحار المترجمة، مأساة اشتراكية

آمنت توسي أنّ الماركسية نظام للقيم والأخلاق، قبل أنْ تكون نظرية تاريخية واقتصادية. كانت الماركسية وعداً هائلاً بالحرّية، وحياة توسي أولى المفارقات بين النظرية والتطبيق.

توّ سماعها بأنّ شريكها إدوار إيفلينغ قد هجرها، وتزوّج في السرّ بعدما عاشا معاً قرابة أربعة عشر عاماً، أرسلتْ توسي خادمتها غرتي إلى الصيدلية مع رسالة تطلب فيها الكلوروفورم وحمض البروسيك الأزرق السامّ. قالت إنه من أجل كلبها.

استحمّت. ارتدت فستاناً أبيض من الموسلين، واستلقت على السرير. في الساعة الحادية عشر إلا ربعاً، دخلت غرتي إلى غرفة نومها فوجدتها غائبة عن الوعي، لكنها لا تزال تتنفّس وخدّاها يضرّجهما لونٌ أرجواني غريب. نادت الخادمة على الجيران، وهُرِعتْ تستدعي طبيباً حين وصل كان قلب المنتحرة قد توقّف عن الخفقان. رأوا بالقرب منها هذه الرسالة الصغيرة:

“عزيزي، الآن سينتهي كلُّ شيء. كلمتي الأخيرة لك هي الكلمة نفسها التي ظللتُ أردّدها على مرّ هذه السنين الطويلة الحزينة: الحبّ.

 إ. م، الساعة العاشرة والربع صباحاً، 31 آذار/مارس، 1898″.

قصيدة نثر، إيفان تورغينيف

-أيتها الشابّة، أنتِ يا مَن ستتخطّين هذه العتبة، هل تعرفين ما ينتظرك؟

-أعرف.

-البرد، الجوع، العدوانية، الازدراء، السخرية، العار، السجن، المرض، الموت.

-أعرف، أنا مستعدّة لتحمّل هذا كلّه.

-حتى لو طالك كلُّ هذا من أقربائك وأصحابك، لا من أعدائك وحدهم؟

-نعم، حتى لو.

-وهل أنتِ مستعدة حتى لارتكاب جريمة؟

– أنا مستعدّة لذلك أيضاً.

-هل فكّرت أنكِ قد تكونين ضحية للوهم، وقد تكتشفين أنك قد ضحّيت بشبابك سُدى؟

-لقد فكّرتُ في هذا أيضاً.

-إذن، ادخلي.

-حمقاء! صاح أحدهم.

-قديسة! رجع الصدى.

***

إشارات

تستند المعلومات البيوغرافية إلى المراجع التالية:

Yvonne KAPP, Eleanor Marx, London, Lawrence and Wishart, 1972-1976

Rachel HOLMES, Eleanor Marx. A Life, London, Bloomsbury, 2014

Chushichi TSUZUKI, The Life of Eleanor Marx 1855-1898: A Socialist Tragedy, Clarendon Press, Oxford, 1967

Francis STEEGMULLER, Flaubert and Madame Bovary: A Double Portrait, London, Constable, 1993

-ترجم الشاعر العراقي الراحل سعدي يوسف تقرير المخبر الذي زار شقة ماركس في سوهو، فبدا أقرب إلى قصيدة نثر.

مجلة رمان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى