أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

في معنى “الجمهورية الثّالثة”: هل ما زال هناك ديمقراطيون علمانيون في سوريا؟/ محمد حلّاق الجرف

2025.04.05

عمد الفرنسيون، المولعون بنظام الحكم الجمهوري، إلى تقسيم تاريخهم لخمس جمهوريات. يُحدّد ابتداء كلّ منها، ونهايته، حدثٌ مفصليّ هام في ذلك التاريخ.  يقترن هذا الإجراء، في رأينا، برغبتهم الشّديدة في التّعويض عن محاولتهم لإحياء الملكية بين عامي 1870 و1883 إبّان ما دُرج على تسميته بالجمهورية الثّالثة الفرنسية.

انتقل هذا العُرف الفرنسي، وكما هي العادة، إلى سائر أرجاء العالم، ومنها عالمنا العربي الذي أضحى مؤرخوه شغوفين كذلك بتقسيم تاريخ بلادهم خصوصاً بعد ثورات الرّبيع العربي الأخيرة.

بات تعبير “الجمهورية الثّالثة” يُستخدم سياسياً لوصف مصر بعد سيطرة عبد الفتّاح السّيسي على الحكم هناك، وكذلك هو مصطلحٌ وصفي لحال تونس بعد انقلاب قيس سعيّد الأبيض على المؤسّسات الدّستورية في بلاده، وهناك، في تونس، تأسّس حزبٌ باسم حزب “الجمهورية الثّالثة” تقول إحدى تيماته (إذا ما أردت تغيير النّظام فعليك الانخراط فيه)، وبالتونسية الدّارجة “باش نبدلو السيستام لازم ندخلوا فيه”.

في سوريا، استخدم تعبير “الجمهورية الثّالثة” لوصف ما ستؤول إليه البلاد بعد سقوط بشّار الأسد. وفي رأينا، فإنّ في هذا بعض الغرابة التي لطالما تميّز بها معارضو نظام الاستبداد البائد. تأتي غرابة استخدام المصطلح، في رأينا، من كونه يصف ما لم يكن قد حدث بعد. وبالتّالي، ولاستثمار صحّة هذا المصطلح، وتخليصه من غرائبيته، فلا بدّ من تحويله من مجرّد “مصطلحٍ وصفيّ” إلى مشروع سياسي يقف بثبات على قدميه وينظر إلى الأمام، أيْ أن يكتسب معنىً، معنىً سياسيّاً بالتّحديد، يؤكّد بأنّنا نملك رؤية سياسية يصحّ التعبير عنها: (بمشروع الجمهورية السّورية الثّالثة).

سقط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، ولكنّنا، وحتّى هذه اللحظة، لم نشهد رؤية سياسية جديّة تسعى إلى دفن إرثه، لا من جانب السّلطة الجديدة، ولا حتّى من جانب معارضيها، وبالتّالي لا نرى رغبة حقيقية في الولوج إلى “مشروع الجمهورية السّورية الثّالثة”.

لا يكون المشروع السّياسيّ صالحاً، في رأينا، إذا لم يكن مشروعاً اجتماعياً واقتصادياً في الآن ذاته، وهذا يعني أولاً أنّه يجب أنْ يكون قريباً من النّاس الذين يدّعي تمثيلهم، معبّراً عنهم، وهذا لن يكون إلاّ إذا رأوا فيه مصلحتهم، وفي الوقت نفسه أن يكون مفهوماً بالنسبة إليهم، أي أن يُكتب بلغةٍ سهلة بعيدة عن التعقيد دون أن يعني ذلك بالضرورة فقْراً في النظرية والتنظير.

لا يجب أن يخشى سياسيو المعارضة السوريون من طرحٍ لتصوّرهم عن كيف سيديرون الدّولة في حال وصلوا إلى السّلطة، هذه ليست يوتوبيا، على العكس، إنّ المعنى الأول للسّياسة، ولوجود الحزب السّياسي هو الطّموح في السّلطة. ولكنْ، وفي الظّرف السّوري الحالي، فإنّ تقديم مبادرة حلّ شاملة باسم “مشروع الجمهورية الثّالثة” يكفي لاطلاع السّوريين على فكر معارضين يملكون رؤية مغايرة للسّائد الذي تسبّب في يأس السّوريين، وابتعادهم عن الشّأن العام ومتابعة الواقع السّياسي.

يستند المشروع برأينا على عدّة ركائز:

1. وحدة سوريا واستعادة السّيادة على كامل أراضيها، فسوريا بحدودها الدّولية المُعترف بها هي سوريا التي ينبغي أنْ تُبنى عليها الدّولة. فبدون حدودٍ واضحة، وبدون سيادة، لا معنى للدّولة. وبدون معنىً للدّولة لا يوجد معنى لأي مشروعٍ، أو شعارٍ، أو رؤية.

2. السّؤال الأساسي والمهم في الدّستور، وفي أي إعلانٍ دستوريّ، هو فصل السّلطات وعدم التّمييز، وليس دين الدّولة أو دين رئيسها! لذا لا نعتقد بوجوب الدّخول في جدلٍ بيزنطي كلّ مرّة حول العلمانية والدّين الإسلامي. فنحن، وإن كنّا نتخذ من العلمانية مبدأً وشعاراً لنا، لا ينبغي أن نُضيع الوقت ونشتّت الجهود في مسالك عبثية يجرّنا إليها جرّاً خصومنا السّياسيون.

إنّ الرّموز الأساسية للدّولة، مثل اسم الدّولة ولغتها (أو لغاتها)، ودينها وعلمها، هي أمورٌ تُترك لبرلمان ما بعد المرحلة الانتقالية ليقرّها باسم الشّعب. وما يمكننا فعله هو التمسّك بمبادئنا استعداداً لأي مفاوضات “قد” نُدعى إليها في هذا الشّأن. هذا ليس تنازلاً عن العلمانية، فهي طموحنا وغايتنا، لكنّ الإصرار عليها وتحويلها إلى أيقونة خلاص قد يعيق كلّ حوار قادم.

3. الشّعب بالتّعريف هو مجموعة من السّكان الذين يتشاركون في عادات وتقاليد ثقافية مشتركة، وينتمون إلى عرقٍ واحد. أي أنّ مفهوم الشّعب هو مفهوم يقوم على العرق، لا على الانتماء الدّيني أو الطّائفي. وبالتالي، فإنّ من حقّ المكونّات السّورية غير العربية أنْ يُعترف بها، وبحقّها في ممارسة حقوقها الثّقافية، وخصوصاً الحقّ في التّكلم وتعلّم لغتها الأصلية بشكلٍ علني.

ولكنْ هل يمكن أن يؤدي ذلك إلى المطالبة بحقّ تقرير المصير؟ نعم، ولكنّ كلّ الظّروف الموضوعية تقول إنّه لا يمكن لأي طرفٍ سوريّ أن يستقلّ بذاته. أقصى ما يمكن الوصول إليه هو مناطق حكم ذاتي وهو أمرٌ لا يضرّ بوحدة سورية طالما بقيت حقوق المواطنين الأفراد مصونة. وما يجب الالتزام به هو حقّ المواطن الفرد في مقاضاة الحكم الذّاتي أمام قضاء الدّولة المركزي إذا ما تعرّض لغبنٍ ما.

4. علينا السّعي لتوثيق كلّ ما ذُكر أعلاه والتأكيد عليه في مبادئ دستورية أساسية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية. مبادئ دستورية أساسية صالحة لحكومة ظلّ، وبرلمان ظلّ، مبادئ واضحة ومحدودة التّعداد، بحيث تكون مفهومة من الجميع، وفهمها متاحاً للجميع، وأن يتطلّب تعديلها أغلبية الثّلثين. وعلينا الابتعاد عن تعبير (مبادئ دستورية عُليا) فهذه بدعة تُناقض الفقه الدّستوري الذي يعتبر أنّ الدّستور هو القانون الأعلى في البلاد، كما أنّها غير موجودة في أي بلدٍ آخر. وقد تمّت محاولة تجريبها في مصر بعد ثورة يناير وفشل ذلك.

5. وضع المسألة الطّائفية على طاولة النّقاش، وبشكلٍ عمليّ وهادئ. ومحاربة لغة الكراهية أينما وُجدت. والتأكيد على أنّ المواطنة المتساوية هي معيار الانتماء إلى سوريا المستقبل، وأنّ الأغلبية والأقلية هما مفهومان سياسيان في العملية الدّيمقراطية. ولا يصحّ أن يُبنى الترشّح لمنصبٍ ما بناءً على لوائح طائفية. ومن هنا، يجب أن يكون الموقف واضحاً في رفض الدّيمقراطية التّوافقية، وفي رفض إحلال الشّورى محلّ الدّيمقراطية.  كما يمكن إعادة طرح فكرة “مجلس الشيوخ” كحلٍّ معقول للتّمثيل الطّائفي ضمن مجرى العدالة الانتقالية.

6. طرح فكرة “دولة العدالة الاجتماعية” كحلّ اجتماعي واقتصادي للمجتمع والدّولة، وتبنّي الليبرالية سياسياً واقتصادياً، مع التّأكيد والتّوضيح بأنّ اللّيبرالية لا تعني تخلّي الدّولة عن دورها كما يروّج لذلك الليبراليون الجُدد. اللّيبرالية في جوهرها تتطلّب دولة قوية، دولة قادرة على تأمين الضّمان الصحّي لمواطنيها، دولة قادرة على ضمان التّعليم الجيّد لكلّ مواطنيها. دولة قادرة على منع الاحتكار، ووضع وتطبيق قانون عمل عادل يُنصف طرفي العمل. دولة يمكنها وضع حدّ أدنى للأجور، ومنع التهرّب الضّريبي.

لا تناقض بين اللّيبرالية والعدالة الاجتماعية، لذا فإنّ حقّ السّكن والتعلّم والطّبابة، هي حقوق يجب أن تكون مكفولة في المبادئ الدّستورية لكلّ مواطني سوريا.

7. تبقى مسألة أخيرة، وهي العلاقات مع المحيط الدّولي والإقليمي، بما فيها إسرائيل، وهي علاقة يجب أن تُبني على العقلانية والمصلحة. برأينا، لا مانع من إقامة علاقات “صفر مشاكل” مع المحيط الإقليمي، لكن فيما يتعلّق بإسرائيل، هناك جرائم ارتكبت وأراضٍ انتزعت، وهذه قضايا يجب حلّها قبل إقامة أي علاقات عادية.

هذه بعض نقاط من مشروع سياسي لـ “الجمهورية السّورية الثّالثة” نعتقد أنّه يمكن أن يتحوّل بالنّقاش والتّفاعل إلى رؤية سياسية متماسكة.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى