المعري “رهين النوائب” السورية/ طارق علي

انتهكت “النصرة” ضريحه بعد سيطرتها على إدلب وحذفته “تحرير الشام” من المناهج وأخيراً أقدم مسلحون على تدمير تمثاله
الأحد 6 أبريل 2025
ليس من الصعب العثور على آلاف الفتاوى التي تكفر المعري وتعتبره خارجاً عن الملة الإسلامية بإجماع فقهاء عصره ومن تلاهم. لذا كان تدمير ضريحه هدفاً مشروعاً بغض النظر عن معرفة مدمريه لشخصه أو فهمهم لرؤيته ومواضع انتقاده، بل وحتى قراءة شيء مما جاء به وتركه كمرجع تخطى المحلية نحو العالمية الفكرية والأدبية والثقافية، كـ”رسالة الغفران” على سبيل المثال.
قامت مجموعة مسلحة مجهولة في سوريا بالاعتداء على ضريح الشاعر والفيلسوف العربي أبي العلاء المعري في مسقط رأسه بمدينة معرة النعمان داخل ريف إدلب، لتحطم تمثاله وتقطع رأسه، في حين يعتقد مراقبون أن ذلك الفصيل المسلح منبثق من “جبهة النصرة” فرع تنظيم “القاعدة” سابقاً، والتي لا تزال تتبنى السلوك المتطرف في تعاملها مع المجريات والوقائع والأحداث، ولم تكن الأضرحة الدينية والثقافية والتاريخية بمنأى منها.
ففي عام 2013 عقب سيطرة الجبهة على مدينة معرة النعمان، أطاحت رأس تمثال أبي العلاء بعد أن انتهكت الضريح والمتحف ودمرتهما جزئياً، وكان ذلك التدمير محمولاً على أيديولوجيا موزعة على قائمين، الأول رفض التماثيل والأيقونات بوصفها شركاً وبدعة ومدعاة لتعبد الأوثان، والثاني يتعلق بالهدف نفسه (أبي العلاء) الذي طالما اتُّهم عبر التاريخ بالتجديف والزندقة ونقد الدين الإسلامي عبر كتبه، وما تركه من رسائل وأشعار وقصص أدت إلى تكفيره في حياته وخلال العصور التي تلت موته.
وليس من الصعب العثور على آلاف الفتاوى التي تكفر المعري وتعده خارجاً عن الملة الإسلامية بإجماع فقهاء عصره ومن تلاهم. لذا كان تدمير ضريحه هدفاً مشروعاً بغض النظر عن معرفة مدمريه لشخصه أو فهمهم لرؤيته ومواضع انتقاده، بل وحتى قراءة شيء مما جاء به وتركه كمرجع تخطى المحلية نحو العالمية الفكرية والأدبية والثقافية كـ”رسالة الغفران” على سبيل المثال.
أوثان وأشياء أخرى
في أتون ذلك لم يكن تصرف “النصرة” بقطع رأس تمثال المعري منفصلاً عن سياق الأحداث العامة داخل المنطقة، فقد كان تنظيم “داعش” الذي تنامى وتطور فكرة وعدداً وعتاداً سيطر على أهم المواقع الأثرية بين سوريا والعراق، مثل مواقع الموصل ونينوى والحضر في العراق، وهناك فجر ودمر وحطم بالسيوف والفؤوس تماثيل وآثاراً تعود لآلاف الأعوام، ووثق فعتله كل مرة بالفيديو على صيحات “الله أكبر”، معتقداً أنه بذلك يواجه صورة من صور الشرك العظيم بإزالة “الأوثان”.
ومن بين أبرز ضحايا التدمير الممنهج للآثار كان تدمير “داعش” لمدينة نمرود الأثرية في العراق “كالخو”، إذ حطم واجهتها والمقبرة والنقوش الآشورية وكذلك موقع “خورسباد” الأثري وغيرهما كثير، وكان أبرز ما دُمِّر “الثور المجنح” الآشوري.
بعد ذلك انتقل التنظيم إلى سوريا وسيطر على مدينة تدمر الأثرية، وهي وآثار العراق تعود لآلاف الأعوام، وفي تدمر فجر معبد إله الشمس “بل شمن” وخرب المسرح الروماني، وإثر كل ذلك تداعت منظمة الـ”يونيسكو” غير مرة طالبة عقد جلسات عاجلة لمجلس الأمن الدولي.
ما وراء الأكمة
كان سلوك “النصرة” يتماشى مع رؤية “داعش” في تلك المرحلة، لكن اللافت أن التنظيمين استهدفاً بعمليات التفجير والانتقام من الإرث الثقافي المسجل على لوائح التراث العالمي ما لا يمكن حمله ونقله، “لكن في الظل شكلت العملات واللقى والآثار الصغيرة المحمولة مورداً مادياً كبيراً لتمويل الجماعات الإرهابية”. بحسب الأثري راضي نعيم الذي تحدث عن سوق سوداء كبيرة قامت برعاية المتطرفين، لسد جزء لا يستهان به من تمويلهما.
ويكمل نعيم “في سوريا ومع اقتراب وصول التنظيم إلى مدينة تدمر وسط البادية، تمكنت محافظة حمص بالتعاون مع متحف دمشق ووزارة الثقافة من نقل ما أمكن من الآثار الصغرى على حين ليل وإخفائها في العاصمة مع اقتراب سقوط المدينة عسكرياً، ونجحوا إلى حد كبير في نقل مقتنيات “متحف تدمر” المحمولة بحراسة مشددة وتأمين حراسة لاحقة لها، بناءً على معرفة مسبقة بمصيرها بالنظر إلى ما كان يحدث في العراق، ووصول تلك الآثار إلى تركيا وأوروبا وأسواق عالمية أخرى لم تغب عنها البضائع السورية”.
وفي الإطار نفسه، تحدث راضي عن عالم الآثار الكبير خالد الأسعد الذي كان مسؤولاً عن حماية تراث وآثار تدمر لمدة 60 عاماً، والذي رفض مغادرة المدينة لفرط تعلقه بها بعد أن كان مديراً لمتحفها لعقود وأبرز مكتشفي آثارها، فقضى مصلوباً على أيدي عناصر التنظيم حين لم يقبل بإخبارهم عن مواقع التنقيب الرئيسة أو أماكن وجود اللقى، وصار الرجل أسطورة عالمية تلقب بـ”حارس تدمر” أو “حارس النخل”، واحتفت به دول العالم بعد رحيله فسميت ساحات ومعالم ثقافية وقاعات باسمه في كبرى عواصم العالم.
ويتابع أن “النصرة” لم تكن بمنأى عن تلك الأحداث، فهي بدورها سيطرت على مدن ومناطق لا تخلو من المواقع الأثرية التي استغلتها بدورها كجزء من التمويل الضروري لحملاتها وقواتها المقاتلة ولإثراء جيوب قادتها، ودائماً ما كانت السوق التركية بوابة العبور المثلى، وبالمناسبة فإن الوضع في مناطق النظام لم يكن أفضل حالاً، فقد امتهن كثر التنقيب غير الشرعي عن الآثار وبخاصة في حمص ودرعا، وبالفعل حصل كثر على عملات تاريخية وسواها”.
السياحة المخيفة
يمكن التمييز بين أسلوبي “داعش” و”النصرة” في التعامل مع الآثار، على رغم وضوح الاتفاق الأيديولوجي المرتبط باعتبارها بوابة للشرك، لكن الأهداف كانت تتباين بين الفريقين في معرض التنفيذ، وإن كان الأمر برمته يعكس واحداً من أكثر جوانب الحرب السورية ظلاماً.
اعتمد “داعش” في رؤيته على الانطلاق من تفسير ديني ممعن في التشدد يهدف إلى إرسال رسائل عالمية شاملة حول كل ما تطاوله يداه، في حين أن “النصرة” لم تتبع سياسة التدمير الممنهج للآثار بصورة كاملة وواضحة وعلنية، وحاولت أن تحصر التدمير في إطار ما تراه رموزاً تؤيد حالات مجتمعية كـ”العلمانية”، أو في مواجهة رموز تدعو لـ”الزندقة والتكفير والإلحاد”.
باختصار، يمكن القول إن “داعش” خرب ودمر كل ما مر عليه ضمن دوافع عقائدية وسياسية وإعلامية، معتمداً أسلوب التباهي والتسجيلات المصورة. أما “النصرة” فكانت انتقائية وأقل علنية وعدائية ونادراً ما تبنت التدمير، وهي في الأعم تحاول التنصل من الأمر، على رغم أن الدافع يتشابه في جوانب متعددة مع “داعش” بما يراه الاثنان رموزاً شركية، لكن “النصرة” كانت أكثر ذكاء من استثارة الرأي العالمي ضدها.
وعلى رغم أن وزارة الثقافة الأخيرة في عهد الأسد بإدارة الوزيرة لبانة مشوح وضعت خطة رممت بموجبها ضريح ومتحف وتمثال أبي العلاء، فإنه تعرض للتدمير مجدداً فيما يصفه مراقبون بـ”عدم تغير العقلية الجهادية لدى بعض الفصائل ما بين التدمير الأول عام 2013، والتدمير الثاني عام 2025، لتمثال شاعر الفلاسفة في المدينة التي كانت محجاً ثقافياً قبل الحرب السورية”.
وينظر أولئك المراقبون للأمر من عين الحدث الجلل، ومن بينهم رائد فجر الذي كان ينشط في قطاع السياحة قبل الحرب قائلاً لـ”اندبندنت عربية”، “تعهد وزير السياحة الجديد أن تعود سوريا قبلة للسياحة، لكن كيف يحصل ذلك ونحن نرى آثارنا مدمرة ومهدمة، ومكمن الخطر أنها تهدم بعد انتصار الثورة، على ماذا سيأتي السياح الأجانب ليتفرجوا؟ على المقاتلين الأجانب واللحى الغريبة واللثامات التي تملأ الشوارع؟ ضريح أبي العلاء واحد من الآثار القليلة المتبقية، وإن لم نعرف أن نحافظ عليها وسواها اليوم فسنبكي غداً، حين نقول إن دمشق أقدم عاصمة ما زالت مأهولة في التاريخ ولكن آثارها لا نعرف كيف نحميها، على السلطات أن تدرك القيمة التاريخية لهذا البلد وآثاره الموضوعة على لائحة التراث العالمي، وأن احتمالية نسفها أو جزء منها يعني ازدياد أخطار التعامل مع السلطات الانتقالية”.
تعديلات قاصرة
مع سيطرة “هيئة تحرير الشام” على الحكم في سوريا وإطاحة نظام الأسد، سارعت بصورة مبكرة للغاية وفي ظرف أيام إلى تعديل المناهج الدراسية بصورة موسعة، مما أثار استغراباً يرتقي لمرحلة السخط في الشارع، إذ إنها تناولت الفكر والعقيدة والهوية والوعي. وكان من السهولة بمكان أن يلاحظ المتابعون محاولة القائمين على تعديل المناهج الابتعاد من الفلسفة والمنطق والأسس الوطنية الجامعة بمفهومها الحداثي.
علاوة على ذلك جرى حذف اسم الملكة زنوبيا وخولة بنت الأزور وغيرهما بوصفهم شخصيات تاريخية أسطورية، مع حذف أو تقليص الفقرات المسرحية والفنية والموسيقية، ومحو ذكر شخصيات أدبية رائدة كجبران خليل جبران وأبي العلاء المعري وغيرهما، واستبدالهم بشخصيات دينية إسلامية. وجرى محو أي ذكر لقوانين حمورابي “مسلة القانون البابلي”، وكل ما يتعلق أو يمت بصلة للميثولوجيا التاريخية في العالم عامة وبلاد ما بين النهرين وسوريا خصوصاً. ولعل هذا يفسر جزءاً من دوافع تدمير تمثال المعري.
ويرى الأستاذ في إحدى المدارس نبال جويخاتي أن هذه التعديلات لا تشبه سوريا، فقد طاولت المحذوفات تاريخ البلاد نفسه وتجاوزته لتثير الضغائن بين المكونات السورية. موضحاً “ستحصل ثغرة كبيرة في الجسد التعليمي مع الوقت، فالطالب الذي سيدرس الحقوق كيف سيجري الحديث إليه في الجامعة عن القانون الروماني وقوانين حمورابي، أول قوانين وضعية استمدت منها معظم الدساتير فحواها وهو لا يعلم عنها شيئاً، والذي سيدرس التاريخ في الجامعة كيف سينسونه أن قوام التاريخ الحديث مستمد من الميثولوجيا القديمة لبلده نفسه، وطالب الأدب العربي إن قرر مناقشة رسالته في مؤلفات أبي العلاء فهل سيُتهم بالزندقة؟ وطالب العلوم السياسية المسيحي كيف سيرى أن الموت في سبيل وطنه كفر، وفي سبيل الإسلام شهادة؟ هنا نعود إلى المربع الأول، فلا يمكن لسياسة الحكم في إدلب أن تكون نموذجاً صالحاً للتعميم في كل سوريا، ومن المعروف، عدا عن المسيحيين، أن ثمة تيارات يسارية يعتد بها، أما الأكثرية السنية فهي من المتصوفة والأشاعرة الوسطيين ضمن الإسلام الشامي المعتدل”.
بانوراما المعري
ويعد أبو العلاء المعري من نوابغ عصره، وهو شاعر عباسي فطحل كما تصفه الكتب، عاش خلال القرن الخامس الهجري والعاشر الميلادي (973 – 1057م)، واسمه أحمد بن عبدالله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري، ولد وعاش ومات في معرة النعمان داخل محافظة إدلب شمال غربي سوريا.
ويعد المعري في التاريخ الأدبي واحداً من أكثر رموز العقلانية والعلمانية والتحرر والتجديد ومناقضة الموروث الجاف والأفكار الجاهزة. ولقب بـ”رهين المحبسين” لأنه كان كفيفاً إثر مرض أصيب به في طفولته، والمحبس الآخر كان بسبب ملازمته منزله، ولُقب بشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء.
لم يعلن المعري إلحاده ولكنه كان مشككاً في كثير من الروايات الدينية، مما جعله خصماً وعدواً لدوداً للتيارات المتشددة. وعاش حياة ملؤها الزهد والتأمل والفكر تمخضت عن كثير من المؤلفات أبرزها “اللزوميات”، وهي ديوان شعري يحمل نقداً فكرياً وأدبياً للدين والمجتمع، وكتابه الأشهر “رسالة الغفران” رحلة متخيلة إلى الجنة والنار، وبمؤلفه ذاك سبق الشاعر الإيطالي دانتي في مؤلفه “الكوميديا الإلهية” بنحو 200 عام.