عن خيانات الأكاديميين/ سنان أنطون

تحديث 06 نيسان 2025
قلّما يقرأ المرء خبراً سارّاً في هذه الأيام التي تستمر فيها حرب الإبادة بلا هوادة في غزّة، والتي يبدو أن العالم اعتاد عليها، حتى أصبح قصف المستشفيات واغتيال عشرات الأطفال في ساعات، وتجويع الغزيين، أخباراً أقل من عابرة. كما تتوالى، على ضفة أخرى، الهجمات الفاشية على أولئك الذين يرفعون أصواتهم مطالبين بإيقاف الإبادة ومحاسبة مرتكبيها، ومن يتواطأ معهم في الولايات المتحدة، الداعم الأساسي لآلة الهمجية الصهيونية.
كل يوم يحمل خبر قيام جهاز الهجرة والجمارك سيئ الصيت في الولايات المتحدة باختطاف طالب أو طالبة، واقتيادهم إلى سجن لترحيلهم خارج الولايات المتحدة، لأنهم عبروا عن رأي أو شاركوا في مظاهرة، أو بمنع أكاديميين من دخول البلاد بسبب مواقفهم السياسية، لذلك فرحت أيمّا فرح حين قرأت في بداية الأسبوع خبر اعتصام عدد من أشهر الأساتذة في جامعة كولومبيا، من بينهم المنظّرة الشهيرة غاياتري سبيفاك، في مكتب الرئيسة احتجاجاً على خضوع الجامعة لابتزاز وترهيب إدارة ترامب، وتنفيذ كل مطالبها التي تمسخ فكرة الحرية الأكاديمية، ومن بينها، وضع قسم دراسات الشرق الأوسط، ومقدراته تحت سيطرة جهات خارجية.
فرحتُ فقد كنت دائماً أتساءل، خصوصاً منذ بدء حرب الإبادة، لماذا لا ينطق الكثير من هؤلاء، الذين يتمتعون برأسمال رمزي، وبحصانة المركز الثابت والشهرة والسمعة التي تدرأ عنهم الكثير، ويتحرّكون لدعم زملائهم ومساندة الطلاب الذين يتعرضون للاضطهاد في جامعاتهم، خصوصاً أن بحوثهم وإسهاماتهم الفكرية تتمحور حول العدالة والمساواة، وسبل الوصول إليهما في مواجهة العنصرية المؤسساتية، في عالم تسيطر عليه رأسمالية متوحشّة، وأنها تنتقد منظومة الاضطهاد وتحلّل أخطبوطيتها وتمظهراتها. وغزة هي الحيز والسياق الذي تتقاطع فيه كل هذه القوى والمصالح والممارسات.
لا يتوقّع المرء بالطبع أن تتطابق الممارسة مع النظرية لدى الجميع، دائماً، لكن من حق المرء أن يتوقع حداً أدنى من الاتساق والشجاعة، خصوصاً في هذه الظروف الاستثنائية، لكن فرحتي لم تدم أكثر من دقيقة حين أدركت أن اليوم كان الأول من أبريل. وأن الخبر كذبة. لكنها كذبة تترجم بلاغتها الحقيقة المؤلمة. وتذكّرت مقولة رالف والدو إيميرسون (1803-1882) التي تنسب خطأ لفردريش إنغلز (1820-1895)، «إن أوقية واحدة من الفعل تساوي طناً من النظرية». فما جدوى أطنان من النظريات النقدية، إذا لم تقترن بفعل وممارسة نقدية تتسق مع الأفكار وتدافع عنها في ساعة الخطر؟ تستعاد في لحظات كهذه مقولة أخرى لمارتين نيمولر (1892-1984) القس اللوثري الذي ساند اليمين المتطرّف والنازية إبان صعودها، وكان معادياً للشيوعية، لكنه بدأ ينتقد سياسات هتلر في ما بعد، وأمضى ثماني سنوات في سجون النازية. «في البداية، جاءوا ليعتقلوا الاشتراكيين، ولم أرفع صوتي لأنني لم أكن اشتراكياً. ثم جاؤوا ليعتقلوا النقابيين، ولم أرفع صوتي لأنني لم أكن نقابياً. ثم جاؤوا ليعتقلوا اليهود ولم أرفع صوتي، لأنني لم أكن يهودياً. ثم جاءوا ليعتقلوني ولم يبق أحد ليرفع صوته من أجلي». التزم معظم الأكاديميين في الولايات المتحدة الصمت بعد السابع من أكتوبر، ووقفوا يراقبون الهجمات المنظّمة التي شنّتها إدارات الجامعات بالتعاون والتنسيق مع قوى اليمين ومنظمات صهيونية، وبمباركة إدارة بايدن، ضد الحراك الطلابي الداعم لفلسطين لقمعه، ولم يعترض إلا قلة منهم على تغيير القوانين الداخلية لخنق هامش حرية التعبير والعقوبات المشينة التي تعرض لها الطلاب والأساتذة، والتي أدت إلى فصل الكثير منهم. قد تختلف الدوافع والحسابات التي يستخدمها هؤلاء لتبرير مواقفهم، بالطبع، لكن التضامن، في حده الأدنى، لم يكن بالمستوى المطلوب البتة، ولا بد من ذكر مقولة مارتن لوثر كنغ الشهيرة: «في النهاية، لن نتذكر كلمات أعدائنا، بل صمت أصدقائنا».
والآن بدأت الهجمة الفاشية المنظمة ضد الجامعات من قبل إدارة ترامب، وسلاحها المُشهر والمسلط على أعناق الجامعات هو، حجب المنح الفيدرالية لبرامج الأبحاث، والتي تقدر بملايين الدولارات، لإجبار الجامعات على الانصياع الكامل لسياسات اليمين المتطرف. هذا اليمين الذي يدعو منذ عقود إلى قمع التوجهات اليسارية والتقدمية داخل الحرم الجامعي وتغيير مناهج التدريس لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه في النصف الأول من القرن العشرين، أي قبل ظهور التيارات الفكرية التقدمية المتأثرة بحركات التحرر من الاستعمار والعبودية المؤسساتية وغيرها، التي نادت بتغيير المقاربات الفكرية ومناهج التدريس، بحيث تتحرّر من المركزية الأوروبية ومن هيمنة الأسطورة القومية المؤسِّسة، وتفسح المجال أمام مقولات ومقاربات وخطابات مهمّشة، وإذا كانت أهداف الهجمة قد تضمّنت قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وإفريقيا في جامعة كولومبيا، ومركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفارد، بادّعاءات مغرضة وكاذبة تتهم أساتذة هذه المراكز بمعاداة السامية، فإنها أطاحت بمنح ومشاريع بحثية في حقول العلوم والصحة ومجالات أخرى لا علاقة لها بدراسات الشرق الأوسط.
وهنا نطق بعض الذين صمتوا وتفرجوا لعام ونصف العام، وانتفضوا مصدومين ومندّدين بالتعدّي السافر على حرية البحث والرأي والتعبير في الحقل الأكاديمي، لأن الهجمة وصلت إلى أرضهم التي كانوا يظنونها جزراً معزولة، بعيدة عن الصراع، وامتدت إلى المنح التي يحصلون عليها من الحكومة الفيدرالية. فأي ضيق أفق ونرجسية حين لا يأبه المرء إلا لحريته هو في الرأي والبحث والتعبير، وليذهب الآخرون إلى الجحيم.
كاتب عراقي
القدس العربي