سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعمنوعات

أسئلة برسم صمت المؤسسة الإعلامية الرسمية السورية/ ضاهر عيطة

2025.04.05

ما من كائن أو شيء في هذه الحياة إلا ويعلن عن ذاته وعن وجوده: جبل، سيارة، نهر، كوكب، حيوان، إنسان. وهذا الأخير هو الذي يمتلك وعيًا كاملًا حول هذه المسألة، فيبث رسائل وإشارات، ساعيًا من خلالها إلى التعريف بنفسه. فهو يرتدي ثيابًا معينة ليشير إلى ذوق ما يتحلى به، وإن نطق أراد أن يقول شيئًا، متقصدًا من وراء كل ذلك مشاركة الآخرين في منجز ما، ليقينه الفطري بأنه لولا وجودهم، لما كان هو من أساسه ليكون.

وحتى إن اكتنف سلوكه وتصرفاته شيء من الغموض، أو كان يتقصد منها الإيحاء بغير ما يضمر، فهو بشكل أو بآخر يعلن عن ذاته. والناس أبدًا لن يعتادوا التعامل مع كائن لا ينطق، ولا يشير، ولا يعلن من هو، ولا ماذا يريد. فوجود أمثاله يشكل عائقًا أمام تحركاتهم وتطلعاتهم، وهم الذين يتفننون بابتكار طرائق وأساليب للإجابة عن أسئلة تدور حول ذواتهم، يتلقونها من غيرهم، وبناءً على تلك الأجوبة يتم التعاطي فيما بينهم.

حين أجاب الإنسان عن أول سؤال، بدأت رحلة تحقيقه لمبتغاه. وهو لم يتوقف يومًا عن السؤال، لئلا يدخل في طور الحيرة والتشتت والتوهان، ولئلا يصبح وجوده مصدر قلق ورعب لدى الآخرين، والرعب بيئة مناسبة لتكاثر الهلوسات والخرافات، وهو ما يؤدي إلى نفي ماهية الحقيقة وحلول رؤى الآخرين وتصوراتهم بديلًا عنها.

ومن هنا، لا يكتفي الإنسان حين يحل في بيئة غريبة عليه بهذا الحلول دون تقديم إجابات عن ذاته، وإلا فسيغدو وجوده عبئًا ثقيلًا على الغير، وسينضم إلى قائمة الاستبعاد والإقصاء، ويصبح مع مرور الزمن أمرًا لا يُحتمل، فتنفجر رغبة التخلص منه، وتكنيسه عن الوجود، كما كنَس السوريون الأسدية عن حياتهم، وإن اختلفت هنا الأسباب.

وطالما أن الحاجة إلى الإعلان عن الذات تتضمن هذه الضرورة وهذا الإلحاح، فكيف سيكون حال دولة تضم أفرادًا وجماعات ومؤسسات وكيانات، لكل منها ذات تسعى لإظهارها؟ مما يطرح هنا سؤالًا: لماذا لا تمتلك السلطة القائمة في دمشق حتى الآن منبرًا إعلاميًا يعبر عنها، رغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر على تسلُّمها زمام الأمور؟.

أليس غياب ذلك هو من أفسح المجال للبعض من السوريين، ولملء هذا الفراغ، في أن يركبوا صهوة الإعلام الحديث من فيديوهات وصور وتصاريح وأحاديث يتوجهون بها إلى عموم الناس لغاية أن يقودوهم من خلالها إلى حيثما يخططون ويسعون؟ وكأنهم باتوا فرسانًا فاتحين، وهم من يهدون الناس إلى الخير والصواب، تجنبًا لوقوعهم في جحيم الخطأ والشر. وراح كل منهم بطريقته يلهب مخاوف السوريين وكوابيسهم ومخيلاتهم وأهواءهم ونزعاتهم الدينية والمذهبية والقومية، لتعم الإشاعات والادعاءات، وتقول عن السلطة ما يطيب لها أن تقول: سلطة مجرمة، سلطة مقدسة وطاهرة، سلطة متخلفة، إرهابية، داعشية، قوية، ضعيفة… ومعظم تلك الادعاءات والأقاويل تتصارع فيما بينها، وتساهم بدورها في تعميق الشقاق والفراق بين السوريين. وقد نجد أعذارًا للجميع، فماذا هم فاعلون وهذه السلطة لا تعلن عن نفسها؟

ومن بين هذا الجمع، سنجد الكثيرين، ومن جميع المكونات السورية، ممن اصطفوا مع الأسدية، وضحوا في سبيلها، وشبحوا واغتنوا، واستفادوا من وجودها لأبعد الحدود، وهم لن يرحبوا بالسلطة الجديدة، ولن يسكتوا، ولن يكفوا عن بث الشائعات في ظل هذه الظروف والأجواء التي تتكاثر فيها الأكاذيب والادعاءات، حتى لو كانت هذا السلطة الجديدة من فصيلة الأنبياء.

وهناك، بالمقابل، من السوريين من ذاقوا الويلات في ظل حكم الأسدية، أفرادًا ومؤسسات وجماعات، ومن مختلف المكونات السورية، وهم سيجدون في السلطة الوليدة التي حلت محل الأسدية سلطة ملائكية، وسوف يتراءى لهم أن كل ما تفعله عظيم ويستحق الإنصات إليه، حتى لو كان لا يعدو كونه مجرد صمت.

وبين هؤلاء وهؤلاء، طرف ثالث ورابع وعاشر.. ويرى في السلطة الناشئة ما يهوى أن يرى، طالما أنها لا تفصح عن نفسها ولا تشير.

والآن، لنبدأ بسؤالنا عن حدث مفصلي يجري الآن في تاريخ سوريا الحديث: تُرى، ألا يستحق مثل هذا الحدث الجليل، الذي أسفر عن زوال الأسدية، الإعلان عنه، وعن معانيه وقيمته وأهميته في حياة السوريين؟ أما كان أولى بالسلطة التي وصلت إلى قلب العاصمة دمشق في صبيحة الثامن من كانون الأول أن تكلّف أحدهم بالإعلان عن هذا المنجز العظيم ببيان رسمي يتوجه إلى عموم السوريين، ومحطة البث الإذاعي والتلفزيوني لا تبعد سوى خطوات عن ساحة الأمويين؟.

ألا يستحق خطاب النصر أن يُسلَّط عليه الضوء من قبل مؤسسة إعلامية رسمية تمثل أصحاب هذا النصر وتعلن عنهم؟

ألا تستحق مشاهد نزول الناس إلى الشوارع والساحات في ذلك التاريخ، وهم يكبرون ويغنون ويرقصون، أن يُسلَّط عليها ضوء كاميرا وجهاز صوت؟

ألا تستحق المجازر التي حدثت في الساحل السوري، والتي أعدتها فلول العصابات الأسدية، أن تخرج وسيلة إعلامية تمثل السلطة تمثيلًا مؤسساتيًا، لتتحدث عنها وتشرح أحداثها وتفاصيلها، وغيرها من مئات الأحداث والتفاصيل؟.

وكما يخبرنا التاريخ، فإن أول ما فعله معظم من قاموا بتحولات أساسية في حياة الشعوب هو الإعلان عن هذا التحول، وإلا فما كان ليكون. ومن الضروري هنا لفت الانتباه إلى أن ما أودى بالأسدية إلى السقوط لم يكن عدم امتلاكها لأدوات الإعلان عن نفسها، بل كان تطابق إعلامها مع طبيعتها، بوصفها عصابة أمنية مقيتة، هو ما أدخلها في دوامة القبح والعدمية، وجعل التخلص منها غاية ضرورة. وهذا لا ينفي أنها منذ انقلابها العسكري وسيطرتها على سوريا، كانت قد أدركت مدى أهمية دور الإعلام في الإفصاح عن وجودها، فصاغت خطابها على نحو يحمل في طياته الترهيب والتخويف والتخوين، بقصد إحكام السيطرة على السوريين، وإن حاولت الإيحاء بعكس ذلك، وهو ربما يكون سببًا من بين الأسباب التي أمدت بعمرها.

والآن، وبعد زوال الأسدية، ماذا عن السلطة الجديدة؟ هل ستطيل خطيئة الصمت، أم أنها ستعلن عن ذاتها قريبًا؟

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى